أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - نظم العلم والهرمنوطيقا (5)















المزيد.....


نظم العلم والهرمنوطيقا (5)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4119 - 2013 / 6 / 10 - 22:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


نظم العلم ومقارنتها بنظم الفهم
مع كل ما قدمنا نجد بعض التشابهات بين النظم العلمية ونظم الفهم الديني. فالنظام العلمي القديم يشابه النظام الفلسفي الوجودي للفهم، فكلاهما يسقطان الاعتقادات بشكل توكيدي ودوغمائي دون تردد، او دون ان يضعا في الحسبان احتمال الخطأ، بل ان نظام العلم القديم ناشئ عن النظام الفلسفي الوجودي ذاته، فقد كانت العلوم الطبيعية تُبحث وتُدرس ضمن الفلسفة لما يزيد على الالفين سنة، وأن العلماء كانوا إما فلاسفة أو دائرين في فلكهم. وبالتالي فكلاهما كان يمارس ما يسمى مبدأ انقاذ الظواهر، وهو المبدأ الذي ظل مستحكماً قروناً طويلة، بل حتى انه استخدم خلال النهضة العلمية الحديثة؛ تخفيفاً لما حاولت الرؤية الكوبرنيكية قوله، مع الابقاء على الرؤية البطليمية كحقيقة فعلية دون إبطالها. وهو على شاكلة ما كان يمارسه الفلاسفة المسلمون من تأويل للنص الديني.
فمثلما كان مبدأ انقاذ الظواهر يجري تطبيقه على ارض العلم، كان مبدأ التأويل يجري تطبيقه على ارض النص. واذا كان المبدأ الاول يمثل انقاذاً فعلياً للظواهر الواقعية، فان الاخير يمثل انقاذاً فعلياً للمظاهر النصية. وكلاهما تأويل، فالاول تأويل يخص الواقع الموضوعي، والاخر تأويل يخص النص الديني؛ كالذي يمارسه الفلاسفة والمتكلمون دفاعاً عن مسلماتهم العقلية.
واذا كان النظام العلمي القديم يحاكي النظام الفلسفي الوجودي باعتباره صنيعاً له، فان النظام العلمي الاول (الاجرائي) يشابه المنهج البياني للفهم الديني، ومثل ذلك فان النظام العلمي الثاني (الافتراضي) يشابه من وجوه المنهج العقلي لهذا الفهم. وبالتالي فان الخلاف بين النظامين الاجرائي والافتراضي العلميين يشابه الى حد ما الخلاف الجاري بين المنهجين البياني والعقلي، اي بين مَن يعتبر النص الديني بيّن بذاته دون ان يحتاج الى اضافة خارجية، كالذي تقوله اصحاب النزعات البيانية الصرفة، وبين مَن يرى هذا النص متشابهاً ويحتاج الى الفرضيات العقلية لتسدد ثغرة التشابه وعدم الإحكام.
ففي التصور الأخير هناك حرية نسبية يتجاوز فيها الباحث العقلاني المظاهر اللفظية ليحولها الى ما تقبع ضمن افتراضات مصنوعة لا تدل عليها المعطيات اللغوية النصية، وبالتالي فانها غير محكومة لهذه المعطيات، بل تظل متعالية، شبيهاً بما صوره هويويل واينشتاين او مجمل النظام الافتراضي الحدسي من الحرية الخيالية للعقل في صياغة النظريات العلمية والتي لا تدل عليها المعطيات الحسية، بل ان هذه الاخيرة تصبح اسيرة تحكم وتأويل الصياغة العقلية الحدسية.
والحال مختلف مع النزعة البيانية التي لا تعترف بجواز الفضول العقلي، وتجعل من المعطيات النصية متحكمة بصياغة الفهم الديني، بحيث يكون الفهم عندها مستنسخاً عن تلك المعطيات، شبيهاً بما صوره ستيوارت مل عن قوانين الطبيعة، وبما وصى به فرانسيس بيكون من قبل بان على رجل العلم ان يضع في رجليه نعلين من الرصاص.
