مصطفى ملو
الحوار المتمدن-العدد: 4123 - 2013 / 6 / 14 - 07:17
المحور:
الادب والفن
إلى الشاعر الكبير أحمد مطر
هذه القصة كتبتها ضمن مجموعة قصصية لم يكتب لها أن تنشر بعد,وكان عنوانها الأصلي"مؤبد بدون تهمة و لا محاكمة",وسبب تغيير عنوانها,أني بينما كنت أقرأ كتابا من روائع ملك الشعراء أحمد مطر,صادفت قصيدة تحمل عنوان"الحارس السجين"و لما انتهيت من قراءتها وجدت أن موضوعها يتطابق تقريبا مع موضوع القصة,فقررت تغيير عنوانها,مع العلم أن القصة كتبتها عاما أو أكثر قبل مطالعتي لهذه القصيدة.
إليكم القصيدة و القصة:
وقفت في زنزانتي
اُقُلُبُ الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارسُ بالجوار ؟
بيني وبين حارسي جدار،
وفتحة في ذلك الجدار،
يرى الظلام من ورائها و أر قب النهار،
لحارسي ولي أنا صغار،
وزوجة ودار،
لكنه مثلي هنا، جاء به وجاء بي قرار،
وبيننا الجدار،
يوشك أن ينهار
حدثني الجدار
فقال لي : إنّ ترثي له
قد جاء باختيارهِ
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسدٍ
سجانهُ حمار
با جلول أو عمي جلول كما يلقبه رفاقه في العمل,رجل في عقده الخامس,زوجه والده وهو في ريعان الشباب أو الصحيح؛وهو على القنطرة الرابطة بين الطفولة و الشباب,كما كان الشأن بالنسبة لجميع المنتمين لجيله,حيث كانوا يزوجونهم وهم لا يتجاوزون العشرين على أكثر تقدير.
كان والده يعمل مخزنيا* اختاره "القايد" ليكون سائقه الخاص,ما خول له فرصة التوسط لابنه جلول للحصول على هذه "الوظيفة",التي لا ينالها سوى المحظوظين أو هكذا يعتقد.
يركب با جلول دراجته المهترئة متجها إلى عمله أين يقضي ثماني ساعات بالتمام و الكمال و سط المجرمين و الحشاشين و حتى الأبرياء بمن فيهم رفاقه في العمل المحكوم عليهم بنفس حكمه و من نفس القاضي,دون أن يعرفوا ما الجريمة التي ارتكبوها و التي بموجبها استحقوا ذلك الحكم؟!
ملامح با جلول تدلك على أنه تعيس شقي,فشعره المشتعل شيبا و ظهره المقوس,وأسنانه التي تهادت الواحدة تلو الأخرى,بفعل السيجارة التي لا تفارق جيب و زرته التي مسخ لونها,أما ما بقي منها-من أسنانه- فتحول لونه إلى ما يشبه علف التمر نتيجة إدمانه المستمر على الخمر.كلها مظاهر للبؤس و التعاسة و الشقاء الذي مني به عمي جلول في هذه الحياة.
السجن سجن له و لأمثاله أو هو أنكى,فالسجين على الأقل لا يتحمل أي مسؤولية,وغير مطالب بحراسة أحد,أو التدخل لفك نزاع,أو مراقبة الزوار,أو فتح أو غلق,أو تقديم أو تأخير,أو تعليق "جلايل" المفاتيح.أما با جلول,أما با جلول و أمثاله فقد حكم عليهم الزمن بالشقاء الأبدي,بؤس و حيرة و معاناة بالداخل كما بالخارج.
