باريس
من أين جاء التطرف الإسلامي اليوم؟ وفي أي أفق تاريخي
يندرج؟وهل يمكن تعقب جذوره عبر امتداده الزمني،وتوقع تطوره على المديين المتوسط
والبعيد؟ كيف يمكن تصور طبيعة العلاقات ، في الماضي والحاضر والمستقبل، بين العالم
الإسلامي والحداثة الغربية؟ حول هذه التساؤلات صدرت عدة مؤلفات في الآونة
الأخيرة وعلى رأسها كتاب برنار لويس الأستاذ في جامعة برينستون والمولود في لندن
سنة 1916 والمتمكن كلياً من اللغة العربية والفارسية والتركية والآرامية ولغات
أخرى، والمتخصص بالإسلام، و الذي حاول فيه تقديم إجابات دقيقة ومحددة .
من مفارقات حوادث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 أنها لم تخلق فضولاً
لدى الرأي العام الغربي لمعرفة أعمق بالإسلام والمسلمين فقط فحسب ،
بل وفي نفس الوقت تكريس اللغة المتخشبة المستخدمة لدى البعض ـ مسلمين
وغربيين ـ بإسم تفادي الخلط المزعوم بين الإسلام الجيد أو المعتدل الذي تعتنقه
غالبية المسلمين في العالم "المخلصين والمطبقين لتعاليم القرآن الصحيحة" ، والأقلية
المتطرفة المنحرفة عن الخط الصحيح للإسلام "التي خانت النص المقدس"، والمعتنقة
للإسلام المتطرف والمتشدد ، وهي اللغة أو الخطاب الذي يسعى جاهدا ليثبت إن الإسلام
لايطرح أية مشكلة أسوة بالأديان السماوية الأخرى في الغرب أي المسيحية واليهودية
.
إن هذا الخطاب التوفيقي أو هذا الخط التبريري مهما كانت نواياه الحسنة، يدعم
التساؤلات المحرمة بدلاً من أن يضعفها. وأول هذه التساؤلات المحرمة هو : " هل
للإسلام دور، وهل يتحمل جزء من المسؤولية في الوضع الذي تعيشه المجتمعات والبلدان
الإسلامية اليوم ـ كغياب الحريات ، وإنعدام الديموقراطية وحرية التعبير،ووضع المرأة
المتردي ودونيتها، وقمع التعددية السياسية، ومنع التناوب السلمي على السلطة، و
وتدني المستوى التكنولوجي ، وندرة المجتمعات المدنية المتطورة، وتفشي الأمية، الخ
علماً بأن الكثير من دول العالم الإسلامي ليست فقيرة اقتصادياً ولا تفتقد للتاريخ
والتراث العريق.والسؤال الثاني : ماهو الموقف الذي ينبغي تبنيه في مواجهة مطالب
الإسلام المعاصر، خاصة الشق السياسي أو المسيّس منه ، تجاه المجتمعات الغربية التي
يتطور ويتكاثر اليوم في أحضانها، خاصة تلك التي تخلصت من ربقة الأديان وهيمنتها
كفرنسا ؟ بعد سنة من الصمت والانشداه إثر حوادث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أغرقت
السوق الغربية ، وخاصة الفرنسية، بسيل من الكتب التي تتحدث عن الإسلام وتعالج مختلف
الموضوعات الحساسة كعلاقة الإسلام بالشمولية والتوتاليتارية والنزعة الاستبدادية
والعنف والإرهاب والأممية الإسلامية القتالية أو المعادية للغرب، وغير ذلك من
المواضيع والمقاربات المختلفة تبعاً لكتابها ومستوى فهمهم للإسلام ، مما يثير
سجالاً ونقاشاً حقيقياً وجاداً وصعباً اليوم داخل المجتمعات الغربية تعرضه وسائل
الإعلام وتتابعه وتنشره عبر البرامج التلفزيونية والأعداد الخاصة في الصحافة
المكتوبة والإنترنيت.وكلها تركز على حالة الجهل والسذاجة التي تؤطّر وتسيطر على
أذهان المعنيين بهذا الأمر سواء كانوا مسلمين أوأجانب غير مسلمين. وكلها تتفق على
أن " المسألة الإسلامية مطروحة أمامنا" مثلما هي " المسألة الكاثوليكية في القرون
الماضي والتي صرنا ننسى أنها باتت خلفنا" .
