سامي العباس
الحوار المتمدن-العدد: 1183 - 2005 / 4 / 30 - 11:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في آية (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم)
سنحاول مقاربة هذه الآية من زاوية تحديدها للإطار العام لممارسة السياسة داخل الجماعة الإسلامية الوليدة
و الآية من حيث المبدأ نص سياسي محض, قد لا نرى في بقية القرآن آيةً تضاهيه من هذه الزاوية, رغم العبق المشترك الذي يميز الكلام المتعالي ( بلغة أركون ) وهو عبق تصنعه ظاهرة الوحي, يشمه المؤمن بواسطة ذائقة أعيد تشكيلها بالتدريج. إنه النص , ينحت مذاقه في مجرى جدلية ( النص متلقيه ) ببطء ولكن بحزم كما يفعل الموج باليابسة .
الآية محشوة حتى الاكتناز بالمفاهيم . ففي عبارة مؤلفة من ستة مفردات مع واو مكررة ثلاثاً,يوجد أربعة مفاهيم هي على التولي:
أولاً – الطاعة: وهي علاقة بين جمهور المؤمنين داخل الجماعة الإسلامية من جهة, و الله أولاً و الرسول ثانياً, و أولي الأمر ثالثاً من جهةٍ ثانية.
وهي علاقة غير ندية أولاً, فهي بين مستويين أعلى و أدنى. و هي ثانياً علاقة باتجاه واحد, أي أنها تفرض التزامات محددة على جهة دون الأخرى.
ثانياً – الله: وهو الحاكم المطلق يأتي في مقدمة الثلاثة, إلا أنه في الممارسة يتنحى جانباً لصالح الأخيرين ( الرسول – أولي الأمر ) مانحاً بتفاوت مساحة من الصلاحيات التي يفرضها مفهوم الطاعة .
ثالثاً – الرسول: وهو بشري يحكم بإطلاق مسلحاً بمفهوم العصمة المضمرة في السياق العام لظاهرة الوحي.
رابعاً – أولي الأمر منكم : وهي النخبة الضيقة التي تحتكر ممارسة السياسة في إطار الجماعة الإسلامية .
و لاحقاً سنرى أن هذه الدائرة التي تؤطر ممارسة السياسة في الجماعة الإسلامية , تنطبق حوافها على دائرة ممارسة السياسة داخل القبيلة ( الصيغة الأقدم من الجماعة الإسلامية ) و التي حاكت جدليتهما ( الإسلام القبيلة ) السيرورة التاريخية لكل المجتمعات التي تأثرت بالظاهرة الإسلامية .
ملاحظات:
أولاً – إن الله و الرسول يشتركان في نقطتين ( الفردية – العصمة ) ويتفارقان فيما عداهما ( خالق مخلوق... إلخ )
ثانياً – إن الرسول و أولي الأمر يشتركان في الصفة ( مخلوق ) و يفترقان في العدد ( مفرد جمع ) و يتفاوتان في الصلاحيات ( عصمة اجتهاد برأي ) ( 1)
ثالثاً – إن الأرثوذكسية الإسلامية قد جرى تحديدها بنقطتين هي على التوالي: الله, الرسول. و لاحقاً ستتفرّع الأرثوذكسيات الإسلامية . فعبر التلاعب تحت ضغط الإختلاف بالنصين الممثلين لله و الرسول و هما على التوالي ( القرآن , السنة النبوية ) جرى زحزحة كل منهما لتوليد خط مستقيم جديد ( أرثوذكسية جديدة )
كان كل اختلاف يلقى نجاحاً سسيولوجياً يوّلد في التاريخ أرثوذكسية جديدة . إلا محددات ستتبلور بالتدريج و تشتغل كمعوقات في وجه توالد المزيد من الأرثوذكسيات , تمثلت في الإنتقال إلى التدوين .
لقد اختتمت معركة تدوين القرآن رسمياً حوالي أوائل القرن الرابع الهجري, بسحب ما سمي( بمصحف فاطمة ) من التداول (2). إلا أن التأويل ظل نافذة مفتوحة على إمكانية زحزحة المعنى المحبوس في الكلام المتعالي إلى هذه المسافة أو تلك التي يسمح بها فقه اللغة العربية من جهة , و الإنزياحات في مدلول الكلمات عبر التاريخ التي تخضع لها اللغة في الاستعمال .
أما فيما يخص النقطة التي تمثل الرسول , و إمكانية زحزحتها فقد خضعت لنفس المؤثرات المعيقة , بتحول الشفهي إلى كتابي حوالي نهاية القرن الرابع الهجري ( 3)
تشكل هذه المرحلة الطويلة نسبياً ( حوالي أربعة قرون ) مرحلة الخصب في الحياة العقلية للجماعة الإسلامية
لقد جرى توسيع الفضاء الثقافي(للإسلام في الاستعمال)إلى أقصى الحدود التي تسمح بها تخوم فلسفة الوحي.
