أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صائب خليل - انليل: ذات صباح رطب في روتردام















المزيد.....

انليل: ذات صباح رطب في روتردام


صائب خليل

الحوار المتمدن-العدد: 1181 - 2005 / 4 / 28 - 10:10
المحور: الادب والفن
    


كان علي في ذلك الصباح ان اوصل زوجتي الى محطة القطار المركزية, ولما لم يكن لدينا من نترك معه ابننا"انليل", الذي سيبلغ العام الاول من عمره قريبا, اضطررنا الى اقلاق نومه واخذه معنا.

كان الجو خريفيا راعشا بالبرد والمطر الخفيف لكنه كان كافيا لجعل زوجتي تلف انليل بالمزيد من الملابس السميكة رغم احتجاجاتي, حتى صار اشبه بالكرة.
كان كل شيء في السماء يدعو الى الكسل والبقاء في البيوت الدافئة, لكن شوارع روتردام كانت تختنق بالسيارات رغم ان ساعة زحام الصباح قد مضت.
بعد قليل ودعنا, انا و"انليل", "ماما" حتى اختفت بين زحام المسافرين.

وفي طريق العودة الى البيت, وقفت عند اشارة حمراء واخذت نفسا عميقا. انتبهت الى ان انليل توقف منذ فترة عن الغناء, وانليل يبدا بالغناء عندما يكون نعسانا, ويعزل نفسه تماما, كانه يحدو لنفسه, حتى ينام.
التفتٌ اليه...كان فعلا قد غفى على كرسيه والقى برأسه الى الخلف. شعرت وانا انظر الى استرخاء وجهه ويديه كم انني متوتر ومتعب, وكم هي مشدودة عضلات وجهي!

ايقظني من افكاري صوت "هورن" السيارة التي خلفي, فانتبهت الى ان الاشارة قد اصبحت خضراء. شعرت بالحرج قليلا وحاولت ان انطلق بلا تأخير. تحركت سيارتي قليلا ثم انطفأ المحرك! اللعنة..شغلتها بسرعة وكررت حركات يدي وساقاي هنا وهناك على عصا الى جانبي ودواسة امامي فانطلقت من جديد.

نظرت الى السيارة التي خلفي لاطمئن انها تمكنت من عبور الاشارة قبل احمرارها, وانها لم تتأخر بسبب غفلتي. تنفست الصعداء, ومضيت الى الامام. لاحظت ان رأسي بدأ يتحرر تدريجيا من الاحراج, لكن شعورا محتجا كان ينمو محله, حتى انتهيت الى احساس غريب, خليط من التعب والغضب والاعتراض على العالم, تحول بدوره تدريجيا الى تمرد هاديء يسيطر علي فاستجيب له واوقف السيارة في وسط الشارع واطفيء المحرك!

التفتٌ الى انليل لاتنفس من استرخائه لحظة سكينة. عاد السائق في السيارة خلفي يدق "الهورن", ولعله كان يشتم ايضا. ابتسمت ونزلت من السيارة وتوجهت اليه. كان رجلا في الستين من العمر, تجلس الى جانبه امرأة يبدو انها زوجته. نقرت على زجاج شباكه ففتحه فتحة صغيرة وهو ينظر الي بتساؤل منزعج وفمه نصف مفتوح.

اشرت له ان يأتي معي الى سيارتي لاريه شيئا. بهت قليلا وقال شيئا لزوجته, ثم عاد الي ليقول انه ليس ميكانيكيا. كان يستخدم يديه لاشارات كثيرة للمساعدة على التعبير, حيث فهم, ان لغتي الهولندية ما زالت بعيدة عن الكمال.

عدت انقر على زجاج سيارته واشجعه على النزول وان يتبعني بحركات من رأسي ويدي, واشرت الى زوجته كذلك ان تأتي معنا. نظر الزوجان الى بعضهما, وتمتما شيئا ما, ثم فتح الزوج الباب ونزل, وانا الح على زوجته ان ترافقنا, لكنها بقيت مكانها ونظرت في اتجاه اخر وهي تتبرم.

سرت مع الرجل نحو سيارتي وتوقفت امام بابها الخلفي وانا اشير اليه ان ينظر الى الداخل. نظر الرجل الي محتارا, ثم نظر الى الداخل يبحث عما قد يكون سبب دعوتي له. لم يجد شيئا, فاشار بيده متسائلا: ماذا هناك؟
اشرت له مرة اخرى بتوكيد الى انليل النائم, فتساءل الرجل باشارة قلقة من يده ووجه: هل هو مريض؟ اشرت له بالنفي القاطع, ثم وضعت كفي على بعضهما ووضعتهما تحت رأسي واغمضت عيناي: اي انظر كيف ينام انليل بسلام!

نظر الرجل الى انليل ثم نظر الي بحيرة, ثم نظر الى انليل مرة اخرى, ثم بدأت ابتسامة بطيئة بالنمو على شفتيه, كانها كانت تشق طريقها بصعوبة بين تجاعيد وجهه الذي بدا كأنه نسي ان يبتسم منذ مدة. ثم راحت شفتيه تتحركان كأنه كان يناغي الطفل النائم ويتمتم بالحداء له.