هذا ما نستشفه من قراءة مجموعة من
الكتب التي سنناقشها في سلسلة من المقالات ومن بينها كتاب المستشرق المعروف برنار
لويس الذي يستعرض ويناقش هذه المساءل عبر طرحه واستعراضه لتاريخ الدول الإسلامية
حيث يقول :" إن الشعور بالإنحطاط والتقهقر التاريخي لهذه الدول يشكل منذ قرون
موضوعاً تناقشه النخبة الإسلامية المتعلمة وتبحث في أسبابه". ففي كتابه الأخير:"
مالذي حدث؟ الإسلام والغرب والحداثة أو العصرنة"[ Que s est-il passé? L Islam,L
Occident et la Modernité ] الصادر عن منشورات غاليمار الفرنسية، يعتقد هذا المختص
الكبير بشؤون الإسلام إن البلدان والمجتمعات الإسلامية تعاني من إنغلاق تاريخي بعيد
عن كونها ضحية لغرب شرير أضفيت عليه الصفات الشيطانية مما جعلها تدينه وتشنّع به،
بينما يكمن تفسير هذه الظاهرة [ أي تخلف العالم الإسلامي ] في هيمنة وتشديد قبضة
الخصوصيات الدينية للإسلام على هذه المجتمعات.
وفي مقابل أطروحة التاريخ المعدّل
لإسلام حطمه الإستعمار، يذكّر بيرنار لويس بأن الحضارة الإسلامية العريقة التي تلقت
واستوعبت وهضمت التراث اليوناني والروماني ، والمنتصرة عسكرياً والمتقدمة على الغرب
على الصعد الاقتصاية والثقافية والفكرية والتربوية والعلمية والثقافية من القرن
السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي ، هي التي إنهارت من نفسها بفعل عوامل داخلية
منذ القرن السادس عشر الميلادي تاركة المجال مفتوحاً وبصورة نهائية للنهضة
الأوروبية وعصر الأنوار .
مالذي حدث؟ هذا السؤال يطرحه المسلمون قبل غيرهم :
لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ وفي مواجهة دونيتهم الجديدة وتأخرهم
التقني، خاصة في مجال التسلح وفنون الحرب، طلب الخلفاء المسلمين من
الفقهاء ورجال الدين القيام " بتجديد مذهل وجوهري " أو بالمصطلحات المعاصرة ، إجراء
إصلاحات جوهرية، والإجابة على تساؤلات كانت محيرة وتستدعي إجابات من قبيل: هل يمكن
للمسلمين إستخدام معلومات ومعارف وخبرات " البرابرة الكفار" ؟ وكان رد رجال الدين
بنعم إذا كان ذلك يساعد في محاربتهم بصورة أكثر فعالية . ولكن بالرغم من تبني
استخدام البنادق والبارود والمدافع وهي مخترعات غربية، إلاّ أن الهزيمة الساحقة
للمسلمين أمام فيينا سنة 1683 شكلت درساً قاسياً وقاطعاً لا لبس فيه.