وبعبارة اخرى ان الخلاف القائم بين الدائرتين البيانية والعقلية للفهم هو من بعض الوجوه كالخلاف القائم بين النزعتين التجريبية الاستقرائية والعقلية الحدسية للعلم، حيث تحافظ الدائرة البيانية والنزعة التجريبية على ما هو ظاهر ووصفي دون ان تتعداه للتأويل او تفترض له افتراضات خارجية، وهو خلاف ما تقوم به الدائرة العقلية للفهم والنزعة الحدسية للعلم، فكلاهما يفترضان قضايا غير مستمدة من المعطيات الموضوعية، احداهما تحت عنوان العقل كما في الفهم، والاخرى تحت عنوان الحدس الخيالي والرياضي كما في العلم.
وكما يظهر احياناً بان النظام العلمي الاجرائي لا يتقبل ما يضيفه النظام الافتراضي الاستنباطي من افتراضات غير مستمدة من الاستقراء والتجربة، خلافاً للنظام الثاني الذي يتقبل ما عليه الاول وان كان يضيف اليه حالات يكون فيها الاول عاجزاً عن معالجتها.. فكذا هو الحال حاصل ضمن الفهم الديني، فالدائرة البيانية لا تسمح بما تقوم به الدائرة العقلية من اضافات حاكمة على الفهم، وهي تشدد على ان تكون القراءة مستقاة من النص ذاته دون اضافات خارجية، لذلك تؤكد على الدوام التزامها وتقيدها بما تفرضه الدلالات اللفظية من معان من دون تأويل ولا تعطيل. وهو المعنى الذي لم يتغير - مبدئياً - لدى هذه الدائرة منذ ظهورها وحتى يومنا الحالي. فهي تقوم على الزعم القائل بتحقق الوضوح والكفاية في لغة النص الديني. فالبيانيون يبررون نهجهم بما يدّعونه من الوضوح والكفاية في الكتاب الكريم والسنة النبوية لكل ما يحتاج إليه المسلم للفهم الديني. وسبق للشافعي أن صرح قائلاً: ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. وكان إبن حزم يعلن في كثير من المناسبات تحقق ذلك دون حاجة لأي إعتبارات خارجية. فعنده أن النص بيّن تماماً وهو يكفي لسد حاجات المسلم، سواء في الأصول أو الفروع، حيث اعتبر النصوص محيطة بجميع الحوادث.
وعلى هذه الشاكلة تبرر النزعة التجريبية الاستقرائية للعلم طريقتها، وهي ان هدفها استنساخ ما تبديه الطبيعة؛ كالمرآة دون اضافة شيء جديد يعمل على تشويهها وطمس معالمها. فطالما كان الهدف هو الكشف عما تنطوي عليه الطبيعة من حقائق وعلاقات، فانه لا معنى للعقل ان يتدخل سوى ان يكون اداة ادراك وكشف واستنساخ لما هو موجود فيها. فالعقل سواء في حالة الدائرة البيانية للفهم، او في حالة النزعة التجريبية الاستقرائية للعلم، ليس له حق التدخل سوى الكشف المطابق والاستنساخ.
