|
حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ الوثني والتوحيدي (قدس سوريا). 1/3
سليمان سمير غانم
الحوار المتمدن-العدد: 4140 - 2013 / 7 / 1 - 20:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بحث في مقاربة مفهوم الصابئة وفلسفة عبادة الكواكب في سوريا (مشروع كتاب).
-مدينة حران السورية: -أهمية مدينة حران في الإرث الديني العالمي. -تاريخ حران في العهد الآشوري والبابلي وحضور عبادة القمر سين. -مدينة حران في العصر الكلاسيكي (اليوناني الروماني). -مدينة حران في العصر الإسلامي. -النبي إبراهيم والديانات التوحيدية في مدينة حران (المدينة كمرجعية دينية توحيدية). -تخبط القرآن والمسلمين في موضوع الصابئة (حران كمثال في فهم مشكلة التراكم الديني السوري). -الصابئة وعبادة الكواكب والقمر في مدينة حران عاصمة الروحانيات السورية. -بداية المشكلة. -فلسفة عبادة الكواكب والقمر في سوريا وهيكل إله القمر سين في مدينة حران. -مفهوم الصابئة وديانتهم العالمية التوفيقية من خلال عيون المسلمين والأديان التوحيدية. -الهياكل المقدسة والمكرسة لعبادة الكواكب في مدينة حران. -الأسرار المقدّسة في مدينة حرّان الوثنية. -العادات والتقاليد في مدينة حران القديمة. -مصطلحات دينية عديدة تساعد على فهم الإرث الديني السوري المتنوع قبل الإسلام و المسيحية؛ -الوثنية .Paganism : -الغنوصية Gnosticism و(الكتابات الهرميسية) Hermeticism ثلاثية التعليم. -الأفلاطونية الحديثة Neoplatonism. -إرث الصابئة اليوم وديانة مدينة حران وعبادة الكواكب في سوريا بين المندائيين والعلويين النصيريين. -النتيجة:
-مدينة حران السورية: في اللغة العربية حران. في اللغة السريانية ܚ-;-ܪ-;- ܢ-;- تلفظ في الآشورية حرانو وتعني الطريق. في اللغة اليونانية Κ-;-α-;-ρ-;-ρ-;-ώ-;-ν-;-، في اللغة اللاتينية Carrhae. في العهد البيزنطي المسيحي دعيت حران من قبل آباء الكنيسة باسم Hellenoplis التي كانوا يقصدون بها المدينة الهيلينية؛ في إشارة إلى سيادة التقاليد الوثنية السورية الإغريقية في المدينة. تقع مدينة حرّان القديمة في شمال غرب ما بين النهرين، بالتحديد شمال الجزيرة السورية. تبعد ثلاثين كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرها على مقربة من الحدود السورية التركية الحالية إلى الغرب من مدينة رأس العين. بنيت المدينة قرب منابع نهر البليخ، يمر فيها نهر كولاب الذي يعتبر أحد روافد نهر البليخ. للمدينة موقع تجاري مهم؛ لعب منذ بداية تأسيسه في الألف الثالثة قبل الميلاد من قبل مدينة أور الأكادية دوراً كبيراً في التاريخ التجاري والديني في أعالي بلاد ما بين النهريين، لتتعاقب عليه كل الحضارات العريقة في المنطقة من الآشورية إلى البابلية، إلى حضارات العهود الكلاسيكية الإغريقية والرومانية وحتى العصور الوسطى مع الدخول الإسلامي في القرن السابع الميلادي. تقع المدينة على تقاطع طريقين تجاريين؛ طريق القوافل من آسيا الوسطى إلى ما بين النهرين، أيضاً الطريق العامّ من الأناضول إلى مدن سوريا وفلسطين. لعب موقع المدينة دوراً تجارياً مهماً آخر في الألف الأول قبل الميلاد بين عالم البحر المتوسط والعالم الآشوري، عبر الطريق الممتد من أنطاكية إلى حران نزولاً إلى مدينة بابل، والذي إضافة إلى أهميته الاقتصادية كان طريقاً ثقافياً لإنتاج التقاليد الدينية السورية والعراقية.
-أهمية حران في الإرث الديني العالمي:
في الحديث عن حران وأهمية حران الدينية؛ يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا حران؟ ببساطة، لأن حران اكتسبت على مر العصور ميزات وخصائص تراكمية دينية واضحة، لا يمتلكها مكان آخر. عندما نقلب تاريخ المدينة الديني، سنجد ذكر إرث المدينة الديني في كل المراجع والمصادر التاريخية المعروفة؛ سنجد ذكرها في رسائل ماري، حيث يرد ذكر هيكل إله القمر سين في حران في رسالة من رسائل ماري في وقت متقدم من الألف الثاني قبل الميلاد. في 1365 ق.م إله القمر سين وشاماش إله الشمس من حرّان يُذكران في معاهدة ميتاني. سنجد حران في الألف الأول قبل الميلاد في الحوليات الآشورية والبابلية موصوفة كمدينة مهمة جداً، لعبت أدواراً سياسية، تجارية وبالأخص دينية؛ فلقد قدم أغلب ملوك الآشوريين والبابليين في الألف الأول قبل الميلاد القرابين لمعبد إله القمر في مدينة حران وقام أغلبهم بترميم معبدها معبد الخطيئة (إله القمر سين) على طول الفترة الآشورية والبابلية، كان من أولهم الملك الآشوري شلمناصر الثالث في عام 850 قبل الميلاد، تلاه على التوالي؛ الملك أسرحدون في عام 675 ق.م، الملك آشور بانيبال في عام 650 ق.م، الملك نابونائيد في عام 533 ق.م، في عام 750 ق.م أيضاً نقرأ ذكر سين إله القمر في حران في نص معاهدة أرباد الشهيرة. في مصادر التاريخ المختصة بالفترة الفارسية الإخمينية نقرأ؛ أنه وفي القرن السادس قبل الميلاد، احترم ملوك الفرس الإخمينيين وعلى رأسهم قورش الأكبر معبد الإله القمر سين المعروف بمعبد الخطيئة في حران، لأن الفرس كانوا يعرفون أن المدينة كانت مهد التقاليد الدينية ومحط تعظيم الملوك في العهدين الآشوري والبابلي. في العصور الكلاسيكية نقرأ في المراجع الإغريقية والرومانية ما يلي؛ في القرن الرابع قبل الميلاد زار الإسكندر المقدوني حران في طريقه إلى بابل عاصمته الشرقية وزار معبدها، لكن من غير المؤكد إن كان قد قدم قرباناً في معبدها أم لا. بعد الإسكندر زار خليفته في سوريا سلوقس نيكاتور معبد إله القمر في حران، ليستمر خلفاؤه بممارسة التقليد نفسه في سوريا حتى نهاية العهد السلوقي في سوريا. في العصر الروماني نقرأ؛ قدم كل من الأباطرة الرومان سبتيموس سيفيروس، كركلا، جوليانوس، القرابين للإله القمر في حران في معبد الخطيئة، كان الإمبراطور كركلا قد اغتيل بعد خروجه من معبد سين في حران وتقديمه القربان، نقرأ أيضاً بأن الإمبراطور سبتيموس سيفيروس قام بتخليد ذكر المدينة بتصويرها على قوس النصر الذي أنشأه في روما. هذا فيما يخص الإرث المسمى بالوثني في المدينة. في تاريخ الديانات التوحيدية، كانت المدينة حاضرة منذ اللحظات الأولى في الرحلة التوحيدية، فلقد ذكرها سفر التكوين بأنها مدينة الأب إبراهيم الذي أمره الرب بالتوجه من أور الكلدان إلى مدينة حران؛ التي كانت مركز المملكة الآرامية المسماة فدان آرام حسب التوراة Padam Aram أي حقل آرام، فتوجه إبراهيم برفقة أبيه تارح المسمى في القرآن آزر إلى حران مصطحبًا معه زوجته ساره و ابن أخيه لوط (سفر التكوين، 11.31)، ليتوالى ذكرها في التوراة مرات عديدة، خصوصاً مع النبي يعقوب (إسرائيل) الذي تروي القصة التوراتية توجهه إلى مدينة حران بعد الهرب من غضب أخيه عيسو الذي حاول الانتقام منه، فغادر أرض كنعان و لجأ إلى بيت خاله لابان الآرامي في حران، حيث عمل لديه برعي الأغنام و رعاية القطعان، التي كان يمتلكها، ليتزوج فيما بعد حسب رواية التوراة نفسها ابنة خاله لابان المدعوة ليئة المعروفة اليوم بترجمات الغرب للتوراة باسم ليا Leah و بعد وفاة ليا كان قد تزوج من أختها الكبرى راحيل (سفر التكوين، 24)، أيضاً نقرأ قصة البئر المقدسة والشهيرة حتى اليوم لارتباطها بالنبي يعقوب ووجوده في حران. بعد رواية قدوم النبي إبراهيم وسلالته وقصة حياتهم في حران، اعترفت ديانات الأسرة التوحيدية اللاحقة كالمسيحية والإسلام بأبوة حران الدينية؛ لكونها مركز انطلاق الأب الروحي للبيت التوحيدي إبراهيم، الأمر الذي كان كافياً لتكون المدينة محط احترام إرث التوحيديين في سوريا، بعد أن كانت لفترات طويلة من التاريخ محط احترام كل ملوك وديانات الإرث الوثني في المنطقة.
-تاريخ حران في العهد الآشوري والبابلي وحضور عبادة القمر سين:
تكررت الإشارات إلى حران في مجموعة كبيرة ومتنوعة من الوثائق التاريخية المتعلقة بشمال بلاد ما بين النهرين، المنطقة التي شهدت أهمية كبيرة في العصور القديمة. الذكر الأول لها كان في التقارير والرسائل الملكية من مدينة ماري على الفرات الأوسط، تشير الرسائل إلى أن المنطقة حول نهر البليخ احتلت في القرن 19 قبل الميلاد من قبل اتحاد قبائل سامية آكادية، كانت قد نشطت في المنطقة قرب حران. حيث كانت مدينة حران قد تأسست في بداياتها كقاعدة تجارية من قبل مدينة أور، تحولت في تلك الفترة بسرعة إلى مركز تجاري مزدهر يتميز بالغنى وبوفرة البضائع، التي مرت عبر المنطقة من الأناضول ومن آسيا الوسطى وبلاد ما بين النهرين، والتي أدت إلى إغراء القبائل المتواجدة في المنطقة لشن غارات على قوافل التجارة، كانت الغارات قد حصلت بطريقة متكررة في تلك الفترة، مما دفع الملك الآشوري شمسي آدد في القرن الثامن عشر قبل الميلاد إلى إطلاق عدة حملات عسكرية منظمة بعناية لإخضاع المنطقة، ومن أجل حماية الطريق التجاري الذي يمر في حران. كانت للمدينة وظيفة رئيسية مهمة على طول طريق التجارة بين البحر الأبيض المتوسط وسهول نهر الفرات الأوسط، أي بين البحر المتوسط والعالم الآشوري، لأنها تقع مباشرة على الطريق من أنطاكية غرباً إلى نصيبين ونينوى شرقاً، حيث يمكن أن يتبع نهر دجلة وصولاً إلى دلتا بابل. كانت أيضاً قريبة من طريق أنطاكية بابل الذي يمر أسفل الفرات عبر كركميش، عانة وهيت. تربعت حران في العهد الآشوري أيضاً على الطريق الملكية السريعة التي تصل بين شمال ما بين النهرين وفارس، فكان يتفرع منها طريقين: واحد على اليسار من خلال حدياب على نهر دجلة، وآخر على اليمين من خلال آشور وعبر الفرات. كان الطريق الأول يسمى الطريق الآشورية، كذلك كان من السهل الوصول عن طريقها إلى الطريق الثاني، المسمى الطريق البابلي. كانت حران كما نقرأ في ذلك العصر تتربع كعقدة وصل على الطريق شمال الفرات وبالتالي توفر وسيلة سهلة الوصول إلى مناطق أخرى كملطية وآسيا الصغر أيضاً. عرف الملوك الآشوريين أهمية مدينة حران الاستراتيجية في السيطرة على شمال ما بين النهرين، وذكرت حران في علاقتهم السياسية وحملاتهم العسكرية أكثر من مرة. ففي حوليات الملك الآشوري أدد-نيراري الأول (1307_1275 قبل الميلاد) نقرأ أن الملك غزا "حصن Kharani" حران وضمها إلى ممتلكاته لتصبح عاصمة المقاطعة الآشورية في المنطقة. أيضاً ذكرت المدينة في نقوش تغلات فلاصر الأول (1115-1077 ق.م)؛ حيث ذكر أنه كان من دواعي سرور الملك الخروج للصيد في منطقة حران وحول قلعتها. في النقوش الآشورية من القرن العاشر قبل الميلاد تكشف المعلومات عن أن حران كانت تتمتع بشرف أنواع معينة من الإعفاء الضريبي والتحرر من بعض أشكال الالتزام العسكري. في القرن التاسع والثامن قبل الميلاد، كان قائدها يحمل لقب turtan قائد عسكري رفيع المستوى في الإمبراطورية الآشورية، في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد ذكر أنه في عهد الملك الآشوري سرجون (721-705 قبل الميلاد) شهدت المدينة استعادة امتيازات قديمة وأصبحت حران تلقب "مدينة حرة"، أتت هذه الامتيازات بعد أن كانت قد فقدت في وقت التمرد على السلطة الآشورية في المنطقة من قبل بعض أفراد السلالة الحاكمة وقبل أن ينجح الملك باستعادتها.