ومنذ ذلك
الحين إنقسمت النخبة الواعية والمتعلمة في العالم الإسلامي والواعية لقدوم أزمة
هائلة ستعصف بالعالم الإسلامي على نفسها إلى فريقين. فدعا البعض من هذه النخبة إلى
تقليد العالم الغربي الذي تفوق على العالم الإسلامي . لكن بالنسبة للغالبية من
بينهم ، تكمن الأسباب الرئيسية لهذه التقهقرات والتراجعات والإنكسارات والمآسي ، في
إبتعاد المسلمين عن التراث والتقاليد الإسلامية السامية والتي يتعين عليهم العودة
إليها لكي يفلحوا. هذا ما استخلصه بيرنار لويس في تحليله في كتابه الآنف الذكر
والذي شخّص كذلك أنه بعد مرور قرون عديدة :" فإن نفس هذا التشخيص والعلاج المقترح
مازال مطروحاً إلى اليوم ومنتشراً بين فئات واسعة من النخبة الإسلامية المثقفة في
الشرق الأوسط". فلم يلحق الإسلام بركب الحضارة الغربية وتقدمها التكنولوجي والعلمي
والاقتصادي والسياسي والعسكري والتعليمي والتربوي للحضارة الغربية المعاصرة.ويلاحظ
بيرنار لويس بهذا الصدد خصوصية محددة:" بينما كان العالم الإسلامي في فترة زمنية
معينة من تاريخه بوتقة تصب فيها وتتلاقى وتتلاقح بشكل خصب كل المعارف والخبرات
والحضارات الإغريقية والفارسية، والتزاوج بين علم الجبر والأرقام الهندية، إنعكست
الحالة اليوم وتحول العلم إلى عنصر رفض. الأمر الذي بات يشكل اليوم أحد ابرز
الملامح الأكثر لفتاً للإنتباه التي تميز الشرق الأوسط عن باقي المناطق في العالم
ممن عانت بدورها بشكل أو بآخر ، من صدمة الحضارة الغربية . ففي الوقت الحاضر هناك
العديد من الدول الآسيوية ممن تشارك بحيوية وفعالية ونشاط في التنمية العلمية التي
لم تعد غربية فقط بل عالمية . وفيما عدا بعض الفضاءات " المغرّبة" والمنعزلة داخل
العالم العربي والإسلامي، وحفنة من الباحثين والعلماء من أصل شرق أوسطي يعملون في
الغرب، فإن مساهمة المنطقة العربية والإسلامية في النشاط العلمي نادرة وشبه معدومة
مقارنة بمساهمات باقي الدول غير الغربية ، أو بالمقارنة بماضي الدول العربية
والإسلامية ذاته، إذا استخدمنا مقياس وتيرة النشر العلمي في المجلات العلمية
الدولية المتخصصة والمعترف بها عالمياً.
وبالمقارنة أيضاً مع تنامي الدخل
الاقتصادي ومضاعفة أسعار النفط الخام فإن معدل النمو من خلال دخل الفرد في هذه
المجتمعات هو الأكثر انخفاضاً في العالم. يعتقد برنار لويس إن الإخفاقات المشار
إليها "ناجمة عن أسباب ثقافية وتخدير النزعة الإبداعية الزمنية أو الدنيوية بدين
تسلطي:" ففكرة وجود أشخاص ونشاطات و إبداعات و جوانب من الوجود البشري
والإنساني يمكن أن تفلت من هيمنة وطغيان الدين والعقيدة الإلهية ، أمر غريب
عن الفكر الإسلامي المستسلم للرعاية الربانية والتوجيه الإلهي"، وإن هذا التفكير
يشكل عائقاً إضافياً يشجع على التبعية والإتكالية والكسل والجمود. فحسب العقيدة
الإسلامية كما يفهمها برنار لويس، لايحق للإنسان أن يشرّع لنفسه وبنفسه . وبالنسبة
للمؤمنين لايوجد سوى قانون واحد ألا وهو الشريعة الإلهية المقدسة التي أوحى بها
الله لأنبيائه ورسله".أي حقيقة مطلقة لاينبغي بأي شكل من الأشكال الحيود أو
الابتعاد عنها، والتي يتعين دوماً العودة إليها. في حين إن الغرب بدأ نهضته ونموه
وتقدمه منذ اللحظة التي إنعتق فيها من فكرة الحقيقة الإلهية المطلقة.
المسيحية
سمحت في الغرب ، بعد صراع دموي مرير ، بالخروج من الدين . لأن المجتمعات الغربية
أفلحت في تحقيق الفصل بين الزمني والروحي ، بين الديني والدنيوي ، وسلمت المجتمع
للمبادرات البشرية والتي قادت في نهاية المطاف، بعد مخاضات وآلام ومعاناة شديدة،
إلى دفع المسألة الإلهية إلى الحيز الشخصي البحت. أما بالنسبة للإسلام فإن العبور
إلى " العلماني" مازال يثير إشكالية عويصة. فالنبي محمد لم يخلق أو يؤسس " كنيسة ـ
مؤسسة" بل خلق جيشاً ودولة خاضعة لكلام الله ، على حد تعبير برنار لويس.