اما مع الدائرة العقلية للفهم فهي لا ترفض ما تقوم به الدائرة البيانية من سلوك باطلاق، اي انها تتقبل بعض المساحة من التقيد بقراءة النص وفهمه ضمن دلالاته اللغوية، لكنها تبقي في الوقت ذاته على مساحة لا يسع للدائرة البيانية تسديدها او علاجها، وهي ما يتعلق بالقراءة المعتمدة على الاضافة العقلية عبر التأويل، او ما سميناه في بعض الدراسات (الحرف والعدول)، دون ان تظل حبيسة الفاظ النص ذاته او العمل بالاستنساخ، كما تفعل الدائرة البيانية. فالاضافة لدى الدائرة العقلية تأتي كشيء جديد تفرضه على النص دون ان تلغي ما تقوم به الدائرة البيانية من عمل باطلاق، وان كانت تقر بانها تعرّض جميع معطيات النص على مرجعية العقل لترى ان كانت هناك معارضة ام لا، كالذي يشير اليه الكلاميون؟ فهم يتقبلون السلوك البياني لكل ما لا يعارض العقل، ويزيدون عليه كل ما يعارضه عبر ممارسة التأويل وطرح الاستنساخ. وبالتالي فهم يرون الاعتبارات البيانية النصية تتضمن افادة ظنية مقارنة بالافادة العقلية القطعية. فالنص لديهم مصدر التشابه والإحتمال والمجاز، خلافاً للعقل الموصوف بأنه مصدر الإحكام والقطع والحقيقة. وكما قال الشيخ الطوسي: «الظواهر تبنى على أدلة العقول، ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر». وقال القاضي الهمداني: «إن أدلة العقول بعيدة عن الإحتمال، والألفاظ معرضة لذلك من حيث تدخلها الحقيقة والمجاز». وكذا ذهب الفخر الرازي إلى أن الدليل اللفظي لا يفيد القطع واليقين بإطلاق، لكونه يتوقف على عشرة أمور ينبغي التيقن منها، ومن هذه الأمور عدم المعارض العقلي، وعنده أن انتفاء المعارض العقلي أمر مظنون لا معلوم، لإستحالة القطع، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دلّ عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع. وشبيه بهذا الحال ما نجده لدى الدائرة العقلية الفلسفية.
ولا شك ان هذا الفعل للدائرة العقلية في اخضاع النص للعقل سلباً وايجاباً، سواء العقل المعياري الكلامي او الوجودي الفلسفي، يشابه ما عليه النظام الافتراضي العلمي في اخضاع ظواهر الطبيعة والتجارب احياناً لاحكام الافتراضات الحدسية ولو بالتأويل، الى الحد الذي صرح به بعض العلماء بان التجربة يمكن ان تخطئ، لكن البساطة او الجمال المفترض عقلياً لا يخطئ او قلما يخطئ.
وبذلك فان الدائرة العقلية للفهم الديني تشابه من بعض الوجوه ممارسة النظام الثاني للعلم مقارنة بالنظام الاول، مثلما ان الدائرة البيانية تمارس ذات الدور الذي يمارسه النظام الاول الاجرائي، بل تكاد النزعة البيانية تكون مماثلة في فعلها لما تمارسه النزعة الاجرائية الاستقرائية للنظام الاول.
فمثلما ان للنزعة العقلية للفهم اضافة عقلية، فكذا هو الحال مع النظام الافتراضي للعلم. وكلاهما يخالفان ما عليه النزعتان البيانية والاجرائية. فالنزعة العقلية تقرأ النص وفقاً لقبلياتها المنظومية حتى وان ادى ذلك خلاف ما تدل عليه الظواهر اللفظية بالتأويل. وهو شبيه الحال بما يسعى اليه النظام الثاني الافتراضي من وضع افتراضاته القبلية حتى وان افضى الى تجاوز ما تدل عليها الظواهر الطبيعية. فهو يقوم احياناً بنوع من التأويل لهذه الظواهر وحتى التجارب بما يتفق ومسلماته الافتراضية. فمثلاً تنحو نسبية اينشتاين الى تأويل العلاقة الظاهرة للمكان والزمان بحسب الاتصال النسبي، وكذا انها عندما تتحدث عن السرعات الفائقة فانها تتعامل مع الظواهر المألوفة بطريقة تأويلية، ومثل ذلك عندما تتناول الظواهر الكمومية. وعلى هذه الشاكلة كثيراً ما تتجاوز الافتراضات المطروحة في نظرية الكوانتم المظاهر الحتمية والعلاقات السببية وقضايا الحس المشترك العام لدى عالمنا الكبير، وكل ذلك يشكل تأويلاً لقضايا الواقع المألوفة، شبيهاً بما تقوم به النزعة العقلية للفهم في تأويلها لظواهر النص اللفظية. فهما بالتالي يمارسان الشيء نفسه الذي كان يمارسه النظام القديم تحت ما يسمى مبدأ انقاذ الظواهر. فسواء لدى الدائرة العقلية في الفهم او لدى النظريتين النسبية والكوانتم في العلم فان المآل واحد من حيث التأويل والحرف والعدول، او ممارسة انقاذ المظاهر والظواهر. وهو ما يعني ان هذا المبدأ لم ينته دوره وان انتهى ذكره والاعتراف به لصالح مبدأ البساطة.
