|
النقابات العمالية وتراجع ثقلها النوعي في المجتمع المدني!!
عبدالله جناحي
الحوار المتمدن-العدد: 1184 - 2005 / 5 / 1 - 23:23
المحور:
ملف 1 ايار 2005- الطبقة العاملة في ذكرى 1 آيار
نحن هنا ليس بصدد المقارنة بين مجتمعنا الصغير المنفتح على العالم، بل والمنكشف عليه، مجتمع يتأثر ولا يؤثر إلا قليلاً، وبين المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، ولكن نحن بصدد استشراف المستقبل، هذا الأمر الذي يقلقنا أكثر من أي شيء آخر، ذلك أن المستقبل هو الذي يحسم العديد من المفاهيم التي نعتقد بأنها مطلقة وصحيحة في وقتنا الراهن، فإذا بالغد القريب قد كنس العديد من أطروحات كانت سائدة ولا جدال حولها، ولأننا نعتقد أن هذا المجتمع الصغير من أفضل النماذج الذي يمكن اختبار التأثيرات العالمية والإقليمية عليه. فهو مجتمع حي وحيوي ومتقبل للأفكار الجديدة، متأثر منذ القدم بكل المتغيرات التي تطرأ حوله، سياسياً أو اقتصاديا أو فكرياً، وهي سمة مرتبطة بلا شك بثقافة شعوب الجزر ذات التنوع الثقافي والإثني والطائفي، وخاصة تلك الجزر الاستراتيجية التي تمثل ملتقى الحضارات ومعبر للقوافل التجارية. ومن جانب آخر نحن نؤمن بمقولة صرح بها كارل ماركس في كتابه الاقتصادي/ السياسي (رأس المال) "أن البلد الأكثر تطوراً، تبين للبلدان الأقل تطوراً شكل مستقبلها" ولأننا نطمح أن نقتدي بالمجتمعات الديمقراطية العريقة في طريقة إدارتها لحياتها ومؤسساتها ـ ولذلك فإنه من الطبيعي أن تكون أنظارنا مركزة على المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ذات القيم والمؤسسات الديمقراطية العريقة ونحن نشخص واقعنا ونبحث عن الحلول لمشكلاتنا السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص، مع الوعي الحاضر دوماً لحماية وصيانة هويتنا العربية في إطارها الشامل باعتبارنا أبناء حضارة عربية إسلامية تشربنا من ثقافتها وقيمها ونحن نشارك ثقافات العالم في التأثير بها وتبني نظرياتها، وأن التجارب والانتكاسات قد علمتنا مراجعة الذات أمام محطات مفصلية كان لها أكبر الأثر في المراجعات الفكرية والأيديولوجية وكذلك السياسية والاقتصادية!!. الطبقة العاملة والحتمية التاريخية:
بعد انتصار الثورة الروسية عام 1917م رسخ في أذهان الكثيرين ـ ونحن كنا منهم ـ بأن أوروبا في طريقها إلى الاشتراكية وأن أمريكا تسير في أثرها ولكن بخطى بطيئة، وأن حركات التحرر الوطني وشعوب الجنوب أيضاً تتجه نحو ذات النموذج وإن كانت بأشكال مختلفة، وبانتصار الثورة الصينية والكوبية وبعض الثورات والانقلابات الوطنية في الدول النامية تحول الاعتقاد إلى يقين، بأن العالم يتجه نحو الاشتراكية وأن الطبقة العاملة تأخذ دورها التاريخي في قيادة المجتمعات نحو اللاطبقية. بيد أن الشكوك أخذت تطفح على السطح، خاصة لدى اليساريين الذين كانوا يتابعون تطورات الأوضاع في أمريكا، الدولة الرأسمالية الأكثر تطوراً، والذي كان ماركس ونظريته تؤكد على أن الاشتراكية الحقة لن تنجح إلا بعد حسم التناقضات بين علاقات الإنتاج والقوى الإنتاجية الصاعدة في المجتمعات التي وصلت إلى أرقى أشكال الرأسمالية، وهي المقولة التي لم تتجسد في التجربة الاشتراكية الأولى المتمثلة بالثورة الروسية، حيث أن المجتمع الروسي القيصري لم يكن ذات بنية رأسمالية متطورة ولذلك تم التنظير حول إمكانية نجاح الاشتراكية فيه عبر مقولات قائد الثورة: فلاديمير اليتش لينين، كحرق المراحل وإمكانية نجاح الاشتراكية في مجتمعات لم تحقق أو تنفذ خلاصة التناقضات بين العلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية،،، وبانهيار النموذج السوفيتي للاشتراكية تحولت الشكوك لدى العديد من الأحزاب الاشتراكية وحتى الشيوعية إلى يقين، لذلك بدأت التحولات الفكرية والسياسية تأخذ دورها في تلك الأحزاب، ابتداء من تغيير الأسماء إلى تغيير البرامج السياسية التي أصبحت أكثر ديمقراطية اجتماعية وابتعدت عن الحدية الطبقية، ماعدا القلة التي ما زالت متمسكة بإيمانها بعودة النموذج ونجاح النظرية الماركسية بل واللينينية، الأمر الذي فرض عليها تمسكها بالقوالب التنظيمية التقليدية وبلغة خطاب تقليدي أيضاً وباستخدام وسائل (التقية) مرحلياً نظراً لعدم جرأتها عن إعلان أفكارها بالشكل الواضح في مجتمعات شرقية ذات بنية دينية ومحافظة من جهة، وذات اقتصاد متخلف لم يفرز قوى اجتماعية متماسكة طبقياً ومنسجمة فكرياً من جهة ثانية. ورغم تأكيدنا وقناعتنا بأن قيم الحق والعدالة والمساواة والحرية ومنها التي أخذتها الاشتراكية هي قيم إنسانية وجدت ودافع عنها العديد من المفكرين والفلاسفة والحركات الاجتماعية منذ القدم، منذ ما قبل الثورة الروسية، وستستمر موجودة ما دام هناك استغلال ولا مساواة في توزيع الثروة واحتكار للسلطة، ورغم تأكيدنا أيضاً بأن العالم يتجه في ظل العولمة الراهنة نحو لا مساواة عالمية بين الشمال المتقدم والجنوب المتخلف الأمر الذي يؤدي إلى بروز حركات اجتماعية تدافع عن العدالة العالمية ضد الاحتكارات والتكتلات التي تخلق اللامساواة عالمياً وتهمش الطبقات الاجتماعية المنتجة. رغم كل ذلك إلا أن الإجراءات والخطوات التي اتخذتها الرأسمالية في مجتمعاتها وكذلك في الدول ذات