|
تزفتان تودروف و فضيلة النقد الذاتي .. قراءة في كتاب - الأدب في خطر-
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 4139 - 2013 / 6 / 30 - 22:14
المحور:
الادب والفن
1- خطاب الأدب.. من التعبير عن جوهر الإنسانية إلى التهميش ما ميز الإبداعات الأدبية العظمى؛ على امتداد التاريخ البشري؛ هو قدرتها الفائقة على التموقع باعتبارها كيمياء الحياة الإنسانية؛ على المستوى الفردي (السيكولوجي) و الجماعي (السوسيولوجي). و باعتبارها كذلك؛ فإن الذات المبدعة التي تحملت مسؤولية الكشف عن الكينونة الإنسانية المنسية؛ بتعبير ميلان كونديرا؛ جسدت دائما قدرة إبداعية لا متناهية؛ لم تكن أقل كفاية و قدرة و مهارة عن كبار رموز الفكر و العلم. و هكذا؛ لا يمكن التمييز بين الأسماء الفكرية و العلمية و الإبداعية الكبرى؛ فعبقرية الروائي الروسي تولستوي أو الشاعر الفرنسي بود لير لا تقل عن عبقرية الفيزيائي/الرياضي أينشتاين و الفيلسوف نيتشه أو المفكر ميشيل فوكو. لقد كانت هذه؛ هي القناعة التي وجهت البحث الابستملوجي خلال مراحل تشكله الأولى؛ لأنه استبدل موضوع التفكير بالبحث في الآليات المتحكمة في فعل التفكير؛ بمعنى أن نفس الآليات – التي تتبلور على شكل كفايات- يمكن تجسيدها في الممارسة الفكرية/الفلسفية بطابعها النظري الخالص؛ كما يمكن تجسيدها في الممارسة الإبداعية بطابعها التخييلي؛ و في نفس الآن يمكن تجسيدها على مستوى الممارسة العلمية بطابعها التجريبي. إن مكانة الأدب في تاريخ العلم تكمن في قدرته على سبر أغوار النفس الإنسانية؛ و هذه الوظيفة تعجز كل العلوم عن القيام بها. و على الرغم من القدرة الاستكشافية التي يتميز بها علم النفس في هذا المجال؛ فإنه ظل مرتبطا بشكل وثيق بخطاب الأدب؛ سواء تعلق الأمر بالتوجه الإكلينيكي الفرو يدي أو تعلق الأمر بالتوجه التحليلي مع كارل يونغ؛ حيث كانت النصوص الأدبية دائما منطلقا لاستكشاف التفاعلات النفسية؛ في بعدها البشري العام. لكن؛ و رغم هذه القدرة الخارقة للإبداع الأدبي على سبر أغوار النفس الإنسانية؛ فإنه تلقى صدمات متتالية جعلته يندحر إلى آخر الترتيب في سلم العلوم و المعارف الإنسانية. و قد كان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير السلبي الذي مارسته الحداثة؛ في بعدها التقني؛ و هذا التأثير تجاوز مجال الإبداع الأدبي إلى مجال الفلسفة؛ و أكثر من ذلك وصل التأثير إلى مجال العلوم؛ التي دخلت في سيرورة جديدة اقتربت بها من مستوى الحرفية و المهننة؛ بعد أن حاربت بعدها النظري/التجريدي الذي ميز معظم التخصصات العلمية عند تأسيسها. إنها مرحلة المفارقات القصوى بتعبير ميلان كونديرا؛ مرحلة تولد من جديد وتؤسس ميلادها " متناسية الإنسان وكينونته ؛ غارقة في خضم المعارف المتخصصة؛ التي تسعى وراء تحقيق الإنتاج دون أي شيء آخر"