لاننسى
إن رجال الدين قاوموا وحرموا ومنعوا خلال ثلاث قرون دخول المطبعة إلى الإمبراطورية
العثمانية. لذلك يعتقد برنار لويس إن غياب وإنعدام " الحرية" هو السبب والأساس لكل
المشاكل والآلام التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم. ويقصد بذلك :" حرية الذهن
المتحرر من العقائد والرقابة الدينية، حرية الاقتصاد المتحرر من الفساد
والرشوة والمحسوبية والمنسوبية والتهاون والإهمال، حرية النساء المتحررات من القمع
الذكوري وهيمنة الرجل، حرية المواطنين المتحررين من قبضة الطغاة والدكتاتوريين
والاستبداد الحكومي " ، إلاّ أنه يلاحظ أن أنصار هذا التحرر ليس لهم التأثير
الذي كان لديهم في القرن التاسع عشر.
إن هذا الشرخ والتفاوت المتنامي بين
الافتخار بعرض الصيغة النهائية والتامة للإيمان وبين الموقع المتردي الذي يحتله
الإسلام في العالم ، يحث على ضرورة إيجاد مسؤول عن هذا الخلل ". من الذي فعل بنا
ذلك؟" عندما تسوء الأمور فمن الطبيعي جداً ـ من صميم الفطرة الإنسانية ـ طرح
مثل هذا التساؤل كما يقول برنار لويس. فمن الأسهل والأجدى إلقاء تبعية
المشاكل على عاتق الآخرين. إن التغلف بمظهر الضحية ساعد في باديء الأمر في
إلقاء التبعية على الإستعمارالانجليزي والفرنسي ـ وهو ليس بريء كلياً من ذلك بالطبع
ـ لكنه انتهى منذ نصف قرن. فالوضع الإسلامي بدأ بالتدهور والانحطاط قبل وصول
الإستعمار إلى العالم الإسلامي بفترة طويلة.ومازال التدهور مستمراً بوتيرة أعلى منذ
خروج الإستعمار من العالمين العربي والإسلامي وهذه حقيقة يعرضها برنار لويس في
كتابه مستشهداً بها من خلال عدد كبير من الأمثلة والظواهر.ومن ثم إنتقل دور المذنب
إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، وإسرائيل، واليهود، والغرب برمته :" فبالنسبة
للحكومات المستبدة وغير المنتجة التي تحكم الشرق الأوسط كله فإن هذه اللعبة تقوم
بعمل مفيد، إن لم نقل أساسي: ألا وهو تفسير وتبرير الفقر الذي يقفون أمامه عاجزين
عن حله وعلاجه،وهم أحد أسبابه بالطبع، وإضفاء الشرعية على سلطات مستبدة
طاغية تزداد طغياناً واستهتاراً يوماً بعد يوم، وتحويل إستياء الناس باتجاه أهداف
أخرى بعدة عنهم".
العظمة الضائعة للإسلام:
تتلخص أطروحة برنار لويس بالعبارة التالية إن إنغلاق العالم
الإسلامي على نفسه وعدم إنفتاحه وتحرره من قيوده الداخلية هو السبب في إنحداره
وتقهقره وتراجعه وانحطاطه، بعد أن عاش فترة إنتعاشه وإنتشاره وعظمته. لقد شهدت
الحضارة الإسلامية أوجها وعظمتها بين 800 و 1800 ميلادية أي خلال ألف سنة من
الهيمنة على العالم والإشعاع والعلم والتقدم وقيادة البشرية وأتاحت القدرة العسكرية
للعالم الإسلامي منذ القرن السابع أن يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.وامتدت
إمبراطورية الإسلام من الجزيرة إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا، من مصر وسوريا وشمال
أفريقيا وإسبانيا وآسيا الوسطى وجنوب فرنسا وإيطاليا وروسيا وأوروبا الشرقية
الخ والتي تمثلت بحدود الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف.