كذلك مثلما ان للدائرة العقلية تناقضاتها الذاتية بحسب اصولها المولدة وقواعدها الاساسية، كالتناقض بين النزعتين الوجودية والمعيارية، ومثل ذلك التناقض بين المنطقين الحق الذاتي وحق الملكية ضمن النظام المعياري، فكذا ان للنظام الثاني تناقضاته المتعلقة بقواعده المفترضة، وهي التناقضات المتمثلة بكل من النظريتين المتنافستين النسبية والكوانتم والتي يظهر مفعولها مباشرة عندما يتعلق الامر بتفسير ما يحصل عند الكتل العظيمة ذات الاحجام الضئيلة كمراكز الثقوب السوداء وبداية نشأة الكون.
يبقى ان النقطة الاساسية التي تختلف فيها النزعة العقلية للفهم عن النظام الثاني للعلم هي ان الاولى تتصف بالدوغمائية التوكيدية، في حين ان مبادئ النظام الثاني هي مبادئ مفترضة غير دوغمائية، سواء كانت راجعة الى المنهج الرياضي او المنهج الخيالي. فالنظام الثاني يضع افتراضاً قد يصح او لا يصح، وعلى التجارب والاختبارات ان تكشف عن مصداقية هذا الافتراض، وهي حتى عندما يتبين بان الافتراض ينسجم مع الاختبارات فان هناك احتمالات قائمة تمنع من تحويل الافتراض الى حقيقة مطلقة. اما الدائرة العقلية - سواء الوجودية او المعيارية - فهي تعتمد على مسلمات قطعية راجعة الى منظومتها العقلية، وبالتالي فانها تكون حاكمة على كل ما يعارضها من ظواهر لفظية، وهنا يبدأ التأويل وفقاً لهذه المسلمات الدوغمائية. صحيح انه في حالة النظام الافتراضي قد تكون بعض المسلمات قطعية لدى اصحابها، مثل مسلمة الحتمية لدى اينشتاين، فهي من هذه الناحية لا تختلف عن دوغمائية الدائرة العقلية ومسلماتها، والجميع يعمل بمبدأ انقاذ الظواهر، او ظاهرة الحرف والعدول. لكن يلاحظ ان مثل هذه المسلمات هي مسلمات فلسفية متعالية وفق التصور الفلسفي لاصحابها، رغم انها مؤثرة على النتائج العلمية، فهي ليست معنية بتفسير ظاهرة ما من الظواهر، بل لها من الشمول الفلسفي، ومن ذلك ممارسة اينشتاين للتأويل بحق الظواهر الكمومية خلافاً للبيانات التجريبية التي التزم بها اصحاب مدرسة كوبنهاكن الكوانتية. وعلى خلافهم ما فعله الكثير من اصحاب نظرية الكوانتم في تأويل الواقع الحسي المشهود عبر المسلمات الفلسفية التي استخلصوها من تصوراتهم الكوانتية.
والنظام الافتراضي بمنهجيه السابقين (الرياضي والخيالي) يشابه ببعض الاعتبارات النظام الوجودي بشقيه الفلسفي العقلي والعرفاني الخيالي او الحدسي، فلولا الاعتبارات لبطلت الحكمة كما يقول فلاسفتنا القدماء. فالمنهج الفلسفي يؤكد على المسلمات العقلية البرهانية التي لها دورها في الفهم الديني، وهو من هذه الناحية يشابه الصورة الرياضية التي يتقدم بها النظام الافتراضي في العلم ليصبغ بها الخيال التأويلي في فهمه للظواهر الطبيعية. كما ان المنهج العرفاني - مثلما يتمثل بمذهب ابن عربي - يؤكد على دور الحدس والخيال البشري الى الحد الذي يرجحه على الفعل العقلي، وهو بهذا يجعل من الفهم الديني فهماً قائماً على الخيال، ومن ثم فانه يشابه بذلك ما يفعله الخيال العلمي ضمن النظام الافتراضي والنظام الميتافيزقي القائم عليه.
