|
بين -دروس- العقل و-ضروس- الحياة
محمود عبد الغفار غيضان
الحوار المتمدن-العدد: 4121 - 2013 / 6 / 12 - 18:16
المحور:
كتابات ساخرة
بين "دروس" العقل و"ضروس" الحياة
في صيدلية "الحياة" بكل أسف لا توجد "حقن" أو "مقويات" لنسبة الإنسانية في دمائنا... . لكن لحسن الحظ... على ناصية تلك الصيدلية... تحدث الكثير من المواقف التي قد تكون بسيطة جدًّا، وقد تصدر عن أقل الناس شأنًا.. ومع ذلك فبإمكانها أنْ ترفع معدلات تميزنا عن عالمي الحيوان والجماد بشكل غير مُتصوَّر... والأكثر أهيمة من كل هذا أنها...... مجانًا.
استيقظتُ قبل يومين على ألم مفاجئ في رقبتي دون سابق إنذار. لم أعرف سببًا له على وجه التحديد. حاولتُ إلغاء موعدي أنا وابنتي مع طبيب الأسنان وفشلتُ لأن هذه الزيارة ستستغرق ساعة كاملة وقد رتب الطبيب موعده على هذا الأساس ولن يستطيع مثلاً الاتصال بأحد الزبائن الآخرين ليذهبوا في ذلك الوقت، كما أنَّه لن يجلس تلك الساعة بلا عملٍ مجانًا. العيادة قريبة من البيت الذي أسكن فيه على أية حال.
في الطريق. اشتريتُ عدة جوارب رخيصة جدًّا. لم أكن في حاجة إليها، لكني أحبُّ أن أشترى من الباعة على الأرصفة كأبسط أنواع المساعدة. دعت لي السيدة صاحبة العربة بدوام الصحة والسعادة وطول العمر. تُرى بكم يقدَّر مثل هذا الدعاء مقابل نقودي الزهيدة؟!!!! على رصيف آخر وأمام مبنى فخم يضم عيادة الأسنان وبعض العيادات الأخرى يفترش عجوز بعضًا من ناصية المدخل. يضع الأحذية والأحزمة والمحافظ وطوال جلسته للبيع لا يتوقف عن كتابة الأغاني التلقيدية بخط عريض على ورق مقوى، وهي أغانٍ تُسمى باللغة الكورية "تروت"، إيقاعها بطيء وكلماتها واضحة ومتكررة وهي مفضلة لدى كبار السن، أما أنا فأفضلها لسهولة ترديدها كأجنبي، ولأني كذلك كما يقول الكوريون"나-;-이-;- 많-;-이-;- 먹-;-었-;-어-;-요-;-". ثم إنه كلما أنهى أغنية بدأ في الأخرى. ذات مرورٍ ما من هناك. سألته عن ذلك الذي يكتبه، فشرح لي قائلاً إنه يقدمها هدايا لكل من يشتري منه شيئَا. قدم علبة من العصير وقال إنه سيعطيني واحدة مجانًا دونما حاجة لشراء أي شيء منه. شكرته كثيرًا ووعدته بالشراء فيما بعد لأني كنتُ مستعجلاً جدًّا ساعتها. لفت نظري أنه يكوم بضاعته ويلف أكياسًا زرقاء حولها بشكل لا جمال ولا تنسيق ولا أي شيء ومع ذلك بضاعته موجودة هناك منذ مدة طولية. يعني لا بلدية ولا يحزنون ولا تهديد ولا ترويع. عادة الشرطة هنا لا تتحرك في مثل هذه الأمور إلا بوجود شكاوى من السكان وأصحاب المحال ومعظمهم فيما أظن يتفهمون حاجة هؤلاء الناس للعمل من أجل كسب لقمة العيش.