2- تزفتان تودروف .. المسألة الأدبية من المقاربة النقدية إلى المقاربة الفكرية رغم أصوله و نشأته الأولى في بلغاريا؛ عادة ما يتم تقديم تودروف كأهم المفكرين و النقاد الفرنسيين المعاصرين؛ و الأمر هنا؛ لا يرتبط بجنسيته الفرنسية؛ فقط؛ بل يتجاوز ذلك إلى كونه من بين رموز الفكر و النقد الذين مارسوا تأثيرا حادا على الثقافة الفرنسية المعاصرة؛ و ذلك ما يؤكده ارتباط اسمه بمؤسسات أكاديمية فرنسية أصيلة و فاعلة في المشهد الثقافي الفرنسي. فهو بالإضافة إلى إشرافه على مجلة poétique إلى جانب (جيرار جنيت) لمدة عشر سنوات؛ فهو ينتمي إلى المركز الوطني للبحث العلمي ( (CNRS حيث قضى كل مساره المهني؛ كما أنه عضو في لجنة استشارية متعددة التخصصات تابعة لوزارة التربية الفرنسية؛ حيث شارك ما بين 1994 و 2004 ضمن المجلس الوطني للبرامج. أما بخصوص اهتماماته النقدية في مجال الأدب؛ فهو يعتبر من رموز المنهج البنيوي في فرنسا؛ إلى جانب كل من رولان بارت و جيرار جنيت؛ و قد بلور نزوعه البنيوي هذا؛ من خلال مشاركته لجيرار جنيت في الإشراف على مجلة poétique التي تعتبر صوت البنيويين؛ كما زكى ذلك بتوجهه إلى مجال الترجمة الذي وظفه ضمن نفس اهتمامه النقدي؛ حيث عمل على ترجمة نصوص الشكلانيين الروس في مجلد بعنوان ( نظرية الأدب) صدر سنة 1965 و بالإضافة إلى ذلك فقد قدم مجموعة من الدراسات النقدية؛ كان موضوعها المشترك هو محاولة العدول بتدريس الأدب في الجامعة لتخليصه من شبكة الأمم و القرون؛ و فتحه على ما يربط الأعمال الأدبية بعضها ببعض؛ كما يؤكد تودروف في الكتاب موضوع الدراسة. لكن؛ رغم صورة الناقد و المنظر البنيوي؛ التي لازمت تودروف؛ فإنه عبر بشكل متواتر عن شخصية المفكر ( روح الأنوار – فتح أمريكا - أعداء الديمقراطية الحميميون ...) و كلها كتب توسع مجال اهتمام تودروف و تجعله في صلب الانشغالات الفكرية و السياسية التي يعيشها العالم المعاصر.
يحدثنا تودروف عن اهتماماته الفكرية فيقول: في كتابي conquêt de l’Amérique كي أعرف كيف تتلاقى ثقافات شديدة الاختلاف؛ قرأت محكيات الرحالة و الغزاة الأسبان في القرن السادس عشر؛ تماما مثل محكيات معاصريهم الأزتيك و المايا. و من أجل التفكير في حياتنا الأخلاقية؛ انغمرت في كتابات المعتقلين و المنفيين سابقا في المعسكرات الروسية و الألمانية؛ دفعني ذلك إلى كتابة face a l’extrême . مراسلات بعض الكتاب أتاحت لي في les aventures de l’absolu مساءلة مشروع وجودي؛ ذلك الذي يقوم على تسخير الإنسان حياته في خدمة الجمال. إن هذا التداخل بين الاهتمامات الأدبية؛ في صيغتها البنيوية؛ و بين الاهتمامات الفكرية؛ في بعدها السوسيولوجي و السياسي و التاريخي؛ كان يوحي؛ منذ البداية؛ أن مسار حياة تودروف لا يتوافق مع التوجه البنيوي الشكلاني؛ أولا لأنه ولد و نشأ في بلد شيوعي يولي الفكر و الإيديولوجية قيمة كبرى؛ و ثانيا لأن توجهه البنيوي لم يكن اختيارا متحكما فيه عن وعي مسبق؛ بل كان؛ أكثر من ذلك؛ بمثابة رد فعل على الاختناق الذي عانى منه في بلده الأصلي قبل أن يلتحق بالمشهد الأكاديمي و الثقافي الفرنسي .
