|
قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين
بديع الآلوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4137 - 2013 / 6 / 28 - 15:39
المحور:
الادب والفن
(على الرغم من تقديمنا الطعام إلى الذئب ، فإنه ينظر دائما شطر الغابة ) (تورجنيف)
مونولوج (جوزيف فلافل وحديث المقهى ) : يا له من صباح مكفهر ، سمعت أمي تناجي الرب : أيها الرب يسوع ، فك ضائقة من نحب . قلت بخشوع : آمين .. ، وبكيت . نعم ، يا حسان ، حتى لو لم تكن بيننا ، لكنك موجود في كل مكان . فقد سمعت باعتقالك في صباح اليوم التالي . أتتذكر قبل ستة أيام حين كنا على الجسر معا ً ؟ ، قلت لي حينها : أنظر إلى النهر إنه لا يتظاهر بالسعادة . بعد خمسة أيام من غيابك كنت أمشي وحيدا ً ، نزلت درجات المكتبة الوطنية وأنا أفكر بهيبتك ، تعثرت خطواتي حين تساءلت : متى تأتي ؟ . بعدها قررت أن أسلي نفسي ، مشيت حتى مقهى البرازيلية ، لم أتوقع أن أرى أخاك نعمان هنالك ، الذي أنهكت قلبه غيوم الخريف ، وجدته منزويا ً يحدق عبر النافذة ، وعلى مقربة منه رقعة الشطرنج التي أعدت للمنازلة . نعم ، رأيته متذمرا ً ، قال لي : ذلك ما حدث ، لماذا اعتقلوا حسان لست ادري ، كل ما أعرفه ، أن المفاجأة كانت كمباغتة الذئاب . لا أغفل يا حسان طعم المرارة ، فأدركت أني بفقدك خسرت قلبا ً دافئا ًالتجىء إليه . كل شيء رتيب وروتيني بعدك . فداحة ما حل بك جعلنا أكثر انتباها ً ، حيث ما زالت أبعاد مهمتهم غامضة بالنسبة لنا . تجهم وجه نعمان ، ولم أنس عبارته التي تحز في نفسي إلى اليوم : ـ لا أعرف كيف أصف لك وقع المصيبة ، لكني أشعر أن الوطن الذي يغتال أبناءه بالوعة مراحيض . ـ اللعنة عليهم ! أقالَ لك أيّ كلمة ؟ رد بصوت رخيم وبارد : ـ لا ، لم أتمكن من الاقتراب منه ، ابتغيت أن أخبره أن قلوبنا معه ، لكني خفت . ـ وهل كان مرتبكا ً ؟ ـ لا أدري بالضبط ، لكن إحدى نظراته اخترقت قلبي ، أظن أنه أراد أن يقول : سيأتي دوركم ، فاحترسوا . راودني سؤال لم أفصح عنه: هل يعقل أنك أخفيت عنا علاقتك بتنظيم سري ؟، لكني فهمت من خلال حديث نعمان ، أن الأمر مبهم على الجميع ويتعذر التكهن بأي شي الآن . اختفاؤك جعلني أحس آو أقتنع بأن ما حلَ بك سيحل بي يوما ً ، وبما أن الزمن أمهلني ، لذلك يجب أن أرتب حالي كي لا أقع فريسة بين أنياب التنين . نعم ، هو الخوف الذي جعلني اهمس لنعمان بحرق كل الكتب ودفاتر المذكرات الخاصة بحسان ً . تطالبنا الحياة وتأمرنا أن نكترث ، فالسلام قد تبدد ، والحذر صار خبزنا اليومي وتغلغل في كل تفاصيلنا الصغيرة ، هكذا التهمت نيران التنور جزءا ً من روحك . نعم ، حاولنا إخفاء أي أثر، كنا نحاول أن ننتشلك بآي ثمن . وكما توقعنا وخشينا ، فرجال الأمن صاروا يترددون على بيتكم ؟ . قال لي نعمان بعد شهر ونصف : كنا مستسلمين لقضاء الله . يباغتوننا بمناسبة ومن دون مناسبة . وفي كل مرة يثيرون نفس السؤال الذي يرعبنا : هل تعرفون انه يتآمر على السلطة ؟. لقاء المقهى والمشي والتسكع لساعات ، زادنا جوعا ً ، نظرت إلى نعمان وقلت له ملاطفا ً: إذا ما خيرت الآن بين الدجاج والفلافل ، سأختار الفلافل . وضحكنا .. لكننا لم ننس أنياب التنين ..... مونولوج (الأب ومأساة ما رأى ) :
كنت بين اليقظة والنوم ، ولا يدور في بالي من شيء ، استمعت لنباح الكلاب . حينها أتوا دون إحداث ضجة ، ما أن رأيت وجه زوجتي المحمل بالخوف والتعاسة ، وهي تردد بصوت مضطرب : مصيبة ، قم بسرعة . ، حتى تأكدت أننا وقعنا في الفخ نعم رأيت ولدي بين أيديهم ، أحسست بنعمان يسندني كي لا أتداعى ، حاولت أن أستفسر منهم ، لكنهم نصحوني أن لا أقترب ، وقال الشاب الأصلع : ـ مجرد تحقيق ، سيعود لكم صباح غد . لم أصدقهم ، نظرت إلى السماء رأيت القمر الأبيض يتلصص من وراء شجرة النبق، كان قلبي يرتجف ، تنهدت بأسى . نظرت إلى حسان وهو لا يبدي أية مقاومة ، شعرت بالألم ، تمنيت في تلك اللحظات من الفوضى أن أخلو به ، ان أقول له جملة واحدة : لماذا ورطتنا مع هؤلاء السفلة . مرت اللحظات بسرعة ، وبرغم القلق سألتهم : انتظروا قليلا ً ، هل بوسعي أن أتي معكم ؟ . لكنهم رفضوا ، شعرت بالخيبة وتمنيت أن أذرف الدموع . كان قبل قليل بيننا ، ما أن خطفوه مثل ومضة البرق حتى خانتني ساقاي لأرتمي قرب الباب ، نعمان كان شاهدا ًدون أن ينطق بأية كلمة ، وتعقبت ًنظراتي السيارة التي تلاشت في العتمة ، لكن شكلها ولونها الأسود الناصع سيظل يطارد ذاكرتي حتى الموت . نعم ، كأن بيتنا احترق تلك الليلة ، راحة النوم صارت تقترن برائحة الموت ، بعدها لم نعرف كيف نتدبر أمرنا ، توقعت أنهم لن يرحموه ، لكني فكرت ونفسي : هناك سيختلِي بنفسه ، هنالك سيتعلم أن السياسة بهذله وموت احمر . لا اعرف إذا ما غفوت في تلك الليلة أم لا ، لكني كنت أستمع إلى أنين زوجتي التي اختلط في ذهنها الخطأ بالصواب والحمى بالهذيان . في صباح اليوم التالي ، بدأ زمن آخر للفجيعة ، صار الألم دليلي ، كنت مشوشا ًلا اعرف ماذا بوسعي أن افعل ؟، وكيف يجب أن أتصرف ؟ ، نعم لم أنتظر طويلا ً، اتصلت ببعض أقاربي وشكوت لهم حالي ، متشبثا ً بالأمل ، معتقدا ًأنهم سيبدون المساعدة آو يشفقون عَلي ، لكن خاب ظني بمن أعرفهم وخاصة ًالمقربين منهم للسلطة . وتأكد لي فيما بعد أنهم جميعا ً جبناء ، وهم ليسوا قادرين على فعل أي شيء سوى : أن قضيته ضمن ملفات المخابرات ، وإذا كان بريئا ً سيرى نور الشمس و ..... مونولوج (حسان الذي صفق للحرية ) :