لقد قاد المعتزلة عملية توسيع تخوم المفكر فيه إلى الحافة التي يهدد اجتيازها بانفلاش الفضاء الثقافي المبني على فلسفة الوحي . ولعل كل ذلك قد جرى في إطار الجدلية الأوسع نطاقاً التي تتحكم بسيرورة التحول الإجتماعي الإقتصادي داخل التشكيلة الخراجية .
إن اتساع استعمال النقد في المبادلات المادية , و التجارة البعيدة المدى قد سمحت بدخول المنطقة في مرحلة التراكم البدئي الرأسمالي . إلا أن هذا ليس موضوع حديثنا. نعود إلى الآية نقطة انطلاق هذا الحديث لنلاحظ أن مفهوم ( أولي الأمر منكم ) الذي احتل المركز الثالث , و الذي له على المؤمنين حق الطاعة , لم يصمد في الاستعمال أكثر من البرهة التي اصطلح على تسميتها بالمرحلة الراشدية . و هي هامش قصير لا يتعدى الثلاثة عقود, تفصل بين انزلاق مفهوم الطاعة من المركز الثاني ( الرسل ) إلى المركز الثالث ( أولي الأمر ) , قبل أن يعود إلى المركز الثاني : المخلوق الفرد المتمتع بصلاحيات استثنائية من المركز الأول ( الله ) : الخالق الفرد المطلق .
إلى أن العودة لم تتم بدون مساومة توصل إليها مؤسس السلالة الأموية التي حكمت لقرنٍ من السنين تقريباً ( معاوية ) مع التوازنات الجديدة التي تمخضت عنها الظاهرة الدينية , أعني ( جماعة القراء ) وهم نوع من أكليروس المرحلة الشرعية , الذين تولوا حفظ النص المقدس , و مثلوا النواة لجماعة الفقهاء اللاحقة في إطار التحول إلى الكتابة , سواءً على صعيد تدوين النصوص المقدسة أو على صعيد الأرشفة بشكل عام , أعني انتصار العقل الكتابي .
إن الدولة بحاجاتها المتنوعة و الجديدة على المجتمعات الموصوفة بالجاهلية قد وّلدت سياقاً جاذباً للنخب التي ارتضت الانخراط بالإستراتيجيات المنبثقة عن السلطة الأموية و لاحقاً العباسية . ولقد تدرجت أشكال الممانعة التي أبداها جمهور القراء. لجهة النموذج السياسي المرتجى للدولة الإسلامية . ولاحقاً شكلت هذه التيارات السياسية التيارات المذهبية الكبرى ( السنّية , الشيعية , الخارجية ) . وهكذا شكلت هذه الآية المعين اللاهوتي – السياسي للتيارات العقائدية الرئيسية الثلاث.
أولاً – لقد حاول الخوارج , و هم جمهور القراء في جيش الخليفة الرابع على بن أبي طالب , توسيع مفهوم (أولي الأمر ) الذي حصرته الممارسة في المرحلة الراشدية داخل الدائرة القرشية , ليطال لاحقاً في إطار المماحكة الفقهية – السياسية مع كل من السنّة و الشيعة , كل عربي مسلم كفؤ .
ثانياً – و على الطرف الآخر حيث تحلق تيار من القراء حول الحق المطلق لعلي بن أبي طالب , ولاحقاً ذريته من فاطمة ابنة الرسول محمد في تولي الأمر , تشكل التيار الشيعي العريض بتلاوينه الرئيسية : الزيدية , و الإثني عشرية , و الإسماعيلية .
ثالثاً – بين التطرفيين الشيعي و الخارجي – و في مجرى الصراع السياسي العسكري بين البيتين القرشيين ( الأموي الهاشمي ) الذي اندلع عسكرياً بعد تسلم الخليفة الرابع على بن أبي طالب الخلافة , استطاع مؤسس السلالة الأموية معاوية بن أبي سفيان أن يرسي دعائم صيغة وسطية لتقاسم الفضاء ( السياسي اللاهوتي )
بينه كحاكم سياسي و بين القراء كمتحكمين بالشق اللاهوتي .
بين الصيغة( الخارجية) التي تصطدم بالشروط التقنية و السسيولوجية السائدة آن ذاك , و الصيغة الشيعية التي تشكل انكفاءً إلى الوراء عن صيغة شورى القبيلة التي تشكل تحسيناً لأشكال ممارسة السياسة في إطار البيئة القبلية . كانت الصيغة التوفيقية التي التف حولها أكثر الجمهور ( الباحث عن الأمن ) ووضعها موضع التنفيذ معاوية بن أبي سفيان ... و التي أخذت لاحقاً شكلها المذهبي و اصطلحت على تسمية نفسها بأهل السنة و الجماعة.
*******
يكشف محمد أركون في كتابه ( رهانات المعنى و إرادات الهيمنة ) (4)أن المقابل الإسلامي للمسيح عند النصارى ليس النبي محمد , بل هو القرآن ( كلام الله المجموع في المصحف العثماني ) . بدليل أن المعارك اللاهوتية التي دارت حول إشكالية صفات المسيح , و أدت إلى انشقاق مبكر للكنيسة , لها ما يقابلها على الضفة الإسلامية . إلا أن ميدانها كان صفات القران لا صفات النبي محمد.