هكذا فبحسب هذه الاعتبارات نجد ان التصور الرياضي في العلم سيقابل التصور الفلسفي في الفهم ضمن اعتباراته المجردة التي يفرضها على النص سلفاً، فيفضي به الحال الى التأويل ضمن قاعدة ما يسمى التمثيل والممثول. اما التصور الخيالي في العلم فسيقابل الخيال والحدس العرفاني كالذي يؤكد عليه ابن عربي في الكشف، ومنه الكشف المتعلق بالفهم، ومثله الفيض الكاشاني في منهجه الحدسي لتفسير القرآن كما اشار اليه في كتابه (الصافي).
وبالتالي فان النظام الوجودي بنهجيه الفلسفي والعرفاني يناظر ما عليه النظام الثاني الافتراضي للعلم، فلدى كلا النظامين هناك ما يعود الى البرهان والابستمولوجيا، كما لديهما ما يعود الى الكشف الحدسي والهرمنوطيقا.
واكثر من ذلك هناك نوع من التناظر بين العلم والفهم على صعيد العلاقة الثنائية السابقة. وهو ان انقسام النظام الافتراضي للعلم الى منهجين يحصل بحسب ترتيب علاقة المقدمات بالنتائج، فتارة يعبر المنهج عن بداية التأويل الرياضي الصوري لينتهي الى تأويل خيالي، وهو ما سميناه المنهج (الرياضي-الخيالي)، كما قد يحصل العكس وفق ما اطلقنا عليه المنهج (الخيالي-الرياضي)، وهو القيام بالتأويل الخيالي لينتهي الى الصياغة الرياضية. فالعلاقة بين الرياضيات والخيال يمكن النظر اليها كعلاقة الابستمولوجيا بالهرمنوطيقا، فعندما تعمل الرياضيات على تحديد فعل الخيال وفقاً للمنهج الاول (الرياضي-الخيالي) فهذا يعني ان هناك نوعاً من البستمة الهرمنوطيقية، وعلى العكس عندما يحدد الخيال فعل الرياضيات وفقاً للمنهج المقابل (الخيالي-الرياضي)، اذ يعني ان هناك نوعاً من الهرمنة الابستمولوجية. وبالتالي فهناك حركتان تبدأ احداهما بالبستمة لتنتهي الى الهرمنة، في حين تبدأ الاخرى بالهرمنة لتنتهي الى البستمة.
وهذا الحال يناظر بوجه من الاعتبارات ما يحصل لدى العلاقة التي تربط النهجين في النظام الوجودي، اي الفلسفي والعرفاني قبال نهجي النظام الثاني الافتراضي: (الرياضي-الخيالي) و(الخيالي-الرياضي). فلدى الفلاسفة المسلمين تحليلاً لدرجات الادراك الثلاث (وهي العقلية والخيالية والحسية)، فقد ركزوا على القوتين المعرفيتين العقلية والخيالية، وجعلوا القوة العقلية اعلى المراتب الثلاث والتي تناسب الفلاسفة، ومن ثم تأتي بعدها القوة الخيالية التي تناسب الانبياء، ومن الطبيعي ان يكون على شاكلتهم العرفاء. فالقوة العقلية تمثل القوة الفلسفية البرهانية قبال القوة الخيالية المتمثلة بالقوة النبوية الاقناعية – ومثلها العرفانية -، فهما قوتان مختلفتان من حيث الاولوية، ويعاكسان الرؤية العرفانية التي ترى العكس صحيح، وهو الانتصار للقوة النبوية العرفانية او الخيالية قبال القوة العقلية الفلسفية. وهذا التعاكس يناظر النهج التعاكسي لدى فيزياء النظام الثاني، بمعنى ان القوة الفلسفية العقلية والعرفانية الخيالية يناظران في اعتباراتهما النهجين المختلفين للنظام الافتراضي، فالاولوية التي يعطيها الفلاسفة للقوة العقلية الفلسفية قبال القوة النبوية الخيالية – او العرفانية – تناظر الاولوية المعطاة للنهج (الرياضي-الخيالي) في قبال العكس. كما ان الاولوية التي يعطيها العرفاء للقوة العرفانية الخيالية قبال العقلية الفلسفية تناظر الاولوية للنهج (الخيالي-الرياضي)، وهو على العكس من السابق.