و نجد هذا التفسير مبثوثا بين ثنايا كتاب (الأدب في خطر) حيث يؤكد تودروف: كانت بلغاريا آنئذ جزءا من الكتلة الشيوعية و دراسة الآداب القديمة توجد في قبضة الإيديولوجيا الرسمية. كان نصف دروس الأدب علما متعمقا و النصف الآخر دعاية: الأعمال الأدبية الماضية أو الحاضرة تقاس بمقياس التوافق مع العقيدة الماركسية اللينينية. لقد كان السؤال الفكري لدى تودروف؛ منذ البداية؛ بمثابة المكبوت الذي كان خفيا؛ خلال المرحلة البنيوية لكنه سيعود؛ بشكل مفاجئ؛ إما من خلال الممارسة الفكرية المباشرة؛ و كذلك من خلال الدخول في صيرورة نقد ذاتي؛ في علاقة بخطاب الأدب؛ بدأت خلال سنة 1984 من خلال كتاب (نقد النقد) حيث أعلن تودروف؛ بشكل صريح؛ عن قصور المنهج البنيوي في مقاربة الظاهرة الإبداعية؛ فهذا الكتاب يشكل تحولا جذريا كما يشكل عودة نحو الإنسانية؛ كما يؤكد Bertrand poirot Delpech و قد ظل هذا الهاجس يسكنه؛ باستمرار؛ إلى أن أعلن صيحته سنة 2007 من خلال كتابه (الأدب في خطر) .
3- الأدب في خطر .. المفكر الموسوعي ينتصر على الناقد البنيوي 3-1- اختزال عبثي للأدب يتوقف تودروف عند تجربة تدريس الأدب في التعليم المدرسي؛ حيث يصف؛ بشكل صريح؛ الآثار الكارثية التي خلفتها المقاربة البنيوي للنصوص الأدبية؛ هذه النصوص التي تحولت من تجربة حياتية خصبة و حية إلى أشكال فارغة من المعاني تشبه؛ إلى حد بعيد؛ المعادلات الرياضية الجافة برموزها و أرقامها. لقد تجاوز تودروف؛ و هو يصرح بكل هذا؛ وظيفته كمنظر و ناقد بنيوي كان من المساهمين في الوضعية الجديدة لخطاب الأدب. و لذلك؛ فهو يعايش هذه التجربة من منظور الأب الذي يعايش أبناءه و هم يواجهون صعوبات جمة في التعامل مع النصوص الأدبية؛ و كذلك باعتباره مشاركا ضمن المجلس الوطني للبرامج في لجنة استشارية متعددة التخصصات تابعة لوزارة التربية الوطنية ما بين 1994 و 2004. و هكذا يخلص إلى أن فكرة عن الأدب مغايرة تماما توجد في الأصل ليس فحسب من ممارسة بعض الأساتذة المنعزلين؛ بل أيضا من نظرية هذا التعليم و التعليمات الرسمية المؤطرة له . و لما يعود تودروف إلى الوثائق التي أصدرتها وزارة التربية الوطنية في فرنسا؛ يخلص إلى أن مجموع التعليمات تقوم على خيار أن الهدف الأول للدراسات الأدبية هو تعريفنا بالأدوات التي تستخدمها تلك الدراسات: قراءة القصائد و الروايات لا يسوق إلى التفكير في الوضع الإنساني و الفرد و المجتمع و الحب و الكراهية و الفرح و اليأس؛ بل للتفكير في مفاهيم نقدية تقليدية أو حديثة. في المدرسة لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية و إنما عن ماذا يتحدث النقاد. في الأخير يبعث تودروف تحذيرا في غاية الأهمية؛ ينم عن استشعار كبير بالخطر و كذلك ينم عن شجاعة أدبية كبيرة من ناقد بنيوي كبير؛ إن الطريق الذي يسلكه؛ اليوم؛ التعليم الأدبي الذي يدير ظهره لهذا الأفق؛ أفق معرفة الأدب لتحقيق اكتمال الإنسان؛ يجازف بأن يسوقنا نحو طريق مسدود؛ دون الحديث أن من العسير عليه أن يفضي إلى عشق الأدب . 