|
زيارة لسجن طرة
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4124 - 2013 / 6 / 15 - 16:09
المحور:
الادب والفن
فصل من رواية " دولة العقرب "
بعد أن قرأت رسائله حملت بعض الكتب والطعام الذي سهرت تعده وهي ممزقة بين اختيارات عديدة . ماالذي يمكن أن تحمله إليه من ألوان الطعام التي لا يتناولها ؟ وكانت الإجابة : كل ألوان الطعام محروم منها . فلم تستطع أن تختار وكان عليها في الوقت ذاته أن تختار . انطلقت مبكرا في اليوم التالي إلى طرة لتزور ناجي الذي عثرت عليه أخيرا . سلمته كيسا به اللحم وطاجن بامية صغير وحلة بها ملوخية وصينية رقاق باللحم المفروم وحلة بها أرز مفلفل وكيلو طماطم وربع فلفل أخضر وكيلو خيار وموز ومشمش وتين وربع لب أسمر وربع لب أبيض وكيلو فول سوداني وثلاث علب سجائركليوباترة وورق أبيض وعدة أقلام وكتب ، سمح لها مأمور السجن بعد أن سلمته بطاقة كانت قد حصلت عليها من ضابط كبير في مباحث أمن الدولة بعد مكالمة من وزير الثقافة. لم تستطع التعرف عليه من أول لحظة لكنه تعرف عليها بسرعة . كانت كما هي إلا من نقص لا يتجاوز خمسة كيلوجرام في الوزن ، أما هو فقد هبط وزنه إلى النصف ونمت ذقنه وانتشرت وغاصت عيناه بين بحيرتيهما العظميتين . خف شعر مقدمة رأسه . وعندما أمسكت يديه أحست بهما يرتعدان ، وبعدما نظر إليها طويلا وتنفس بعمق وأغمض عينيه لحظات ، قال لها من كل قلبه : - يااااه .. يا ريم .. وحشتيني جدا جدا .. هذه السنة التي فرقت بيننا أطول من عمري كله ..سنة لا أراك ولا أسمع صوتك .. كثير . كثير جدا . سنة واحدة كافية لظهور دول كاملة واندلاع حروب واختفاء بشر وظهور غيرهم وتحولات كثيرة تجعل من غاب عن الدنيا شهرا واحدا لا يكاد يتعرف عليها . سالت دموعها الساخنة في صمت ، ثم انخرطت في بكاء لم تقدر على كبحه ، وما لبث أن تصاعد وعلا النشيخ وانتفض البدن . حاول ناجي أن يمنعها . أن يخفف عنها . انهار السد وأغرق العالم بالدموع والحزن المتراكم . - ما بك . فهميني. ؟ .. انتهت تقريبا فترة التعذيب والإهانة والباقي لم يعد يؤثر . أنت لم تريني من قبل . الآن الوضع مختلف . أنا في أحسن حال . يبدو إنك لم تقرأي رسائلي . ظلت تبكي حتى بدأ المساجين وزوارهم ينظرون إليها في اندهاش ويطلبون إليها الصبروشكر الله والدعاء كي يفك سجنه وتنقشع الغمة . - احمدي ربنا .. المساجين في سجون أخرى لا يستطيعون النوم من التعذيب . الوجبات لا تتوقف ويتبدل عليهم القتلة ربنا يأخذهم . لم تتوقف عن البكاء إلا بعد أن جف النبع وانتهت تماما كل أرصدة الدموع. تمنت أن يستمر بكاؤها إلى أن تعتصر روحها حزنا على ما جرى له ولها من اغتصاب وسحق للشخصية جسدا وقلبا وشرفا . . كيف اغتصبها أبوها وجاء بعد شهرين يبحث عن ولده طالبا أن تبقيه فهو ولده الوحيد . تريد أن تجد الدموع لتبكي رحيل والدتها ورحيل كل الطيبين الأطهار ، حتى لم يبق على المداود