الذين قبضوا علي ، ثلاثة رجال ، أحدهم أصلع ، يخفون مسدساتهم ويتكلمون بحذر ، دخلت قسرا إلى جوف السيارة حينها شممت رائحة الموت لأول مرة ، وما إن انطلقت حتى قال احدهم : خذ أرتدي العصابة . نعم ، إنهم لا يريدون أن أرى أي شيء ، كانت السيارة تسارع نحو هدفها ، وكان الزمن يربك روحي بالوساوس ، هذا ربما لأني لستُ مؤهلا ًبعد لمواجهة الموقف أو ما ينتظرني . حينها لم يعد للمستقبل أي اعتبار لأني لم أعد أفكر سوى باللحظة الراهنة . وما أزعجني خلالها هو : ما نوع الأسئلة التي ستواجهني . كل ما أعرفه أني وقعت في بؤرة الخطر ، هذه هي المرة الأولى التي أذرع فيها مدينتي من دون أن أسترق النظر إلى أضوائها ومقاهيها وسحر ليلها ومقابرها ، هذا الطواف الإجباري له خصوصيته ، ربما لأنه يدخر مفاجآت عصيبة ، وقد هيأتُ نفسي كي لا أنكسر وقلت في خلدي : إذا لم أنهر نفسيا ً في اليوم الأول سأشكر الموت والجنون لأنهما أتاحا لي الفرصة كي أكتشف نفسي وأعدها للامتحان القادم وبإيقاع آخر . نعم ، لا أكره الموت ولكني إذا ما نجوت سأبجله لأني سأولد أقوى وأجمل ، توقعت أنهم سيمارسون كل الوسائل لخنق روحي الخضراء . نعم ، ما قرأته عن أدب السجون وبطولات المناضلين شيء ، ومواجهة الموقف وجهاً لوجه أعزل ووحيدا ً شيئ ٌ آخر . كان الانتظار سيد الموقف . لو ان أحدا ما سألني حين كنت معصوب العينين : بماذا تفكر، أو ما يشغل بالك تحديدا ً؟ . سيكون جوابي : إيقاف هذا الضجيج الذي يستفزني . الطريق بدا لي طويلا ً ، صار الوطن هو الهدف والذات هي المحك ، تجربة فظيعة ، مرارتها المبرحة أني سأدخل سرداب الموت دون أن أعلم إذا ما كنت سأخرج منه سالما ً. ومنذ اليوم الأول عرفت ماذا تعني الحرية التي مجدتها الملاحم وغناها الثوار ، نعم ، ما أحوجني لأن أصفق لها ، لأنها حجر الزاوية كي لا يصاب الوعي بالعطب ، لا اعرف ما الذي ذكرني بعبارة جيفارا : إذا رأيت عبدا نائما ً أيقظه وحدثه عن الحرية . تساءلت في خلدي : ماذا يريدون مني بالضبط ؟ أجبت على الفور : ـ يريدون الجزء المهم من الروح . وقبل أن نصل إلى المكان ، نهض في نفسي سؤال آخر : عبر إنهاك الجسد ؟ أجبت على الفور : ـ نعم ، عبر السلخ والمسخ . هكذا إذن ، الجسد سيمتحن والروح أيضا ً . أشياء كثيرة كانت تنتظرني ، وأنا أفكر ببصيص الأمل شعرت بالهدوء قليلا ً، مرددا ً : ما أجمل أن لا ينحدر الإنسان إلى أسفل سافلين . قلت في سري : نعم ، إذا طالني الإحباط بمخالبه ، سيكون السجن جحيما ً . لذلك واجهت خواطري السلبية كي لا يعضني الزمن الرديء ، وطيلة الفترة التي لم أرَ فيها الشمس كنت أردد في خلدي : عليك أن تتأكد من طهارة ذاتك بعد كل دورة تعذيب ، وأن تلعق جراحك كي لا تتلوث ذاكرتك . نعم كنت أوصي نفسي ، حين يجتاحك الضجر اضحك أو أبتسم . ولم أنس ان أردد كل صباح : شكرا ً لك أيتها الحياة لأني ما زلت أتنفس هواءك اللذيذ كالعسل ال... .