عند وصولنا إلى العيادة. أطلعتني موظفة الاستقبال على أنواع "الضروس" وأسعارها. هناك المصنوع من السيراميك، وهذا لا يحبذه الطبيب لخطورته بسبب سهولة تعرضه للكسر. ثم هناك الذهب وأسعاره تبدأ من 550 دولارًا ونسبة الذهب فيه 45 بالمائة. ويزيد سعره 100 دولار كلما زادت نسبة الذهب 10 بالمائة. اخترتُ ما سيتم تركيبه، ودفعتُ النقود ببطاقة الائتمان قبيل الدخول لآخر زيارة قبل التركيب. المهم هنا هو أنني لم أتشكك لحظة في حكاية نسب الذهب وسعر الضرس. يعني لم أقل لنفسي سرًّا أو جهرًا- فلن يفهمني أحد لو قلتُ- يا حرامية يا نصابين! هذا أمر بلوغه في منتهى اليسر عندما تعيش في مجتمع يتعامل معك في البيع والشراء وفي مثل هذه الأمور بأمانة. فلو ثبت أنه خدعك سيخسر الكثير جدًّا الذي قد لا يستطيع تعويضه. ثم لماذا أصلا يخدعك؟ هل يحدث هذا كثيرًا في بلدنا الحبيب؟! نظرت سلوى إلى الفاتورة ثم قامت بتقبيلي عدة مرات قائلة باللغة الكورية "불-;-쌍-;-한-;- 아-;-빠-;-" (أبي المسكين! دفعتَ نقودًا كثيرة جدًّا!) ستكون بخير دائمًا! " كنتُ سعيدًا جدًّا جدًّا برد فعلها. انتهىت زيارتنا لطبيب الأسنان وحدد موعدًا للتركيب يوم الجمعة. كما قرر أن يقوم بخلع ثلاثة أسنان لسلوى لأن الأشعة بينت أنها ضعيفة وقد تسقط بعد بلوغها السن الذي قد لا تطلع فيه أسنان أخرى. وعرفتُ منه أن هذا شائع في كوريا. بل إن بعض الأسر تقوم بحشو ضروس الأطفال في سن معينة حتى لا تتعرض للتسوس في فترة الطفولة والصبا وبالتالي يتمتعون بأسنان سليمة قوية لأطول فترة ممكنة في حياتهم.
خرجنا من العيادة. كانت جملة سلوى الشهيرة بالكورية كذلك "أنا جائعة جدًّا". فسألتها ماذا تريد أنْ تأكل. فاختارت أغلى الأطعمة بأحد أشهر المطاعم القريبة بوسط المدينة. ضحكتُ دون أن أُسمعها صوتي لأني كنتُ على وشك تصديق جملتها قبل قليل :" مسكين يا أبي، دفعتَ الكثير من النقود!" لكني تعلمتُ أمرًا مهمًّا وهو أن هناك فرقًا كبيرًا بين الوصف وتصديقه والتعامل معه باعتباره حقيقة! هؤلاء هم الأطفال بكل براءتهم وشقاوتهم. ياااااااه..... ليتنا لم نكبر أبدًا!!
محمود عبد الغفار غيضان 12 يونيو 2013م
#محمود_عبد_الغفار_غيضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عزيزي اللص. جزاك الله خيرًا.
-
مِن تأبَّطَ شرَّ إلى تأبَّط -سنجه- إلى المتأبطين أكياسًا.
-
ما لك وما ليس لك هنا .... بسبعة أرواح (1)
-
أحنُّ إلى زمن المصاطب
-
من دفتر نوادر الأجانب مع العربية
-
سلوى وتلصصٌ خاص على فرجينيا وولف
-
أنا وابن خرداذبة في مدح كوريا سواء
-
كوريا وثقافة الوجود داخل جماعة
-
لهم -فيسهم- ولنا -فيس-.
-
التاريخ يهزم الجغرافيا
-
صعودهم لأعلى وصعودنا أبدًا لا يليق بنا
-
أنت -رايح جاي- أم -اتجاه واحد-؟
-
مينا ومارك وبيتر وشم النسيم مع الكوري الجنوبي -شادي-
-
خامس المستحيلات في أساليب الانتقاد بين الكوريين والعرب.
-
تلصصٌ على شاعر كوري
-
تلصص في الوجع
-
تلصص فيسبوكي
-
محروس أبو فريد... طبيب الأحذية
-
وهيبة... تسالي المصاطب
-
العم -توفيق-... خواجة من زمن المصاطب.
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|