إلا شر البقر. تعب ناجي حتى بلغ به الضيق منتهاه وهو يحاول التخفيف عنها إلى أن بدأ يذكرها بجولاتهما ويسألها عن حالة المسرح كما سألها عن حركة 6إبريل وبعض شبابها .. أقبلت تحدثه وخرجت تدريجيا من خيمة أساها المتفحمة . قالت : - إن الحركة زاد أعضاؤها وتواصلت مظاهراتها وتقاربت أيام احتجاجاتها وتسارع غضبها وانضمت جماعات أخرى لها . أصرت على أن يأكل أمامها بعض ما حملته إليه ، فقال لها إنه سيأكل مع زملائه. هكذا اعتادوا، ثم ضحك فابتسمت وسألته عن سر ضحكه .. قال : - - سيقول الزملاء نقتسم الزيارة بالعدل . أنت لك الكتب كلها لا يشاركك فيها أحد ولنا الطعام عاد يضحك ، أما ريم فقد قفز الرعب إلي وجهها وكساه .. لاحظ ناجي ما اعتراها من قلق فقال : - أنا لا تصدقي ..أنا فقط أشاكسك بسرعة هرب الرعب من وجهها وحلت محله ابتسامة لأنه كلامه يدل بشكل أو آخر على نفسية ليست في الحضيض . مضت تسترق النظر إلى المساجين . كانوا في حالة مزرية . يبدو عليهم الجوع والحرمان .. عيونهم زائغة .لا تكاد تبصر بشكل جيد. شعورهم هائشة . أجساد أغلبهم ليست غير جلد يكسو عظما .. انحنت رأسها رغما عنها وتنهدت . سألته : - ألم يحددوا موعدا لخروجك - - لا لم يحددوا - والحل ؟ - لا أعرف ، لكن الوضع لن يطول - على أي أساس تقول هذا الكلام؟ - لا أدري بالضبط لكن أخي قال إن أحد الأصدقاء الصحفيين بذل جهدا مع بعض كبار الداخلية للنظر في مصائر بعض مساجين الرأي - فوعده بأن الموضوع وصل إلى مكتب حبيب العادلي وسوف يتخذ قرارا بشأنه - لا أثق في هذه الشريحة من البشر إذا كانوا أصلا منهم - ربنا موجود يا ريم لا تشغلي بالك . يبدو أني ارتحت لهذا الوضع - لا تقل هذا الكلام. أنت في الموضع الخطأ - أقصد تكيفت معه إلى حين يأتي الفرج - لا يجب أن تفقد الأمل وفي الوقت نفسه حرض كل من يزورك لطلب الإفراج - أنا سعيد يا ريم لأنك لا زلت قوية - مرغم أخوك لا بطل . كنت أود أن أكون طفلة . تمارس الطفولة وتستمتع بها حتى نهاية عمرها - هذا إذا كانت الحياة بيت جميل - فإذا كانت غابة - ليس عليك إلا أن تكوني أسدا أو فهدا أو حتى نسرا - المهم ألا تكون نعامة أو قردا ظهر الجنود فجأة وأعلنوا انتهاء الزيارة . أمسك ناجي بريم . قال الجندي : هيا يا آنسة . انتهت الزيارة . عزمت على أن تصفعه إذا مسها . لكنه جر ناجي إلى الداخل .. جرت وراءه لتقول - سأفعل المستحيل لكي تخرج من هنا خلال شهر على الأكثر . لن يكون لي عمل إلا محاولة الإفراج عنك . اطمئن قال :المهم صحتك . أرجوك يا ريم حافظي على نفسك . سلامتك أهم ألف مرة من خروجي. تنفست بعمق وخرجت مرفوعة الرأس . فوجئت بدمعات قليلة ترشح بها عيناها . مسحتها ومضت نحو النور والحرية عازمة على أن تفي بما وعدت .. شملها إحساس بأن الزيارة كانت مطلوبة جدا لناجي ولها . الزيارة جددت الرابطة والوعد وخلصت النفس من بعض الأسى المتراكم . غياب الأصدقاء الحقيقيين