يصح هذا الاستنتاج لأركون إذا ضيقنا تخوم الإسلام لتطابق أهل السنة و الجماعة . بمعنى أن المقارنة بين الإشكاليات المنعقدة حول المقدس في كل من الإسلام السني و المسيحية, فإن قطبي المقارنة هما المسيح من جهة و القرآن من جهة ثانية.
تفتح هذه الملامسة من قبل أركون لإحدى المشكلات اللاهوتية داخل التوحيد: الإسلامي المسيحي, الطريق لملامسة أخرى للانشقاق اللاهوتي داخل البيت الإسلامي ( السني – الشيعي ) أقصد الانشقاق حول صفة الإيمان. و بادئ ذي بدء: إن هذه الإشكالية الأخيرة هي أسبق زمنياً من إشكالية خلق القرآن, التي انفجرت في عصر المأمون بين المعتزلة من جهة و بين بقية المذاهب من جهة أخرى ( السنية و الشيعية ) و ليس مع الحنابلة كما قد يتبادر إلى الذهن.
و تلفت النظر وصية منسوبة للإمام على بن أبي طالب صيغت على شكل توجيهات عامة لموفده إلى الخوارج , و هم جمهور القراء في جيشه الذين اشقوا عنه بعد معركة صفين و تكتلوا ضده وواجهوه لاحقاً في معركة النهر وان . التوجيهات كانت لموفده إليهم : عبد الله بن عباس . ملخص هذه التوجيهات هي أن لا يساجلهم في القرآن ( فهو حمال أوجه ) بل يساجلهم بالسنة (5)...
تفتح هذه التوجيهات الطرق لقراءة متنوعة لحضور المقدس وفاعليته في حياة مسلمي تلك المرحلة التدشينية.
فمن جهة هناك اعتراف ضمني بشرعية الإختلاف حول القرآن . ذلك أن توصيفه من قبل علي بن أبي طالب بموقعه في الإسلام ألتدشيني , ( بحمال أوجه ) لا يمكن فهمه إلا كإرهاصات ( معتزلية ) . هذا من جهة و من جهة أخرى تقدم هذه المعلومة حقيقة أسبقية الإختلاف حول القرآن زمنياً على الإختلاف حول السنة النبوية . و هناك من جهة ثالثة محولة لضبط الإختلاف وتضييق مساحته باستخدام الممارسة النبوية لمحمد ( قولا و سلوكاً 0)كإطار ينحبس فيه التنوع الدلالي المذهل للكلام الإلهي .
ثانياً – إن الانشقاق اللاهوتي : السني الشيعي يعبر في أحد مدلولاته عن نكوص نحو التجسيد المسيحي منظوراً لهذا الأمر بمنظار السيرورة العامة للتجريد و تأثيراتها على زاوية التعامل مع المقدس .
إذ يمكن القول أن مفهوم الله قد تابعت سيرورة التجريد عملية تنزيهه في معمعان التجربة الروحية للحوض ( اليهودي المسيحي الإسلامي ) الذي احتضن فكرة التوحيد . و من هذه الزاوية يمكن فهم اصطدام محاولة المعتزلة متابعة عملية تنزيه الذات الإلهية بمصاعب لاهوتية متنوعة المصادر عقائدياً .
و يمكن القول أيضاً أن ثنائية التجسيد التجريد قد ناس بينهما العقل البشري في مغامرته لإنتاج المعنى المستمرة حتى الآن.
كما أن نوسان المقدس بين التجريد و التجسيد على صلة بجدليات نمطي العيش المبكرين للجماعات البشرية : الرعي الزراعة . ورغم أن هذه الصلة لم تتكشف كل نقاط تمفصلها مع نمطي العيش هذين , إلا أن انبثاق الديانات التوحيدية : اليهودية و الإسلامية من جهة و المسيحية من جهة أخرى يفتح الطريق على هذا الاحتمال ( ارتباط التجسيد بالزراعة و التجريد بالرعي ) .
هوامش:
1-أجاب علي بن أبي طالب حين عرضت عليه المبايعة بالخلافة إثناء شورى الستة:
ا-بل على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد رأي – نهج البلاغة-شرح ابن أبي الحديد-ص-162-ج-1
ب= = = = = = ما استطعت –تاريخ اليعقوبي
2-سحب قران فاطمة من التداول أثناء تولي البويهيين الا مر في بغداد في ظروف استثنائية(صراع بين الخلافتين :العباسية السنية/الفاطمية الشيعية في الفاصل البويهي-الشيعي من الخلافة العباسية)
3-تاريخ وفاة البخاري ومسلم, جامعي الحديث المعتمدين من قبل أهل السنة والجماعة:261-256-ه على التوالي..
-تاريخ وفاة الكليني وابن بابويه مرجعي الحديث المعتمدين للشيعة:322-381 –ه على التوالي.
4-الاسلام أوربا الغرب-محمد أركون- دار الساقي.
5-نهج البلاغة –مصدر سابق
سامي العباس
#سامي_العباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