الاقتصاديات القوية وإن كانت بنيتها الاجتماعية متخلفة كالدول الريعية النفطية، قد خففت من الحدية الطبقية وأضعفت من الصراعات الطبقية، بل ووسعت من ثقل ودور الطبقات المتوسطة على حساب الطبقات المسحوقة والفقيرة ومنها الطبقة العاملة التي أصبحت ثقلها الكمي والنوعي في الاقتصاد ليس ذلك الثقل الذي نسميه بالثقل الحرج أو الثقل الذي يقلب الموازين. الرأسمالية تجدد نفسها: لقد تمكنت الرأسمالية منذ بدايات القرن الماضي أن تجدد نفسها أمام كل محطة مفصلية من محطات أزماتها الاقتصادية، فالركود الاقتصادي الكبير الذي شهدته أمريكا في سنوات 1929 – 1932 لم يستطع من تغيير مسار الرأسمالية، وخرجت الأحزاب الأمريكية الاشتراكية والشيوعية الصغيرة جداً في ثلاثينات القرن العشرين بأعضاء ومؤيدين أقل مما كان لديها في بدايته،واستطاع (كينز) بنظريته الاقتصادية الاجتماعية أن يفجر ثورة فكرية نوعية في المفاهيم الرأسمالية السائدة آنذاك، وذلك عندما تبنت الرأسمالية أطروحتها بضرورة تدخل الدولة في تصحيح أوضاع السوق وعدم ترك الاقتصاد لقوى العرض والطلب وحدها، وبدأت إجراءات الضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة ودولة الرفاه تأخذ دورها، فضلاً عن مبادئ الحرية والفردانية، وحتى عند أزماتها النقدية والمالية تمكنت الرأسمالية من اتخاذ قرارات جريئة أهمها فك الارتباط بين الدولار والذهب وانهيار مبادئ بريتون وودز والاستفادة من الصناعة العسكرية في تقوية الاقتصاد وتشغيل المزيد من القوى العاملة الداخلة سوق العمل عبر إشعال الأزمات العسكرية الخارجية...الخ، وها هي الرأسمالية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، تطرح فكرة (الطريق الثالث) حيث أخذت الحكومات الغربية وأمريكا وبعض الدول النامية المتقدمة ترفع شعارات الديمقراطية الاجتماعية والتفكير في تخفيف اللامساواة، لقد أصبحوا يتحدثون عن المصالح الاجتماعية المشتركة، وليس الجماعية كما طرحتها الاشتراكية، بل التضامن. أن التغير في طبيعة الأحزاب السياسية الأوروبية، وحتى الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في أوروبا الشرقية التي أخذت تتحول إلى أحزاب ليبرالية ـ يعكس بصورة كبيرة عملية إعادة بناء الاقتصاد والتركيبة الطبقية في أوروبا لتماثل النموذج الأمريكي ـ فحسب تحليل الأستاذ سايمور ليبست في مقال له (هل لا تزال الأمة المتميزة؟) منشور في مجلة The Wilson Quarterly عدد شتاء 2000م نقلاً عن مجلة الثقافة العالمية عدد سبتمبر- أكتوبر 2001م، يوضح أن التأكيد الأوروبي على نظام محدد وصريح لتركيبة الطبقات الموروثة والضاربة جذورها في الماضي الملكي والإقطاعي، قد أصبح مع مرور الوقت شيئاً من الماضي، فالناتج الاقتصادي الآخذ في النمو يفتح المجال للحصول على كل شيء، من الملابس، السيارات، السلع الاستهلاكية، التعليم المتقدم، الصحة، ويغطي ذلك بقوة على الفروقات في المعيشة التي تشمل اللهجة، اللباس، وهي ما كانت تميز تقليدياً بين الطبقات الاجتماعية في أوروبا، لقد صاحب النظام الاقتصادي الجديد تغيرات ديمغرافية ومنها الانخفاض الحاد في نسبة المواليد وارتفاع معدلات الأعمار، مما أدى بالدول الرأسمالية لأن تواجه معضلة حقيقية فأما تقوم برفع الضرائب بصورة كبيرة للصرف على نظام الضمان الاجتماعي والصحة والرفاهية والخدمات الحكومية الأخرى باهظة التكاليف، أو أن تجد حلولاً لخفض نسب الإنفاق. لقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة في قيادة التحولات الاقتصادية، فعلى الصعيد العالمي، أخذت أمريكا تتحرر من تحفظاتها السابقة بشأن الحمائية الخارجية وبدأت منظمة التجارة الدولية تفعل دورها كأحد أضلاع الثالوث الاقتصادي الذي كان ضعيفاً إبان وجود المعسكر المضاد للرأسمالية، فالضلعين المالي والنقدي المتمثلين بصندوق النقد الدولي وبنك الأعمار الدولي كانا الفاعلين إبان الحرب الباردة وكانا يأخذان ادوار هما الاقتصادية السياسية في تكريس مبادئ الرأسمالية المتوحشة، فإذا بهما يتحالفان بعد بروز منظمة التجارة الدولية معاً ويغيران استراتيجياتهما نحو مراعاة الجوانب الاجتماعية لأية تحولات اقتصادية حادة، وأخذا يطرحان شروط غير اقتصادية في مفاوضاتهما كشرط الحكم العادل المتمثل بوجود معايير حقوق الإنسان والديمقراطية ورفض عمالة الأطفال والحريات ومنها الحريات النقابية العمالية كشرط لأي اقتراض. أما على الصعيد الاقتصادي الداخلي فلقد بدأت أمريكا بالتحول بصورة حادة من الاقتصاد الصناعي القديم المعتمد على العمالة اليدوية، ولذلك انخفضت العمالة في الصناعات من 26% عام 1960م إلى 13% في 1996م، وفي بريطانيا انخفضت العمالة في الصناعات من 36% من الإجمالي العام إلى 19%، وهو نموذج يعم في السويد حيث انخفضت من 32% إلى 19% وفي استراليا من 26% إلى 13.5%، الأمر الذي خلق تفكيراً بدأ يهيمن رويداً رويداً في المجتمعات الرأسمالية يتمثل بما يسمونهم (بنهاية الوظيفة) أي نهاية عصر العمل والتفكير في إيجاد مداخيل للناس الذين لا يحصلون على العمل، ليس بسبب الركود الاقتصادي أو عدم وجود مؤهلات وتدريب وإنما بسبب قيام التقنية المتقدمة بدور العمال في عمليات الإنتاج والتسويق والتوزيع وحتى التفكير والتخطيط!!