خسارة فادحة وقد استعادت أعز الأصدقاء . حياة من غير صديق مخلص صحراء قاحلة وغابة دون حماية أو رحلة طويلة بلا أنيس. لم تغادر ذاكرتها صورة المساجين الذين كانوا في حالة مزرية . صورة نموذجية لمعنى الحرمان . الحرمان من كل شيء . من الحرية والطعام الإنساني الجيد . الحرمان من الأهل والولد . الحرمان من الزوجة والأنس والأمل . الحرمان من القدرة على تخيل المستقبل . الحرمان من رؤية الطيور والحيوانات والأطفال وجمال الطبيعة . الحرمان من ممارسة الدور الذي يتمثل في جهد العمل والإنفاق على أسرة ودفع الحياة وإثبات الذات . الحرمان من أدنى المتع . الحرمان من النوم الهانئ والآمن . كانت قد سألت ناجي : هل كل هؤلاء مساجين رأي ؟ قال لها : بعضهم سألته عن النسبة ، قال : الربع تقريبا ، وهناك عنابر كاملة بها مساجين رأي فقط ، وعندما تمتلئ ينقلون بعضهم إلى مساجين الجرائم الجنائية. ابتعدت عشرات الخطوات وأرادت ألا تركب وتغادر .غمرها إحساس بالرغبة في البقاء بعض الوقت قريبة من ناجي .. سارت نحو كيلومتر قبل أن تجد حديقة رفيعة وطويلة تطل على شارع شبه مهجور . عثرت على دكة خالية من الخشب تحت شجرة ظليلة . نسمات طرية رحبت بها شجعتها على البقاء لحظات . تنهدت من أعماقها .عادت تفكر في حالة المساجين ونوعيات أخرى منقوعة في المعاناة وسحق الكرامة .. أشياء كثيرة في الحياة وربما في بلادنا فقط ممتزجة أو متداخلة . في السجن مجرمون وأبرياء. في الدنيا الجمال أحيانا يتضمن القبح ،والقسوة قد تحمل الرحمة . العنف قد تكون من ورائه فائدة أو مصلحة . الأخطاء الفادحة قد تثمر نفعا أو إصلاحا. العدل يختبئ أحيانا وراء الظلم والعكس صحيح . السعادة تكون أحيانا طريقا للتعاسة ، الثراء ربما يسبب الفقر والعكس .. لا يعلم فلسفة ذلك كله إلا الله وهو في الوقت ذاته لا يكشف عن هذه الفلسفة ويترك لنا الاهتداء إليها .. فهل نحن جميعا مؤهلون كي نهتدي أم أن السائد هو افتقاد البصيرة ؟ السؤال المحير .. كيف للإنسان الضعيف محدود العقل أن يتعامل مع كل هذه الأمور المتداخلة برهافة وذكاء ينقذه من الضياع وتبديد العمر في مستنقع المشكلات؟
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل قامت في مصر ثورة؟
-
صندوق الحرية الأسود
-
هُوية مصر ليست إسلامية فقط
-
تعود سيناء أو يذهب مرسي
-
مرسي المالك الوحيد لقناة السويس
-
محاكمة النظام أو المواجهة
-
التحرك الحاسم ولو بالقوة العسكرية
-
جرح مفتوح
-
ابحثوا معنا عن .. الرئيس
-
لماذا قبلت ؟
-
من جرائم الجماعة في حق الشعب
-
أخيرا .. يا حبيبتي
-
بغيرالعقل والشجاعة .. لن تصبح رئيسا
-
ماذا ينتظرون ؟! !
-
الحرب الأهلية تدق الأبواب
-
الهُوية المصرية بين الإخوان والإنجليز
-
من يحكم مصر الآن ؟
-
رسالة إلى صديق إخواني
-
يا ناس .. وَجَبَت مُحاكمته
-
عقلية مرسي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|