3-2- ما وراء المدرسة ينطلق تودروف من سؤال إشكالي؛ هو الذي يوضح الوضعية الكارثية التي وصل إليها الأدب في مجال التعليم المدرسي؛ و هو كيف حدث أن صار التعليم المدرسي للأدب على ما هو عليه ؟ في مقاربته لهذا السؤال الإشكالي؛ يتجاوز تودروف مجال التعليم المدرسي؛ و كذلك مجال السياسة التعليمية التي تضعها وزارة التربية الوطنية؛ إن الإشكال الحقيقي؛ حسب تودروف؛ يرتبط بالتحول الذي حدث في التعليم العالي؛ الذي يقوم بوظيفة تكوين أساتذة المدارس؛ حيث هيمنت البنيوية جيلا كاملا؛ من ستينيات و سبعينيات القرن الماضي؛ و يصرح تودروف بكامل الشجاعة الأدبية؛ لقد شاركت في هذه الحركة؛ و يتساءل تودروف: أينبغي لي أن أحس نفسي مسؤولا عن حال المادة التعليمية اليوم؟ بعد تفسيره للوضعية الجديدة التي يعيشها الأدب؛ يحاول تودروف توضيح وجهة نظره؛ حسب القناعة الجديدة التي وصل إليها؛ حيث يعتبر أن المقاربة الداخلية ( دراسة علاقة عناصر العمل الأدبي فيما بينها) ينبغي أن تكون مكملة للمقاربة الخارجية ( دراسة السياق التاريخي و الإيديولوجي و الجمالي). و في هذا السياق يؤكد تودروف أن الجانب السلبي في التعامل مع النص الأدبي؛ من منظور منغلق؛ أنه لا يذهب بعيدا فلن يكون أبدا سوى دراسة أولية لأنه يقوم بالضبط على ملاحظة المقولات المشتغلة في النص الأدبي و التعرف عليها؛ لا على أن يحدثنا عن معنى النص. و حتى يؤكد تودروف على المنحى السلبي للتوجه البنيوي المنغلق؛ الذي يحاول فصل الخطاب الأدبي عن حركية الحياة بجميع تجسيداتها؛ فهو يلجأ إلى الدراسة الميدانية التي تؤكد على التراجع الكبير عند الناشئة؛ فيما يخص التوجه نحو التخصصات الأدبية؛ و هذا ما يؤثر بشكل مباشر على التلقي الأدبي بصفة عامة و يفرغ الأدب؛ في الأخير؛ من رسالته الخالدة( تحقيق اكتمال الإنسان) . يقول تودروف: يتعلم تلاميذ الثانوي العقيدة القائلة بأن الأدب لا صلة له بسائر العالم؛ و يدرسون علاقات عناصر العمل الأدبي فيما بينها وحدها و هذا ؛ دونما شك؛ يسهم في انعدام الاهتمام المتزايد لهؤلاء التلاميذ بالشعبة الأدبية؛ حيث انتقل عددهم في بضعة عقود (في فرنسا طبعا) من 33% إلى %10 من جميع المسجلين في البكالوريا العامة ! و يعلق تودروف: ما جدوى دراسة الأدب إذا لم يكن سوى إيضاح للوسائل اللازمة لتحليله ؟ و بالفعل يجد طلبة الآداب هؤلاء أنفسهم في نهاية مسارهم أمام خيار غير متوقع؛ إما أن يصيروا بدورهم أساتذة للأدب أو يسجلوا أنفسهم في لائحة العاطلين.