في العام 616 ق.م زحف نابوبلاصر 625- 606 ق.م حاكم بابل ومؤسس الدولة البابلية الحديثة بمعونة الميديين وأخضع آشور عام 614 ق.م في عهد الابن الثاني لـ (آشور بانيبال) الملك سين شارأوشكن وبعد معارك طويلة أخضع نينوى في العام 612 ق.م. بعد سقوط آشور و نينوى في يد الكلدانيين مؤسسي الدولة البابلية الحديثة، انسحب الملك الآشوري الأخير آشورأوباليت مع بقية جيشه إلى حران و معبدها واتخذها عاصمة لمقاومة البابليين، اتصل من مدينة حران بالفرعون المصري نيخو الثاني طالباً مساعدته، لكن محاولاته فشلت واستطاع البابليون حصار المدينة التي استمرت في الدفاع و المقاومة حتى سقوطها بين عامي 610. 609 ق. م معلنة بذلك نهاية الوجود السياسي للإمبراطورية الآشورية. كان التوسع الكبير الذي حققته الدولة الأشورية من أهم الأسباب التي أدت إلى نهايتها. استمرت الدولة البابلية المؤسسة على أنقاض الإمبراطورية الآشورية فترة قرنين من الزمن في عهد خلفاء نابوبلاصر، خصوصاً عهد ابنه الملك الكلداني الشهير نبوخذ نصر (605562_ ق.م) الذي اتسم عهده بالقوة والتوسع، لبناء إمبراطورية كبيرة، لتتراجع السيطرة في عهد خلفائه الضعفاء، حتى أتت نهاية الدولة البابلية الحديثة في عهد نابونائيد عام 539 ق.م. على يد الفرس الإخمينيين بقيادة قورش الكبير.
استمرت حران في لعب دور مدينة تجارية مهمة على طول الطرق التجارية (نايمكس) في شمال بلاد ما بين النهرين في الألف الثاني والألف قبل الميلاد حتى أن تلك الشهرة ذكرت في التوراة في سفر النبي حزقيال، الذي يذكر حران بين المدن التي يتجر فيها بالسلع الفاخرة: عدن، آشور، حران؛ التي كان يتم فيه تبادل المنتجات الثمينة كالملابس المطرزة الزرقاء، والسجاد والأصبغة والألوان والحبال وغيرها. استمرت هذه الشهرة التجارية للمدينة إلى عهود متأخرة، نقرأ في وقت لاحق في المراجع الرومانية كتاريخ بلينيوس؛ أن حران استمرت في الحفاظ على مكانة هامة في الحياة الاقتصادية في شمال بلاد ما بين النهرين خلال الفترة الكلاسيكية.
على الرغم من ظهور حران في وقت باكر من الألف الثالث قبل الميلاد، إلا أن أهميتها الكبرى ظهرت في الألف الأول قبل الميلاد، خصوصاً في الفترة الآشورية والبابلية لاحقاً. يرجع ذلك إلى حد كبير، لاهتمام الملوك الآشوريين والبابليين بالمنطقة، فوق كل شيء تقديس المدينة، فلقد كانت حران عبر معبدها معبد إله القمر، مدينة مقدسة في عيونهم. لعبت ألوهية القمر دوراَ كبيراَ في بلاد الرافدين منذ بداية ظهور الحضارات وحتى بعد فترة أفولها في العصور الكلاسيكية. ألوهية القمر وحماية سين ذكرت في أغلب المعاهدات الموقعة في المنطقة. فكان الإله القمر بمثابة الوصي على المعاهدات السياسية في المنطقة، عرفت عبادة القمر منذ اللحظات الأولى لنشوء الحضارة في بلاد ما بين النهرين، فلقد دعي إله القمر ب Ehulhul إحل_إحل السيد العالي (في الحضارة السومرية أولى الحضارات في بلاد ما بين النهرين دعي أو تم وصف معبده ب: "معبد البهجة والحبور"). في حران تم ترميم معبد الإله القمر سين عدة مرات خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، كان ترميم معبد سين في حران يتخذ أشكالاً أو أسباباً مختلفة من ناحية الحكام؛ فتارة كان كنوع من الدعاية السياسية للحكام، وتارة كان نوع من التفاني الإيماني الشخصي بإله القمر من قبل الملوك الآشوريين والبابليين وفي كلتا الحالتين، كان ذلك يعبر عن دلالة مهمة تشير إلى مرتبة أو منزلة القمر في عيون الحاكمين والمحكومين على السواء في بلاد الرافدين، ليس القمر بمفهوم مستقل ومنعزل، بل كفلسفة لعبادة الكواكب في معرفة الله، التي انتشرت في ثقافات المنطقة، والتي كان القمر أكثرها تأثيراً ومحورية وقرباً من مخيلة الناس في التعاطي مع فلسفة العبادات النجمية في سوريا والعراق. كان أول ملك قام بترميم معبد سين في حران في الألف الأول قبل الميلاد الملك الآشوري شلمناصر الثالث (895-824 قبل الميلاد) الذي قام بتقديم قربان للإله القمر في حران ومن ثم قام بترميم المعبد في عام 850 قبل الميلاد. بعد شلمناصر الثالث، نقرأ أن الملك الآشوري أسرحدون في عام 675 ق.م يزور حران في طريقه إلى مصر ويقدم قرابين في المعبد. بدوره الملك الآشوري آشور بانيبال قام في عام 650 ق.م بزيارة المدينة وتقديم قربان لمعبد سين، وعمل على تعيين أخيه ككاهن أكبر لمجد إله القمر في حران. أخيراً نقرأ؛ أن نابونائيد آخر ملك بابلي (555-539 قبل الميلاد)، قد قام بترميم المعبد في حران وتقديم القربان للإله القمر في عام 553 ق.م وكان قد عين والدته أداد-غوبي Adad_Guppi كاهنة عليا للإله القمر في حران، كدليل على المكانة العظيمة التي تحتلها حران ومعبدها. لا تتوقف قصة نابونائيد آخر ملك بابلي عند الترميم وتقديم القربان، بل تحمل معاني كبيرة ومؤثرة فيما بعد؛ نقرأ في مرويات الملك نابونائيد، التي ترجع للقرن السادس قبل الميلاد، يقول الملك البابلي عن إله القمر: (لقد جعلني أحلم وفي الحلم قال لي: نابونائيد؛ بسرعة أعد بناء معبد القمر في حرانEhulhul احل _احل وسأقوم بتنصيبك ملكاً على كل البلدان)، تحتوي هذه القصة في ثناياها جذور القصة التوراتية أرض الميعاد، المقتبسة بكل فصولها عن مرويات البابليين، لتحويرها على شكل إرث يهودي خاص متعلق بإبراهيم فيما بعد. في حران بالإضافة لعبادة سين إله القمر، كان هناك تواجد لآلهة أخرى تعبد في المدينة منها؛ قرينة إله القمر نينجال (Ningal)، والآلهة السورية Atargatis وآلهة اللات العربية. في الكتاب المقدس ذكر بأنها واحدة من المدن التي بقي إبراهيم فيها في رحلته من أور الكلدان إلى أرض الميعاد (سفر التكوين، 11.31).
-مدينة حران في العصر الكلاسيكي (اليوناني الروماني):
-حران في العصر اليوناني (331_65 ق.م):
بعد سقوط بابل في عام 539 ق.م ونهاية الدولة البابلية الحديثة على يد الفرس، بدأ الحكم الفارسي الإخميني لبلاد ما بين النهرين، والذي استمر قرنين من الزمن، بدأت مع الملك الفارسي قورش الكبير في القرن السادس قبل الميلاد، فيما يخص الفترة التي كانت فيها حران تحت السيطرة الفارسية، لدينا فجوة كبيرة في المصادر التاريخية، التي لا تذكر أي تفصيل عن تاريخ المدينة خلال تلك الفترة، باستثناء احترام الملوك الفرس للإله سين إله القمر ومعبده في حران، لأنهم كانوا يعلمون أن المدينة كانت مركز للتقاليد الدينية في العهدين الآشوري والبابلي. تعود المصادر التاريخية للاهتمام بالمدينة في العهد اليوناني الإغريقي حين وصول الإسكندر وجيشه إلى المنطقة في عام 331 قبل الميلاد، حيث تروي المصادر أنه؛ مع دخول الاسكندر وجيشه المنطقة قام بزيارة إلى المدينة في طريقه إلى الأراضي الفارسية وزار معبدها، لكن المصادر لا تذكر أو تؤكد إن كان قد قدم الأضاحي للإله القمر في معبد حران أم لا. بعد تقاسم إمبراطورية الإسكندر واستتباب السيطرة المقدونية في المنطقة، تم تأسيس مستعمرة مقدونية في المدينة، على عادة الإغريق في المناطق التي كانت تحت سيطرتهم، تروي المصادر الإغريقية أن خليفة الاسكندر في سوريا ومؤسس الإمبراطورية السلوقية سلوقس نيكاتور كان قد قضى شتاء عام 318 قبل الميلاد في مدينة حران وذلك في طريقة إلى بابل، لإعادة توحيد الإمبراطورية، وفي محاولته لجعل نفسه سيد بابل كسلفه الإسكندر، حيث جاء إلى مدينة حران وزار معبدها وعمل على إقناع الجالية المقدونية اليونانية المقيمة فيها للانضمام إلى قواته. بعد إنشاء الإمبراطورية المقدونية في سوريا، تمكن الملوك السلوقيون خلفاء سلوقس نيكاتور، من الحفاظ على مدن منطقة ما بين النهرين ومن بينها حران في أيديهم لفترة من الزمن، مع أن سلطتهم عليها كانت ضعيفة في بعض الأحيان. استمر الوضع على ما هو عليه حتى تدمير جيش الملك السلوقي أنطيوخس سيدتيس Sidetes في عام 129 قبل الميلاد، في معركة وقعت هناك مع الفرس البارثيين، وضعت خسارة أنطيوخوس مع البارثيين حداً للهيمنة اليونانية في المنطقة، وقد شغل الفراغ السياسي في المنطقة الدولة البارثية؛ التي كان مملكة هلنستية شرقية حملت التقاليد الفارسية واليونانية على السواء، عاشت في توازن سياسي على الحدود بين اليونانيين والفرس. المؤسس الحقيقي للإمبراطورية البارثية كان ميثريدتس الأول (171-138 قبل الميلاد)، احتضنت الإمبراطورية البارثية بكل إخلاص وراثة كل من المجالات الثقافية والدينية السلوقية والإخمينية على السواء، اختار الملك البارثي ميثريدتس الأول لنفسه لقب " الملك العظيم”.
اعتمدت الإمبراطورية البارثية خطاً ثقافياً ودينياً متسامحاً، استخدمت اليونانية كلغة رسمية، على الرغم من أنها استخدمت كلغة مشتركة مع الآرامية. بزوال وانهيار القوة السلوقية، كان البارثيون، إلى حد كبير يريدون ترك الأمور في المنطقة على ما هي عليه، لكن الحال لم يكن كذلك دوماً: في السنوات الأولى من حكمه، استكمل الملك ميثريدتس الثاني (123-87 قبل الميلاد)، السيطرة المباشرة على شمال بلاد ما بين النهرين، وقبل نهاية عام 94 ق.م ضم المناطق حول حدياب وأوزرين؛ إقليم منطقة الرها التي كانت مدينة حران تابعة لها، كانت آخر المدن المنضمة لسيطرة الملك البارثي مدينتي الرها وحران. مع ذلك وعلى الرغم من الطموح الإمبراطوري للملك II Mithirdates والهيمنة العسكرية الواضحة للبارثيين في المنطقة، إلا أن السلطة السياسية الحقيقية في شمال بلاد ما بين النهرين، في كثير من الأحيان كانت في يد السلالات المحلية؛ من القبائل المحلية والعربية البدوية Seminomadic التي بدأت في التسلل إلى المنطقة في القرن الرابع قبل الميلاد، ربما حتى قبل ذلك. في نهاية عهد البارثيين، ثار عامل المملكة على أرمينيا. الملك Tigranes؛ الذي كان قد وضع على العرش الأرميني من قبل البارثيين، لضبط منطقة شمال بلاد ما بين النهرين، ارتدى الملك تيغران اللباس الفارسي الملكي، واصفاً نفسه "ملك الملوك" وتوسع في المنطقة وقام بالسيطرة على شمال سوريا. الرومان الذي كانوا في عز قوتهم وتوسعهم في تلك الفترة، كانوا يراقبون الوضع المتغير في شمال بلاد الرافدين بين سوريا والعراق وكان توسع الملك الأرمني ذريعة لهم للتدخل والسيطرة على المقاطعات شرق الفرات والذي حصل في عهد بومبي في سنة 66 ق.م. كانت مدينة حران في تلك الفترة تحت سيطرة مدينة الرها، كانت الأسماء المتداولة على الحكم في تلك الفترة في المدينتين تتراوح بين الأسماء العربية والسريانية المحلية الأصل. وفقا للمؤرخ الروماني بلينيوس، كانت حران في منطقة السيطرة العربية، وأنه من المرجح أن السلالة القبلية المحلية التي كانت قد وصلت إلى الحكم في مدينة الرها في عام 132 قبل الميلاد، كانت قد وضعت حكاماً محليين من العرب على مدينة حران نجد كلاً من الأسماء العربية والآرامية الملكية في نقوش حران من تلك الفترة. في تلك الفترة أعطيت القبائل العربية في المنطقة أيضاً؛ حق الإدارة على الطرق التجارية، التي تمر عبر هذه المدن، كانت القبائل العربية تفرض الرسوم الجمركية، وكان لها الحق في التحكم وممارسة التدخل لحماية طريق التجارة، خصوصاً بعد ظهور تدمر ونهضتها الاقتصادية وشهرتها على طرق التجارة في ذلك الزمن والسعي لتأمينها من الفوضى.
-حران في العصر الروماني (65 ق.م _ 363.م): تذكر التقارير التاريخية الرومانية، أن كاسيوس السياسي والجنرال الروماني، الذي شارك في عهد بومبي خلال الحكم الجمهوري الثلاثي، كان قد ضاع مع جيشه قرب منطقة حران في طريق عودته إلى سوريا، بعد الانتهاء من حملة قام بها ضد الإمبراطورية البارثية، تشير المعلومات التاريخية، أنه تمت مساعدتهم وإنقاذهم من قبل "الجالية المقدونية" المتواجدة في حران عام 65_64 ق.م عبر إرشادهم إلى طريق العودة. منذ ذلك الوقت، ترتبط حران بذكريات سيئة لدى الرومان، وصلت إلى أقصى درجة مع معركة حران Battle of Harran الشهيرة في التاريخ الروماني والذكرى المشؤومة للرومان في المنطقة. حيث هزم القائد الروماني كراسوسCrassus و أبيد جيشه من قبل البارثيين في عام 53 قبل الميلاد. يشير المؤرخ الروماني بلوتارك؛ إلى أن phylarch فيلارخ أو شيخ الرها (ويسميه Ariamnes) هو الذي ساعد الفرس البارثيين على الرومان، بعد أن وعدهم بالمساعدة، ثم تخلى عنهم وتركهم إلى مصيرهم، لم يتدخل إلى جانبهم في المعركة، وألقى بهم إلى الموت، بل ساعد البارثيين في التعرف على أماكن سيرهم و تواجدهم، لكن التواريخ التي يذكرها بلوتارك في معلوماته تتوافق مع فترة حكم الملك Abger II و لا يوجد اسم على رأس الرها في تلك الفترة يتطابق مع الاسم الذي ذكره المؤرخ بلوتارك، أياً يكن فلقد وقع الجنرال الروماني كراسوس وقواته في يد البارثيين وقائدهم سورينا Surena بعد المعركة كان الرومان ينظرون إلى حران على الدوام، كونها موقع حدوث أقسى الكوارث الرومانية العسكرية.
