|
حبكة الصراخ بلغة الكف في شاعرية الزعري
محمد هالي
الحوار المتمدن-العدد: 4126 - 2013 / 6 / 17 - 23:55
المحور:
الادب والفن
إن قراءة القصيدة في مقاطعها الأربع، يتبين أن حفيظة التطور في شاعرية أمينة الزعري أصبحت تنبش فيما هو عصي عن النبش، و هي تنتقل بهذا النبش من شعر الحب إلى شعر النقد، و ذلك بتوظيف لغة صورية عالية الدقة في هذا المجال، و ليس من السهل أن يكون النقد عبر الشعر، لأن نقد الأدب بتضمينه تعابير جمالية و ذلك باستلهامه أدوات الفن التعبيرية الراقية، يجعل من الحدث النقدي، يعبر بالملموس عن ما هو مرفوض وجدانيا، لهذا فكتابة الأديب تختلف عن كتابة الصحافي، نظرا لما يتميز به الإبداع الأدبي من خصوصية مادام أنه يتمتع بمعرفة الخلود، خصوصا إذا كانت الكلمات المدغدغة تصب في تحريك ما هو غير قابل للنبش، باعتباره ذاكرة جمعية ترسخت عبر سيرورة تاريخية طويلة، و هذا ما سنلاحظه في تداعيات قصيدة أمينة الزعري. يمكن تقسيم القصيدة إلى أربع مقاطع أساسية، لأن لكل مقطع منطقه، و رؤيته النقدية لما هو حادث، رغم وحدة الموضوع في كليته،فبداية كل مقطع ينطلق من لازمة كفاني، و هو بلغة القلب الهوسرلي لديكارت، فالأنا هنا يقصد بها الجمع الرفضي لما هو سائد في عالمنا العربي، إنه رفض لما هو متداول نتيجة انغراسه في اللاوعي الجمعي بصيغة الإيمان الرافض للعقل، أو بلغة كانط بتصور العقل العملي الأخلاقي لا بلغة العقل النظري، و السؤال هنا الخفي لماذا تحجب الصلاة الأحلام ؟ هل الحلم يتعارض مع الصلاة؟ أو أن الصلاة مظلة للحلم؟ "كفاني.. صلاة تُحجب الأحلام" لعل أمينة الزعري هنا تريد القول أن الطقوس المترتبة عن العقل العملي الأخلاقي الغير المرتبط بالعقل النظري أي المتعلق بالايمان يقتل إبداعات العقل النظري أي يقتل العلم و المعرفة المترتبة عن الارتباط بالايمان المطلق، و التسليم بالطقوس دون الانغراس في الحلم الذي يترتب عنه السؤال من أجل التجديد و القلب، لهذا فمظلة الصلاة يترتب عنها عواقب تجمد الإبداع و الكشف عن الحقائق، فعن هذا الايمان تتشيد كل الطقوس الأخرى، و حسب الشاعرة، نظرية الوجود البشري،(نظرية الخلق) و التي وصفتها بخرافة آدم،" إيمانا بخرافة آدم" و من خلال هذا التداعي الإيماني يقبر الغناء، لتصبح الذات الانسانية تتغدى بغذاء الخرافة على المستوى الروحي، و يغيب غذاء المغنى الفني المشاعري التي تتذوقه الذات روحيا، " معبدا لا تعلو فيه رنة عود مئذنة لا تنادي باعتناق أغنية " ليبقى الاحادي(الصلاة) الذي يحجب الأحلام(الابداع) هو الموجه و المصدر لكل تجديد، و هنا قد يكون الحلم هو كل ما تذوقه الذات البشرية خارج طقوس الصلاة، و يترتب عن هذا تقبل الخرافة كذوق لكل ما هو خارق، ليحطم سمو الإبداع الفني، لنتمعن في هذا المقطع جيدا و سنلاحظ هذا التدافع في القبول و الرفض بين الصور الشعرية المترابطة اذ قبول المقدمة يترتب عنه قبول النتيجة: "كفاني.. صلاة تُحجب الأحلام إيمانا بخرافة