التراجع الكمي للنقابات العمالية وزيادة ثقل الطبقة المتوسطة:
على صعيد تراجع الوعي الطبقي والتنظيم الطبقي، هناك مؤشر واضح أخذ العديد من الاقتصاديين السياسيين يعتمدونه كمعيار لبروز فكر جديد وسلوك جديد، وهو مؤشر عضوية الاتحادات والنقابات العمالية التي أخذت تنخفض في كل مكان تقريباً، ففي الفترة بين عام 1985م وعام 1995م، أي عقد من الزمن فقط، انخفضت قوة العمالة الأمريكية من الحاملين بطاقة النقابات العمالية بنسبة قدرها 21%، أما اليوم فيقدر عدد الأمريكيين الأعضاء في النقابات بـ 14% فقط من أجمالي قوة العمل الأمريكية، ونسبة 10% فقط منهم يعملون في القطاعات الخاصة، ويبدو هذا الانخفاض أشد حدة في فرنسا وبريطانيا، وهو 9% و26% على التوالي، أما في ألمانيا فيعد الانخفاض أقل بعض الشيء وهو 18% (الأرقام من المصدر المشار إليه أعلاه). إن أسباب هذا التراجع عديدة، ولكن أهمها يتمثل في التغيرات الحاصلة في بنية المجتمعات الرأسمالية وإعادة ترتيب الثقل الاقتصادي للطبقات الاجتماعية. فنتيجة لإعادة أسلوب توزيع الثروة وزيادة الشركات المساهمة التي أصبحت تمثل العديد من الطبقات ـ وليست الغنية منها فقط ـ أحدى الوسائل الفاعلة لتوسيع نطاق توزيع الثروة القومية، فضلاً عن زيادة المهارات الوظيفية وزيادة دور العمال أصحاب الياقات البيضاء من الفنيين ومبرمجي الكمبيوتر والمحللين ..الخ، فلقد تحول المجتمع من الشكل الهرمي الذي اتساعه عند القاعدة إلى شكل يشبه المعين الذي يتسم باتساعه في منطقة الوسط، أي أن الطبقة العاملة التقليدية آخذة في التقليص في الوقت نفسه الذي تنمو فيه الطبقة المتوسطة. إن انعكاسات هذا التحول الطبقي النوعي على صعيد الأحزاب تجلت في برامج الأحزاب كلها بما فيها برامج الأحزاب اليسارية غير المتصلبة وغير المتجمدة في قوالب أيديولوجية و التمسك بالنص الحرفي، حيث إنها لم يكن أمامها مناصاً سوى محاولة كسب الطبقة المتوسطة النامية والتخلي عن البرامج التقليدية الثورية التي تدغدغ عواطف العمال الصناعيين والفقراء. صحيح أن هذه التحولات هي نتاج للتحولات الرأسمالية الهائلة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة التي أخذت تسمى نفسها بالمجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع الثورة التقنية العلمية، إلا إنها رغم ذلك تؤكد بأن الاتجاهات التي توقعها ماركس وعلى الأخص الزيادة المطردة في عدد الشغيلة الصناعية لم تتم، ففي كل العالم الصناعي يتركز نمو سوق العمل في الوظائف ذات الطبيعة التقنية والخدمية، وتضخمت أعداد الملتحقين بالجامعات، وازداد عدد الحاصلين على الشهادات العلمية، لدرجة أصبحت المعرفة والثقافة هي المقياس للانتماء الطبقي أكثر من الملكية. إن النتيجة المجتمعية لهذا التحول المعرفي والطبقي هي بروز قيم ومطالب وحركات (ما بعد المادية) وما بعد السياسية/ الاقتصادية البحتة، فهؤلاء العمال من المواطنين ذو المستوى التعليمي الأفضل والمعرفة كقيمة مادية مستخدمة لزيادة تحسين مستوى المعيشة وليست المهارة الإنتاجية، قد تحولوا باهتماماتهم السياسية والاقتصادية المتمركزة حول اللامساواة والاضطهاد والاستغلال إلى اهتمامات جديدة مثل البيئة ومستوى ونوعية التعليم والصحة والإسكان والثقافة وقضايا المساواة للمرأة والأقليات والتنوع الثقافي ونشر الديمقراطية والحرية ليس في بلدانهم بل في البلدان الأخرى، ولذلك برزت تلك الحركات المدافعة عن حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والطفولة والحيوانات، بل أصبحت (أحزاب) الخضر والمدافعين عن البيئة منافسين حقيقيين للأحزاب السياسية اليسارية واليمينية في حصولهم على أصوات ومقاعد في البرلمانات.
ماذا يعني ذلك على مستوى التحليل الطبقي والسياسي الكلي؟
إن ما تم طرحه لدى البعض بأن الاتجاهات اليسارية الجديدة في الغرب وأمريكا (الطريق الثالث) أو (الاتجاهات الديمقراطية الاجتماعية) لم تكن نتاج انهيار المعسكر الاشتراكي ـ وإن كان هذا الانهيار عامل مساعد في تعجيل بروز هذه الاتجاهات ـ وإنما السبب الرئيسي هو التطور العام الحاصل في بنية الاقتصاد والطبقات في المجتمعات الرأسمالية أكثر منة نتاج للأحداث السياسية، إن انهيار الشيوعية برغم توجيهه ضربة قاسية لفكرة الاشتراكية، لم يكن هو العامل الحاسم، ذلك أن أولى مؤشرات التغيير قد أتت بفترة طويلة قبل أن يحلم أي أحد بأن حائط برلين سينهار. فخلال عقد الثمانينات قامت أحزاب عمالية يسارية في كل من استراليا ونيوزلندا بخفض ضريبة الدخل (ضربة لأحد ثوابت توزيع الثروة كمبدأ أساس في الفكر الاشتراكي) ونفذت سياسات اقتصادية جديدة حيث خصخصت بعض الصناعات الهامة (ضربة أخرى للملكية العامة لوسائل الإنتاج كمبدأ أساس آخر من الفكر الاشتراكي) وفي عام 1983 (أي قبل انهيار المعسكر الاشتراكي) أبرم حزب العمال الاسترالي اتفاقاً مع النقابات العمالية بتخفيضات في الأجور الفعلية، وقام حزب العمال في نيوزلندا في عام 1984م بتنفيذ سياسة أكثر تاتشرية حيث أنهى ما يسمى(بفرض الضرائب حسب المقدرة على الدفع) وفكك دولة الضمان الاجتماعي وخصخص العديد من مؤسسات الدولة. والحدث الأكبر كان في التحول النوعي في برنامج حزب العمال البريطاني عام 1997 حيث فاز حزب العمال بعد تخليه عن شعاراته التاريخية المتعلقة بالملكية العامة والسياسات الطبقية، وأصبح يؤكد على أن العمالة المنظمة (النقابات) يجب أن تتعاون مع الإدارة (أصحاب الأعمال) لتضمن قدرة الصناعة البريطانية على المنافسة.