مونولوج (القمر المتلصص ) :
هدوء عجيب خيم بعد غروب الشمس ، نعم ، قبل ان تقلهم السيارة السوداء ، كان الثلاثة في كراج المخابرات يضحكون ، وكأنهم قد هيأوا أنفسهم لرحلة أشبه بنزهة لصيد غزال بري ، حشروا أنفسهم في السيارة ، التي انطلقت من البوابة الخلفية ، ما أن تركوا الموقع حتى ضاعفوا السرعة ، كانوا كالمجانين ، كادت سيارتهم تدهس فتاة شابه برفقة رجل عجوز ، لا أعتقد أنهم سيتوقفون حتى لو انتهت الحادثة إلى نهاية تعيسة ، رجال طائشون يبحثون عن فريستهم بأي ثمن . في منتصف الطريق توقفت السيارة ، نزل الرجل الأصلع وتبول على عمود كهرباء ككلب سائب. في ذلك المساء كانت السماء حزينة وبليدة ، بفضائها الدائري الذي لم تشتعل نجومه بعد ، وقبل أن يتوجهوا إلى البيت المخصص لمهمتهم ، و بعد أقل من ساعة ، توقفوا قبل اقترابهم من الهدف ، ترجلوا وراقبوا عن بعد البيوت التي أضيئت مصابيحها ، خلت الشوارع من البشر ، ولكي لا يثيروا أي ضجة تقدم اثنان وبقى الآخر يراقب الموقف بعد أن سحب مسدسه لتدارك أي طارئ . من حسن حظهم وقبل أن يطرقوا الباب رأى أحدهم طفلة تلعب في حديقة الدار . فقال لها : أذهبي ، وأخبري حسان إننا بحاجة له . هكذا الطفلة أصغت لطلبهم ببراءة ، لم تظن أبدا ًأن قدرا ًأسود ينتظر حسان ، أو أن العناية الإلهية أغفلت أمره . بلا تردد فتح حسان الباب ، كان مرتديا ً ببجامة النوم فقط حينها تحدثوا معه قليلا ً ، أمسك احدهم بذراعه ، وقبل أن يخرج الأب ، قال لهم : ــ طيب ، ما تهمتي تحديدا ً؟ . وقال الأصلع وهو يربت على مسدسه ليشعر بالأمان : ـ لا وقت لدينا ، يجب أن تحضر معنا وانتهى الأمر ـ هل بوسعي ان أ ُخبر زوجتي وأودع طفلتي ـ لا ، هيا ، يجب ان ننصرف في الحال . تحول وفي لحظة ٍ الواقع إلى كابوس لا يتنفس سوى أسئلة يتيمة ، والتبس العجز بالوحشة والعقاب بالخطيئة . لكن حسان وبالرغم من خشيته وذهوله ، رفع رأسه نحوي ، ما أن رآني حتى أبتسم ...
مونولوج (ضابط الأمن الأصلع والحقيقة ) :
تأدية الواجب ودون خطأ يستدعي منا أعصابا ً باردة ً وتنحية العاطفة جانبا ً ، نعم ، سيكون الأمر مختلفا ًلو لم نجد حسان ، كانت مهمتنا ستتعقد بعض الشيء ، ولانتهى الأمر بأخذ الأب بدلا ً عنه ، ربما سيرحمون بحاله ويدخلونه متاهة الأمن العامة فقط ، هناك سيرى عالما ًغريبا ً بتجاعيد حالكة ، نعم سوف لا يألف المكان المكتظ بالأسرار ، وستدخله التجربة عنوة ًبفوضى الهواجس من المجهول ، وسيواجه أسئلة المحققين الماكرة طيلة فترة الحجز وحتى يتم العثور على المتهم . نعم ، حظنا لم يكن سيئا ً ، فقد خرج حسان الذي ما أن عرف بمهمتنا حتى ارتبك وجهه وتطلع الى الخلف مرات ٍعدة. قال : دعوني ارتدي معطفي . قلت له بحزم : ليس لدينا وقت . تشجع وقال : حتما ً، هنالك خطأ ما ؟ ـ لا ، لدينا أمر بإلقاء القبض عليك . عندها خرجت الأم وسمعت بعض ما يجري ، ما إن تراجعت و دخلت البيت ، حتى تعالت الضجة ، ربما أحست ان أمرا ً غريبا ًمثيرا ً للريبة . وبما أن خطتنا سارت بسلام ، فقد حاولنا أن نلتزم بضبط النفس ، وكذبت على الأب الذي سألني : أين سيكون التحقيق معه ؟ ـ حجي ، لا تقلق ، سيكون في المنظمة الحزبية . نجحت المهمة ، كان حسان شابا ً في ريعان العمر ، ويبدو مسالما ًوذكيا ً ، حاول في السيارة أن يستفسر عن الجهة التي نتوجه إليها ، عن التهمة الموجهة له ، لكني قلت له ضاحكا ً : سنصل وستفهم كل هذه التفاصيل . نعم ، مهمتنا انتهت حال أن وصلنا كراج المخابرات ، بعدها تلاقفته أيادي خشنة ومتمرسة ، وبخفة سحبوا يديه خلف ظهره وقيدوا رسغيه بالكلبجات . قال احدهم ساخرا ً: سنعرف غدا ً إذا ما كنت بطلا ام لا . امتثل حسان للأوامر والتزم الصمت ، لكن خطواته لم تتعثر على الرغم من انه لم ير سوى طلسم الظلام ... نعم ، أدينا واجبنا ، فنحن نعرف جيدا ًأننا لسنا ملائكة ، لكن ما لا يتخيله الكثيرون أن أي خطأ أو خلل أو تخاذل قد يعرضنا للعقوبة أو إلى الموت أحيانا . لذلك أردد دائما ً : يا روحي انتبهي من الزلل ، فما ... .