بعد خسارة المعركة وإبادة قسم كبير من الجيش الروماني، توجه الجنرال كراسوس مع بضع مئات من بقايا أتباعه للجوء إلى داخل مدينة حران، لدى رجل يدعى Andromachus حسب المؤرخ الروماني بلوتارك. كان أندروماخوس قد تعهد بمساعدتهم، لكنهم كانوا قد وقعوا في كمين، أسفل تلة في حران تسمى سيناكا Sinnaca.على الرغم من الكمين حاول اثنين من "اليونانيين" من مدينة حران، حاولوا إنقاذ حياة ابن كراسوس ومنع البارثيين من قتله بعد المعركة لكنهما فشلا في ذلك.
بعد عشرات السنين من الهزيمة الرومانية في معركة حران، قام القائد الروماني مارك أنطونيو، بإقناع بعض المنفيين من العائلة البارثية المالكة، بالتمرد ضد ملكها، فعبر الفرات مع جيش يتكون من 35 ألف جندي روماني مستغلاً الوضع لمساعدتهم في الانقلاب، لكن الجيش الروماني مني بهزيمة ساحقة ولقي أغلب أفراده حتفهم في المعركة مع الجيش البارثي. بعد هزيمة جيش مارك أنطونيو، لم يقم الرومان بأية تحركات واسعة في المنطقة، حتى عهد الأباطرة الرومان الأقوياء من الأسرة الفلافية، ربما كان شغفهم بالمجد، كما اقترح كاسيوس من قبل مصطلح "شغف المجد"، هو دافع الرومان للتحرك باتجاه التوسع في الشرق. هذا السبب كان قد قاد الإمبراطور تراجان إلى زيارة أنطاكية 114.م من أجل العمل والتخطيط لعودة السيطرة الرومانية إلى شرق الفرات مرة أخرى. على الرغم من أن الإمبراطور تراجان قد حقق في البداية نجاحاً في كسب النفود واخضاع مدن بلاد ما بين النهرين، لكن بعد عامين نقرأ ارتفاعاً في وتيرة التمرد ضد الرومان في بالمنطقة. كان هادريان خليفة تراجان أكثر واقعية من سلفه، مع بداية تسلمه الحكم في 117.م عملت روما على إعادة الأراضي شرق الفرات إلى الفرس واعتمدت الحفاظ على إطباق سيطرتها بقوة على مناطق غرب الفرات، وتخلت عن مطالباتها السابقة في المنطقة، لكنها لم تتخل عن تدخلاتها السياسية في تلك الفترة. نشهد بعد ذلك بفترة طويلة حملة حقيقية وحيدة قام بها الإمبراطور لوشيوس Lucius verus الذي حكم الإمبراطورية بين عامي 161_169.م حيث قام بحملة ناجحة في المنطقة وصل فيها إلى نصيبين، قام الإمبراطور لوشيوس بتخليد العمليات العسكرية في المنطقة بنصب تذكاري في مدينة أفسس، تظهر فيه بلدة حران ببيوتها الطينية المشهورة ذات الشكل المخروطي كموضوع رئيسي في نقوش النصب التذكاري. فيما بعد وفي عهد الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، قام الإمبراطور بحملة في المنطقة شرقي الفرات في 199-200.م، استطاع الإمبراطور في تلك الحملة، السيطرة على المنطقة وضم الرها، نصيبين وحران. عمليات دخول المدينة والترتيبات السياسية في حران خلال فترة حكمه غير واضحة، لكن الأدلة الأثرية تشير إلى أن حران استسلمت طوعاً للجيش الروماني، أسبغ عليها الرومان فيما بعد لقب كولونيا مستعمرة أو محمية رومانية، بعد فترة من الزمن دعيت لفترة وجيزة أوريليا، ثم تم منح مواطنيها لقب Philoromaioi وهي رتبة شرفية رومانية. تم العثور في التنقيبات الأثرية في المدينة على قطعة نقدية من عهد الإمبراطور كومودوس سلف الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، يذكر فيها اسم حران مع اسم عاصمة الإمبراطورية روما. أيضاً عبر دراسة النقوش السريانية المختلفة من "الجبل المقدس" في مكان قريب من خربة سوماتار هاربيسي Sumatar Harebesi المكرسة لإله القمر والتي تعود إلى تلك الفترة، نستطيع الحصول على المساعدة في استجلاء السياسية المعقدة والعلاقة بين حران والرها على الحدود بين الرومان والفرس في ذلك الوقت وتناوب السيادة على تلك المدن بين الطرفين المتصارعين. في الاضطرابات السياسية والعسكرية في المنطقة، بين نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي، كان على الرومان مواجهة التحدي الجديد الفرس الساسانيين، الذين حلوا في المنطقة، بدلاً من البارثيين على الحدود الشرقية واستطاعوا السيطرة على حران والرها في شمال ما بين النهرين. كان الملك الساساني أزدشير الأول قد نجح في ضم حران ونصيبين في 238.م، لكن فيما بعد ومع هزيمة الفرس من قبل الرومان في معركة وقعت في المنطقة عام 243.م استعادت روما السيطرة من جديد على المدن المذكورة. في النصب التذكارية الرومانية بالإضافة للنصب التذكاري الذي يذكر حران في مدينة أفسس، هناك نصب تذكاري آخر يعود إلى عهد الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس الذي حاول ضم مملكة الرها وما بعدها نصيبين، بعد انتصاره شيد الإمبراطور نصب تذكاري يخلد الفوز في تلك المعارك على الفرس. في نصبه التذكاري في مدينة روما، يظهر النصب حران باعتبارها واحدة من المدن الرئيسية في العمليات العسكرية بين الرومان والفرس، يظهر فيه حتى اليوم البيوت الطينية المخروطية، التي كانت حران القديمة تشتهر بها والتي لم تتغير حتى يومنا هذا.
بعد فترة حكم الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، في عهد خليفته كركلا، منح الإمبراطور في عام 214.م مدينة حران لقب مستعمرة رومانية. في نيسان عام 217.م زار الإمبراطور كركلا المدينة، لأنه أراد زيارة معبد إله القمر سين فيها المسمى معبد الخطيئة. في ذلك العام وبعد زيارة الإمبراطور كركلا للمعبد وتقديم الأضاحي للإله القمر وأثناء خروجه من المعبد في طريق عودته، تم اغتياله من قبل المحافظ في الحرس الإمبراطوري، Macrinus، الذي كان من المقرر أن يكون الإمبراطور الجديد، لكنه فشل في الوصول إلى الحكم. في عهد الإمبراطور فيليب العربي، تخلت روما بشكل ملموس عن المنطقة شرق الفرات من خلال سحب الجيوش الرومانية من بلاد ما بين النهرين، وترك حاميات في المدن الرئيسية فقط. في عهد الإمبراطور الروماني Julianus Apostata اتخذ الإمبراطور جوليانوس من المنطقة مستقراً له واعتبرها قاعدة في مواجهاته مع الفرس. ضحى الإمبراطور جوليانوس الذي كان وثنياً بأضحية لمعبد الإله القمر في حران عام 363.م، في بداية حملته المشؤومة ضد الفرس الساسانيين التي قتل فيها بسهم مسموم. كان مقتل الإمبراطور الروماني جوليانوس في تلك المواجهات قرب حران والموت فيها نكسة كبيرة للديانات الوثنية في المنطقة. بعد موت الإمبراطور جوليانوس في القرن الرابع الميلادي، كانت المنطقة ساحة للمعركة بين الرومان والساسانيين الفرس. ظلت على نفس الوضع في العهود الرومانية المتأخرة ولاحقاً البيزنطية، حتى 639.م عندما تمت السيطرة على المدينة من قبل جيوش المسلمين. حتى ذلك الوقت كانت عبادة القمر في المدينة قائمة وكان معبد الإله القمر سين لا يزال قائماً. -مدينة حران في العهد البيزنطي المسيحي (363.م – 639.م):
اضمحل دور المدينة الديني في العصر البيزنطي، لعدم نشاطها في التبشير ونشر الدين المسيحي في المنطقة، بل استمرت فيها العبادات السورية الوثنية القديمة، أطلق الآباء المسيحيين على المدينة في العهد البيزنطي لقب Hellenpolis في إشارة إلى استمرار التقاليد الوثنية السورية والإغريقية الممارسة في المدينة، في نوع من الازدراء لتلك الطقوس من قبل المسيحيين. في القرن السادس الميلادي في عهد الإمبراطور جستنيانوس الكبير، نقرأ معلومة إصلاح أسوار المدينة القديمة المحيطة بحران، من قبل الإمبراطور جستنيانوس الكبير، كانت سور حران بطول 4 كيلومتر وعرض 3 كيلو متر، أجزاء كبيرة منها لا يزال قائماً حتى اليوم. تم التعرف في التنقيبات الحديثة على موقع ما لا يقل عن 187 برجاً للسور القديم. وتم تحديد البوابات الست للمدينة (بوابة حلب، الأناضول، أرسلاني، الموصل، بغداد وبوابة الرقة)، في نهاية العصر البيزنطي ومع دخول الجيوش الإسلامية إلى الجزيرة السورية بقيادة القائد الإسلامي عياض بن غنم، كان أسقف مدينة الرها قد سلم المنطقة من دون قتال، تصالح مع قائد المسلمين على دفع الجزية وتسليم المدن لهم سلمياً، كان معبد إله القمر في حران في ذلك الوقت لا يزال قائماً في الموقع المعروف اليوم بالقلعة داخل المدينة القديمة.
-مدينة حران في العصر الإسلامي:
في العصر الإسلامي الأول وبالتحديد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ومع بدء التوسع الإسلامي في سوريا، استسلمت حران للقائد الاسلامي عياض بن غنم عام 639.م وكانت تعد آنذاك حاضرة ديار مضر. جرت مفاوضات مع سكانها الذين طلبوا من قائد جيش المسلمين عياض بن غنم السير أولاً إلى الرها، حتى إذا ما صالحه سكانها عمدوا هم إلى مصالحته، وخلوا بينه وبين النصارى من سكانها، عندما علم هؤلاء بما عرضه الحرانيون على عياض أرسلوا إليه يعلمونه بقبولهم بما عرضه. توجه عياض نحو الرها وحاصرها، لم يستطع جيشها مقاومة المسلمين، فطلب أهلها الصلح والأمان فاستجاب لهم عياض وكتب لهم كتاباً في ذلك أرسله إلى الخليفة عمر جاء فيه: ” إني أمنتهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم، ومدنهم وطواحينهم إذا أدوا الحق الذي عليهم، ولنا عليهم أن يصلحوا جسورنا ويهدوا ضالنا." أما ما فرضه عليهم المسلمين، فهو أن يؤدوا عن كل رجل ديناراً ومُدَّي قمح. وقد صالح عياض أهل حران على الشروط نفسها التي وافق عليها أهل الرها. بقيت حران خلال الحكم الأموي تنعم بهدوء نسبي، تمارس فيها الأعمال التجارية في شمال سوريا، وتتابع معتقداتها الدينية، التي كانت مزيجاً من الديانة البابلية القديمة واليونانية الممتزجة بالأفلاطونية الحديثة. وجميع هذه المعتقدات كانت تصنف بأنها ذات طابع وثني. في العهد الأموي كان الخليفة عمر بن عبد العزيز قد نقل معاهد الطب من مدينة الإسكندرية التي ازدهر الطب اليوناني إلى مدينتي أنطاكية وحران في سوريا. في أواخر العصر الأموي انتقلت إليها عاصمة الدولة الأموية، إذ جعلها مروان الثاني بن محمد مقراً لإقامته ونقل إليها دواوين الدولة وإداراتها، ومنها خرج على رأس جيش قوامه اثنا عشر ألف لقتال جيش العباسيين وكان بقيادة عبد الله بن علي عم أبي العباس السفاح، انهزم مروان بن محمد في هذا اللقاء مما زاد في قوة العباسيين فأخذوا يتابعون تقدمهم للقضاء على الدولة الأموية.
كان هدف مروان من نقل العاصمة من دمشق إلى حران، أن يكون على مقربة من خصومه العباسيين، معتمداً في ذلك على مساندة القيسيين له في المنطقة. من المشكلات التي تعرض لها مروان بن محمد ليثبت حكمه، قيام الخوارج بحركة تزعمها الضحاك بن قيس الشيباني في الجزيرة الشمالية ونادى بنفسه خليفة، وقد ساندته قبائل ربيعة، إلا أنه لم يصمد طويلاً وفشل في قتاله فزج به في أحد السجون في حران وبقي فيه حتى وفاته بالطاعون عام 133هـ/750.م، كما سجن في حران إبراهيم ابن الإمام محمد بن علي العباسي، وبقي في سجنه نحو شهرين ثم توفي بالطاعون، وقيل إن الخليفة الأموي مروان بن محمد أمر بقتله. عندما آلت الخلافة لبني العباس، استمرت حران على معتقداتها الروحية السورية ما قبل التوحيدية، ولنا مثال قصة الخليفة المأمون مع أهالي حران، عندما مرَّ على المدينة وهو في طريقه لمحاربة الروم البيزنطيين، فسأل أهلها عن ديانتهم وهل هم مسيحيون أو يهود فأجابوه بالنفي، فقال لهم: إمّا أن تعتنقوا الدين الإسلامي أو إحدى الديانتين السابقتين، وعند عودتي ستخبرونني بقراركم وباسم الدين الذي اخترتموه، وإلا فإني سأقضي عليكم، عندها اقترح بعض النابهين من أبناء المدينة والمطلعين على القرآن، بأن يعلموا الخليفة بأنهم الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن، وبذلك نجوا من القتل، وبقيت هذه التسمية هي السائدة على سكان المدينة منذ العصر العباسي. في الدور الثاني للدولة العباسية وهو دور تجلى فيه ضعفها، استطاع وثاب النميري أن يقيم دولة له في حران؛ هي الدولة النميرية (380-410هـ/ 990-1019.م) وكانت موالية للدولة الفاطمية التي حكمت حران حتى عام 474هـ/1081.م؛ وانتقلت في هذا العام إلى سلطة الفضليين وهم حلفاء السلاجقة فعينوا أحد رجالاتهم والياً على حران، إلا أن أهلها ثاروا عليه وعلى السلاجقة فقمعت ثورتهم بكل قسوة، ثم انتقلت حران بعد ذلك إلى سلطة عماد الدين زنكي، فألحقها بإمارته في الموصل 521هـ/1127.م ثم انتقلت زمن الأيوبيين لتصبح تحت حكم الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي وذلك عام 587هـ/1191.م.