وطالب بلير ـ زعيم حزب العمال البريطاني ـ الأحزاب التقدمية بالمسؤولية وبالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية، لخلق فرص عمل جديدة، والتخلي عن المعارك القديمة، هذا المنهج مورس في الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي (المجتمع الأكثر تقدماً في أوروبا من ناحية المساواة الاجتماعية) وهو الحزب الذي ظل في السلطة منذ الثلاثينات عدا فترتين (1976 – 1982 و 1991 – 1998) حيث أكد على ضرورة القبول بالملكية الخاصة، وحافز الربح، والفوارق في الدخل والرفاهية، ورأى أن مقدرة اقتصاد السوق على التغير والتطور وبالتالي على النمو الاقتصادي قد ساعد بصورة أكثر في القضاء على الفقر وعلى استغلال الطبقة العاملة أكثر مما ساعد التدخل السياسي في أسلوب السوق في التوزيع. وهاهو الشيوعي الأسباني الذي قاد حزبه في عام 1996م نحو الحكم قد غيروا مسار الحزب وأخذ الحزب يؤيد الخصخصة والسوق الحرة، بل وحلف ناتو، بل أخذ يردد بأن ( سوق التنافس الحر تتصف بالطمع، والفساد، واستغلال الأقوياء للضعفاء، ولكنها أيضاً تعتبر النظام الاقتصادي الأقل سوءاً بين الأنظمة الموجودة). أما في البرتغال فقد نص دستور 1976م، الذي صيغ بعد الثورة الديمقراطية التي قادها الاشتراكيون وأطاحت بدكتاتورية سلازار، على أن الشركات المملوكة للدولة "هي من مكتسبات الطبقة العاملة، التي لا يمكن التنازل عنها" لكن الحكومة التي انتخبت عام 1996 اتجهت بكل حماس للخصخصة، ونحو سياسات أخرى يتطلبها السوق.
الطريق الثالث،، الوسط الجديد:
إن العالم، إذا ما نظرنا إلى تحولاته الفكرية والسياسية والاقتصادية، بعد انتهاء الاستقطاب الإيديولوجي، يتجه نحو الوسطية، فكرياً وسياسياً وكذلك اقتصادياً، والطريق الثالث الذي كان مهمشاً إبان الصراع الاشتراكي الرأسمالي، بل ومتهماً بالتحريفية عن النظرية الماركسية، هو الذي أخذ يكتسح برامج الاشتراكيين والأحزاب الشيوعية السابقة، فاطروحاته تتضمن مصطلحات كالمجازفة وروح الالتزام وأسواق العمل المرنة، وهي مصطلحات مرتبطة بقيم الإنتاج الرأسمالي، بجانب مصطلحات كالعدالة والاشتراكية والتوزيع العادل للثروة، وهي تعبيرات مرتبطة بقيم الاشتراكية. وأصبح الطرح القائل بضرورة وجود الدولة ذات النفوذ المطلق المتدخلة في الشؤون الاقتصادية لا مكان له في قاموس وبرامج أحزاب الطريق الثالث، حيث أخذت أحزاب اليسار تتجه إلى اطروحات كانت تتهم سابقاً بأنها اطروحات يمينية، وأخذ الشيوعيون القدامى الذين يحكمون بولندا والمجر منغمسون في محاولة إعادة اختراع بلدانهم على أساس السوق الحرة واحترام الملكية الخاصة (فيما عدا النرويج مترددة في إعادة النظر في اطروحاتها نظراً لمداخيلها الوافرة من نفط بحر الشمال التي تمكنها من المحافظة على نظام الرعاية الاجتماعية، وفرنسا ذات القيم العريقة في احترام بيروقراطية الدولة). ولنأخذ هولندا التي اعتبرت في وقت ما مثالاً للدولة المربية Nanny State لديها نسبة بطالة في حدود 3%، وهي أقل بكثير من الدول الأوروبية الرئيسية، وتتميز بنمو اقتصادي سريع، ورغم ذلك فالهولنديون تحت حكومة يرأسها زعيم سابق لاتحاد العمال (فان كوك) من حزب العمل، تقبلوا تغييرات جوهرية، حيث تم تخفيض مساعدات البطالة في الوقت الذي شددت فيه لوائح وقوانين التعويض عن المرض والإعاقة، وتم التخفيف من القوانين المتعلقة باستخدام العمال وطردهم، وقوانين إنشاء مؤسسات عمل جديدة، كما ألغيت ضرائب الضمان الاجتماعي في اتفاق جماعي يشابه الحالة الاسترالية، ووافقت الاتحادات العمالية بقيادة كوك في ذلك الوقت على قصر الزيادة في الأجور في حدود 2% في كل عام، أن جزءاً من السبب يعود للاعتقاد بأن ذلك سيخلق فرص عمل أكثر، ويقول أحد المسؤولين بأن (الأعجوبة الهولندية) تكمن في أنه يمكن إقناع اتحاداتنا العمالية بتأييد اقتصاديات السوق الحرة!! كل هذه التطورات فرض على العالم الهولندي أن يؤكد في كتابه الذي أثار الجدل الكثير عام 1999م وعنوانه (تراجع دولة الضمان الاجتماعي) بأن "أغلب دول الضمان الاجتماعي السابقة في أوروبا، ستصبح أكثر أمركة في سياستها الاجتماعية، وفي أخلاقياتها". أحزاب ما زالت مبدئية: إن هذا الطرح يجب أن لا ينظر إليه بشكله المطلق، ذلك أن الأحزاب المتجهة صوب الطريق الثالث، أو الوسط الجديد، ليست كلها في سلة واحدة من حيث رؤيتها وبرامجها، فما زالت التمايزات بينها كبيرة، فهناك من الأحزاب التي مازالت تأثيرات القيم والمؤسسات العريقة الضاربة بجذورها تتراوح في مواقفها تجاه الليبرالية المطلوبة، ولا تزال بعضها ـ وخاصة في أوروبا ـ تنزع إلى الجانب (المساواتي) مع ميل للحكومة القوية، بينما يفضل الأميركيون مجتمعاً فردانياً وتنافسياً مع وجود تساو في الفرص ووجود حكومة فاعلة ولكن غير مسيطرة، ومازالت المسألة الكبرى تجاه الرأسمالية التقليدية لم تحسم والمتمثلة في إنها ـ أي الرأسمالية ـ لا تلتزم بالقضاء على الفقر والعنصرية والتفرقة بين الجنسين والتلوث والحرب، وهي مسائل مرتبطة بقيم وأخلاقيات لا مكان لها في عملية الربح والعائد الرأسماليين، ولكنها مسائل تدفع بقوة نحو وجود دولة قوية تكون من مهمتها تحقيق هذه القيم، ويمكن أن نعطي مؤشراً واضحاً يؤكد على عدم حسم هذه المسائل لغاية الآن، وهو مؤشر قوة الأحزاب (غير السياسية) التي تتبنى برامج الدفاع عن البيئة والمساواة بين الجنسين والقضاء على الفقر (أحزاب الخضر)، ففي الثلاثة عشرة دولة أوروبية غنية في الاتحاد الأوروبي، هناك ممثلين لأحزاب الخضر في البرلمانات الوطنية، أو يشاركون مبعوثي الدولة لدى البرلمان الأوروبي، حتى أن اشتراك الخضر في الائتلافات الحاكمة في بلجيكا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وايطاليا، وحدها الولايات المتحدة الأمريكية التي تفتقر إلى حزب للخضر، حتى ولو بتأثير بسيط. إنها مفارقة جديرة بالتأمل والتفكير، فمثلما لم تكن هناك أحزاب اشتراكية مؤثرة في أمريكا في بداية القرن الماضي ـ كما في أوروبا ـ فها هو التاريخ يعيد ذاته بالنسبة لأحزاب الخضر، فهل هذا يعنى أن المستقبل لهذه الأحزاب؟!