في السجن القليل من السجناء هم الذين يحترمونه و يقدرونه,الجدد منهم ينادونه"الشريف",القدامى"عمي جلول أو باجلول",أما المجرمون,القساة,الذين ألفوا السجن و آلفهم,ممن في قلوبهم غلظة,فيتخذونه موضوعا للسخرية و الاستهزاء,بل ويهددونه إذا امتنع عن مدهم بالسيجارة,أو بادر بمطالبتهم إخلاء الساحة المخصصة للفسحة وولوج زنازينهم بعد انتهاء الوقت المخصص لذلك:
-أهيا داك الشارف الهارف واش تعطينا نتكيفو ولا...تتعالى القهقهات من هنا و هناك,ثم يضيف "الزعيم":
-الله يا والديك أو تبغي تملم حتى نجبد ليك مصارنك,أنا راه بحال الحبس بحال برا,اللهم العدس فالحبس ولا الدوران فزناقي.فتتعالى القهقهات المصطنعة إرضاء للزعيم,والويل لمن لم يقهقه!
لا حول و لا قوة لبا جلول إلا الصبر على ما ابتلي به,فتهديدات هؤلاء المجرمين,لا ينبغي الاستهانة بها أو التخفيف من شأنها,بل ينبغي أن تحمل على محمل الجد,فكثيرا ما أخبره رفاقه أن حارسا في سجن ما قتل بطعنة سكين و آخر كاد يلقى نفس المصير,وهو نفسه كثيرا ما عاين مثل هذه الأحداث,بين مطعون بسكين و آخر انهال عليه بعض السجناء بالركل و الرفس,والأخطر أن التهديدات تتجاوز السجن إلى خارجه,لذلك فهو يتفادى الدخول مع السجناء من نوع المجرمين الجفاة في خصومات أو مشادات لا قبل له بها,أو قل بصريح العبارة يستسلم لهم و يذعن للحكم الذي نطق عليه به ذلك القاضي المجنون,المجهول.
في أوقات الفراغ أو العطلة يخرج با جلول للعب الضامة أو الكارطة مع بعض الزملاء في الساحة المجاورة لحانوت حساين.أغلب من يرتادون هذه الساحة من المتقاعدين في المخزن*,با جلول لا يرضى بالهزيمة مهما يحصل:
-أو الله ما ضيم.
-أو الله حتى يضيم..
-سير للواد سير للواد.
-حيد لو رشم أو عطيني جوج...
هكذا تتعالى أصوات لاعبي الضامة و الكارطة,بين متهم لخصمه بالغش أو لشريكه بالجهل بقواعد اللعبة و أنه هو السبب في الهزيمة.أحيانا تصل المنافسة إلى حد تبادل الكلام النابي,وحتى التشابك بالأيدي و في اليوم الموالي تعود المياه إلى مجراها كأن شيئا لم يقع,وعلى كل حال فهي لحظات يحاول با جلول من خلالها أن يسرق بعض السعادة,ولو لم تكن تدوم طويلا ورغم أن السعادة لا تبعض بعيدا عن السجن و السجناء و حراس السجون.
يسيح به خياله و يشرد فكره فيذهل,ثم يطفق في التفكير,يا الله يا الله.أي جريمة ارتكبت و أي ذنب اقترفت حتى أستحق كل هذا الشقاء؟
راتبه الشهري الذي لم يكن يتجاوز 2500 درهم في ذلك الوقت,لم يكن يكفيه لإعالة جيش من الأبناء,جنى على أنثاهم وعلى ذكرهم الواحد تلو الآخر دون أن يعرف معنى لتنظيم الأسرة و لا تحديدا للنسل,إذ لم يكن يهمه سوى السقوط فوق زوجته البائسة ثم تنتهي تلك اللعبة القذرة أو النقية "نتا تعرف"!ولا يقوم إلا وقد سجل هدفا في مرماها أو قل وضع جنينا في بطنها.سبعة أهداف هي مجموع ما سجله رفقة زوجته من الأهداف المقبولة,أما غير المقبولة و نقصد المتوفين و الخدائج فلو قدر لهم أن يعيشوا لكونوا فريقا خاصا بهم لكرة القدم,خمس بنات و ابنان هي مشاريع با جلول المستقبلية!
من جحيم السجن إلى جحيم البيت ينتقل با جلول,وبين الجحيمين يتنقل:
-جلول,جلول البوطة خاوية,تصيح زوجته.