في العهد الإسلامي زار الرحالة ابن جبير مدينة حران، وكتب عن سكانها ووصف مبانيها وأسواقها وقد أجزل لها المديح فقال: "ولهذه البلدة مدرسة ومارستانان، وهي بلدة كبيرة وسورها متين حصين، مبني بالحجارة المنحوتة، المرصوص بعضها على بعض، في نهاية من القوة وكذلك بنيان الجامع المكرم، ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها... الخ. " أيضاً يقول: والبلد كثير الخلق، واسع الرزق، ظاهر البركة، كثير المساجد، جم المرافق على أحفل ما يكون من المدن. تعرضت حران لزلزالين الأول عام 508هـ/1114.م، والثاني 552هـ/1157.م فتهدمت معظم مبانيها، وارتحل عنها بعض أهلها، فأخذت أهميتها بالتراجع، ولقد احتلها المغول بقيادة هولاكو وشتتوا ما تبقى من سكانها فنفوهم إلى مدن الموصل، وماردين ودمروا مبانيها ومساجدها، و كان من بين ما دمروه آخر هيكل للصابئة في المدينة، وأشاعوا فيها الخراب، ثم استخلصها المماليك من يد المغول، وكانت قد فقدت أهميتها، ولم تستعد ماضيها، حيث أصبحت خربة مهجورة، حتى أصبحت في الوقت الحاضر قرية ريفية مهملة، يسودها الفقر ويسيطر على معظم سكانها الجهل، إلا أن أهميتها العلمية السابقة وما نبغ من أبنائها من علماء جعلها محطة أنظار الباحثين واحترامهم حتى اليوم. كانت اللغة السائدة في حران في العصر الإسلامي، اللغة السريانية وهي لغة سكانها الأصليين، كان علماؤها يتقنون إلى جانب لغتهم السريانية، اللغة اليونانية ويتمثلون الحضارة الإغريقية، هذا بالإضافة إلى إتقانهم للغة العربية، لغة الدولة الرسمية، لذا كان من السهل على علمائها ومثقفيها أن ينقلوا إلى اللغة العربية أمهات الكتب العلمية والثقافية؛ سواء منها اليونانية أو السريانية. وقد شجعهم على ذلك ما أغدقه عليهم بعض خلفاء بني العباس من أموال وهبات، وما أظهروه نحوهم من احترام وتقدير. لقد اكتسب الحرانيون الصابئة الشهرة في حقول الفلك والطبّ والعلوم بوجه خاصّ. فالطوائف المتكلّمة بالسريانية، سواء أكانوا مسيحيين أو وثنيين، تلقّوا ونقلوا علوم اليونان والبابليين إلى العالم الإسلامي ومن ثمّ قام الوسط الإسلامي بنقلها إلى أوروبا من جديد.
إنّ أوّل صابئي أحرز شهرة بارزة هو ثابت بن قرّة: الذي وُلد في حرّان في نحو سنة 836.م – أي بعد ستّ سنوات من زيارة المأمون لحرّان. وبعد أن رجع من دراسته في بغداد، دخل ثابت في صراع مع السلطات الدينية في حرّان. ونقرأ أنّه مُنع من دخول هياكلهم. ونتيجة لهذا ارتدّ وتخلّى عنهم. وبعد حين توتّرت علاقاته بالطائفة فانسحب نهائياً من حرّان. وعُيّن فيما بعد كفلكي للخليفة في بغداد. وهناك صرف معظم حياته. تشير المصادر التاريخية إلى أنّ علاقته كانت طيّبة جداً مع الخليفة المعتضد بالله. وكان له وحده فقط الحقّ في الجلوس في حضرته، في حين أنّ الوزير نفسه كان يقف. كان ثابت غزير الترجمة والكتابة، ومقالاته وأبحاثه التي كانت تتألّف من الميتافيزيقيا والتاريخ والموسيقى والتنجيم والطبّ والرياضيات والفلك، كان لها تأثير كبير على الفكر المعاصر. وكان ثابت قد أسّس طائفة صابئية في بغداد وقاد شؤونها حتى وفاته. ومن الواضح أنّ مقالات ثابت عن اعتقادات الصابئة وطقوسهم لم يُكتب لها البقاء. توفّي ثابت سنة 901.م، وكان قد أسّس عائلة من التقاليد الثقافيّة امتدّت لأكثر من قرنين من الزمان بعده. فابنه سنان كان طبيباً للخليفة، وأقام عدّة مستشفيات. إنّ إنجازات الصابئة لم تكن مقتصرة على الطبّ فقط، فلقد كان سنان بن ثابت فلكياً، وفيلسوفاً، ومؤرِّخاً أيضاً، وكان شهيراً بإنسانيّته الكبيرة وتسامحه. اعتنق الإسلام رغماً عن إرادته، لكنّ أولاده ظلّوا صابئة. هم أيضاً أحرزوا شهرة في حقول العلم نفسها.
هناك عائلة صابئية شهيرة أخرى انحدرت من طبيب حـرّاني: هي عائلة هلال كانت قد استقرّت قرب الرقّة. وكان ابناه طبيبين معروفين جيّداً في بغداد. أمّا حفيد الأسرة فقد كان إبراهيم بن هلال الشهير الذي كان أمين سرّ البلاط العباسي في القرن العاشر، وكانت له عدّة مواهب: شاعر وناثر ومؤرّخ ورياضي وفلكي. كان صابئياً ورعاً مخلصاً. كسب التسامح لطوائف الصابئة في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. وفي الحقّ أنّه رفض منصب وزير ولم يهجر معتقده، لم يترك بغداد خوفاً من أن تقاسي طائفته في غيابه، وجعل نفسه نموذجاً لفضائل الصابئة وهي كبح النفس، والخدمة والتواضع والتسامح. كان يعرف القرآن جيّداً، ولم يكن يضيره أن يصوم في أثناء رمضان. وكان ابنه وحفيده كاتبين معروفين. وقد حاز حفيده على رتبة عالية كأمين سرّ ولكن يبدو أنّه اعتنق الإسلام.
صابئي حراني آخر شهير عالمياً؛ هو محمّد بن جابر البتّاني: الذي توفّي سنة 929.م كان سريانياً صابئياً وواحداً من أعظم الفلكيين والرياضيين في كلّ زمان ومكان، كان يعيش في بغداد، وكان لقوائمه الفلكية وأعماله عن تقدّم الاعتدالين وعن مدار الكواكب وعن كسوف الشمس وخسوف القمر اعتباراً عالياً حتى في أعين الأوروبيين وجميع أنحاء الشرق – إن البتاني من أعظم علماء عصره، وأنبغ علماء العرب في الفلك والرياضيات، كما وصفه العالم الفرنسي (لالاند) بقوله: "إن البتاني من العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله". عرف البتاني قانون استخراج مساحة المثلثات الكُريّة، وقام بقياسات لانحراف سمت الشمس Ekliptik بشكل دقيق، وأوجد طرقاً جديدة لقياس عرض الأماكن، كما توصل بواسطة قياساته الدقيقة الصحيحة لمدد السنوات الاستوائية والقطبية المختلفة، بعد أن قام بقياس دوران الأرض حول الشمس بطريقتين. حسب البتاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 33 درجة و35 دقيقة، وقد ظهر حديثاً أنه أصاب في رصده إلى حد دقيقة واحدة، كما أن لـه إضافات هامة في المثلثات، فلقد استعمل الجيوب بدلاً من أوتار مضاعف الأقواس. إلى ما هنالك من جهود علمية هامة. هناك أيضاً الكثير من العلماء المسلمين الذين كانوا من أصول حرانية في العصر الإسلامي، لا مجال لذكرهم جميعاً هنا، كان من أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ولد في حران وتوفي في سجن قلعة دمشق. إنّ هذا التقدّم والازدهار في الثقافة والعلم الصابئي في بغداد والمراكز الأخرى من الإمبراطورية الإسلامية ووجود فلكيين ورياضيين وأطبّاء وكتّاب صابئة آخرين لا مجالَ لذكرهم هنا، أمورٌ كانت لها نتائج وخيمة على حرّان المدينة. إنّ أبرز أبنائها تركوها وخرجوا للعمل بعلومهم في أرجاء الدولة الإسلامية، ثمّ انحطّت المدينة نتيجة لذلك وتدهورت سريعاً، وانتشرت هالة من الغموض حول المكان. تدهورت حالة حرّان بعد هجرها من قبل علمائها وعدم الاهتمام بها، فكانت ضحية خصومات مهلكة بين قوّاد عسكريين سذج ما بين القرن العاشر والثاني عشر. في القرن الحادي عشر كان الهيكل الصابئي الذي بُني مكان الهيكل القديم قد تمَّ هدمه ليفسح في المكان لبناء مسجد إسلامي، ولكنّ بعض البنايات البديعة التي بنيت في أماكن أروقة هياكل الحرانيين، كانت ما تزال قائمة ورآها ووصفها الرحّالة الإسباني المسلم ابن جبير في نهاية القرن الثاني عشر يقول: كان لحرّان أسواق منسّقة تنسيقاً بديعاً ومركّبة بصورة فريدة. وكانت جميعها مسقوفة بالخشب ولم يكن الناس يخرجون من الظلّ الطويل أبداً. ترى نفسك وأنت تمرّ فيها. وكأنّك تمشي في أروقة طويلة داخل البيوت. ومسجد المدينة الكبير، وهو قديم مرمّم، جماله منقطع النظير. لم نرَ مسجداً أقواسه واسعة من قبل مثل هذا قطّ. أمّا جمال بناء هذا المسجد وترتيب الأسواق حوله، فرأينا فيها مشهداً بديعاً وتناسقاً في التصميم قلّما تراه في المدن. وحرّان مدينة كبيرة، بأسوار ضخمة وقويّة، ولها قلعة متينة في الجانب الشرقي منها وجدران القلعة نفسها محصّنة تحصيناً قوياً." بعد بضع سنين وفي عام 1260 م دمّر المغول مدينة حران وهياكلها التي كانت تعدّ آخر مكان للعبادات الصابئية. واختفى الصابئة وهياكلهم من مدينة حرّان نهائياً. مدينة حرّان اليوم تحتفظ بآثار من ماضيها المتنوّع، الذي تم الكشف عنه اليوم نتيجة للمجهود الذي يبذله الأثريون العاملون في المنطقة وعلى رأسهم البروفيسور ستورم رايس Dr. Storm Rice فالأطلال المهيبة للمسجد الكبير تسيطر على مشهد الريف، والنحت على جدران القلعة يخصّ الفترة الإسلامية. وتذكّرنا الأسوار الحجرية ذات الصناعة الحثيّة بتاريخ المدينة القديم. كذلك البئر الذي سحب منها يعقوب الماء لسقاية قطيع لابان (تكوين 10/29). وبين هاتين الفترتين المتباعدتين من تاريخ حرّان، تقف البقايا الأثـرية الصابئية القليلة كحلقة للاتصال. فخرائب القلعة، حيث انتصب آخر هيكل صابئي، لا تزال موجودة. في الحفريات التي جرت في مكان المسجد، ظهر معبد قد يكون مكان العبادة الصابئي وحتّى الشكل الفريد للأكواخ التي هي على شكل خليّة النحل في قرية حرّان الحديثة تذكّرنا بالبيت الذي كان مبنيّاً من القرميد المشوي على شكل مخروطي ويذهب إليه الصابئة للتضحية للمريخ وهو المعروف بنمط البيت الآشوري اليوم.