النقابات وهيمنة الاقتصاد الخدماتي: إن أحد أهم أسباب تراجع دور وثقل النقابات العمالية التي كانت تعتمد في جوهرها على التجانس الطبقي للطبقة العاملة الكادحة التي لا تمتلك شيئاً تخسره كما كانت المقولات الماركسية توضحها، هو انتقال الاقتصاد من اقتصاد معتمد على الصناعات الثقيلة ذو كثافة في قوة العمل (العمال)، إلى اقتصاد صناعي تقني حلت التقنية محل العامل في معظم مراحل الإنتاج، وبروز الاقتصاد الخدماتي الذي أخذ يهيمن بشكل واضح لدرجة أن الاستثمارات في أغلبيتها تتوجه إليه. في دراسة قيمة لساسكيا ساسن بعنوان (المدينة العالمية، موقع استراتيجي، حدود جديدة) ترجمها سعد زهران ومنشورة في مجلة الثقافة العالمية (المرجع السابق)، توضح أن صعود اقتصاد متخصص يقوده قطاع الخدمات، وبخاصة مركب المالية والخدمات المتعلقة بها، يولد ما يمكن أن نعتبره نظاماً اقتصادياً جديداً، ذلك أنه على الرغم من أن هذا القطاع يمكن ألا يشكل إلا جزءاً صغيراً من اقتصاد المدينة إلا أنه يضغط ويفرض نفسه على مجموع الاقتصاد، ومن بين الضغوط التي يحدثها هذا القطاع التوجه نحو الاستقطاب، كما هي الحال في إمكانية تحقيق أرباح مهولة في المجال المالي، الأمر الذي يتسبب مع عوامل أخرى، في بخس قيمة العمل في الصناعة والخدمات منخفضة المردود، طالما أن هذه القطاعات عاجزة عن أن تدر الأرباح الفائقة المألوفة في الأنشطة المالية، هذا فضلاً عن زيادة تقييم هذا الاقتصاد الخدماتي، ويتجلى ذلك في الزيادة الفائقة للرواتب فيه وخاصة للمهنيين والمتخصصين والمدراء العامون في مستوى القمة، وتساعد العولمة المالية على زيادة هذا البريق والمبالغة في التقييم. ورغم أن وجود قطاع صناعي سلعي أمر ضروري لتسيير الاقتصاد والوفاء بالاحتياجات اليومية للسكان وللطلب المتزايد عالمياً على السلع الضرورية أو الكمالية، إلا أن قدرة هذه المنشآت، وخاصة الصغيرة والمتوسطة منها، على مواصلة العمل تتعرض للخطر في وضعية تستطيع فيها قوة المال والخدمات المتخصصة تحقيق أرباح أو استثمارات، ولذلك حلت المطاعم والفنادق والبوتيكات محل الورش والمصانع الصغيرة أو محلات السلع، وحلت المجمعات التجارية محل المجمعات الصناعية، وكل ذلك لتخدم النخب الجديدة ذات المداخيل المرتفعة أو المتوسطة وليست الفقيرة. إن الوجه المخفي للعولمة الاقتصادية هو بروز سلع وصناعات أخذ المجتمع بأغلبيته من الطبقات والشرائح الفقيرة أو محدودة الدخل تعتمد عليها، وهي سلع تنتجها الفقراء والمهاجرين ومنشآت صغيرة تعتمد على العمل والكدح العائلي، ويتم تجميعها وتوزيعها عالمياً، وهناك أمثلة عديدة كالملابس الرخيصة المصنوعة في منشآت السخرة المحلية، والأثاث الرخيص الذي يصنع في السراديب. ويمكن القول بأن هذا الوجه المخفي للعولمة قد أخذ يتحول إلى نظام اقتصادي أخذ يفصح عن توزيعات جغرافية جديدة بين المراكز الصناعية والتجارية والهوامش بوجود خطوط تماس وقنوات اتصال تبادلية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وبين الصناعات الراقية وصناعات المنشآت غير النظامية. الخطورة في هذا المقام بالنسبة للنقابات العمالية بأنها لن تتمكن من الوصول إلى هذه الهوامش المجتمعية التي تمارس معها أقسى أنواع السخرة، فالمهاجرون وبالأخص النساء منهم في هذه المدن الصناعية الكبيرة هم الذين يمارسون ويقودون هذه المنشآت التي تنتج تلك السلع الرخيصة، ويمكن اعتبار ذلك خروجاً عن الحركية التقليدية، حين كانت العضوية في القطاعات الاقتصادية القائدة تساهم في خلق ظروف تساعد تكوين طبقة عاملة متماسكة ومتجانسة، بل وتخلق بجانبها أرستقراطية عمالية، والتي كانت من سمات العائلة في الاقتصاد الفوردي Fordist Family، حلت محلها فئة أجرية متخصصة من الأطفال والنساء والمهاجرين، وأدى ذلك إلى زيادة كبيرة في الطلب على العمالة المنخفضة الأجر في واقع يغمره نمو انفجاري لثروة تلك المدن ونفوذها، وهكذا تتبلور صيغة عمل جديدة كمصدر للحصول على عمالة يسهل فرض أجور منخفضة عليها وانعدام السلطة عليها في ظروف الطلب المرتفع عليها أيضاً، وفي مواقع متناثرة وسريعة النمو والتغير، وكلها متغيرات لا يمكن للنقابات الوصول إليها مما يؤدي إلى تحطم الترابط التاريخي الذي كان يمكن أن يفضي إلى تقوية العمال وبالتالي إلى تقوية النقابات، بل أن هذه الآلية الجديدة في هذه المدن قد أضفت شرعية ثقافية على تحطيم هذا الترابط التاريخي. بين العمال كطبقة من المفترض وحسب المفهوم الماركسي بان تكون متجانسة ومتكاتفة ومتعاونة فيما بين أفرادها، بين أن الواقع الرأسمالي الغربي الراهن يقول عكس ذلك، فالتجانس ضعيف جداً بين أفراد الطبقة بحكم المتغيرات التي أشرنا إليها في سياق هذه الدراسة، وبالإضافة إلى انتقال جزء كبير من العمل المنتج الكمالي والاستهلاكي لقطاعات من العمال المهشمين غير المرتبطين بالمصانع الضخمة الكبيرة، هذا فضلا عن حصول الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية على الكثير من حقوقها التي تمكنت من تخفيف الحدية الطبقية وافتقاد هذه الطبقة إلى الوقود الثورية السابقة من الاستغلال البشع أو الفقر المدقع أو المرض وشروط وظروف العمل القاسية وغير الصحية وغير الآمنة، بجانب انتقال جزء كبير من قوة العمل المنتجة إلى طبقات الوسطى والشرائح الفنية والمتخصصة.