مونولوج (الزنزانة الانفرادية رقم83 ) :
شعاع باهت وهواء عذب تسلل ما إن فتحوا الباب ،على حين غرة رموا بحسان وطرحوه أرضا ً، سمعتهم يقولون له بسخرية : لا تخف أنت في مكان آمن . لم يكتشف المكان ، لكن عفونتي ونتني أشارت له أو هيجت أحاسيسه . نعم ، ربما البرد أيضا ً جعله يتذكر فراشه الدفيء ، قال : ها هنا أذن ستزهق روحي . هل بدأ يلسعه الخوف الموجع ؟، هل شرعت الحيرة تتناسل في قلبه ؟، لست أدري ، لكني أعرف أن الليلة الأولى في جوفي تشبه الليلة الأولى في القبر . كان يحاول أن يهجع ، رغبته الوحيدة هي أن ينام لينسى أو ليتمكن من مواجهة ما سيحل به غدا ، كل الذين دخلوا زنازين المخابرات للمرة الأولى لا يعرفون إن كانوا مؤهلين لمثل هذه التجربة أم لا ، نادرا ً ما يصمدون ، وبعضهم يصيبه الجنون ، ومنهم من يموت تحت التعذيب ، ومنهم من ينتصر. يبدو لي أن حساناً كان يعاني كابوسا ً ملتبسا ً ، مخيلته متوهجة لكنها تفيض عذابا ً بلون الحبر . توقع عودتهم في أي لحظة ، كل ذلك زاد من قلقه لكن حفز يقظته . تحرك بكل الاتجاهات ، عرف حينها أنه في زنزانة لا تتعدى المتر والنصف المربعين ، هذه التفاصيل جعلته يندهش ، ومرت بذهنه كوابيس غامضة حتما ً ، سمعته ، كمن كان يهذي : أشعر بالاشمئزاز ، آه من حالة الهستيريا . نعم ، كنت أشفق عليه ، لأنهم سينسونه لثلاثة أيام ، وبعد ان ينضج اليأس في قلبه ، لن يرحموه ، فهم قادرون على سحق عظامه ولا يتركونه وشأنه حتى يهشموا كبرياءه ،عندها سيعود ها هنا ليبكي لا من البرد بل من الألم و الإحباط . نعم، ربما سيقول ما عنده وسيصرخ مرارا ً وتكرارا ً : ما ذنبي ؟ لكنه لن يجد قلبا ً يتعاطف معه ، وكلما يتعبهم بعناده يزدادون شراسة ، ولا يبالون بقتله إذا ما اقتضت الضرورة . أنه الآن يتخبط بهواجسه العصية على الفهم ، لذلك كان يردد : مَن وشى بي ؟ صمت وقبل ان يجيب على السؤال أردف :هل سيهتدون الى ما في قلبي؟ . أراه قد هدأ ، وأتكأ على أحد جدراني ، ربما انه بحاجة إلى ملاك ما يساعده لترتيب أوراقه على مهل ، لتجاوز قسوتهم المفرطة ، التي لا يمكن أن يتخيلها الآن . لكنه قال فجأة ً : نعم ، إن الحرية ناعمة ، جارحة ، لكن لماذا تسألني : هل أنت حر يا ...
