|
«التنزيهية» كخلاصة للاهوت التنزيه وشرحها 4/4
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن-العدد: 4126 - 2013 / 6 / 17 - 10:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أين تلتقي (التنزيهية) مع القرآن وأين تفترق عنه قد يقول قائل إن مضامين (التنزيهية) تجدها متناثرة في القرآن، وليس فيها من جديد، ويقول آخر إنها تتضمن كفرا بثوابت الدين. وكلاهما محقان بنسبة ما. فبكل تأكيد هناك ما تلتقي فيه (التنزيهية) مع مقولات قرآنية، ولكن فيها ما ينقض مقولات أخرى، كما إن هناك ما لا يتقاطع مع القرآن من حيث المبدأ، لكنه مما لم يرد في القرآن، وقسم رابع يذهب إلى معنى غير المعنى الوارد في القرآن بصدد تلك العبارة. فعلاقة (التنزيهية) مع القرآن إذن ليست علاقة تعارض وتقاطع على طول الخط، ولا علاقة اتفاق وانسجام وتطابق في كل مفرداتها. لذا أردت أن أمر مرة ثانية على فقرات (التنزيهية)، لنرى أين نقاط الالتقاء، وأين نقاط الافتراق. 1. هُوَ اللهُ، إله الكَونِ، مُبدِعُ الوُجودِ، خالِقُ كُلِّ شيءٍ، مُتقِنُ الخلقِ، رَبُّ العالَمين. كائِنٌ وُّجوباً مُّنذُ الأَزَلِ، سَواءٌ آمَنَ بِهِ المُؤمِنونَ، أَو لَم يُؤمِن بِهِ غَيرُ المُؤمِنينَ. واحِدٌ غَيرُ مُتَعَدِّدٍ، مُّتَوَحِّدٌ غَيرُ مُتَجَزِّئٍ، سَواءٌ وَّحَّدَهُ المُوَحِّدونَ، أَو لَم يُوَحِّدهُ آخَرونَ. مُتحَمِّدٌ بِالذاتِ غَنِيٌّ عَن حَمدِ الحامِدين، لا يَبلُغُ غايةَ حَمدِهِ أَحَدٌ مِّنَ العالَمينَ. لا فرق لحد هنا من حيث المبدأ بين لاهوت التنزيه ولاهوت القرآن. 2. مُتعالٍ عَن وَّصفِ المُتَكلِّفينَ، مُتَسامٍ عَن وَّهمِ الواهِمينَ، مُتنَزِّهٌ عَن جُلِّ ما نَسَبَ إِلَيهِ كُلُّ دينٍ. من حيث المعنى العام قد لا نجد اختلافا بيّنا بين اللاهوتَين في الجملتين الأولى والثانية، بينما يبدأ الافتراق بينهما بشكل واضح في الثالثة، لأن التنزيهية تنزه الله عن جُلِّ ما نسبت إليه كل الأديان بلا استثناء، بما يعني أن هذا يشمل بما في ذلك لاهوت القرآن. وبهذا قد يبدأ الافتراق بينهما في الجملة الثانية، إذ تُقرّر تسامِيَه جلَّ وعلا عن وهم الواهمين، الذي يشمل ما توهمته الأديان في كثير مما عرضت فيه فهمها لله تألقت آيات جماله. 3. لا يُثيبُ لِمُجَرَّدِ إيمانِهِ أَحَداً مِنَ المُؤمِنينَ، هنا نستطيع أن نقول أن ثمة التقاءً يحصل مرة أخرى بين اللاهوتَين، لكون القرآن يجعل الثواب على الإيمان كذلك مشروطا باقترانه بالعمل الصالح، وإن كان الكثير من المفسرين، ولعله معتمدين في ذلك على أحاديث نبوية أو روايات إمامية، قالوا بعدم خلود المسلم في النار، مما يعني أن الإيمان وحده يشكل معيارا أساسيا للثواب. 4. وَلا يُعَذِّبُ لِكُفرِهِ أَحَداً مِنَ الكافِرينَ، هنا يفترق لاهوت التنزيه عن لاهوت القرآن، وعموم اللاهوت الديني، لأن الثاني يتوعد الكافرين بالعذاب في نار جهنم خالدين فيها، لمجرد كفرهم، وبحسب المعايير للكفر والإيمان، بينما لا يكون الكفر سببا لعقاب الله حسب لاهوت التنزيه، كون عدم الإيمان بحقيقة ما لا تستحق العقاب، لأن عدم القدرة على الاقتناع بشيء والتصديق به أمر غير اختياري، والعقاب على ما هو غير اختياري مناف للعدل الإلهي، وبالتالي تكون الرؤية المعتمدة من لاهوت التنزيه أكثر انسجاما مع حقيقة العدل الإلهي المطلق، التي هي من الضرورات العقلية. وهنا يجدر الإشارة أني تناولت مفهوم (الكفر) بمعنى عدم الإيمان، أي عدم الاقتناع، وليس بالمعنى المؤوَّل اعتمادا على المعنى اللغوي الحرفي، أي الإنكار بالرغم من الاقتناع، أو إخفاء الحقيقة، فهذا حسابه مختلف بكل تأكيد. 