3-3- نشوء علم الجمال الحديث في اعتبار تودروف؛ فإن أطروحة ( الأدب ليس مرتبطا بعلاقة ذات دلالة مع العالم) ليست من ابتكار أساتذة الأدب؛ اليوم؛ و لا إسهاما أصيلا للبنيويين. لذلك؛ يلجا تودروف إلى البحث في مراحل تشكل هذه الأطروحة. ينطلق؛ بداية؛ من أن علاقة الأدب بالعالم الخارجي مؤكدة بقوة فيما يسمى بالنظرية الكلاسيكية للشعر؛ و يستدل تودروف بأرسطو حول محاكاة الأدب للطبيعة؛ و وظيفة الأدب؛ حسب هوراتيوس؛ هي المتعة و الفائدة؛ و في أوربا المسيحية للقرون الأولى كان يستخدم الشعر لتبليغ و تمجيد مذهب؛ و خلال عصر النهضة سيتم ربط الشعر بالجمال؛ هذا الجمال الذي يتحدد بحقيقته و إسهامه في الخير . لكن؛ هذا التصور للأدب سيتزعزع خلال العصور الحديثة؛ حسب تودروف؛ و ذلك عبر طريقتين ترتبطان معا بالنظرة الجديدة إلى العلمنة المتزايدة للتجربة الدينية؛ مما أدى إلى تقديس الفن. • ترتبط الطريقة الأولى؛ باستعادة صورة قديمة ترتبط بالفنان-المبدع الشبيه بالإله- المبدع؛ الذي ينتج مجموعات متناسقة و منغلقة على ذاتها. لقد تم الاحتفاظ بفعل المحاكاة؛ لكن تم الانتقال به من محاكاة الأدب للعالم إلى محاكاة ترتبط بفعل الإنتاج ذاته ( محاكاة الفنان-المبدع للإله-المبدع في القدرة على الإبداع و ليس فقط في نوع وطبيعة الإبداع. • ترتبط الطريقة الثانية؛ بقطع الصلة بالرؤية الكلاسيكية؛ و ذلك عبر القول أن هدف الشعر ليس محاكاة الطبيعة؛ بل إبداع الجمال باعتباره تجسيدا للكمال؛ و هكذا لم يعد المبدع في حديثه هو الذي تتم مقارنته بالإله بل العمل الأدبي في كماله. 3-4- جماليات عصر الأنوار ينطلق تودروف من ربط روح عصر الأنوار؛ القائمة على استقلال الفرد؛ بالمنظور الجديد للفن الذي دخل ضمن هذه السيرورة الفكرية الجديدة؛ حيث أصبح ينظر للفن في استقلاله؛ و كذلك ينظر لقيمة الفنان في تحرره و تحرر عمله الفني. من هذا المنظور؛ يعتبر تودروف أن مفكري القرن الثامن عشر كانوا يسعون إلى التمييز بين طريقتين؛ طريقة الشعراء؛ و طريقة العلماء و الفلاسفة؛ و في هذا السياق فقد ميز الفيلسوف و البلاغي ( جامبتستا فيكو) بين اللغة العقلية و اللغة الشعرية؛ و هما لغتان تتعارضان مثلما يتعارض العام مع الخاص. و نفس هذا التصور حضر مع ( باومكارتن) الذي تصور الشعر باعتباره إبداعا لعالم ممكن بين عوالم أخرى. و قد اهتم ( ليسينغ) بهذا المنظور حينما اعتبر أن العمل الفني يطمح إلى إنتاج الجمال؛ الذي لا يخضع لغرض خارجي. و يصل تودروف إلى (كانط) من خلال كتابه (نقد ملكة الحكم -1790) الذي أثر على مجموع التفكير المعاصر حول الفن؛ حينما أكد على أن الجمال منزه عن الغرض. 