إلاّ أن
المسلمين لم يتأملوا في أن دينهم في فترات عظمته وتفوقه كان يستوعب ويهضم ويطور
ويتجاوز تعاليم الأديان التوحيدية السابقة له والتي كانت عاجزة عن اللحاق به في
كافة المجالات، العسكرية والتجارية والسياسية والعلمية والثقافية والفكرية
والإبداعية. لكن المفارقة برأي برنار لويس هي أن هذا النجاح كان يتضمن في داخله
عوامل ضعفه وهشاشته. ويمكن اعتبار بحث برنار لويس بمثابة إجابة على هذه المفارقة :
فنحن أمام قوة عظمى تصبح ضعيفة وعاجزة. إن هذا العالم المبني على أسس متينة
والمزدهر والمتطور والمتسامح مع الأقليات والأجانب أكثر بكثير مما كانت عليه
المسيحية في نفس الفترة الزمنية، هو في ذات الوقت منغلق على نفسه أو بالأحرى
كان بمثابة فضاء مغلق سجين قناعته بتفوقه بدون علاقة مع الخارج. ورث علوماً من
الإغريق وطورها علماء في الفلك والطب والفلسفة والرياضيات كانوا يعتقدون أنهم
سبروا أغوار كل شيء ودرسوا كل شيء. في مقابل برابرة الشمال المسيحيين المتأخرين
والمحبطين الذين لاينتظر منهم شيء ولايخاف منهم أحد وليس لديهم مايخسروه، حيث تم
دفع خطر الحروب الصليبية الأولى كما كان الحال في معركة لبانت سنة 1571 التي كانت
هزيمة حقيقية لكنها لم تغير شيئاً في مجرى التاريخ إذ استمر الباب العالي في تعزيز
إمبراطوريته الإسلامية وتوسيعها حتى أبواب فيينا . ومع الحصار الثاني لفيينا
سنة 1683 ونتيجتها المخزية حيث لم تتعرض الإمبراطورية العثمانية لمثل هذه
الهزيمة النكراء من قبل منذ ولادتها على حد قول أحد المؤرخين، بدأت النخبة
الإسلامية تطرح تساؤلات جادة : مالذي حدث؟ ومالذي ينبغي عمله؟وهي أسئلة صعبة في
صياغتها واستيعابها وفهمها كما أن مواجهتها مؤلمة جداً لقلة وسائل الإعلام الكفيلة
بإيصال الحقيقة آنذاك. فالمسلمون لايسافرون إلى الغرب إلاّ نادراً، فالعيش في بلاد
الكفار أمر مكروه لايحبذه أحد ولايوجد لدى السلاطين المسلمين سفارات ثابتة لدى
الحكام الأجانب. كان يتم إرسال مبعوثين معينين لمهام محددة ولم يكن أحد يهتم بدراسة
اللغات الأجنبية والنصوص الأجنبية والأخلاق والمجتمعات الأوروبية في حين تمتلك هذه
الأخيرة عدداً كبيراً من "المستشرقين" المتخصصين بدراسة العالم الإسلامي وتراثه
ولغاته وتاريخه ونصوصه بينما كانت الإمبراطورية العثمانية خالية من "
المستغربين " .
تم تأخير إنفتاح الإمبراطورية العثمانية على الحداثة الغربية
لفترة طويلة بحجة اليقين بتفوقها عليها." فبماذا يمكن للكفار يتفوقوا على المسلمين
ويقوموا بأفضل ما يقوم به أتباع محمد"؟ ولكن عندما إتضح بصورة جلية لاتقبل
الجدل تقدم الصناعات والعلوم ووسائل النقل والنظم المالية والتنظيم الإجتماعي
والتربية والتعليم والتقنية والفنون والآداب وتطورها بسرعة مذهلة في الغرب، تجلت
آثار الصدمة وفاق بعض المسلمين على حقيقة مرة وأذعنوا للأمر الواقع وتولدت لدى
البعض منهم قناعة أنه لابد من الإلتحاق بمدارس الكفار الأمر الذي لم يكن ممكناً ولا
حتى على مستوى التفكير . يتابع برنار لويس خيوط ولوج العالم المعاصر والحديث إلى
العالم المغلق للقوى العظمى القديمة. ويتتبع عمليات تكوين الخبراء والمترجمين
وإستيراد الموسيقى وتغيير الأزياء ودخول أجهزة التوقبت والساعات الذي تبعه تغيير في
السيرورة الثقافية ونمطية التفكير اليومي وأكتشف العالم الإسلامي باحتكاكه بالعصرنة
أدوات وتقنيات ومهن جديدة [ صحافة، ومحاماة، ] التي لاتؤثر بشكل جوهري ومباشرة على
الهوية الإسلامية الأساسية. وليس صدفة أن يكون بند الأحوال الشخصية الخاص بالمرأة
هو آخر من يتأثر ويتغير في عملية التأثر والتأثير إذ تبينت الخطوط التي
لايمكن للعالم القديم تجاوزها في سعيه للتكيف مع المتغيرات الحديثة.