وماذا عن واقعنا العربي والمحلي؟
ونحن نتكلم عن واقع عربي مختلف لم ينجز لغاية الآن كثرة من المتطلبات المتعلقة بالحياة الديمقراطية والسياسية والاقتصادية، ومن ضعف دولة المؤسسات والقانون وتهميش للمشاركة الحقيقية لعموم الشعب في صنع واتخاذ القرار والتعددية السياسية والفصل وتداول السلطة ووجود مؤسسات المجتمع المدني القوية والموازية للسلطات الأخرى التنفيذية والتشريعية والقضائية بجانب ضعف شديد لهذه السلطات الثلاث أيضا، ونحن نتكلم عن ضعف الاقتصاد العربي وعدم تكامله ووجود عدة معضلات شديدة فيه فساد فاضح إلى عدم وجود صناعات قوية إلى تبعية كبيرة إلى تدخل الدولة بشكل فاضح في هذا الاقتصاد إلى تدمير للصناعات التقليدية وحتى القطاعات الإنتاجية ذات الميزة النسبية. ونحن نتكلم عن متغيرات عالمية أخذت تفعل فعلها القوى على بنية الاقتصاد والسياسة والاجتماع والفكر في الوطن العربي من البحر إلى البحر، أي من المغرب إلى مسقط وأهمها تلك المتغيرات المرتبطة بالانكشاف العالمي والعولمة وإفرازات اتفاقيات منظمة التجارة الدولية والترابط العالمي اقتصاديا وضعف السيادة الوطنية التقليدية التي كانت سائدة أبان المراحل السابقة من تاريخ البشرية وشرعية التدخلات الدولية في الشأن الداخلي من أجل حماية، أو تعزيز أو تطبيق مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، بجانب تداعيات انهيار المعسكر الاشتراكي وهيمنة القطب الرأسمالي بشروطه وتدخلاته ومصالحه.
نحن نتكلم عن ذلك، لابد أن يكون حاضراً أمامنا عن تحليل الواقع العربي، وحيث تعتبر مملكة البحرين جزء من هذه الواقع العربي رغم تمايزاتها الديمقراطية البسيطة التي لا تختلف إلا نسبياً وبدرجات معينة عن بعض الدول العربية ومتخلفة عن البعض الأخر. نحن نتكلم عن هكذا واقع علينا أن نتذكر مقولة كارل ماركس التي أشرنا إليها في بداية هذه الدراسة: (( أن البلد الأكثر تطوراً، تبين للبلدان الأقل تطوراً شكل مستقبلها)). وحيث أن جميع الدول العربية دون استثناء تحاول اللحاق بركب الاقتصاد الرأسمالي العالمي وأن اقتصادياتها مفتوحة بنسب ودرجات على هذا الاقتصاد العالمي، وهناك جملة من الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية بين أكثر من دولة عربية والاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، بجانب وجود مناطق اقتصادية حرة مشتركة، بجانب السياسات الرامية إلى إدخال الاقتصاد المعلوماتي والخدماتي والاستفادة من ثورة المعلوماتية والاتصالات لتقوية الاقتصاد، هذا فضلاً عن قيام جميع الدول العربية بتعديل هياكلها الاقتصادية التشريعية والسياسية والقانونية وذلك بهدف استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية التي أصبحت بمثابة الحل السحري لتوفير فرص عمل جديدة للعاطلين الذين يزداد عددهم عام بعد عام أمام الأزمات البنيوية والاقتصادية في الدول العربية.
ولذلك لا نتوقع أن تكون هناك تطورات أو رؤى جديدة عربية أو غير عربية تختلف عن الاتجاه العالمي السائد على الصعيدين الاقتصادي أو السياسي، وعليه فأن قادم السنين يحمل المزيد من الارتباط والتبعية للاقتصاديات العربية بالنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد عالمياً، وأن أية محاولات عنيدة لبعض الدول العربية في إصرارها لمواصلة الانغلاق مصيرها الفشل وأن استمرار هذه المحاولات يعني ابتعاد مثل هذه الدول عن ملاحقة الركب وتهميشا، بل وموتها اقتصاديا في ظل عدم وجود إرادة عربية حقيقية لتأسيس تكامل اقتصادي قومي بين الدول العربية ولخلق تكتل عربي يعتمد على ذاته ويفاوض التكتلات العالمية الأخرى من أجل تحسين موقع الاقتصاديات العربية في الشراكة العالمية. ولذلك فأن إفرازات هذه المسايرة مع العولمة الراهنة تعني تكرار نتائجها في واقعنا العربي، وخاصة على صعيد دور النقابات في المرحلة السابقة والراهنة وتبعية أغلبيتها لمصالح الأنظمة الشمولية أو شبه الديمقراطية في معظم الدول العربية.
أما على الصعيد البحريني، فرغم أن استشراف المستقبل وما يعني ذلك من تأثير الطبقة العاملة ونقاباتها بكافة تلك التحولات المتغيرات العالمية والعربية، فأن هناك مجموعة من الخصوصيات التي تتميز بها الطبقة العاملة في البحرين، بعضها مرتبطة بواقعها الذاتي والأخرى مرتبطة بالواقع الموضوعي وتأثير هذا الواقع سلباً أو إيجابياً على النقابات.