مونولوج (زوجة حسان التي نضبت دموعها ) :
كان الذباب على الشباك ، أزحت ُ الستارة ، رأيت القمر شاحبا ً كأنه أصيب باللوكيميا ، نعم ، هذا الانطباع كاد ان يضحكني ، وما إن حاولت رصد المشهد حتى سمعت طفلتي تخاطبني بصوت متوسل : أريد ان أرى . لم أسألها عن ما يبكيها أو يوجعها. نعم ، التقاليد تمنع النساء الخروج والظهور أمام رجال غرباء ، لم أكن أتوقع من يكونوا بالضبط أول الأمر ، ظننت هؤلاء الغرباء إما ضيوف أو أصدقاء وفدوا يباركون له تخرجه المتميز في الجامعة . تساءلت كطفلة : ماذا يريدون، لماذا لا يدخلون ؟. لكن ما إن أمسكوا بذراعه وسحبوه حتى شعرت بالريبة وانقبض قلبي . فتحت الشباك عسى أن أسمع أو أفهم ما يحدث ، لكن ما إن سحبوه عنوة ً ، حتى تساءلت : أين يأخذه ُ هؤلاء الغرباء ؟. أعرف زوجي او هكذا بدا لي ، فهو لم يخف علي أي شيء ، ومتأكدة أن لا علاقة له بالسياسة . ما أن ولت السيارة حتى هرعت إلى الخارج ، وجدت أبا حسان يتنفس بصعوبة وهو يردد : أخذوه . شاهدته جزعا ً، متألما ً، يعتصر الحقد ملامح وجهه ، وفي عينيه ترتجف الدموع ، مشهد يصعب وصفه ، ولم أره بهذا الانكسار طيلة حياتي . سألته وقلبي قد أستفز بالغضب : أخذوه ! ، من أخذه ؟ لم يكن قادرا ً على التفوه بكلمة ، وبقى قرب الباب يدخن لتخفيف أثر الصدمة ولنسيان نظراتهم التي عكرت صفاء قلبه . كاد أن يغشى علي ، ما إن عرفت مَن هؤلاء ، ورغما ً عني بدأت أولول ، نعم ، فقدت رشدي ، ومنذ ذلك اليوم بدأت كراهيتي للحياة ، وطالني الحزن. وسحبني والد حسان إلى داخل البيت بصعوبة ، بعد أن حدق في وجهي مواسيا ً قال : إحزني كما تشائين ، لكن لا تفضحينا . نعم ، قتلني حسان باختفائه المباغت ، كل ذلك جعلني شديدة الانفعال وأغضب لأتفه الأسباب ، خاصة ً بعد أن زادت الشائعات التي تحكي عن تورطه بسخافات لها اسم وحيد هو: السياسة . نعم ، منذ أن أخذوه شعرت أني طعنت ، لم أعرف كيف أوصل لحسان صوتي المذبوح الذي يهيجه الظلام والذكريات والهلع . كنا لا نأمل سوى أن يبعث حسان من جديد ونفلح بضحكة بريئة تنسينا جزع الموت وتطفله ، وبعد ثلاث شهور استنزفت كل الدموع . وكل يوم أقول : سيعود حتما ً ، لابد أن يعود . لكني اليوم أجبت طفلتي التي تلج بالسؤال : لا ، لا يا حبيبتي ، لم يعد إلى الآن ...
12 /11 /2012
#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة : غواية الفيسبوك
-
حديقة كيفين
-
قصة قصيرة : نجمة في القلب
-
خفقات ناي غريب / البوح الثالث
-
خفقات ناي غريب / البوح الثاني
-
خفقات ناي غريب / البوح الأول
-
قصة قصيرة :عجيبة هي الحياة
-
الرأس
-
صباح أسمر
-
هواجس : اللومانتية 2011
-
الأركان الضرورية للإبداع
-
طريق التغييرالى(( اين))
-
وجهات نظر عن ......
-
مرايا الإبداع وترويض اللوحة
-
عاشقة الفلامنكو
-
قصة قصيرة / الروزنامة الملعونة
-
قصص قصيرة جدا ً/ إعتراف
-
رسائل اليبرالي الجميل
-
وكان ماكان ..وقصص أ ٌخرى قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة جدا ً : من يصمت يحصد .....
المزيد.....
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|