5. إِنَّما بِإِحسانِهِ يُثيبُ المُحسِنينَ، آمَنوا بِهِ أَو لَم يَكونوا يُؤمِنونَ، على وفق فلسفة العدل الإلهي المطلق لا يكون إذن الثواب إلا بمقدار تأنسن الإنسان وإحسانه وصلاحه واستقامته، وذالك بقطع النظر عن عقيدته. 6. وَبعدلِهِ يَجزِي المُسيئينَ، كَفَروا بِهِ أَو كانوا مِنَ المُؤمِنينَ. ونفس الشيء ينطبق على ما هو في قبال الثواب، وسمته التنزيهية بالجزاء، ولم تستخدم العقاب، ناهيك عن استخدامها للعذاب، فهناك جزاء للمسيئين بقدر إساءتهم، ولا علاقة له بالإيمان والكفر، بل قد يكون الإيمان حجة إضافية على المؤمن المسيء، أكثر مما تكون على الكافر المسيء من حجة. 7. وَمَنِ استَحَقَّ تَعويضاً عَمّا أَصابَهُ أَو عَمّا فاتَهُ، فَلَن يَّجِدَ مِثلَهُ مِن مُّعَوِّضٍ؛ إِنَّهُ أَجزَلُ المُعَوِّضينَ. من حيث المبدأ لا فرق بين اللاهوتين هنا بمقدار منطوق هذه العبارة، ولكن مع هذا يفترق لاهوت التنزيه عن لاهوت القرآن، كون الثاني يجعل الإيمان أيضا شرطا للتعويض، فغير المؤمن لا يعوض عما أصابه، بل هو عقاب دنيوي متقدم، قد يكون في أحسن الأحوال سببا لتخفيف العقاب الأخروي، لا لنفيه. 8. وَوِفقاً لجرمِ كُلٍّ يُّعاقِبُ المُجرِمينَ، وَكَذلِكَ يَفعَلُ وِفقاً لِظُلمِ كُلٍّ بِعُمومِ الظّالِمينَ، كذلك هنا لا فرق بين اللاهوتَين في حدود منطوق العبارة، إلا إذا علمنا أن لاهوت القرآن يجعل الكفر سببا لتشديد العذاب وخلوده، والإيمان سببا لتخفيفه ووضع حد زمـني له، بنفي الأبدية عنه لشفاعة الإيمان للمجرم المؤمن. 9. وَهُوَ في ذا وَذا أَعدَلُ العادِلينَ وَأَرحَمُ الرّاحِمينَ، هنا لا نستطيع أن نقول أن ثمة افتراقا بَيِّنا بين اللاهوتَين، إلا بمقدار ما ورد في شرح التنزيهية، ربما كَفَهمٍ للاهوتيّي الإسلام أكثر مما هو فهمٌ للقرآن نفسه بشكل واضح، ولكن إذا ما انتقلنا من العناوين الكبيرة والمبادئ والمنطلقات إلى التفاصيل، فسنجد في اللاهوت الديني الكثير مما يتعارض مع العدل والرحمة الإلهيين. 10. تَعالى عَمّا تَقَوَّلَ عَلَيهِ المُتَقَوِّلونَ، وَتَنَزَّهَ عَمّا تَوَهَّمَ مَعرِفَتَهُ الواهِمونَ، لا تستبعد التزيهية في الكلام عن تقوُّل المتقوّلين وتوهُّم الواهمين أياً من الأديان. 11. إِنَّمَا العَقلُ رَسولُهُ، وَالضَّميرُ رَقيبُهُ، وَلا يُكَلِّفُ أَحَداً فَوقَ وُسعِهِ، وَهُوَ أَرحَمُ بِخَلقِهِ مِمّا يَظُنُّ الظّانّونَ، هنا توضح التزيهية بشكل لا لبس فيه افتراق لاهوتها عن لاهوت الأديان عموما، بنفي وجود رسول إلى الإنسان باستثناء عقله وضميره، ثم إن نفي تحميل الله الناس فوق طاقتهم، صحيح هو مما يتفق لاهوت القرآن معه من حيث المبدأ بنص «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلّا وُسعَها»، إلا أننا نرى أحكام الدين مرهقة ومُكلِفة على جميع الأصعدة. فلم يلتزم الإسلام في أحكامه وتشريعاته بقول القرآن واصفا نبيه أنه: «يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم والأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم»، بل أحلَّ ما لا تجوز حليته، وحرَّم ما هو ليس بخبيث أو مُضِرّ، وزاد في تشديد الأحكام من الإصر والأغلال على المتدينين. 