3-5- من الرومانسية حتى الحركات الطليعية يعتبر تودروف أن علم الجمال الرومانسي؛ الذي فرض نفسه خلال مرحلة القرن التاسع عشر؛ لم يأت بقطيعة فهو من جهة قد حول مركز ثقل المحاكاة إلى الجمال و أكد استقلالية العمل الفني. و من جهة أخرى لم يكن يجهل العلاقة التي تربط الأعمال الأدبية بالواقع. لكن؛ الأمر الجديد لدى الرومانسيين هو حكم القيمة؛ الذي يصدرونه على مختلف صيغ المعرفة و التي يمكن بلوغها عن طريق الفن؛ حيث تبدو لهم متفوقة على صيغة المعرفة العلمية؛ باعتبارها تخلق واقعا جديدا محظورا على الحواس و على العقل . و ينتقل تودروف إلى مرحلة القرن العشرين في علاقة بالحركات الطليعية التي تمثل ما يعرف ب الفن الحديث . كانت البدايات الأولى لهذه الحركات في روسيا حوالي 1910 في ارتباط بالتجريد في الرسم و الابتكارات المستقبلية في الشعر . صار مطلوبا من الرسم تناسي العالم المادي؛ و ألا يرضخ لقوانين الرسم الخاصة به؛ و في الشعر يطمح المستقبليون إلى تخليص اللغة من صلتها بالواقع عبر خلق لغة ما وراء ذهنية. هذا التصور الجديد/القديم سيتم تجسيده من طرف الشكلانيين الروس؛ الذين اعتبروا أن الفن و الأدب لا يقيمان أية علاقة ذات معنى مع العالم؛ و كذلك سيحضر مع المختصين في الدراسات الأسلوبية (المورفلوجية) في ألمانيا و عند أتباع (ملارمي) في فرنسا و أنصار النقد الجديد في الولايات المتحدة. و يخلص تودروف في الأخير إلى أن هذه الشكلانية تقترن سلفا بعدمية تغذيها معاينة الكوارث التي ميزت التاريخ الأوربي في القرن الماضي . 3-6- ماذا يستطيع الأدب ؟ ينطلق تودروف من واقعتين مشحونتين بالدلالة؛ فيما يخص قيمة الأدب في حياة الإنسان. ترتبط الأولى ب (جون ستيوارت مل) الذي أصيب بانهيار عصبي خطير في العشرين من عمره؛ حيث أصبح فاقد الحس بكل لذة و بكل إحساس ممتع؛ جرب كل أنواع العلاج بلا جدوى ليستقر اكتئابه على الدوام. امتدت هذه الحال لعامين ثم انفرجت شيئا فشيئا؛ حيث لعب كتاب قرأه (ستيوارت مل) دورا فريدا في شفائه؛ و هو ديوان شعر ل ( ورد مورث) وجد فيه التعبير عن إحساساته الخاصة؛ و قد تسامى بها جمال الأبيات. الواقعة الثانية ترتبط بامرأة شابة وجدت نفسها حبيسة السجن في باريس؛ حيث تآمرت ضد المحتل الألماني و قبض عليها؛ ظلت حبيسة في زنزانتها لا حق لها في الكتب؛ لكن رفيقتها في الطابق الأسفل تستطيع استعارة المؤلفات من المكتبة؛ و كانت تصلها خفية؛ و منذ ذلك الحين سكن ( فابريس دل دونكو) بطل رواية (شارتريه بارما- ل ستا ندال) أيضا زنزانتها و أصبح رفيقا لها يخفف عنها ألم السجن و الوحدة . يعتمد تودروف الحادثتين ليؤكد أن الأدب يستطيع فعل الكثير؛ يستطيع أن يمد إلينا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب؛ و يقودنا نحو الكائنات البشرية من حولنا؛ و يجعلنا أفضل فهما للعالم من حولنا؛ و يعيننا على أن نحيا. لكن؛ لكي يقوم الأدب بهذه الوظيفة الإنسانية؛ يجب أخذه بالمعنى الواسع و القوي الذي هيمن في أوربا حتى نهاية القرن التاسع عشر؛ و صار مهمشا؛ اليوم؛ بينما ينتصر تصور مختزل على نحو غير معقول . و يضيف تودروف موضحا: الأدب مثلما الفلسفة مثلما العلوم الإنسانية؛ هو فكر و معرفة للعالم النفسي و الاجتماعي الذي نسكنه؛ و الواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو بكل بساطة التجربة الإنسانية .