-النبي إبراهيم والديانات التوحيدية في مدينة حران (المدينة كمرجعية دينية توحيدية):
في تقليب الرواية الدينية التوراتية الغير تاريخية: يجب أن نؤكد على أننا لا نستطيع استخدام الكتب الدينية في بناء التاريخ، لكننا لا نستطيع تجازوها عندما نريد التحدث عن أصحابها الذين يؤمنون بها، وماذا يعتبرون أنفسهم، أو في جانب آخر لا نستطيع تجاوزها فيما يخص تاريخ الدين. لذلك عندما نقرأ التوراه، لا نستطيع تجاهل اعتبار اليهود للمدينة كمكان مقدس ضم قصص إبراهيم وسلالته وقبر الجد تارح والد إبراهيم. من هنا، فإن حران كمدينة دينية تمتلك شخصية دينية وثقافية مزدوجة أو مختلطة بالمعنى الأبسط؛ فعلى الرغم من استمرار إرث عبادة الكواكب والقمر في حران لمدة ثلاثة آلاف عام متواصلة، إلا أننا نلاحظ أن المدينة، كانت مهد انطلاق الديانات التوحيدية والبيت الأول لإبراهيم النبي المؤسس الفعلي للبيت التوحيدي حسب التوراه. في تاريخ الديانات التوحيدية، كانت المدينة حاضرة منذ اللحظات الأولى، فلقد ذكرها سفر التكوين بأنها مدينة الأب إبراهيم الذي أمره الرب بالتوجه من أور الكلدان إلى مدينة حران، التي كانت مركز المملكة الآرامية المسماة فدان آرام حسب التوراه Padam Aram أي حقل آرام، فتوجه إبراهيم برفقة أبيه تارح المسمى في القرآن آزر إلى مدينة حران مصطحبًا معه زوجته ساره و ابن أخيه لوط (تكوين 11:31 وأعمال الرسل 7:2-4)، ليتوالى ذكرها في التوراة مرات عديدة، خصوصاً مع النبي يعقوب (إسرائيل) الذي تروي القصة التوراتية توجهه إلى مدينة حران بعد الهرب من غضب أخيه عيسو، الذي حاول الانتقام منه، فغادر أرض كنعان و لجأ إلى بيت خاله لابان الآرامي في حران، حيث عمل لديه برعي الأغنام و رعاية القطعان التي كان يمتلكها، ليتزوج فيما بعد حسب رواية التوراة نفسها ابنة خاله لابان المدعوة ليئة؛ المعروفة اليوم بترجمات الغرب للتوراه باسم ليا Leah و بعد وفاة ليا كان قد تزوج من أختها الكبرى راحيل (تكوين 27:43؛ 28:10). في مدينة حران نفسها كان تلقى بشارة الرب حسب التوراه وأصبح المؤسس لما يعرف بشعب إسرائيل أو شعب الله المختار. بعد رواية قدوم النبي إبراهيم وسلالته وقصتهم اللاهوتية في حران، اعترفت الديانات التوحيدية اللاحقة كالمسيحية والإسلام بأبوة حران الدينية؛ بكونها نقطة الانطلاق للأب الروحي للبيت التوحيدي إبراهيم، الأمر الذي كان كافياً لتكون المدينة محط احترام إرث التوحيديين؛ أي بالنسبة لليهود والمسيحيين والمسلمين في نهاية المطاف. كانت مدينة حران المكان الذي أمر الرب إبراهيم بالتوجه إليه، فجاء إلى حران من أور الكلدانيين، لينفذ وصية ووعد الرب له، وليتشرب في تلك البقعة المقدسة التقاليد الدينية، كما ورد في سفر التكوين، فحران تلعب دوراً مركزياً في حياة إبراهيم. كانت فوق ذلك المكان الذي دفن فيه تارح Tareh، والد إبراهيم. يقول التقليد المدراشي Midrashic tradition أن إبراهيم وأسرته” حازوا في حران أرض واسعة وأيضاً عدداً من الأتباع"، وتلقى فيها النبي إبراهيم التعاليم الدينية وتقاليد التقوى واستمر فيها جنباً إلى جنب مع زوجته ساره وابن أخيه لوط وأتباعهم. كانت المدينة قد ذكرت في مواضع أخرى من التوراة مرتبطة بذكر النبي إبراهيم منها سفر الأعمال (24:10) والأعمال ( 25:2). ترتبط مدينة حران بالتوراه في مواضع أخرى بروايات تتعلق أو تخص أولاد النبي إبراهيم، خصوصاً إسحاق الذي تصف الرواية التوراتية بأنه ولد في سن متأخرة لإبراهيم وساره في مدينة حران. تروي التوراه بعدها قصة زواج النبي إسحاق من رفقة ابنة بتوئيل الآرامي والتي تدعي في الترجمات الغربية للتوراه ب ربيكا التي كانت من مدينة حران (تكوين 24:10 وما يليها). تتابع التوراه بعدها ذكر قصة النبي يعقوب (إسرائيل) ولد النبي إسحاق وحكايته مع حران وكيف جاء إلى المدينة عندما هرب من غضب أخيه عيسو (تكوين 27:43). وفيها التقى عروسه ليئة ابنه خاله لابان الآرامي شقيق رفقة والذي كان يعمل لديه في رعي القطعان (تكوين 29:4). وردت مدينة حران أيضاً في مواضع أخرى من التوراه، حيث ذكر أنها دمرت من قبل ملك آشور (2 ملوك 19:12؛ يشوع 37:12). أيضاً في سفر حزقيال يتحدث المقطع عن التجار من حران وتداول البضائع مع مدينة صور (حزقيال 27:23). في الإرث التوراتي؛ نرى أهمية حران تجلت في شقين: الشق الأول ارتباطها بمفهوم أرض الميعاد ووعد الرب لإبراهيم وأمره بالتوجه إلى أرض الميعاد. الشق الثاني: كانت حران السورية المنطقة التي تشكل أو تأسس فيها المفهوم التوراتي لشعب إسرائيل عبر يعقوب وذريته، ودوماً حسب الرواية التوراتية الغير تاريخية. أي كانت حران نقطة الانطلاق لصنع العهد القديم القائم بين الله وشعبه المختار، شعب يعقوب (إسرائيل).
-في الإرث المسيحي: كانت حران جزءاً من مملكة الرها؛ أول الممالك المسيحية في العالم. كان سكان المدينة يعتقدون أن الرسول الذي حمل رسائل المسيح إلى مدينة الرها إلى بلاط الملك أبجر الخامس، كان قد مر بباب حران، قادماً إليهم من القدس. لكن المدينة لم تكن موضع اهتمام في العصور المسيحية، ذلك بسبب سيادة التقاليد الوثنية و فلسفة عبادة الكواكب، كان آباء الكنيسة يطلقون اسم Hellenoplis على مدينة حران؛ أي المدينة الوثنية، لأنها لم تلعب دوراً مهماً في التبشير بالديانة المسيحية، بل استمرت فيها ديانات سورية ما قبل التوحيدية، لكنها كانت مكاناً مقدساً بالنسبة للمسيحيين لارتباطها بالآباء الأوائل من إبراهيم إلى يعقوب، ولكونها تشكل جزءاً من العهد القديم، الذي يقدسه المسيحيون، بذلك كانت حران موضعاً مقدساً بالنسبة للمسيحيين وإن لم تكن قد لعبت دوراً مهما في نشر المسيحية.
-في التقليد الإسلامي: المسلمون أنفسهم يعتبرون إبراهيم أهم شخصية من الشخصيات الدينية الواردة قبل محمد، فمن وجهة نظر إسلامية كان دوره ينحصر في شقين؛ أولاً: كان باني بيت الله الحرام في مكة ومن ناحية أخرى كان والد إسماعيل جد العرب الشماليين. ثانياً: هو أيضاً مؤسس الإيمان الحنيف وأول الموحدين بالنسبة للمسلمين في المرحلة الما قبل قرآنية. من الممكن أن وجود أو دخول إبراهيم في الدائرة الإسلامية، تشكل حسب التقاليد المحلية عند وجود محمد في المدينة المنورة، حيث سعى محمد لكسب الجالية اليهودية التي تمثل الوحي بصفته مؤسس الإسلام؛ الذي هو استعادة ملة إبراهيم. خصوصاً أهمية المرحلة المدنية و التأثيرات القوية فيها من داخل ومن خارج الجسم الإسلامي، فابن عباس؛ أحد أهم علماء الإسلام الأوائل في الحديث و السيرة كان يلقب في المدينة بحبر الأمة و أيضاً في المرحلة المدنية كان هناك شخصيات مؤثرة دخلت الإسلام ككعب الأحبار، لا نستطيع إنكار هذه التأثيرات اليهودية في الديانة الإسلامية و الارتباط الذي تم بين المسلمين و إبراهيم عن طريق قصة أنه والد إسماعيل و باني الكعبة الإسلامية و ثانيهما أنه جد العرب الشماليين، بذلك يكون إبراهيم والد أبوي و روحي للإسلام وتكون مدينة حران؛ مكان مهم في الجغرافية المقدسة بالنسبة للمسلمين. يبدو أن الملكية المشتركة لإبراهيم كانت قد ترسخت بين اليهود والمسلمين في المدينة المنورة. بذلك كانت حران بالنسبة للمسلمين مركز نقطة انطلاق لمسار السلالة التوحيدية المقدسة التي امتدت من إبراهيم إلى محمد.
-تخبط القرآن والمسلمين في موضوع الصابئة (حران كمثال في فهم مشكلة التراكم الديني السوري):
في موضوع تعاطي كتاب المسلمين المقدس القرآن مع غير المسلمين، لدينا حالة غير مستقرة في تعاطي نصوصه المقدسة مع الآخر المخالف دينياً، تتجسد في أمرين؛ الأمر الأول: هو حكم النص الديني نفسه داخل الكتاب وتناقضاته، ففي النصوص الدينية داخل الكتاب نرى تضارباً وتناقضاً في الأحكام نفسها التي تخص شيئاً أو موضوعاً معيناً. الأمر الآخر: هو متى يطبق النص أم لا؟ فلا أحد يعرف متى يطبق الحاكم الإسلامي أحكام النص ومتى لا يطبق النص، فكثير من الخلفاء كانوا يتسامحون في الموضوع، بينما نجد خلفاء آخرين لا يتسامحون، لدينا مثال عن معرفة الخليفة هارون الرشيد بوجود ما يسمى طائفة الصابئة في حران والتسامح معهم، بينما نرى ابنه المأمون يحقق في الأمر ويطلب منهم التوضيح عن دينهم وإلا سيضطر لتطبيق أحكام الإسلام عليهم إن لم يوافقوا.
“الإسلام يجب ما قبله” عبارة أدت إلى قطيعة معرفية كبيرة مع ثقافات المنطقة، أضرت في علاقة شعوب المنطقة مع بعضها البعض، أدت أيضاً إلى الكثير من التخلف و التباعد في تعرف شعوب المنطقة على بعضها، أدى ذلك بالنهاية إلى التطرف كنتيجة طبيعية بين جماعات لا تعرف عن بعضها شيئاً و لا تريد أن تعرف عن بعضها شيئاً. أضر هذا بالفكرة النمطية المأخوذة عن شعوب المنطقة كثيراً وبالإسلام على السواء، فظهر الإسلام ونصوصه كثقافة معلقة في الهواء، منفصلة عن إرث المنطقة، خصوصاً السريانية، مع أن أغلب نصوص الإسلام المقدسة عائدة إلى نصوص أقدم منها؛ على الأخص النصوص والتقاليد العبرية والسريانية. هي خاصة لا يتميز بها الإسلام لوحده كدين، فلقد سبقته إليها الديانتين اليهودية والمسيحية في اقتباس التقاليد السامية الثقافية والدينية في سوريا والعراق.
تتخبط التقاليد الإسلامية في موضوع معرفة الصابئة كنتيجة لإصرار الإسلام على القطيعة مع ماضي المنطقة، اليوم عندما نتبع المصادر الإسلامية الدينية، سواء في كتاب المسلمين المقدس، أو في تواريخ أو أقوال مؤرخي وأئمة المسلمين في الموضوع؛ نلاحظ عدم فهم أو عدم وضوح لناحية تحديد من هم أو من هي طائفة الصابئة. نبدأ مع القرآن خصوصاً أنه كان المصدر الإشكالي الأول في ذكر لفظة صابئة. فجميع الاهتمامات بالموضوع أتت عن الحيرة في معرفة ما هو دين الصابئة المذكور في القرآن. في القرآن ذكرت لفظة صابئة في ثلاثة آيات من آيات القرآن؛ في أول مرة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/62. والمرة الثانية كانت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/17. والمرة الثالثة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة/69 .
والصابئة في اللغة العربية؛ جمع صابئ، اسم فاعل من صَبَأ يصبَأ، إذا صار من شيء إلى آخر، أو خرج من دين إلى آخر. كانت قريش تقول: “صبأ الفتى” لمن يدخل في دين محمد أي خرج من دين قريش المتعدد إلى دين محمد الوحداني. (لسان العرب صبأ)
قال الطبري: (والصابئون، جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه ديناً، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: صابئاً، يقال صبأت النجوم: إذا طلعت) تفسير الطبري 2/145.
يقول الشافعي في وصفه للصابئة: هم صنف من النصارى، وقال في موضع: ينظر في أمرهم؛ فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع، فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية.
يقول الإمام ابن القيم الجوزية في موضوع الصابئة: ( قلت: الصابئة أمة كبيرة، فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر، فإن الأمم قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، نوعان: نوع كفار أشقياء كلهم، ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس، ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة، وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) البقرة/62، وكذلك قال في المائدة، وقال في سورة الحج ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فلم يقل هاهنا: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا؛ فذكر ست أمم، منهم اثنتان شقيتان، وأربع منهم منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أمم ليس إلا، ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلها معهم، فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد .وهذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى، وهم أنواع: صابئة حنفاء، وصابئة مشركون. وكانت حران دار مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتب وتآليف وعلوم، وكان في بغداد منهم طائفة كبيرة، منهم إبراهيم بن هلال الصابئ صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة ذكرها أصحاب المقالات .وجملة أمرهم أنهم لا يكذبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم [ يعني اتبع الأنبياء] فهو سعيد ناج وأن من أدرك بعقله ما دعوا إليه، فوافقهم فيه وعمل بوصاياهم، فهو سعيد، وإن لم يتقيد بهم، فعندهم دعوة الأنبياء حق، ولا تتعين طريقا للنجاة، وهم يقرون أن للعالم صانعاً مدبراً حكيماً منزهاً عن مماثلة المصنوعات، ولكن كثيراً منهم، أو أكثرهم ، قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط؛ والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدسين المطهرين عن المواد الجسمانية، المبرئين عن القوى الجسدية، المنزهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس .ثم ذكر أنهم يعبدون هذه الوسائط ويتقربون إليها، ويقولون: (هم آلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب ، وإله الآلهة) ثم قال: (فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورضوه لأنفسهم . وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى، ولا يتعصبون لملة على ملة. والملل عندهم نواميس لمصالح العالم، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضاً، بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس، وتتهذب به الأخلاق، ولذلك سموا صابئين كأنهم، صبؤوا عن التعبد بكل ملة من الملل، والانتساب إليها، ولهذا قال غير واحد من السلف: ليسوا يهوداً ولا نصارى ولا مجوساً وهم نوعان صابئة حنفاء وصابئة مشركون؛ فالحنفاء هم الناجون منهم وبينهم مناظرات وردود من بعضهم على بعض، وهم قوم إبراهيم كما أن اليهود قوم موسى، والحنفاء منهم أتباعه) أحكام أهل الذمة 1/92-98.