آدم معبدا لا تعلو فيه رنة عود مئذنة لا تنادي باعتناق أغنية" ان هذه القراءة الكلية لمقطع القصيدة، يظهر النقدي الديني الذي يمنع الفني من خلال ثنائية متناقضة إما "اعتناق الصلاة" أو "أعتناق اغنية"، و مادام المنحى الأول يرفض المنحى الثاني فإن المعادلة تصبح اعتناق الأغنية مرفوض، و هنا يطرح السؤال من جديد هل من الأجدى بنا أن نقبل ما يترتب عن الصلاة التي يقتصر الإيمان بهذا السمو دون ان نؤمن بأغنية تدغدغ المشاعر و الروح؟، هل روح الطقوس الدينية هي بالفعل تقبر روح الجمال الفني كالموسيقى ، اي "اعتناق اغنية"؟ أسئلة تجيب عنها الزعري من خلال لازمة"كفاني"، لتؤكد بوضوح أن ما يترتب عن الصلاة من نتائج لا تترك المجال للموسيقى لأنها حسب رأيها: " معبدا لا تعلو فيه رنة عود مئذنة لا تنادي باعتناق أغنية" إن هذا الوضوح في الرفض هو ثورة على السائد، و قلب لطبيعة الإيمان و الإعتناق، إنه خلخلة لذهن، يقتصر على طقوس معينة، و يهمل طقوس أخرى، أي طقوس المغنى، و "اعتناق أغنية". من هذا التمرد الواضح، تتجه امينة الزعري إلى الأصل الذي تنبع منه الخرافة، أي الجزيرة العربية منبع التدين و الطقوس السابقة (باعتبار أن كل الأديان السماوية نبعت من هناك) التي اقتصرت على ما ترتب عن خرافة آدم ، انها الصحراء التي تغيرت، ففقدت رونقها الطبيعي الجمالي "موسيقى الحوافر"، اذ تحول الصوت الطبيعي(الرمال) الى صوت الثقافة (أرصفة شوارع المدن)، لهذا فتذبذبات الصوت تبدل، لأن هذه الصحراء التي كانت تعتبر منبع الطقوس، لم تعد صحراء توحي بذلك، و رغم ذلك فهي ظلت شحيحة الانتاج و الوفرة، لكنها أصبحت تكتسي جمالا من خلال الحرث الجديد الذي يمارسه الجرار، و الرافعة، و الشاحنة، عندما تحولت إلى شوارع ضخمة، بفضل حرث "الحذاء العملاق" الذي اخترق الصحراء، و استخرج النفط، الذي ترتب عنه مشارع صناعية، و تجارية، حولت موسيقى حوافر الخيول إلى رنات موسيقية أخرى، و هي رنات التسكع في الشوارع، و هنا تظهر الدلالة من خلال الصور الذي يحمله الذهن لمشية الخيول في الصحراء الطبيعية، و مشيتها في شوارع المدن التي أصبحت مرتبطة بالغاية، و المصلحة، إما لنقل بضاعة من مكان لآخر، و إما انتظار الزبائن لقضاء مأرب معين، لهذا فقدت الطقوس رونقها الأصلي، لكنها حافظت على ثقافة الخرافة التي ظلت تنظم العلائق القيمية داخل الشوارع الجديدة، التي غطت رمال الصحراء، من هنا جاء صراخ أمينة الزعري معلنا الكف: " كفاني.. صحراء فقدت موسيقى الحوافر خيولا تتسكع في المدن سماء قاحلة لا توزع الرغيف أرضا يحرثها صاحب الحذاء العملاق" إن خاصية الرفض للأصل هنا بلغة الكف، تدخل القصيدة في مواجهة صريحة من أجل تذويب منبع الشر، منبع الخرافة، و الدعوة إلى أصل آخر، صوت جمال حوافر الخيول، الذي تحول الى صوت حوافر ثقيلة: عجلات الشاحنات، و الرافعات، إن هذا المغنى المعبود الجديد "اعتناق أغنية" هو الذي يحفز على رفض كل ما يصدر عن الحذاء العملاق"، فالصحراء