-لهلا يعمر باباها,علاه فين داك الصلكوط ديال محمد إعمرها؟
-راه مازال ناعس.
-أويلي ..أويلي استغفر الله واش هادي 12 أو هو مازال ناعس,واش كيتسناني أنا نوجد لو كلشي,أو يلي..أو يلي تنخرج من الحبس تنلقى حبس آخر.
من جحيم إلى جحيم و من معاناة إلى معاناة,وبين أمواج هذه المعاناة يبحر با جلول,فما أن ينتهي حواره مع زوجته حتى يبلغه صدى إبنته الصغرى تقول" بابا تقطع لي صباط",والكبرى"بابا بغيت نشري بورطابل كاع صحابتي عندهوم غير أنا",أما الابن الأصغر فطلبه الدراجة حتى يتساوى هو الآخر مع أقارنه و لا يبقى مجرد ابن "عساس الحبس" المنبوذ.
محمد ابنه البكر حصل على البكالوريا منذ عامين.لم يشأ أن يلج الجامعة لظروف والده القاهرة,وانسجاما مع الرأي الذي أصبح سائدا بين الشباب و المفيد بأن الجامعة لم تعد سوى مضيعة للوقت و امتصاصا للعمر.
قد يكون والد با جلول جنى عليه عندما دفع به إلى هذه المهنة,وقد يكون فعل عن حسن نية و هو المرجح,لأنه لا يوجد أب لا يحب الخير لابنه,وفي كل الأحوال فهو لم يكن له من خيار آخر سوى ذاك,فيا لها من صدفة و كأن الأيام تعيد نفسها و التاريخ يكرر ذاته,فها هو با جلول يقف حائرا محتارا إزاء مستقبل ابنه متسائلا:
-هل أدفع به إلى حراسة السجون,فيكون مصيره بؤس و معاناة و شقاء مثلي و يأتي يوم يلومني فيه؟أم أتركه يتصعلك في الأزقة و يخيط الشوارع و الدروب و ربما ارتكب جريمة فيصير من السجناء,خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت فيه الحياة أكثر فوضى و اضطرابا,وأضحت جريمة القتل ترتكب بسبب درهم أو أقل,وكثر رفاق السوء و المخدرات تكاد تدق على كل الأبواب؟
أحلاهما مر,فحياة حارس السجن ليست بأحسن حال من حياة السجين,بل إن من السجناء من هو محكوم بمدة سجنية يقضيها ثم يخرج حرا طليقا,أما حارس السجن فمحكوم عليه بالمؤبد و بدون محاكمة و لا تهمة,حتى السويعات التي يقضيها خارج السجن عقله و كل تفكيره يبقى مرتبطا و معلقا بردهات السجن و ما ينتظره داخله,وعندما يتجه صوبه فكمن يساق إلى المشنقة مرغما,مكرها.
أخيرا قرر أن يرمي بمحمد إلى حراسة السجون مصداقا للمثل الشعبي القائل"صنعة باك لا يغلبوك",خاصة مع تشاؤمه من الحياة و من شباب اليوم وما يراه من فضائح و جرائم ترتكب كل يوم على مرمى عين,فإذا كان مصيره سيكون السجن,كما يعتقد با جلول,فالأحسن أن يكون حارسا لا سجينا,على الأقل سيتقاضى تلك الدريهمات التي ستعينه في "دواير الزمان",وتلك الدريهمات التي يتقاضها حارس السجن هي الامتياز الوحيد-ربما-الذي يتفوق به على السجين!
بالكاد أقنعه بجدوى ولوج تلك المهنة بعد أن استعان بزوجته التي حاولت جاهدة هي الأخرى دفعه إلى تغيير رأيه:
-شوف أو ليدي راه الزمان صعاب,أو الدنيا خيابت,اللهم تشد فالمخزن و لا تبقى دور فالزناقي حتى يدويك شي نهار.
-أنا ألوالدة بغيت نمشي للخارج,ندير الفلوس أو نجيب الطومبيل أو نخرجكم من تمارة.