أثار مصلح صابئة وارتباطه بالقرآن وبسكان مدينة حران في شمال بلاد ما بين النهرين، الكثير من الجدل والفرضيات حول من هم الصابئة، وما هي الهوية لهذه الطائفة أو الشعب. مناقشات كثيرة حصلت بين المؤرخين حتى العصر الحديث. هذه المناقشات تركت العديد من الأسئلة والحيرة والقليل من الأجوبة التي لا تزال غير مؤكدة. فمدينة حران على مدى قرون، كانت خزان معارف سوريا اللاهوتية ومصدر أغلب طقوسها الدينية وتقاليدها الإلهية المختلفة، فلقد ذكرت المدينة في أغلب المصادر التاريخية الدينية على مر العصور واستمرت كمركز ديني عريق للوثنيين وللتوحيديين على السواء، مما جعلها مركز اهتمام العاملين في التاريخ الديني. في العهود المتأخرة من التاريخ السوري و مع قدوم الإسلام، عادت مشكلة حران للظهور من خلال ذكر القرآن للصابئة في عدة مناسبات ضمن الكتاب وتخبط المسلمين في تفسير مفهوم اللفظة. يشكّل الصابئة لغزاً محيّراً غريباً، ويُذكَرون في القرآن بغموض. بعد ذلك نعلم أنّهم كانوا طائفة دينية تقوم بطقوس غريبة في القـرون الأولى من الإسلام. ومع ذلك فإنّ المؤرّخين المسلمين الأولين جميعهم مناهضون ومنكرون لاعتقادات الصابئة وممارساتهم-تراهم في حيرة عند تعريفهم، ويشيرون بغموض إلى أنّ اسم الصابئي انتحله دجّالون من مدينة حران. أمّا الكتّاب المسلمين فيما بعد فيعتبرون أنّ اسم الصابئي؛ هو لقب عامّ لتعريف الوثني وكلّ ما هو مكروه في الوثنية. لقد جُمع الكثير من المعلومات عن الصابئة في أثناء المائة سنة الأخيرة في عمل ضخم هامّ لعالم روسي يُدعى دانيال تشولسون Daniel Chwolson منذ كتاب تشولسون، ظهر القليل من الكتابات الأصيلة – قليل من النصوص وبعض اكتشافات أركيولوجية أثرية، ودراسات اجتماعية. وفي أيّة حال، فإنّ بحوثاً متأخّرة مهمة جداً كانت قد كتبت عن المشكلة و عن حران بالتحديد، ككتاب الباحثة تمارا غرين Tamara Green( مدينة إله القمر حران) هذه الأبحاث تمكّننا من عرض المشكلة بشكل منظّم جديد، لكن هل تقدّم لنا الجواب عن هذه المعضلة؟
-الصابئة وعبادة الكواكب والقمر في مدينة حران عاصمة الروحانيات السورية:
-بداية المشكلة: في الفترة الإسلامية، مع سيادة الثقافة والتقاليد الوحدانية بكل قوة في المنطقة، ومع تطبيق نصوص هذه التقاليد الدينية بصرامة لغوية حرفية نشأ التكفير للشعوب الغير منضوية تحت ما يسمى الثقافة التوحيدية، أو الشعوب الغير المذكورة ضمن ما يعرف في القرآن بمصطلح أهل الكتاب؛ كاليهود، المسيحيين، والمجوس والصابئة. نرى أوّل سجال تاريخي إسلامي مع أهالي مدينة حران، فبعد قرنين من الزمن على بداية الاسلام في سنة 830.م أو نحوها يقول التقليد الحراني المذكور في كتب التاريخ الإسلامية ومنها فهرس ابن النديم من القرن العاشر الميلادي، يشير في الفصل التاسع؛ إلى أن الخليفة العباسي عبد الله المأمون مرَ قرب مدينة حرّان، لكي يشنّ حملة على البيزنطيين في منطقة الحدود، يقول: "ذهب الشعب لملاقاته لكي يتمنّوا له التوفيق. وكان بينهم جماعة من الحرّانيين. كان لباسهم في ذلك الوقت سترة سوداء، وشعرهم طويل في خصل. استغرب المأمون من لباسهم وقال لهم: "إلى أيّة طائفة مُجازة تنتمون؟ "فأجابوه: "نحن حرّانيون“. وسألهم: “أنتم مسيحيون"؟ فأجابوه: “كلاّ ". وسألهم: "هل أنتم يهود إذن؟ "فأجابوه: "كلاّ". وسألهم: "هل أنتم زرادشتيون إذن؟ " فأجابوه: "كلاّ". وسألهم: "هل لكم كتاب مُنـزل أو نبيّ؟" فاضطربوا وتلعثموا في كلامهم. وقال لهم: "في هذه الحال أنتم وثنيون تعبدون الأصنام. أنتم رجال الرأس (المتكلّم) منذ أيّام هارون الرشيد والدي، ودمكم (حلال أن يُهرق) بدون عقاب. أنتم لستم طائفة "مُجازة". فأجابوه: "ولكنّنا ندفع الجزية"، فقال لهم: "نحن نقبل الجزية من غير المسلمين الذين يتبعون الأديان التي ذكرها الله في كتابه العزيز القرآن المنزل ولهذا يتسامح المسلمون معهم، لكنّكم لا تنتمون إلى هذه الفئة أو تلك. ولذا، عليكم الآن أن تختاروا أحد طريقين فإمّا أن تعتنقوا الدين الإسلامي أو تعتنقوا أيّاً من الأديان التي ذكرها الله في كتابه العزيز. وإذا رفضتم سأقتلكم عن بكرة أبيكم. سأمنحكم فترة إلى حين رجوعي من سفري، فإذا دخلتم في الإسلام، أو في أيّ من الأديان التي ذكرها الله، سبحانه وتعالى، في كتابه العزيز، سيكون ذلك حسناً، ولكن، إذا بقيتم كما أنتم فقد أعطيت أوامري لكي تقتلوا وتجتثّ أصولكم كلّيّاً. خاف الحرانيون من تهديد الخليفة وهكذا غيّروا لباسهم، وحلقوا خصل شعرهم، وهجروا ستراتهم السود واعتنق العديد منهم المسيحية ووضعوا الحزام حول أوساطهم (وكان المسيحيون يتميّزون به)، ودخل جماعة منهم الإسلام. لكنّ قسماً منهم بقي كما كان، فأصبح أتباعه في حيرة وقلق حتّى جاءهم شيخ حكيم من شيوخ حرّان، وكان قاضياً ومحامياً واستجاب لتساؤلاتهم وحيرتهم. قال لهم إنّ لديه خطّة تمكّنهم الخلاص من القتل. فأتوا له بمبلغ كبير من المال من خزينتهم التي كانوا قد جدّدوها منذ زمن الرشيد لهذا الغرض. قال لهم القاضي: "عندما يعود المأمون من سفره قولوا له: "نحن صابئة" لأنّ هذا هو الاسم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، اتّخذوه كاسم، وبه تخلصون، لم يرجع المأمون إلى حرّان، لقد توفّي في بوداندون سنة 833.م. ويستمرّ مؤرّخنا قائلاً:" ومنذ ذلك الوقت اتّخذوا هذا الاسم، لأنّه لم يكن هناك أيّ شعب آخر يُدعى صابئياً في حرّان قبلهم. وعندما وصلهم نبأ موت المأمون، قرّر الكثير من الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية الرجوع إلى دينهم الحرّاني، وأطالوا خصل شعرهم كما كانوا قبل ملاقاتهم للخليفة المأمون عند مروره بحرّان على أساس أنّهم كانوا صابئة. ولكنّ المسلمين منعوهم من لبس السترة السوداء لأنّ هذا كان جزءاً من لباس موظّفي الدولة، أمّا الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام فلم يستطيعوا الارتداد خوفاً من أن يقتلوا، واستمرّوا في الزواج من النساء الحرّانيات، وربّوا أولادهم الذكور كمسلمين، وبناتهم كحرّانيات. كانت هذه بداية الإشكالية، فيما يخص السؤال لناحية؛ من هم الصابئة الطائفة أو الدين المذكور في القرآن؟
-ديانة عبادة الكواكب والقمر في سوريا وهيكل إله القمر سين في مدينة حران:
لا يعرف متى بدأ ما يسمى بعلم التنجيم Astrology في بلاد ما بين النهرين، فلقد اهتم الرافديون في العراق وسوريا بالكواكب والنجوم في أزمان بعيدة، سابقة على التأريخ والكتابة وإذا كنا لا نعرف متى بدأ علم التنجيم على وجه التحديد في المنطقة، لكننا نستطيع أن نؤكد أنه تحول إلى علم حقيقي Astronomy؛ أي علم الفلك مع السومريين والأكاديين، ليتحول في العهد الآشوري والبابلي إلى علم مؤثر لم يعد مجرد تنجيم ورجم في الغيب وتخمين فقط، بل أصبح علم له مراصد وأدوات والزقورات البابلية شاهدة على تحوله إلى علم. كان الدافع الأكثر وضوحاً إلى الاعتقاد في قوة الأجرام السماوية مراقبة تحركات الكواكب، بالتالي البحث في أصولها وأصول القوة التي تحركها. كانت بداية علم الفلك بداية بسيطة تتجلى في مراقبة الانسان للشروق والغروب الذي يخص الشمس والقمر، والتغيرات المختلفة التي ترافق حركة الكواكب على مر الزمن، هذه الحركة المتفاوتة، وعلاقتها مع الأنماط الموسمية الزراعية في الطبيعة، عبر تعاقب الفصول وأهميتها في مخيلة الرافديين؛ الذين كانوا مجتمعًا زراعياً رعوياً بتركيبته وأساس وجوده؛ نعلم ما يلعبه الغطاء النباتي من دور في طبيعة حياته. على الرغم من أن الشمس كانت تسيطر على السماء بقوة الإنارة والحرارة التي تبعثها في الأرض، إلا أنها لم تثر مخيلة الرافديين، كما كان القمر يفعل في الليل، كان يظهر كسيد للسماء في الظلمة، يسود بنوره على مجموعة كبيرة من الكواكب والنجوم، التي لم يكن من الممكن رؤيتها بوجود الشمس وضوئها نهاراً. بينما كان من الممكن رؤية القمر نهاراً مع الشمس في بعص الأحيان. ربما كان لارتفاع درجة الحرارة والليالي الحارة في بلاد ما بين النهرين صيفاً، تأثير على وجهة النظر السلبية بالشمس وتفضيلهم للقمر بدايةً، على الرغم من تقديسهم للشمس، لكن بمنزلة تأتي بعد القمر. كان ينظر إلى حركة الكواكب وانتقالها عبر السماء مع الانتظام المتواصل والدقيق في الحركة، كمثال للتدليل على القوة؛ قوة من يحكمون السماوات وللتدليل أيضاً على النظام الكوني، وربما لأنهم شعروا بضرورة أن يكون لهذه القوة تأثيرها ووجودها في الكرة الأرضية نفسها. بحث الرافديون في الأفلاك والسماوات، ووضعوا ملاحظتهم على تغير منازل الكواكب ومرافقتها لتغير فصول الطبيعة وعلاقة هذا الارتباط بحركة الكواكب، كذلك كان هناك عامل نفسي؛ فلقد سعوا لإيجاد حماية لأنفسهم من غضب قوة السماء بعدما اعتقدوا بوجودها، عبر تلك النظرة والعلاقة مع الجغرافيا السماوية. حاولوا اكتشاف العلاقة بين الأرض والأحداث السماوية، بداية مع السومريين والأكاديين، وفيما بعد مع الآشوريين والبابليين؛ الذين بلغوا تطوراً كبيراً في هذا المجال. بدلالة التطور شيدت الزقورات؛ التي كان شكلها ووظيفتها يعكس اعتقاد هذه الشعوب بفلسفة عبادة الكواكب بالدرجة الأولى، بالدرجة الثانية الاعتقاد بمبدأ وحدة الكون، لدينا مثال واضح يتجلى في بقايا زقورة برج النمرود في مدينة بورسيبا والتي كانت ترتبط أو تمثل فلسفة الكواكب السبعة المعروفة في ذلك الوقت. في بلاد الرافدين، في المنشآت الفلكية كان كل هيكل من الهياكل موجود لتمثيل كوكب من الكواكب، الذي كان بدوره حاكم أو مؤثر على مجال جوي أو حيز معين من الفراغ. أصبح لهذه الكواكب فيما بعد مترجمين لقراءة تغير الطوالع الفلكية وتأثيراتها على الحاكمين وعلى الأرض والطبيعة والزراعة، ظاهرة المترجمين هذه كانت بشكل أو بآخر ولادة لمفهوم النبوة، عبر اتصال أشخاص بشريين مع العالم العلوي وتفسير الوحي للآخرين. مع ذلك، يجب علينا أن نكون حذرين عند الحديث عن العلاقة بين الكواكب، كمظاهر للقدرة الإلهية، ففي بلاد ما بين النهرين القديمة، كان من الصعب تحديد ما إذا كانت الطقوس والديانات خاضعة دوماً للتأثير الفعلي لعبادة الأجرام السماوية، فالكثير من الإشارات، كانت تركز على الحياة اليومية البسيطة، البعيدة عن تعقيدات فلسفة عبادة الأجرام السماوية وتأثيراتها. على الأخص فيما يتعلق بخصوبة الأرض وعالم الحيوان، نلاحظ بأن الآلهة المرتبطة بتلك الوظائف في أحيان كثيرة، لم يكن لها علاقة بشكل دائم مع اللاهوت وعلم الأجرام السماوية.
في عبادات مدينة حران، سنرى تحديد لوظائف العديد من الآلهة التي تعبد في المدينة وارتباطاتها المختلفة مع الكواكب، هذا لا يعني أن الارتباط كان قائماً دوماً، في أحيان كثيرة كان مجرد افتراض فقط، خصوصاً في وقت متأخر من التاريخ المقدس في بلاد ما بين النهرين. إن بعض آلهة بلاد ما بين النهرين وحتى الأكثر أهمية، مثل إنليل مثلاً، لم ترتبط أو ترمز أبداً مع أي كوكب، بالإضافة إلى ذلك، فمن الواضح أيضاً، أن تحديد الهوية أو الخاصية للقوة الإلهية وارتباطاتها مع الكواكب، كانت قد تقلبت على مر الزمن. إن صورة تطور الفلك في الكهنوت الكلداني تعتبر مصدراً من مصادر التقاليد النجمية القديمة التي وصلتنا عن الموضوع، كانت إلى حد كبير قد تبلورت كعلم تام ومستقل في بابل كنتاج محلي متدرج مع الشعوب المتعاقبة، شاع وتحول إلى علم أودين عالمي مع انتشار الفكر اليوناني في الشرق الأدنى في فترات لاحقة، نظراً لكون ازدهاره قد برز بوضوح في العهد السلوقي، حيث كان هناك تطور في علم الفلك الرياضي، حيث وصلت هذه التطورات درجة كافية للسماح بحساب الأبراج تفصيلياً، هذه الخطوة التي شكلت أساس علم التنجيم الهلنستي اليوناني المقتبس عن البابليين. في بلاد ما بين النهرين ترسخت منذ القرن الثامن قبل الميلاد دراسات فلكية دقيقة تخص الكواكب؛ كان هناك سجلات لمراقبة ظهور واختفاء كوكب الزهرة. في وقت مبكر من القرن السابع قبل الميلاد (خلال منطقة Ammisaduq في بابل) تم العثور على رسم ل "نجوم تائهة" وهياكل لكواكب غير الأجرام السبعة المعروفة. تم العثور أيضاً على رسوم مجسدة للقمر والشمس، في الواقع، كانت قد بدأت بالظهور مع عهد Nabolanassarفي (747 قبل الميلاد) حيث وجدت سجلات دقيقة للكسوف وحساب وقته الدوري، كانت تقارير الفلكيين المحكمة مسجلة بانتظام. دقيق، وورد فيها دوماً التأكيد على أهمية القمر في تفسير مختلف التغيرات السماوية (بما في ذلك الأرصاد الجوية) وخصوصاً سجلات دورته الزمنية وتأثيراتها على الأرض والماء والزراعة.