لم توفر رغيفا لقاطنيها، فهي كالسماء التي لا تمطر كثيرا، لكن "الحذاء العملاق" ينبش في الأرض ليحول باطنها ثروة نفطية لا تقدر بثمن. إن ثورية القصيدة في تسلسلها الصوري، و الفني يضفي عليها جمالا من نوع آخر، و هو ما يتجلى في هذه الدعوة عن الكف من الحروب، و التوغلات الامبريالية في منطقة الطقوس، نتيجة ما تزخر به المنطقة من موارد طبيعية تغري كل المتدخلين لينهبوا خيرات الصحراء المغرية، انه صراخ إذن بلغة الرفض بصيغة الكف: " كفاني.. سيفا وبندقية مقبرة تحصد الأبرياء" و لعل ما يقع في المنطقة من صراعات، و حروب التي لا تنتهي لحدود الآن، يبين أن الصراخ له دلالة خاصة، من أجل خلق عالم جديد، ينعم بالسلام الحقيقي، خدمة لشعوب المنطقة، و هذا لن يتأتى إلا بالقضاء على كل ناهب لهذه الثروة، و أقصد بالخصوص الدول الامبريالية، و الطبقات العميلة لها، و تحويل هذا الثرات الذي خلفه تاريخ المنطقة من مجال لتدجين الوعي العربي، إلى مجال للتحرر و الانعتاق، و ذلك بالاستفادة من ما هو إيجابي فيه و محو ما هو سلبي.. من هنا يظهر الختام بالعودة الى الذات، التي تتمرد ليلا عن ما هو سائد، لتنبطح لهموم النهار، إنه نقد ظلامي للظلام، او للفكر الظلامي، الذي يفتح لنفسه كافة المجلات ليحرم و يحلل حسب المصالح و الغايات: " كفاني.. ثقل ليلي الذي يأخذني لحدود النهار ويهشمني" و بهذه العودة تكون أمينة الزعري قد فجرت ذلك الثقل الخرافي الذي ترسخ في ذهنها زمنا طويلا من الداخل، كما بهذه العودة الى النهار، تعود الى الحب من جديد لتعانق هموم النهار و ما يتميز به من كد، و عمل، ومتابرة، من أجل سد رمق الحياة، لتجدد آلية النقد من جديد ليلا، و بهذا تكون القصيدة ككل، بناء نقديا جديدا، يبين بالملموس دخول أمينة الزعري في صراع و مواجهة ضد قوى بدأت ترسخ جذورها داخل المجتمع العربي ، من خلال الركوب على الثورات العربية، و تحويل التقدم الحضاري الحالي إلى عصور تقبر الفن، و الإبداع، و المغنى، هل هذا النقد الجديد سينقل شاعرتنا من رطوبة الحب و العواطف، إلى قساوة السياسة، و صلابة المبدأ و السير في طريق المواجهة؟ ! سؤال سيظل مطروحا ينتظر جواب قصائد الزعري في المستقبل.
#محمد_هالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محنة السؤال بين الفهم و الجنون
-
نصائح مغفل لمغفل حتى تنتهي الغفلة بتاتا
-
عالمكم و عالمنا ؟ !
-
حمان و المسألة التعليمية
-
الدولة و الثورة من وجهة نظر عربية (2)
-
بوح امرأة (7)
-
الدولة و الثورة من وجهة نظر عربية
-
بوح امرأة (6)
-
بوح امرأة (5)
-
بوح امرأة (4)
-
عمق الإبهامات لكي لا تكون ألغازا
-
إبهامات لفقرات متقطعة (10)
-
بوح امرأة (3)
-
ابهامات لفقرات متقطعة (9)
-
بوح امرأة (2)
-
إبهامات لفقرات متقطعة (8)
-
بوح امرأة (1)
-
إبهامات لفقرات متقطعة (7)
-
إبهامات لفقرات متقطعة (6)
-
إبهامات لفقرات متقطعة (5)
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|