3-7- تواصل لا ينفذ ينطلق تودروف من أطروحة؛ أن الأفق الذي يندرج فيه العمل الأدبي هو العالم الموسع؛ الذي تفضي إليه حين تلتقي بنص سردي أو شعري. و في هذا الصدد ينطلق تودروف من مراسلة شهيرة بين ( جورج ساند) و ( كوستاف فلوبير) حول الصلة بين الأدب و الحقيقة و الأخلاق؛ حيث يستنتج أنه رغم الاختلاف في التأويل بين المتراسلين؛ فإن نفس التصور عن الأدب؛ باعتباره فهما أفضل للوضع الإنساني؛ و يحول من الداخل كينونة كل واحد من قرائه. و هنا يتساءل تودروف : أليس من مصلحتنا نحن تبني وجهة النظر هذه ؟ و تحرير الأدب من المشد الخانق الحبيس فيه؛ و المصنوع من ألعاب شكلا نية؛ و شكاوى عدمية؛ و تمركزا أنانيا على الذات ؟ و في علاقة بالخطاب النقدي؛ فإن تودروف يعتبر أن فهما للأدب موسعا يمكنه أن يجذب النقد نحو آفاق أوسع؛ بإخراجه من ( الغيتو) الشكلاني الذي لا يهم إلا نقادا آخرين؛ و فتحه على السجال العريض للأفكار الذي تشترك فيه كل معرفة للإنسان. و كما بدأ تودروف بالحديث عن علاقة الأدب بالتعليم المدرسي؛ فإنه أنهى كتابه بنفس الإشكالية. و هو يوضح بشكل صريح: لا ينبغي بعد الآن أن يكون هدف تحليل الأعمال الأدبية في المدرسة هو إيضاح المفاهيم التي استحدثها هذا العالم أو ذاك من علماء اللسانيات؛ أو هذا المنظر أو ذاك. إن الهدف من تحليل النصوص الأدبية؛ حسب تودروف؛ يجب أن يكون هو الوصول بنا إلى معناها؛ لأن هذا المعنى هو الذي بإمكانه أن يقودنا نحو معرفة الإنساني. يختم تودروف الفصل الأخير من كتابه بصيحة أكثر تعبيرا؛ محذرا من الخطر المحدق بالأدب في عالمنا المعاصر؛ نتيجة إفراغه من محتواه الإنساني و ربطه بألاعيب شكلانية. إنهم يغتالون الأدب؛ لا بدراسة نصوص غير أدبية في المدرسة؛ بل بجعل الأعمال الأدبية مجرد أمثلة إيضاحية لرؤية شكلا نية أو عدمية أو أنانية للأدب. الهوامش 1- تزفتان تودروف - الأدب في خطر – ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي – دار توبقال – ط: 1 – 2007 2- ميلان كونديرا – فن الرواية – تر : أمل منصور – ط 1 – 1999- - le monde : 07-12-1984 3
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين الأمازيغية الوطنية و الإيديولوجية العرقية
-
في تأصيل مفهوم العلمانية .. قراءة مقارنة في التجربتين النهضو
...
-
في نقد التصور القومي/العرقي لمفهوم العلمانية
-
التقاعد المعرفي.. أو حينما تشمخ فارغات السنابل
-
مثقفو التزييف.. من صناعة الفكر إلى ترويج الوهم الإيديولوجي
-
بين الفن و الدين .. قراءة في موقف الحركات الإسلامية
-
ظاهرة مثقفي العلاقات العامة
-
اللوبي الفرانكفوني في المغرب و العمى الاستراتيجي - قراءة في
...
-
من الثورة إلى تغيير الثقافة السياسية
-
الحكومة الملتحية و العلوم الإنسان-فوبيا
-
المغرب يعود إلى حضنه العربي .. عودة الوعي
-
جدلية النضال الثوري و النضال الديمقراطي .. من ثقافة الهدم إل
...
-
جدلية الفعل الحزبي و النضال الديمقراطي في المغرب
-
حزب الاستقلال.. حينما تنتصر الشرعية الديمقراطية
-
مخاضات حزب الاستقلال .. بين الشرعية التاريخية و الشرعية الدي
...
-
بين - روح التاريخ- و -الحشود- .. في نقد النسق الرجعي
-
المثقف و الربيع العربي.. في نقد البلطجة الثقافية
-
في العلاقة بين العروبة و الإسلام.. نماذج في النقد الذاتي
-
إشكالية العلاقة بين العروبة و الإسلام .. ما بين التيار القوم
...
-
ما بين الأجندة النيوكولونيالية و النزعات العرقية
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|