|
-الثائر- آكل لحوم البشر
قصي الصافي
الحوار المتمدن-العدد: 4118 - 2013 / 6 / 9 - 02:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
( لمحة تأريخية عن حقوق الأسرى والمصابين من هند آكلة الكبود إلى معاهدة جنيف )
في كتاب قصة الحضارة يقول ويل ديورانت أن الحضارات التي تنتمي إلى عصور متباعدة قد تتعايش في عصر واحد ، وكلنا قد سمع عن قبائل تأكل لحوم البشر ومازالت تعيش في عالم القرن الواحد والعشرين ، وقد فوجئنا أن ثائراً في سورية قد أعلن أنه ينتمي إلى تلك الحضارة وهو يلتهم قلب جندي أسير بعد أن مزق جسده . في 28-9-1918 صوب الجندي البريطاني تاندي بندقيته صوب جندي ألماني لكنه إمتنع عن إطلاق الرصاص عليه لكونه جريحاً، وقد إتضح بعد ذلك أن الجندي الألماني الناجي كان هتلر نفسه ، الرجل الذي سيكون له دور مروع بعد عقدين . كلما اثيرت هذه الحادثة يثار معها سؤال ذو طابع فلسفي : لو كان تاندي يعلم ماسيسببه هذا الجندي الألماني من كوارث في المستقبل، فهل كان عليه أن يقتله متجاهلاً مبدأ تحريم قتل الجريح ؟، وهنا ينبري الكانتيون بالرفض قائلين أن القيم والمثل هي غايات بحد ذاتها ولا تحسب بعواقبها ، بينما يوافق البراغماتيون على أساس أن الفعل يقاس بمآلاته، و قتل هتلر الشاب الجريح سينقذ أرواح الملايين في المستقبل. أما البرابرة الجدد فلا يعنيهم هكذا سؤال لا من بعيد ولا من قريب، فهم من موقعهم - خارج التأريخ والحضارة - يسخرون من كل ما توصل إليه الإنسان من قيم ومبادئ.
كان الأسير في حروب العالم القديم ينتهي به المطاف معروضاً للبيع في أسواق النخاسة، أما الجريح فتدوسه أقدام الخيل إذا لم يمزق جسده العدو. ولم يطرأ تغير كبير في مجال أنسنة التعامل مع الأسرى والمصابين في الحروب عبر قرون طويلة، بل لم يبتعد العقل السائد كثيراً عن وحشية هند آكلة الكبود، فعلى الرغم من أن معظم الإمم قد عزفت عن إتخاذ الأسرى عبيداً، إلا أن التعامل اللإنساني معهم ومصادرة حقوقهم الطبيعية وأهمال الجرحى في الحروب كان سائداً حتى منتصف القرن التاسع عشر. وحسبي أن أذكر أن عدد الأطباء البيطريين لمعالجة الأحصنة في الحروب كان يصل إلى عشرة أضعاف عدد الأطباء البشريين لمعالجة الجرحى، أي أن الحصان يتفوق على الجندي في قيمته،وقد كان للتكنولوجيا الأثر الكبير في تفاقم مأساة الأسرى والجرحى، فالتكنولوجيا لم تطور فقط آليات الحرب والأسلحة، بل تطورت وسائل النقل وخاصةً القطارات، فإذا كان نابليون قد نقل جنوده إلى روسيا مشياً على الأقدام، فقد أصبح بالإمكان - في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- نقل مئات الآلاف من الجنود بالقطارات لساحات المعارك، مما قد يخلف عشرات الآلاف من الجرحى والإسرى. في عام 1859 في معركة سولفرينو بإيطاليا إشترك 300 ألف مقاتل وقد خلفت 38 ألف جريح، وقد صادف أن شهد معاناة الجرحى مواطن سويسري مرهف الحس يدعى هنري دونانت الذي إستطاع أن يعبئ الناس ويحفزهم على إنقاذ الجرحى من الطرفين دون تمييز، وقد نجحوا في تطبيب الآلاف منهم، ثم أصدر كتاباً بعنوان " ذكرى سولفرينو " يصف فيه معاناة الجرحى وهم يسبحون بدمائهم ويزحفون بين الجثث فتركلهم حوافر الخيل، لايسمع انينهم أحد ولا ينجدهم أحد. كان تأثير الكتاب منقطع النظير في تحريك مشاعر العامة والحكام ، ألا أن دونانت لم يكتف بذلك، بل كان لرحلاته المكوكية ولقاءاته مع أصحاب القرار والناشطين ورعايته للمؤتمرات الدولية أن اثمرت في تأسيس منظمة الصليب الأحمر عام 1863 ليتبعها بعد ذلك توقيع 12 دولة اروبية على معاهدة جنيف الأولى عام 1864 لضمان حقوق الأسرى والعناية بالجرحى. من الأسماء التي لا يمكن أن تغفلها صفحات التأريخ في هذا المجال ، الممرضة الشهيرة فلورنس نايتنجل التي كرست حياتها لتمريض الفقراء عموماً وجرحى الحروب خصوصاً. حين اختارت فلورنس مهنة التمريض عارضها كل أفراد العائلة، فمن المعيب انذاك أن ترى المرأة جسد الرجل عارياً ، كما أن الاوربيين في القرن التاسع عشر كانوا يضعون مرتبة الممرضة أدنى بدرجة من العاهرة، لم يثنها ذلك عن المضي في مشروعها الإنساني. في عام 1854 كتب وليم رسل في التايم تقريراً مبكياً عن إهمال الجرحى البريطانيين وتركهم يموتون بلا علاج في حرب جزيرة القرم ، وقد إستجابت نايتنجل مع ست ممرضات من الكنيسة لمعالجة الجرحى هناك ، فساهمت جهودها بتخفيض نسبة موت الجرحى من 42% إلى 2%. اثمرت لقاءاتها مع الملكة فيكتوريا وباقي المسؤولين وحملات التبرعات التي اقامتها ونشاطاتها الأخرى في بناء مستشفيات للجيش البريطاني ومدرسة لتخريج الممرضات. مما تحفظه ذاكرة التأريخ في هذا المجال أيضاً، الطبيبة ماري سيكول التي منعت من الذهاب مع مجموعة نايتنجل إلى حرب القرم لكونها سوداء من أصل جمايكي ،لكنها سافرت على حسابها الخاص وأنقذت الكثير من الجرحى وخاصة المصابين بالكوليرا التي انتشرت في المستشفى لنقص المعقمات. نسيت سيكول وخدماتها لأكثر من 100عام لأسباب عنصرية، إلا أنها أصبحت بعد 1970 رمزاً يستشهد به الناشطون ضد العنصرية.
مثلما للتأريخ صفحاته المضيئة، فإن له مكاناً لرمي النفايات نطلق عليه عادةً مزبلة التأريخ، و يبدو أن هذا المكان يليق بالبرابرة الجدد الذين يتلذذون بمضغ قلوب البشر.
#قصي_الصافي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرية والإنسان بين دستوفسكي وايريك فروم
-
دستويوفسكي مفكراً
-
العولمة والبطالة وانعكاساتها على العالم العربي
-
كاميراتنا ....كاميراتهم ..والصراع المعرفي
-
اليوتوبيا بين الفكر والارهاب
المزيد.....
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
-
محكمة مصرية تؤيد سجن المعارض السياسي أحمد طنطاوي لعام وحظر ت
...
-
اشتباكات مسلحة بنابلس وإصابة فلسطيني برصاص الاحتلال قرب رام
...
-
المقابر الجماعية في سوريا.. تأكيد أميركي على ضمان المساءلة
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|