واذا كانت القوة الخيالية تحتاج الى القوة العقلية كما لدى الفلاسفة، او العكس صحيح كما لدى العرفاء، فان هذا الحال يشاكل ما عليه النظام الافتراضي، اذ يجعل الحاجة مزدوجة بين الخيال والرياضيات، فقد يحتاج الخيال الى الرياضيات كما في المنهج (الرياضي-الخيالي)، وكذا العكس صحيح وهو انه قد تحتاج الرياضيات الى الخيال كما في المنهج (الخيالي-الرياضي).
هكذا يتضح بان النظام الثاني الافتراضي للعلم يجد تناظرات مختلفة لدى مناهج الفهم الديني التراثي باستثناء ذلك الذي يعود الى المنهج البياني والذي يناظر النظام الاول الاجرائي.
يبقى النظام الثالث (الميتافيزيقي التخميني) للعلم، وهو تطوير للنظام الثاني بجعل وظيفة المنهجين الخيالي والرياضي تمارس دورها بلا حدود، وليس كما كان يفعله النظام الثاني ضمن حدود افق التوقع والانتظار التجريبي. وبذلك اصبحت الرياضيات مجردة دون ان يكون لها علاقة بالواقع سوى الاسقاط، كما ان الخيال هو ايضاً اصبح في غاية التجريد عن الواقع فلا يربطه به سوى الاسقاط لادنى مناسبة. وهو من هذه الناحية يتفق مع النزعة العرفانية للفهم، فهي تسقط اعتباراتها الخيالية على النص لادنى مناسبة. لذلك فكلاهما يحمل رؤى غريبة للغاية هي على شاكلة الرؤى الاسطورية التي قد يصعب تصديقها.
مع ذلك فان الفارق بين النظام الثالث للعلم والمنهج العرفاني للفهم هو ان الاول ذو نزعة تخمينية، في حين ان الاخير ذو نزعة توكيدية دوغمائية.
***
هكذا تجعلنا المقارنات السابقة ندرك بان التفاسير الفيزيائية هي اشبه بتأويلات النص المختلفة، فكل تفسير هو تأويل، وكل تأويل يقابله اخر، ويمكن تفسير اي شيء بتأويلات مختلفة. وعليه يمكننا ان نخضع النظم الفيزيائية لآليات القراءة كما تمارس في الفهم وفقاً لعلم الطريقة، وهو ما فصلنا الحديث عنه في كتاب (منطق فهم النص) و(مدخل الى فهم الاسلام). فمثلما في الفهم ثلاث آليات هي الاستظهار والتأويل والاستبطان، فكذا هو الحال في العلم، حيث فيه ما يقابل كل طريقة من هذه الطرق، فيمكن تطبيق الاستظهار على النظام الاول الاجرائي مثلما يطبق على الدائرة البيانية. كما يمكن تطبيق التأويل على النظام الثاني الافتراضي مثلما يطبق على الدائرة العقلية، سواء كانت فلسفية او كلامية، في حين ان الاستبطان يناسب النظام الثالث الميتافيزيقي التخميني، مثلما يناسب المنهج العرفاني الباطني لاعتقاداته الاسطورية لادنى مناسبة.
ومن حيث التفصيل، مثلما ان النص يتألف من ثلاثة عناصر، هي اللفظ والسياق والمجال، وان اي قراءة لا بد من ان تحتكم الى ترتيب العلاقة بين هذه العناصر، فكذلك يتألف الكون او الطبيعة من ثلاثة عناصر، هي الشيء والعلاقة والمجال، وان اي تفسير لا بد من ان يستظل بترتيب الروابط بين هذه العناصر. فهناك اشياء في الطبيعة يمكن الاشارة اليها بنحو ما؛ كالشجر والحجر والالكترون والبروتون، ولهذه الاشياء علاقاتها المتشعبة. كما ان لها مجالاتها الخاصة بحيث لا يختلط بعضها بالبعض الاخر، ومن ذلك عدم اختلاط قوانين الكوانتم للعالم الجسيمي بقوانين العالم الجسمي الكبير، رغم ان هذا الاخير قائم على الاول. ومثلما ان الكائن الحي يتألف من وحدات الحياة المسماة بالخلايا، الا ان لكل منهما قوانينه الخاصة التي لا تختلط بالاخرى رغم التراكب الحاصل بينهما.