نزلت الزوجة في هذه الاثناء وجاءت الى زوجها وهي تؤنبه على تأخره, لكنه وضع اصبعه على فمه لكي تخفض صوتها واشار دون ان ينظر اليها, ان تنظر الى الداخل. في هذه الاثناء كانت منبهات السيارات خلفنا قد بدأت تتزايد ونزل البعض ينظر ما المشكلة التي تعيق السير.

نظرت المرأة الى انليل ثم الى زوجها متسائلة, فاشار اليها بالحاح الى حيث ينام انليل. استسلمت المرأة لالحاح زوجها وراحت تتأمل انليل النائم, دون ان يبدو على وجهها اي تعبير. ثم, وفجأة, مدت اصابعها تمسح على الزجاجة كأنها تمسح على شعر طفل, وهي تتمتم " يا مسيح!"

شعرت وانا انظر اليهما بالغبطة, لقد وصلت رسالتي! احسست انني عقدت صفقة صداقة مع العالم الصغير حولي, ورأيته اكثر طيبة وودا. نفحت سعادتي فيُ شحنة من التهور فعدوت الى السيارات الاخرى التي كان من فيها قد بدأ صبرهم بالنفاد, وراحت تملأ الشارع ضجيجا, و رحت ادعو ركابها الواحد بعد الاخر ان يأتي الينا, فتحرك العديد منهم يدفعهم الفضول وتبدو عليهم الحيرة.

نظرت الى سيارتي ووجدت الحشد يتزايد. وقف بعض الماشين على الرصيف وانضموا الى المجموعة وعبر البعض من الجانب الاخر من الطريق ليرى ما الامر. وسرعان ما ساد المكان جو من الالفة, وراح الناس يتحدثون مع بعضهم بجمل قصيرة يقطعها الصمت والابتسامات واشارات الموافقة على شيء ما بهز الرأس والبعض يشير الى انليل النائم بينما استمر بعضهم في حديث تعارف جدي. كان ضوضاء حديث المجموعة وحماسها قد بدأ ينافس ضوضاء السيارات البعيدة ويفرض نفسه على المكان. لم يعد رذاذ المطر مصدر ازعاج بل بدا كأنه جزء منسجم يكمل الجو السريالي الرقيق الذي ساد الشارع.

نظرت ثانية الى داخل سيارتي, فوجدت ان انليل مازال نائما بهدوء ملائكي, وقد القى برأسه الى الخلف. كان فمه الصغير المفتوح الى الاعلى اشبه بالمنقار بين وجنتيه المتوردتين المليئتين, في تباين جميل مع شعر رأسه الاسود الداكن, اما رموش عينيه المغلقتين فبدتا طويلة اكثر من العادة.

فجأة لمحت شرطيين يقتربان منا ثم يسألان عن صاحب السيارة, ثم سألني احدهما بود: هل هناك مشكلة ايها السيد؟ كلا يا سيدي...لقد انتهت المشكلة, ساسير فورا. جلست خلف المقود والتفتٌ, فوجدت الشرطيين يتأملان انليلي وقد تلبس احدهما ابتسامة اقرب الى الخشوع. اشرت للناس مودعا ومضيت اسوق ببطء شديد متعمدا ان اترك قطرات المطر على الزجاجة الامامية لارى من خلالها اضواء الشوارع وقد تمايلت وتحورت.

اختفت شوارع روتردام القاسية المزدحمة, وحل محلها امامي لوحة انطباعية جميلة لفان خوخ تتقافز فيها مصابيح السيارات الخلفية الحمراء والاضواء الصفراء, وشعرت كاني وانليل في مركبة فضائية تدخل اللوحة وتتحول تدريجيا الى لطخة الوان زيتية مرحة.



#صائب_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقاحات ضد الجنون:الحلقة رقم صفر- مدخل الى الجنون
- سيف ديموقليس الجديد
- مسرحية يارة الصامتة
- بياع الخواتم وصحبه الكرام
- مهمات الحكومة القادمة: لكل معركة خيولها
- من يخجل مِن مَن؟ : دعوة لتجربة احترام طوعي للقانون
- هل كان السادات متخلفا عقليا؟
- ااشرف عبد الفتاح والسادات مرة اخرى, واصول الرد على كتابات ال ...
- بعض الناس يحس بالنقص
- التعامل الفعال مع ازمة الاردن
- الطلبة والعصابات والنكتة الايرانية: حول احداث جامعة البصرة
- تفجير الحلة مؤامرة اردنية عمرها اكثر من عام
- لبنان يكتشف دواء للسرطان
- ايكاروس: مضطهدي الشعوب يدرسونها, لكنها لا تدرسهم
- الاقناع المعكوس: حول قائمة الائتلاف والجلبي والقرارات العشوا ...
- اسئلة قبل نتائج الانتخابات
- نظرية الخونة الابطال لاسحق رابين واشرف عبد الفتاح
- ليس من السهل على ابو مازن ان يكون في شجاعة السادات
- رهان الديمقراطية الخطير
- سياسيون مصابون بنقص الحضارة المزمن: حول الشغب السياسي العراق ...


المزيد.....




- صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
- إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م ...
- مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صائب خليل - انليل: ذات صباح رطب في روتردام