- (يضحك با جلول ساخرا),جاب لك الله فالخارج الفلوس غير تيطيحو من السما,أو زيادون الخارج مات لو الحوت أولدي أمحمد.
-اللهم الخارج و لا نبقى عساس على المجرمين و القتالة,ماني هاني فالخدمة ماني هاني برا,كل ما خرجت من الخدمة نبقى نتشكى لمالين الدار.ثم يضيف:
-زايدون ألوالد شنو درتينا بهاد الخدمة كاع 30 أولا 35 عام هادي؟شوف لحالتك كيشرفتي بلا وقت,أو حتى هاد البراكة ما كمليتها فالبني(يقصد البيت الذي يسكنونه)؟
تتدخل أمه مرة ثانية لتلطيف الأجواء,فهي تعرف أن حواره مع والده إن استمر فلن يفضي إلا إلى الضجيج:
-شوف أوليدي الخارج راه ما بقا فيه والو,غادي تمشي "تحرك" غير غا تخاطر بحياتك, أو زايدون صحاب الخارج راه تيرجعو للمغرب,ماشتيش ولد العطاوية,أو لد موحى و سعيد أو لد مبارك أوحديدو...؟ ثم تضيف:
-باك راه كالي العساسة ديال الحبس زادو لهوم فالمانضة,وصلوها ل 60 ألف ريال فالشهر,هاد الخدمة تيقلبو عليها الناس بالملاين,نتا لقيتي باك إدبر لك أو بغيتي تسمح فيها؟!
ما أن سمع هذا المبلغ الذي لم يكن يحلم به و الذي يبدو مبلغا كبيرا لأبناء المسحوقين و المعدمين و البؤساء و المنتمين إلى الطبقة السزيفية,حتى استعصى عليه ابتلاع ريقه,فاتجه إلى أمه مقبلا رأسها ويدها و كذلك فعل مع والده.
هكذا إذن يتم ولوج المهن و الوظائف,ليس اقتناعا و قناعة و لا رغبة في خدمة الوطن و لا حبا فيه,ولكن لأنه لا يوجد بديل,أو لما توفره هذه المهنة أو تلك من دريهمات و لو حكمت على صاحبها بالمؤبد بين الحيطان!
في اليوم الموالي اتجه إلى المقاطعة لإعداد الوثائق الضرورية لاجتياز امتحان حراس السجون,في الحقيقة ليس امتحانا و لا هم يحزنون,بل العبرة و النتيجة تكون ب"هل أنت ولد فلان أو لا ولد فلان,فلا فرق بين هذا و لا هذا إلا بولد فلان!",وأغبى الأغبياء سيجيب عن تلك الأسئلة التي تطرح في المباراة,بل الأكثر من ذلك أنه يعرف مسبقا بأنه ناجح لأن والده سيتوسط له,كما توسط له هو والده ذات زمان,ألم نقل إن الزمان يعيد نفسه في هذه الحكاية أو الأصح أن لا شيء تغير منذ عهد با جلول إلى عهد محمد ولد با جلول؟و الأنكى أن لا شيء سيتغير.
هكذا إذن تحول ابن حارس السجن إلى حارس للسجن ليكتشف هو الآخر أن نفس القاضي الذي حكم على والده هو الذي حكم عليه,فما أتعس الحياة داخل السجن و ما أشقى حياة السجناء و حراسهم!
وهكذا أيضا أمضى با جلول رحيق عمره في غيابة السجن,وطوى زهرة شبابه بين المجرمين وحتى المظلومين لا لجريرة ارتكبها و لا لذنب اقترفه,ولكن لأنه ضحية قاض لا يرحم,قاض جائر,قاض اسمه القدر,حكم عليه هذا القاضي في غياب الشهود و في غياب الدفاع و في غياب حتى الجمهور,بالمؤبد حكم على با جلول و على ابنه من بعده...
*المخزني تطلق على رجال القوات المساعدة,أما المخزن فيطلق تقريبا على كل موظف عند الدولة.
#مصطفى_ملو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