اذاً هناك تناظر في العناصر بين النص والكون او الطبيعة، فاشياء هذه الاخيرة تناظر الفاظ النص، وعلاقاتها تناظر سياقاته، كما ان مجالاتها تناظر مجالاته.
وفي حالة النص تتصف الآلية الاستظهارية بأنها تعمل على مراعاة سياق النص في اخذها بالظهور اللفظي والمجال. وان الآلية الاستبطانية تعمل على الضد، فلا تأخذ بالمجال مما يقتضي عدم مراعاة السياق بتركها للظهور اللفظي. وان الآلية التأويلية تتخذ الطريق الوسطى، حيث تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر.
ويمكن التعبير عن الفوارق بين الآليات الثلاث بالصيغة الرياضية كما يلي:
الاستظهار = الظاهر + المجال
الاستبطان = - المجال - الظاهر
الـتـأويـــل = المجال - الظـاهـر
ومن الناحية الرمزية، لو رمزنا للاستظهار بحرف (هـ)، وللاستبطان بحرف (ط)، وللتأويل بحرف (ي)، وللظاهر بحرف (ظ)، وللمجال بحرف (م)، فان العلاقة ستكون كما يلي:
هـ = ظ + م
ط = - م – ظ
ي = م - ظ
وعليه يمكن توزيع النظم العلمية الثلاثة على آليات القراءة الثلاثة السابقة. فالنظام الاول يمارس نمط الاستظهار فيحافظ على الظهور الفعلي لعلاقات الاشياء ضمن مجالها، والثاني يمارس نمط التأويل باعتباره لا يحافظ على ظهور العلاقات، وان كان لا يتجاوز المجال المتعلق بها، في حين يمارس الثالث نمط الاستبطان لكونه يتجاوز مجال العلاقات باستدلاله من اي شيء على كل شيء.
هذه هي التناظرات بين نظم العلم والفهم، فالنظام الاجرائي التجريبي للعلم يناظر المنهج البياني للفهم، فكلاهما يمارس نمط القراءة الاستظهارية. والنظام الافتراضي الاستنباطي يناظر المنهج العقلي بشقيه الوجودي والمعياري، اذ كلاهما يمارس نمط القراءة التأويلية. كما ان النظام الميتافيزيقي التخميني يناظر المنهج العرفاني الباطني، حيث كلاهما يمارس نمط القراءة الاستبطانية لأدنى مناسبة..
وبالتالي فنحن امام ما نطلق عليه (هرمنوطيقا الفيزياء)!
للبحث صلة...



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظم العلم والهرمنوطيقا (4)
- الشذوذ والمسكوت عنه في العلم والفهم
- قواعد الكشف بين العلم والفهم
- مبدأ التكافؤ بين العلم والفهم
- نظم العلم والهرمنوطيقا (3)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (2)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (1)
- الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان
- ثلاث بنى عقلية منتجة: المثقف العلماني والديني والفقيه
- الفضاء الكوني والعلم المعاصر
- نظرية التجاوز المذهبي
- الفلسفة اليونانية والمصادر القديمة
- الإتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع للفهم الديني
- أزمة الإجتهاد الشيعي
- الدليل الاستقرائي عند المفكر الصدر (قراءة نقدية)
- المعنى ومشكلة اللغة
- العرفاء والتنزلات الالهية للوجود
- جواب على سؤال مطروح
- المصلحة ودورها في التشريع
- الواقع وضبط الفتوى


المزيد.....




- الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و ...
- عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها ...
- نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
- -ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني ...
- -200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب ...
- وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا ...
- ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط ...
- خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد ...
- ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها ...
- طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - نظم العلم والهرمنوطيقا (5)