كان الرجم بالغيب من خلال الظواهر السماوية، جانباً من جوانب ظهور أو نشوء النبوة المختلطة أو المستندة إلى مفهوم الكهانة، لاقى شعبية كبيرة خلال الفترات الآشورية والبابلية. كانت النسبة أو الانتساب للقمر ظاهرة من قبل الكهنة، أو من قبل الملوك على السواء، انتشر بين الملوك والكهنة لفظة “سليل آلهة القمر” كدليل على التشريف والمكانة العالية. في القرن السادس قبل الميلاد علق نابونائيد آخر ملك بابلي في حولياته على الموضوع عبر نبوءته أو حلمه الذي يخص معبد القمر في حران، والوعد الإلهي له باستعادة المجد المرتبط بإعادة ترميم معبد الإله القمر في المدينة. كان نابونائيد ملكاً آرامياً ولد في حران. عثر في بابل على لوحات مسمارية، تعود لفترة لاحقة لعهده مؤرخة 523 قبل الميلاد، أي ترقى إلى العهد الإخميني، تشير إلى قدرة وتطور في حساب التقويمات الشهرية للشمس والقمر، وبالتزامن مع دورة القمر في علاقته مع الكواكب، ودورات الكواكب وعلاقتها مع بعضها البعض، ومواضيع أخرى كالخسوف والكسوف. على الرغم من هذه النسبية والتقدم السريع في علم التنجيم، فقد افترض العالم Eduard Neugebauer موعد أو وقت سابق على القرن الخامس قبل الميلاد لابتكار أو اكتشاف التقاويم الشمسية والقمرية، والتي جاءت كنتيجة للمعرفة الفلكية اللازمة لتطوير علم التنجيم إلى علم للفلك. كان Naburrimanni لقب "سليل كاهن إله القمر"، حسب النصوص المسمارية البابلية، قد وضع في أوائل القرن السادس قبل الميلاد حيث وجدت لأول مرة الجداول الحسابية القمرية، واستخدمت لتحديد تاريخ اكتمال القمر، التي يمكن من خلالها توقع الخسوف القمري الذي كان حدثاً مؤثراً على الأرض والطبيعة في نظرهم. وقد اقترح أن الاهتمام المتزايد بموضوع الآلهة النجمية وفلسفة عبادة الكواكب تطورت في الشرق الأدنى خلال الفترة اللاحقة بقوة، فكان ظاهراً بوضوح مع غزو بلاد ما بين النهرين من قبل الفرس في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد، الذين كان دينهم الزرادشتي يحتوي على العديد من العناصر النجمية الفلكية.
-لعبادة القمر والكواكب في تاريخ ما بين النهرين وسوريا أسباب كثيرة؛ منها نفسية، علمية، ومنها خرافية: أولها؛ كان النظر إليها كقوى عليا وكمصادر للإنارة تحوم فوق الأرض المظلمة في الليل، فأثرت بأشكال كثيرة في مخيلة الناس في بلاد الرافدين، التي كانت تتميز بسماء صافية في أغلب الأحيان، بعضهم اعتبر الكواكب قوى حامية أو حارسة للأرض والإنسان، بعضهم اعتبرها مصدر من مصادر الثبات والطمأنينة بتواجدها المستمر ونظامها الدائم الذي يبعث على الاستقرار في النفس. كان الرافديون ينظرون إلى الكواكب الثابتة من وجهة نظرهم على أنها أجرام سماوية تبث الطمأنينة والاستقرار النفسي في عقل الانسان ومخيلته، بينما كانوا ينظرون إلى الكواكب السيارة والمتحركة كمصدر أو كمثال للتغيير والاضطراب وكمشجع للقدرة على الوحي والتنبؤ، كانوا يرون فيها أيضاً عيوناً للآلهة الخالقة والحاكمة للأرض، كنجوم تحكم السماء وتراقب الأرض والإنسان. -ضوء القمر: كان بالنسبة للرافديين لطيفاً على النقيض من ضوء الشمس، الذي كان قاسياً وحاراً في بلاد الرافدين. مهدداً للحياة في أحيان كثيرة ورمزاً للجفاف والموت في المجتمعات الزراعية الأولى، ليمتد هذا التأويل إلى اعتباره مهدداً للسلطة والنظام السياسي وللنظام الطبيعي أيضاً. عدا عن ذلك كونه من وجهة نظرهم يحكم النهار فقط، من ثم تتقلص قوته حيث يموت في المساء، بعد أن يكون قد ترك انطباعاً سيئاً عن النهار الحار الخانق، مما جعل الشمس تلعب دوراً أقل أهمية من القمر في الديانات الرافدية، فالأهمية كانت للقمر المتربع على عرش كواكب الليل، التي لا تظهر في النهار، بسبب ضوء الشمس. لذلك نرى دوماً في البانثيون الرافدي وترتيب الكواكب، تبعية الشمس للقمر، حيث تلعب الشمس دور الكوكب الثاني بعد القمر في علم الكونيات لدى الساميين، فالشمس لديهم تابعة للقمر، نراها بوضوح في الإينوما إيليش قصة الخلق البابلية: حيث يتم إنشاء أو خلق القمر فيها قبل الشمس، بينما في الثالوث النجمي للديانة السومرية أول الحضارات على الأرض، نرى نجوم المساء وأوتو إله الشمس، كلاهما يولدان كأبناء ل Nana والقمر.
-خصائص القمر: في مساء كل يوم، كان يتم ملاحظة التغيرات في شكل القمر، التي كانت تحصل باستمرار، فهو يظهر صغيراً وينمو ويكتمل من ثم يتقلص ويضمر ليعود من جديد، ففي مراحله بين الهلال والبدر، كان القمر يثير مخيلة الناس، كان بنظرهم يولد وينمو ومن ثم يموت ويولد ببداية جديدة في كل شهر. أصبح بذلك رمزاً للتغيير ضمن الطبيعة، فكان يختفي ويظهر في كل شهر في عملية تسمى دورة قمرية، تملك خصائص كامنة مرتبطة بالقمر ككيان مستقل، وعلى هذا النحو، يصبح رمزاً لكل نوع من أنواع تجديد الاستمرارية. إن القمر يمثل في نظر الرافديين انتظام التغيير، من خلال دوراته، خلقت تنظيمات مرتبطة بمفاهيم عديدة؛ أولها: مفهوم الزمن والوقت، مفاهيم الخصوبة وعالم الماء والغطاء النباتي، مفهوم البعث من جديد وفكرة الولادة بعد الموت. فالقمر بالنسبة لهم هو: كناية عن دائرية من التغيير والاستمرارية، من الوقت الذي يتم قياسه عبر المراحل التدريجية في حجم القمر، نراه بدور نقيض الأبدية عبر التناقص، مع الحياة عبر العودة والنمو والتجدد، كان مثالاً مهماً عن الضوء في الظلام، والحياة بعد الموت والعودة الثانية. كان أيضاً للون ضوء القمر الفضي وعدم اظهاره للألوان الفاقعة المعروفة إلا عبر اللونين الأبيض والأسود أثراً نفسياً مختلفاً عن الأثر النفسي لعالم الألوان التي تظهر مع ضوء الشمس نهاراً. كان بذلك مثالاً غنياً عن المتناقضات التي تبحث أو تجسد الكمال. كلها كانت تأويلات لحركة القمر، لعبت دوراً كبيراً في وجوده على رأس قائمة الخارطة الدينية لطقوس فلسفة عبادة الكواكب.
-القوة السحرية للقمر: تكمن قوة القمر في نظر الرافديين في قدرة لا حدود لها على إعادة نفسه "ثمرة نابعة من الذات" حسب التعبير الرافدي وهذه القوة، أصبحت المفتاح لفهم كل من الوقت والخلود. القمر هو منظم الزمن؛ طول الأيام والشهور يرتبط بالقمر في بلاد الرافدين ويطلق على إله القمر لقب "رب الشهر" كانت التقاويم تعتمد على دورته. كان أكثر من أي جرم آخر من الأجرام السماوية، يبعث على التفكير في طريقة تغير شكله وقربه من الأرض مع حركته المستمرة والملاحظة ببساطة بالنسبة لسكان الأرض، هذا ما جعله يكتسب أهمية في نظر إنسان بلاد الرافدين، فكانت حركته المستمرة وتغيير شكله مبعثاً للتفكير وللتأويل الديني المستمر وكان نموه وضموره مثالاً على الخلق والنمو والتجدد. اسم إله القمر الأول في العصر السومري هو نانا، كانت عبادته تقتضي تتبع المعاني الأصلية للدلالة على مختلف مراحل تطور الكوكب في دورته الفلكية. كان كل جانب من جوانب تغييره تجسيد لجانب من جوانب قوته وقدرته على الخلق من جديد. كان رمز مظهره ممثل في الهلال من خلال عنوان زو_إن أو سو_أون، الذي تم التعاقد على اعتباره رمزاً للخطيئة في بلاد الرافدين، أصبح الاسم المستخدم من قبل السكان للدلالة على القمر في وقت لاحق من بلاد ما بين النهرين.
-القمر والمياه: للقمر ارتباطات بعالم المياه والمسطحات المائية في الكرة الأرضية، فحركة المد والجزر ناتجة عن حركة القمر وحيز الفراغ الذي يشغله، أيضاً كانت أحوال أو مصادر أخرى للمياه مرتبطة بالقمر، كمياه تساقط الأمطار، حتى أن حيز حركته وقربه من كوكب الأرض يصل إلى حد التأثير على السوائل والمياه في جسم الإنسان و نفسه، كل ذلك جعل للقمر أهمية وارتباط بعالم الخصب والزراعة، خاصة عن طريق ارتباطه بالمياه وارتباط المياه نفسها بالغطاء النباتي وعالم الزراعة، الأمر الذي أدى إلى تقديسه في التجمعات الزراعية الأولى.
-القمر والرعي: كان للقمر أيضاً وظيفة أخرى في تلك العهود، ترتبط بعالم الطبيعة والغطاء النباتي، عن طريق الاتحادات بين الإله القمر كرمز أو كحامي للغطاء النباتي والمنظومة الرعوية للقطعان المعتمدة على الغطاء النباتي، فكان القمر في تأويلاتهم يمثل الراعي للنجوم والكواكب الأخرى، التي كانت تبدو ضمن هالة من الإضاءة حوله تجسد الراعي وأغنامه، فهو الراعي الذي يشرف على قطعان له من النجوم عبر السماء في المساء. وقد لوحظ وجود علاقة قوية بين الثقافة الرعوية والآلهة النجمية: نانا القمر؛ أوتو الشمس، والنجوم في الصباح والمساء جميعها تتخذ أشكالاً ذات مغزى خصيصاً إلى الرعاة في بلاد الرافدين. كانت هذه سمة بارزة بين المدن السومرية أسفل الفرات، أور، كيش، لارسا، حيث لعب الرعي دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية في المنطقة، حيث ظهرت تقاليد عبادة القمر لأول مرة في تاريخ الحضارة، يظهر ذلك بوضوح في قصة رحلة نانا إلى نيبور، لنرى قول الإله ومخاطبته من معبد إنليل بأنه قد حان الوقت لتغذية قطعان الغنم وجعلها تتكاثر.
-الطاقة الجنسية للقمر: كان للقمر في بلاد الرافدين خصائص جنسية، مرتبطة بأشكال الجنس الإنساني، فلقد كان القمر ثنائي الجنس في الثقافة الرافدية؛ مؤنث ومذكر. كانت الثنائية الجنسية للقمر في ثقافة بلاد ما بين النهرين تسمح بإنشاء اتصال بين وظائف الإله المزدوج في العالم الرمزي أو المتجسد بالأنوثة والذكورة؛ أي الطبيعة والتجربة الإنسانية. كان بالمقام الأول أي الذكوري؛ بمثابة جسر بين الإله القمر وخصوبة وقوة الذكور والسلطة السياسية من الذكور. كان الرمز الذكوري له هو الهلال القمري، الذي ارتبط مع الزمن بمجال النشاط الجنسي المذكر، الذي تحول رمزه إلى قرون الثور، رمزاً عالمياً للطاقة والمدعو اليوم بقرن الخصب في الأيقونات واللوحات، كان الثور هو الحيوان المضحى به في معظم الأحيان كأضحية مكرسة للإله القمر في بلاد الرافدين. لقبه في اللغة السومرية كانت عبارة مشتقة من لفظ القمر سو_إن التي تشير له بمعنى "وحشية الثور المكرس للرب"، والذي ينعكس في رمز هلال القمر المتجسد على شكل قرون ثور. كان الثور قد ذكر أيضاً في أغلب الترنيمات المعبدية في بلاد الرافدين.