الظروف الموضوعية المحيطة بالنقابات العمالية في البحرين:
1. إشكالية الطبقة: نظر لهيمنة الاقتصاد الريعي وما يعني ذلك من تشويه للتطور الاجتماعي وتداخل وضعف للتشكيلات الاجتماعية، فأن مفهوم الطبقة من حيث إنها متجانسة وتمتلك قيمها وسلوكياتها وثقافتها لا يمكن القول بأنه ينطبق على الطبقة العاملة البحرينية فمثلما أصاب التشوه جميع الطبقات الاجتماعية، فأن الطبقة العاملة قد أصابتها أيضاً تلك التشوهات، حيث لا توجد لدينا تلك الطبقة الإنتاجية المتجانسة والمتلاحمة والمتفقة على مصالح طبقية محددة، فالريع النفطي، وخاصة إبان مرحلة الطفرة النفطية في أواسط السبعينات من القرن الماضي قد فتتت هذه الطبقة، وأضعفتها وحولتها إلى شرائح عمالية تفكر في وضعها ومصالحها ولم تبقى هناك إلا – نادراً- صحة لتلك المقولة التي تقول بأن الطبقة العاملة حيثما تثور فأنها لا تخسر سوى أغلالها، فلقد أصبحت لأفراد هذه الطبقة من العمال مصالح وملكيات خاصة ومن أملاك عقارية والكماليات الضرورية، بل أن فئة من العمال المنتجين في المصانع ونظراً لارتفاع أجورهم في تلك المرحلة، وتوفير مجالات عديدة غير العمل الرئيسي كان العامل يستغلها لزيادة مداخيله وقد اصبحوا عملياً ضمن الطبقة الوسطى وأن كانوا عمالاً ينتجون، وكان من ضمن نتائج هذه التشويه الطبقي أن كثرة من الكوادر العمالية النقابية التي كانت في مرحلة الستينات وأوائل السبعينات تقود الحركة العمالية، بوعي طبقي ونقابي و في بعض الأحيان وهي تواجه حكماً قمعياً شرساً، انتقلت إلى الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة ذات مستويات الدخل المعقولة التي تمكنها من العيش الكريم دون الحاجة إلى نضال طبقي ضد المستغلين من الطبقة الرأسمالية حسب المفهوم الماركسي، ولم تبقى في الساحة العمالية النقابية سوى فئة عمالية وأن كانت واعية لدورها النقابي العمالي ومتشربة بأفكارها في الدفاع عن مصالح العمال وأن كانت أغلبيتها في وضع طبقي متوسط.
كانت لهذه التحولات الاقتصادية، وبالأخص المرتبطة بالطفرة النفطية، أبلغ الأثر على إضعاف تجانس الطبقة العاملة وإضعاف ليس فقط الوعي الطبقي المهم لأية حركة عمالية منظمة، بل أيضاً الوعي بضرورة وجود نقابات عمالية مستقلة وقوية وحرة وصلبة، حيث أن الظروف الموضوعية هذه قد أضعفت التربة المطلوبة لنمو مثل هذا الوعي الطبقي والنقابي.
2.الظرف السياسي التاريخي:
في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي وإبان حركة هيئة الاتحاد الوطني تمكنت الطبقة العاملة أن تكون رقماً فاعلاً ليس فقط اقتصادياُ بل حتى سياسياً، حيث استفادت حركة الهيئة من تجانس هذه الطبقة وتماسكها من الضغط على الحكم والانتداب البريطاني، فعبر الدعوات الناجحة لسلسلة من الاضرابات العمالية التي استمرت بعضها أكثر من أسبوعين رضخ الحكم لمطلب فتح باب المفاوضات مع حركة الهيئة والاعتراف بها وتحقيق جملة من المطالب.
وكذلك في فترة الستينات حيث اندلعت انتفاضة مارس المجيدة عام 1965م وكان وقودها الرئيسية الطبقة العاملة التي تمكنت من تحريك الشعب بأكمله، موظفين ومدرسين وطلبة للتضامن معها في مطلبها بعودة المفصولين عن أعمالهم في شركة بابكو واستفادت الحركة السياسية من هذه الطبقة المتجانسة في رفع مطالبها السياسية، والأمر حدث بنفس الوتيرة في بداية السبعينات وقبل الطفرة النفطية الهائلة بعد حرب أكتوبر عام 1973م، حيث قادت اللجنة التأسيسية لاتحاد عمال وموظفي ومستخدمي البحرين سلسلة من الاضرابات والاحتجاجات العمالية، وتشكلت بعض النقابات العمالية أبان فترة المجلس الوطني في بعض وزارات الدولة والشركات.
غير أن الظروف الاقتصادية التالية المشار إليه في النقطة السابقة أعلاه وافرازات ونتائج الطفرة النفطية قد تفاعلت مع الظروف السياسية العميقة وقيام الحكم بتطبيق قانون أمن الدولة على النشطاء من الحركة العمالية بجانب نشطاء الحركة السياسية قد خلقت قطيعة واضحة في تراكم التجارب والخبرات وانتقالها من جيل لآخر، فالطفرة والقمع والإرهاب ومنذ السبعينات ولغاية الانفراج السياسي بقدوم جلالة الملك لسدة الحكم في الألفية الثانية، كانت الحركة العمالية في حالة غياب كاملة، فالكوادر التاريخية أصبحت غير عمالية في خضم هذه التحولات، أو كانت معتقلة لسنوات طويلات قاسيات أثرت عليها أيما تأثير، والحالة الأمنية و السياسية لم تسمح بوجود منظمات عمالية علنية وشرعية تطرح أفكارها وبرامجها وتنتشر في صفوف العمال، لذلك بقيت لجان وحلقات عمالية صغيرة وقليلة وهي من بقايا الحركة العمالية السابقة تحصن نفسها من تأثيرات الطفرة النفطية وأخلاقياتها الريعية المعروفة وتخشى من كشفها من جراء القمع الذي كان سائداً، وكان المنفذ الوحيد للعمل النقابي بشكل ضعيف وهزيل هو اللجان العمالية في الشركات الكبرى واللجنة العامة لعمال البحرين، أما ما عدا ذلك فلقد كانت سرية وغير ذي تأثير على وعي الطبقة العاملة البحرينية.
الأيدي العاملة الأجنبية:
على صعيد أخر ترافق مع الظرف السياسي والاقتصادي المذكورين أعلاه، حاجة دول الخليج إلى المزيد من القوى العاملة إبان تلك الطفرة النفطية لتشييد البنى التحتية التي كانت مفقودة تقريباً قبل السبعينات، فدبت حركة هائلة من العمران وبناء المدن والجسور والمشاريع والمدارس والمستشفيات وقدوم مئات الشركات والبنوك والمشاريع والتي اعتمدت كلها على العمالة الأجنبية الوافدة من الهند وشرق آسيا ضمن سياسة واضحة بعدم جلب العمالة العربية، وحيث توجه المواطنون في تلك المرحلة إلى القطاع الحكومي ذو الأجر المغري وكذلك إلى فتح مشاريع خاصة خدماتية وسياحية وعقارية وغيرها، وهذا ما خلق واقعاً جديداً في سوق العمل، حيث هيمنت العمالة الأجنبية الوافدة على هذا السوق وكان لذلك أبلغ الأثر على إضعاف الحركة العمالية والنقابية حيث كان من السهولة على حكومات دول الخليج قمع أية تمردات ضد أية محاولات من قبل هذه العمالة الأجنبية المضطهدة والتي كانت تمارس بحقها الكثير من ممارسات العبودية والسخرة والاستغلال البشع، حيث يتم بسهولة تسفير العمال الأجانب الذين يحاولون الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم.