12. وَما رَحمَتُهُ إِلاّ مِن عَدلِهِ، فَهُوَ أَرحَمُ العادِلينَ وَأَعدَلُ الرّاحِمينَ، وَهُوَ أَعدَلُ مِمّا يَتَوَهَّم جُلُّ أَهلِ الدّينِ، وَأَرحَمُ وَأَحكَمُ، وَأَجَلُّ وَأَجمَلُ وأَنزَهُ مِمّا يَظُنونَ. تَعالَى اللهُ فَوقَ وَصفِ الواصِفينَ، وَتَحَمَّدَّ فَوقَ حَمدِ الحامِدينَ، وَتَنَزَّهَ اللهُ رَبّي فَوقَ كُلِّ تَنزيهي، وَفَوقَ كُلِّ تَنزيهِ المُنَزِّهينَ أَجمَعينَ. واضح هنا أين التقاء اللاهوتَين وأين افتراقهما. 13. هذا مِقدارُ عِلمي وَمَبلَغُ فَهمي وَأَشهَدُ أَنّي لَمِنَ القاصِرينَ، فرق أساسي بين لاهوت القرآن ولاهوت التنزيه، هو أن الأخير لا يدعي استمداد معارفه من الله، وبالتالي كونها حقائق مطلقة نهائية، بل يؤكد دائما على بشرية ما آل إليه هذا اللاهوت، ويُقِرّ بقصور العقل البشري عن بلوغ منتهى الحقيقة وغايتها النهائية. 14. وَأُشهِدُ اللهَ أَنّي لَمِنَ الصّادِقينَ، فالمعَّول في الإيمان في لاهوت التنزيه الصدق وليس إصابة الصواب المطلق. 15. فَإِنَّني بِهِ لَمِنَ المُوقِنينَ، وَلَهُ لَمِنَ المُنَزِّهينَ، وَإِيّاهُ عـلى بُلوغِ ما هُوَ أَهدى وَأَقوَمُ أَستَعينُ، ولاهوت التنزيه لا يدعي كما لاهوت القرآن وجود ذالك «الصِّراطَ المُستَقيمَ» الواحد الأوحد الذي يدعو المؤمن بدين القرآن هداية الله إياه إليه، بل يعتمد النسبية حتى في فيما هي الهداية والاستقامة، إذ يدعو التنزيهي ربه أن يأخذ بيده خطوة خطوة وبشكل دائم ومطّرد نحو ما هو «أَهدى وَأَقوَمُ»، دون دعوى وجود (ألـ)أهدى المطلق و(ألـ)أقوم المطلق. 16. وَبِنَيلِ أَقصى رِضاهُ وَقُربِهِ وَحُبِّهِ أَنَا مِنَ الطّامِعينَ؛ إِنّهُ رَبِّيَ اللهُ الذّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الإِنسانِ رَبُّ الكَونِ وَالكائِناتِ أَجمَعينَ. لا فرق هنا بين اللاهوتين من حيث المبدأ الإجمالي، ومن حيث المفاهيم، ولكن ربما تكون هناك فوارق من حيث التطبيقات والتفاصيل والمصاديق. أقول قولي هذا وأسأل الله أن يثيب الإنسانيين على إنسانيتهم بمقدار ما تأنسنوا، من الدينيين والإلهيين اللادينيين، والملحدين، واللاأدريين، وأن يصلح أحوال المجتمع الإنساني نحو مزيد من سمو الأخلاق، والألق الإنساني، والرشد العقلي، والعدل، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والسلام، والتسامح، والمحبة. كتبت ما بين 2010 و2012 وروجعت آخر مرة في 19/05/2013
#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«التنزيهية» كخلاصة للاهوت التنزيه وشرحها 3/4
-
«التنزيهية» كخلاصة للاهوت التنزيه وشرحها 2/4
-
«التنزيهية» كخلاصة ل(لاهوت التنزيه) وشرحها 1/4
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 11
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 10
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 9
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 8
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 7
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 6
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 5
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 4
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 3
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 2
-
مناقشتي لمناظرة بين ربوبي ومسلم 1
-
رسالة من الله إلى الإنسان
-
دويلات شيعية وسنية وكردية ومناطق متقاتل عليها
-
الفرائق الخمسة من اللاشيعة واللاسنة
-
الموقف من الأقسام الستة لكل من التشيع والتسنن
-
الطائفيون واللاطائفيون واللامنتمون لطائفة 2/2
-
الطائفيون واللاطائفيون واللامنتمون لطائفة 1/2
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|