-القمر والذكورة والطوالع السياسية: ترتبط قوة الثور واستخداماته في عالم الزراعة والخصب كرمز مع القوة البدنية للذكور، التي نراها تمتد أو تتجسد في عالم السياسية؛ ليصبح شكل الهلال مركباً فوق التاج الملكي وفوق رؤوس الآلهة المصورة في العهود الآشورية والبابلية نراه مع الإله الآشوري مردوخ و الإله السامي حدد. استمر تصوير الهلال على التيجان حتى الفترة الهلنستية في الشرق، نراه بوضوح في معابد تدمر، على سبيل المثال، حيث رافق النقوش المجسدة للسلالات الحاكمة، نراه متجسداً فيها بواسطة الإلهين الشمس (Yarhibol) والقمر (Aglibol)، وهذه الآلهة الأخيرة ممثلة مع هالة وقرون لرمز القمر. تكشف تقارير المنجمين الآشورية أن من بين الأجرام السماوية، كان القمر المصدر الرئيسي، الذي تستمده منه الطوالع السياسية، كان لتدرجات رمز الهلال القمري وأشكالها المختلفة وما تمثله من الطوالع والمنازل وعلاقتها مع السلطة السياسية قراءات كثيرة؛ سلبية وإيجابية، تعتمد على قربها من بعضها أو بعدها؛ فعندما تكون بعيدة تكون سلبية وستشهد السلطة السياسية سقوط عدد من الحصون والحاميات. أما إذا كانت قريبة من بعضها تكون ذات طابع إيجابي وسوف تكون هناك طاعة واستقرار في الأرض على صعيد المحكومين.
-القمر والأنوثة والخصوبة: على الرغم من اتخاذ الطابع الذكوري بشكل واضح للإله القمر في الأساطير الرافدية، يبدو أن هناك دليل على وجود الجانب المؤنث أيضاً للقمر في بلاد ما بين النهرين، الذي يتجلى في هيئة القمر الكامل فقط. في تلك الثقافات كان ينظر إلى القمر البدر المكتنز كعلامة مؤنثة في الجنس، فلقد ارتبطت دورات الإناث الشهرية والخصوبة الأنثوية مع دورة القمر. ظهور القمر بالامتلاء المتزايد هو مظهر من مظاهر خصوبة المرأة. يمكن أيضاً النظر إلى القمر الكامل التصوير بمفهوم الحمل لدى المرأة أو أنها المرأة على وشك الولادة وبالتالي جلب الحياة. داخل الطبيعة الدورية للقمر كان هناك دورة مستمرة من الاختلاف في الأدوار بين الذكر ورمزه الهلال والأنثى ورمزها البدر. فمع ولادة القمر تخلق صيغة المذكر في مرحلة الهلال، لكن عندما يصل إلى الاكتمال والامتلاء يصبح ممثلاُ لصيغة الأنوثة والخصوبة والولادة. لوحظت هذه الازدواجية لدى حضارات أخرى؛ مثل الآلهة حتحور وإيزيس المصرية وحتى الآلهة أيو اليونانية، تمثل هذه الازدواجية للطبيعة الجنسية في القمر في الواقع السالب والموجب في الاتصال الجنسي والسعي نحو مفهوم التكامل والكمال.
في بلاد ما بين النهرين كانت قرينة القمر نينجال (Ningal) (Akaddian: سيدة عظيمة)، هي الجانب الأنثوي المجسد بوضوح للقمر، على الرغم من أن الأساطير المتعلقة بها تعرف دورها في المقام الأول من الناحية السياسية فقط، أي أنها زوجة إله القمر في التقاليد السياسية. حيث نراها على شاهدة أورنامو (2112 -2095 قبل الميلاد)، صورت تجلس بجانب زوجها عندما كان يمنح شعارات السلطة إلى الملك. في عبادات مدينة حران، حيث تتركز القوة السياسية بيد القمر، نراها أي الأنثى نينجال قرينة القمر، ترتبط بشكل وثيق كزوجة له. نراها في حران في قصة والدة الملك البابلي نابونائيد Adad_Guppi، التي كانت كاهنة عليا لإله القمر، في السجلات البابلية نرى استدعاء نابونائيد للآلهة نينجال وتقديسه لها إلى جانب القمر. في رسائل من فترة الملك الآشوري سرجون نقرأ استدعاء الملك للنعمة من نينجال قرينة الإله القمر. في معاهدة أرباد في عهد الملك آشور نيراري Ashurnirari V (753-746 قبل الميلاد) نقرأ اسمها في المعاهدة بصيغة ماتي إعلو Mati ilu التي ذكر فيها إله القمر سين من حران وقرينته نينجال (Ningal) معاً كشهود على الاتفاقية. نرى النظرة المؤنثة للقمر بقوة في العهود اللاحقة في مدينة حران، ففي العهود اليونانية والرومانية والعربية نقرأ عن إشارات مؤنثة في وصف القمر. المصادر في وقت لاحق غالباً ما تعطي الإله إشارة المؤنث لعبادة القمر في حران، مثل هذه الإشارة، نراها بقوة في المصادر الرومانية عندما تؤكد أن الإمبراطور كركلا كان في طريق عودته من معبد سيلين عندما تم اغتياله، هنا سمي معبد القمر في حران بصيغة مؤنثة سيلين آلهة القمر. فيما بعد في العهد الروماني المتأخر نقرأ أيضاً عند المؤرخ Amianus Marcellinus في تاريخه أن الإمبراطور جوليانوس كان يحافظ على تقديمة القرابين لمعبد الآلهة لونا في حران أثناء تواجده في المنطقة، مرة أخرى يظهر معبد القمر بتسمية مؤنثة أو بصفة مؤنثة عبر اسم لونا.
كانت دلالة تضمين الذكورة في الأنوثة منتشرة في تاريخ الشعوب القديمة والحديثة، ففي المصادر الرومانية وصف المعبد القمري في حران بلفظة Lunus لفظة ألوهية متضمنة الأنوثة والذكورة في كلمة واحدة، تضمين الجنس المذكر والمؤنث في لفظ واحد أو كلمة واحدة، نراه لدى شعوب أخرى؛ نراه لدى المصريين واليونانيين القدماء وتضمين الرجل في الأنثى نرى امتداداته حتى اليوم في تضمين لفظة الأنثى في اللغة الانكليزية للفظة الرجل والمرأة .Woman كان للطابع المخنث في القمر امتدادات في تاريخ الشرق الأدنى، فلقد ذكر بلوتارك في تاريخه أن المصريين كانوا ينظرون إلى القمر نظرة مؤنثة، لأن القمر كان يستمد نوره من الشمس، بالتالي يتشرب الضوء منها، بذلك يلعب نفس الدور الذي يلعبه الذكر مع الأنثى في التكامل. لدينا أيضاً في تاريخ الرها الفيلسوف برديصان الذي يذكر في كتاباته؛ أن الشمس هي الأب والقمر هو الأم وأن القمر يتشرب الغذاء الذي هو الضوء من الشمس، حتى يكتمل ويتم دوره، كحاجة الأنثى للذكر للعب دور الأنثى والخصوبة الأساس في استمرار الحياة.
-إله القمر والعالم الشيطاني: هناك أيضاً عدد كبير من الأساطير الرافدية، التي تربط بين ظلام القمر ومفهوم الشر والمعاناة التي تصيب الشعوب في بلاد الرافدين. تم تفسير الكسوف كبشائر أو دلائل على الشر: لقد وجدت لدى الآشوريين والبابليين صلوات خاصة تتلى في غياب القمر، لأن سيادة الظلام على ضوء القمر، كان يفسر لديهم كدلالة على الخطيئة وتغلب الشياطين على الإرادة الإلهية الخيرة والضوء. غياب جرم القمر من السماء كان فألاً سيئاً ومؤشراً على سيادة الشر والفوضى وفرصة لازدهار قوى الشر. في الواقع إن القمر في وجوده الدائم كان يرمز إلى الكفاح ضد قوى الظلام في المساء. كمثال أقرب لفهم العلاقة بين القمر والعالم الشيطاني والشر في بلاد ما بين النهرين. نستطيع الاستعانة بالحكاية البابلية، المدعوة السبعة أرواح الشريرة التي تروي قصة هجوم الأرواح الشريرة على عالم الأموات الذي يترافق مع غياب آنو وإطفاء ضوء القمر، فكان غياب الرب آنو يترافق في القصة مع إطفاء ضوء القمر، الذي كان وجوده بمثابة إنقاذ للأخيار في الأرض، فغياب القمر كان يؤدي إلى سيادة الظلام، الذي يترافق بانتشار الأرواح الشريرة التي تنهش الأرض، مسببة المرض والفوضى.
مراجع:
-الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997. -المسعودي، كتاب أخبار الزمان، القاهرة، 1938. -البلاذري، فتوح البلدان: الطبعة الأولى، ص 181.. 182 مطبعة الموسوعات في القاهرة 1901. -ابن النديم، الفهرست، الجزء التاسع، القاهرة، 1960. -ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، جزء 1، ص 116.القاهرة 1945. -الأسقف بولس الفغالي، دراسات بيبلية، الخلاصة الكتابية والآبائية، الفصل السادس عشر الاسكندرية والأفلاطونية المحدثة، الجزء 1-2006. -رحلة ابن جبير، تحقيق الدكتور حسين نصار، ص 234، دار مصر للطباعة، القاهرة 1955. -كتاب المثال والصورة، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1450 عربي. -كتاب اﻷ-;-ساس، للعالم، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1449 عربي. -كتاب اﻷ-;-شباه واﻷ-;-ظّله، مخطوط المكتبة الوطنية باريس رقم 1450. عربي. -مذاهب اﻹ-;-سﻼ-;-ميين، تأليف الدكتور عبد الرحمن بدوي، الجزء الثاني: الإسماعيلية القرامطة، النصيرية، الدروز، بيروت 1972. -كتاب الهفت واﻷ-;-ظلة المنسوب إلى المفضل بن عمر الجعفي، ص213 حققه وقدم له عارف تامر واﻷ-;-ب أ.عبده خليفه اليسوعي، دار المشرق بيروت 1969. -أسرار عبادة الصابئة (مذهب عبادة الكواكب في حران) الدكتور جورج سيغال، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا، المؤسسة الأمريكية للدراسات الآرامية 1975. -الحضارة الإغريقية، محمد الخطيب، بيروت 1998.
Bibliography:
Dussaud, Histoire et religion des Nosairis. Paris 1900. Tamara M. Green, The City of Moon God: Religious traditions of Harran. E. J. Brill, Leyde 1992. H. LAMMENS, Le Pays des Nosairis, Itinéraire et Notes archéologiques, in Musée Belge, t. IV, pp. 277-323, 1900. H LAMMENS, Notes de Géographie syrienne, in Mélanges de la Faculté Orientale de l Université Saint-Joseph, I, pp. 271-283, 1960. L. MASSIGNON, Les Nusayris, in Opera Minora, t. I., pp. 619-649, Beyrouth 1960. D. Chwolsohn, Die Ssabier und der Ssabismus, vol2 St. Petersburg 1856. T. Fahd, Sabi’a, in Encyclopédie del’Islam. Nouvelle édition, VIII, pp. 694-698, Leiden-New York-Paris 1995. J. Hjarpe, Analyse critique des traditions arabes sur les Sabéens Harraniens (Diss.), Uppsala University 1972. M. Meyerhof, La fin de l’É-;-cole d’Alexandrie d’après quelques auteurs arabes, in “Archeion”, 15, pp. 1-15, 1933. M. Tardieu, Sabiens coraniques et Sabiens de Harran, “Journal Asiatique”, 274, pp. 1-44. 1986. Giovanni Reale, Storia della filosofia greca e romana, Vol. 8, Plotino e il neoplatonismo pagano, Bompiani, Milano 2004. Jean-Pierre Thiollet, Je m appelle Byblos, H & D, Parigi 2005. Sabatino Moscati, Il mondo dei Fenici, Roma 1969. Cleto Carbonara, La filosofia di Plotino, Ferrara, Napoli 1954. Vittorio Mathieu, Come leggere Plotino, Bompiani, Milano 2004. Nuccio D Anna, Il neoplatonismo. Significato e dottrine di un movimento spirituale, Il Cerchio, Rimini 1989. P. Merlan, Dal Platonismo al Neoplatonismo, introduzione di G. Reale, traduzione di E. Peroli, Vita e Pensiero, Milano 1994. Pierre Hadot, Plotino o la semplicità dello sguardo, trad. it. di Monica Guerra, Einaudi, Torino 1999. Giuliano Kremmerz - Introduzione alla Scienza Ermetica, Ed. Mediterranee 2000. Rotondi Secchi Tarugi, Luisa (ed.), L Ermetismo nell Antichità e nel Rinascimento, Milano 1998. Paolo Scarpi, La rivelazione segreta di Ermete Trismegisto vol.I, Milano 2009. Paolo Scarpi, La rivelazione segreta di Ermete Trismegisto vol.II, Milano 2011. Mandaean Bibliography, Oxford University Press 1933. E.S. Drower, The Mandaeans of Iraq and Iran, London 1937. Buckley, Jorunn Jacobsen, The Mandaeans: Ancient Texts and Modern People. Oxford: Oxford University 2002. King, Karen, What is Gnosticism? Harvard University Press. pp. 343 2003. Rudolph, Kurt, Gnosis: The Nature & Structure of Gnosticism. Harper & Row 1987. Walker, Benjamin, Gnosticism: Its History and Influence. Harper Collins 1990. Layton, Bentley, The Rediscovery of Gnosticism: Sethian Gnosticism. E.J. Brill 1981. J. B. Segal, Edessa: The Blessed City (Oxford and New York: University Press, 1970.
#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدينة الرها عاصمة الثقافة والتقاليد السورية الشرقية
-
أنطاكية عاصمة سوريا التاريخية و الثقافية لعشرة قرون.
-
ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الديني
...
-
شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيب
...
-
شخصيات فكرية من التراث السوري قبل الاسلام (الهوية السورية ال
...
-
انعكاسات مرايا الشرق
-
نظرية الله المتهم البرئ.
-
الإله المتناقض في الإسلام (الله)
-
حكم المرتد بين وحشية المسلمين وهشاشة و تناقض عقيدتهم
-
معيار الأخلاق بين الثابت و المتحول (الدين و المجتمع)
-
يحصل في الشرق
-
المنتصر في التاريخ هو المقدس ( بيزنطة مثلا)
-
أبو لهب، أبو جهل، أصوات العقل في قريش و المصير المأساوي للأم
...
-
ملاحظات بسيطة على العلمانية في العالم العربي
-
ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية
-
بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
-
عندما يصبح دين الشعب أهم من وجود الشعب (من نحن،عرب أم مسلمون
...
-
حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
-
أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي
-
الإله المتجسد بين الوسط الاغريقي الهيليني و الديانة المسيحية
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|