كانت مسألة العلمانية Laïcité بالطبع مسألة مركزية ويشدد برنار لويس على صعوبات
العثور على مقابل عربي أو فارسي أو تركي أو إسلامي لهذا المصطلح
الغربي، وذكّر برنار لويس بكثير من المحاولات التي باءت بالفشل في هذا
الإتجاه مما دعاه إلى إعتبار الفشل والإخفاق من علامات العالم الإسلامي المعاصر في
كافة المجالات : الاقتنصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية، وفق أي معيار من
معايير النجاح في العصر الحديث. وبعد طغيان الشعور بالخيبة والاحباط
والإنكسار في العالم الإسلامي بعد اعترافه بخسارته لتفوقه وهيمنته الكونية، إزدادت
خيبته بعد رؤيته لأمم أخرى نجحت في لعبة المنافسة مع الغرب أفضل منه كالكوريين
واليابانيين.
ويختتم برنار لويس أطروحته بالقول إن العالم الإسلامي يتحمل وحده
وزر إنحطاطه وهزيمته وتراجعه وإنكساره وعليه وحده تقع مسؤولية الخروج من هذا المأزق
ومواجهة العالم الحديث.ومن المؤكد إن مثل هذه التأكيدات الجازمة على لسان هذا
المستشرق ستؤدي إلى عاصفة من الانتقادات والاحتجاجات من قبل مثقفي العالم الإسلامي
كما كان الحال قبل سمنوات مع المفكر والبروفيسور الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد الذي
انتقد في كتابه " الاستشراق " محاولات برنار لويس وأمثاله وأعتبرهم مسؤولين عن
تشكيل صورة خاطئة ومفبركة أومصطنعة عن الشرق و العالم الإسلامي وقد هاجم ادوارد
سعيد بعنف كتاب برنار لويس في تموز 2002 في طبعته الانجليزية في مقال في مجلة
هابرز متهما إياه بجهله لخصوصية العالم الإسلامي والشرق وتعقيداته
الكثيرة ووصف كتابه بالكارثة الفكرية والأخلاقية لمدعي العلم والتخصص في مجال
الاستشراق البعيد ، ـ برأي ادوار سعيد ـ، عن أية تجربة حقيقية ومباشرة مع الإسلام.
هل برنار لويس مخطيء في تشخيصه لعلل ونواقص العالم الإسلامي ؟ هذا
ما يمكننا أن نحكم به بعد قراءتنا لكتابه الذي ينهيه باستنتاج مثير
مفاده أن أمام العالم الإسلامي طريقين ممكنين اليوم: الأول هو العودة التامة قلباً
وقالباً ، شكلاً ومضموناً للإسلام الأصيل المتشدد والسلفي في مواجهة حداثة تعتبر في
عرف هذا العالم الإسلامي فاسدة ومفسدة.حيث أن الخطأ والإشكال ناجم عن
الإبتعاد أو التخلي عن القواعد والتشريعات والقيم القرآنية الأكثر تقييداً . فيجب
إذن تطبيق الشريعة بحذافيرها. فكلما طبقت وأحترمت كلما قلّت المشاكل وعادت العافية
للعالم الإسلامي حسب اعتقاد الكثير من المسلمين السلفيين والأصوليين . والثاني هو
تشييد دولة حقيقية علمانية وعصرية وديموقراطية تطبق فيها المساواة بين الجنسين
والتحرر من العقلية الخرافية والنزعة الأسطورية . دولة العقلانية
والحرية . كانت أول محاولة جادة وبدائية في هذا الطريق بدأتها تركيا في أوائل القرن
العشرين على يد كمال أتاتورك الذي أصبح فيما بعد رمزالشر و اللعنة بعينها في نظر
الإسلاميين. ولا أحد يعرف أي واحد من هذين الخيارين سينتصر ويفرض نفسه داخل العالم
الإسلامي.
يتبع....