الطائفية وتأثيرها على الطبقة العاملة:
المدنية الحديثة التي بدأت تهيمن على المجتمعات الصناعية بعد الثورة الصناعية تمتلك سمات خاصة تختلف عن المدن ما قبل الصناعية، ومن هذه السمات أن مكوناتها الأساسية التي تعتمد عليها مؤسسات وأحزاب ونقابات عمالية ومهنية واتحادات ومنظمات طلابية ونسائية ومتخصصة وهيئات علمية وسلطة رابعة إعلامية مستقلة، وهي بذلك تحررت من هيمنة الأشكال ما قبل المدنية كالقبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية، الأمر الذي أدى إلى أن تكون هذه المؤسسات تمثل طبقات المجتمع ذات الملامح الواضحة من طبقة برجوازية وعاملة وصغيرة ومتوسطة حيث أصبحت لكل طبقة هيئاتها المهنية والسياسية الحزبية والنقابية، غير أن واقع مجتمعاتنا الشرقية ونظراً لتشوه تطورها التاريخي حيث هيمن نمط الإنتاج الآسيوي في أجزاء كبيرة منها من جانب، وتداخلت الأنماط الحديثة مع الأنماط التقليدية من جانب ثاني، ولقد ساهمت الهزائم العسكرية والسياسية العربية في بروز حركات سياسية وعقائدية ذات أبعاد إسلامية وبالأخص بعد الثورة الإيرانية التي أفرزت حركات سياسية نضالية كفاحية ذات موروث شيعي كبير، وبروز حركات سلفية مدعومة من ثروة النفط أفرزت تلك الحركات الإسلامية المتطرفة، كل ذلك كان لها أبلغ الأثر في إضعاف التجانس والتعاضد الطبقي كأحد مقومات المدنية الحديثة، لذلك تمكنت الطائفية بحكم تأثيراتها القديمة وعمقها التاريخي أن تكون أقوى من الانتماء الطبقي، لدرجة أن العامل المسحوق طبقياً مستعد أن يقف مدافعا عن صاحب عمل أو برجوازي كبير ضد عامل مسحوق من طبقته بمجرد أن هذا البرجوازي ينتمي لطائفته أو يقف الكادح الفقير مع سلطة رجعية ويدافع عنها ضد الكادحين المسيسين بمجرد أن هذه السلطة تنتمي طائفيا لنفس طائفة هذا الكادح!!
ودون الدخول في تعقيدات هذه الحالة ، أرى بأن أحدى الوسائل الناجحة في تقوية الحركة النقابية العمالية في ظل هكذا واقع، هي التصالح الحقيقي والصادق بين الحركة السياسية الإسلامية والحركة السياسية الديمقراطية بما فيها اليسارية التي كانت ذات تأثيرات قوية على الطبقة العاملة في المراحل السابقة من تاريخ هذا الوطن، وأهم آليات هذا التصالح الضروري هو أن تقتنع الحركة السياسية الديمقراطية واليسارية بأن حركة الإسلام السياسي ليست ظلامية ومتخلفة وأن يتم احترام القناعات الإسلامية لدى العمال المؤمنين والمنضوين تحت هذه الحركات السياسية الإسلامية وكذا الحال بالنسبة للحركة السياسية الإسلامية التي عليها أن تصل إلى قناعة باحترام آراء وعقائد العمال المنضوين تحت مظلة الحركات السياسية الديمقراطية، وأن تخلق قناعة في صفوف الحركة العمالية بضرورة إبعاد السياسي والعقائدي من المقاييس الانتخابية للنقابات والتركيز على القيادات العمالية المناضلة والمؤمنة والواعية والمتمكنة في الدفاع عن حقوق العمال بعيداً عن انتماءاتها السياسية أو الفكرية أو الطائفية، وان لا يعتقد تيار سياسي بأنه هو وحده طليعة الطبقة العاملة. ورغم أن هذا الطرح الذي قد يستفز البعض من الشيوعيين ويبتعد قليلا عن التحليل الطبقي حسب المفهوم الماركسي إلا انه في اعتقادي يعكس الواقع العربي الإسلامي بمكوناته وحتى بمفاهيمه المختلفة عن المفاهيم السائدة في الفكر الماركسي كمفهوم اليسار واليمين على سبيل المثال لا الحصر
أن النقابات والعمل المهني والعمل في أطار مؤسسات مدنية ومدينية حديثة كالأحزاب والجمعيات المهنية والأهلية، هي من أفضل الوسائل لإضعاف الانتماءات ما قبل المدينية كالطائفية والقبلية والعشائرية حيث تتوحد الطبقة أو أصحاب المهنة أو التخصص لتطوير واقعها ومهنتها، وبالتالي يتم التوافق والتصالح بل والذوبان في طبقة عاملة لا تفرق بين العامل ذو الأصل الشيعي أو السني أو الهندي عن الفارسي عن العربي أو الأسود عن الأبيض أو عن المتدين أو اليساري أو القومي، الأمر الذي تخلق حركة عمالية قوية وقادرة على مواجهة استحقاقات المرحلة الدولية القادمة، ودون ذلك فأن الأنظمة الحاكمة والشركات العملاقة سوف تستغل حالة التشرذم والتفتت وهيمنة الطائفية على الطبقة العمالية لتمرير مشاريعها واستراتيجيتها الاقتصادية.
أمين السر العام لجمعية العمل الوطني الديمقراطي في البحرين عبدالله جناحي
#عبدالله_جناحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنظمات غير الحكومية ودورها المطلوب في وكالات الأمم المتحدة
...
-
الشباب والكوكبة
-
إصلاح سوق العمل والاصلاح الشامل: المتطلبات والضرورات
-
تحرير سوق العمل والضرورات المفقودة: خطاب إلى ولي العهد
-
ما أشبه الليلة بالبارحة
-
النقابات العمالية ودورها في اتفاقية التجارة الحرة: بين البحر
...
-
فقدان ثقافة التفاوض بين الحكم والمعارضة
-
الشقيقة الكبرى - السعودية - ومعوقات الاصلاح السياسي
المزيد.....
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
الكونفدرالية الديموقراطية للشغل بين المحافظة على التقدمية وا
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|