محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1179 - 2005 / 4 / 26 - 10:27
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
حاولت طوال الفترة السابقة التي انقطعت فيها عن متابعة سرد الذاكرات أن أستريح من استيلاء الكوابيس القديمة التي ما فتأت تزورني مذ شرعت في كتابة( من ذاكرة معتقل سابق) ونشرها, لأني احتجت لضرورة السرد أن أستحضر كل ما مضى من الليالي الكابوسية, إن كان الخوف الشديد من السقوط بين أيدي عناصر الأمن في مفارز الطرق, أو الطرقات العنيفة على باب الدار لبعض الزوار نهارا كان أم ليلاَ , حفلات التعذيب إن كانت للاستقبال أو للتحقيق للحصول على الإعترافات أو لمزاج جلاد سادي يريد أن يستمتع لرؤية ضحيته تتألم, غرف التعذيب والطقوس التي يتبعها الجلادون عندما يبدؤون بسلخنا من ملابسنا تحت الدش وصب الماء الساخن أحيانا وأحيانا البارد لنكون جاهزين للصعقات الكهربائية أو أشياء أخرى لاستنطاقنا و سحب الإعترافات منا...
كنت كلما حاولت التحضير لكتابة ذاكرة من الذاكرات تختلط لدي حدود الحلم مع الواقع, والخرافة بالمنطق, لحقبة غريبة عجيبة تعد كابوسا بكل المقاييس عدّت على الوطن لا يمكن للمرء أن يلحظ أو يميز بدايته من نهايته....
راودتني نفسي مرات عدة لكتابة هذه الذاكرة ولكن في كل مرة كان ينتابني العجز عن متابعتها و تتغير اتجاهات استعدادي إلى قصيدة ما أو قصة قصيرة أو إلى موضوع آخر..في كل مرة أشعر بالعجز وعدم القدرة لإعادة رسم الأحداث والأشخاص وأشياء قبيحة بكثافة, وقاسية للدرجة التي لا يمكن تصوّرها أو نقلها على ورق ونشرها لقرائتها..كيف يمكن وصف مخلوقات مشوهة لدرجة من الجنون...عجز مطلق عن وصف ليلة واحدة من تلك الليالي التي يعذبون فيها امراة على امتداد أقبية العالم السفلي التي تداولتنا..كان أصعبها في مستهل فترة الإعتقال الأولى , في ذلك المكان الخارج عن الزمان والمكان..ما أن نفضت غبار الزمن عن هذه الذاكرة حتى عادت حية وكأني أسمع صراخها الآن, صراخها واستغاثاتها في أذني وكأنها صوت جرس كنيسة ضخم يقرع, بالرغم من الزمن الطويل الذي غطاها وظننت أنه كان كفيلا بمحو آثارها من نفسي....... كنت مضطجعا في زنزانتي لألتقط أنفاسي بعد أن رماني الجلادون فيها إثر حفلة للتو أفلتْ أضواؤها, ساهما في سقف زنزانتي أستعيد ذكريات كل الأشياء التي حدثت معي منذ ولادتي وكل الأشخاص اللذين مروا على حياتي, من أمي حتى صديقي بسام اللذي يقبع في الزنزانة المجاورة, مرة تراني أبتسم ومرة أبكي حسب الأحداث التي ترد على مخيلتي, وفجأة سمعت إحدى الموقوفات تنادي باسمها:(سهام) إنه اسم زوجتي. جفلت, وبالرغم من كل آلامي نهضت, أصخت السمع وكأني كلي تحولت إلى أذن واحدة. توفزت وأصابتني حالة من الهلع. ترى أيكونوا قد جلبوا زوجتي إلى هنا؟ هل عذبوها كما عذبوني أم اكتفوا بجلبها لكي يهددوني ويضغطوا علي فأعترف بما يريدون وبما لا يريدون؟هل وهل وهل ؟؟انتظرت قدوم المساء لأنه في المساء يذهب معظم الضباط والعناصر إلى بيوتها ويهدأ المكان قليلا ويستطيع المرء حينها أن يجري بعض الإتصالات المتواضعة مع الموقوفين الآخرين, فكان الإنتظار دهراً.
كان النظام هناك لا يقفل الزنازين على النساء أو بعضهن ويسمح لهن بالتجول وذلك للإستفادة من خدماتهن أحيانا للمكان و للعناصر الأمنية المسؤولة عن المكان. و رحت أرقب من ثقب زنزانتي النساء المتجولات في الممر الفاصل بين الزنازين لأتأكد إن كانت التي اسمها سهام زوجتي أم لا, لم ألحظ زوجتي , فكرت كيف يمكنني التأكد, ندهت من خلف طاقة الزنزانة على إحداهن بصوت خافت لا أعير انتباها إن كان السجان المناوب سيلحظني أم لا, مهتما فقط بمعرفة إن كانت زوجتي بين النساء , تقدمت المرأة نحو باب زنزانتي بحرص وسألتني عما أريد, فسألتها إن كانت إحدى السجينات اسمها سهام فردت بالإيجاب, اشتعل رأسي وزادت هواجسي فطلبت منها إن كان بالإمكان أن تظهر هذه المرأة معهن في الممر, فغابت دقائق كأنها ساعات ثم ظهرت امرأة سمراء لا يظهر منها إلا وجهها الأسمر بعينين سوداوين تتلفع حجابا وجلبابا اسود مقتربة من زنزانتي قائلة: أنا سهام. تنفست الصعداء وشعرت بالإرتياح. كم كنت أنانيا عندما انتابني شعور الإرتياح هذا, صحيح أنها ليست زوجتي ولكنها زوجة لرجل آخر, أختا و ابنة لأناس آخرين كلهم يحبونها ويخافون عليها....وفي صباح اليوم التالي لا ادري كيف يمكنني أن اصف ما حدث, حالة من الجنون كانت, يعجز المرء عن وصفها, سمعت الجلادين ينادون باسمها كما ينادون علينا, نهضت و نظرت من ثقب الطاقة في زنزانتي ما الّذي يجري, طمشوها كما يطمشونا و قيدوا يديها للخلف كم يقيدوا أيدينا, وعندما انتهى عنصر الأمن من هذا نعرَها كما ينعرونا, ودفشها وكأنه يسوق بقرة إلى المسلخ, أصابني دوار مفاجيء وحالة من الغثيان, ثم جلست متكورا في زاوية زنزانتي ساهما. ترى هل يمكن أن يعروها كما يعرونا؟ أن يجلدوها على ظهرها كما يجلدونا؟ أن يعبثوا في أعضائها التناسلية مثلنا؟ أن يهددوها بإدخال زجاجة أو كابل مثلنا؟أن يشبحوها مثلنا؟ أن يضعوها في الدولاب مثلنا؟أن يفسخوها مثلنا؟أن يركبوها بساط الريح أو يعملوها فروجا كما عملونا؟كنت مرعوبا من هذه الإحتمالات كلها..كانت سهام امرأة فتية توحي أنها فتاة شابة, روت لي الأخريات أنها رهينة عن أخيها كمعظم الاخريات..لا أدري كم مر من الوقت حين بدأ يرد إلى أسماعنا فجأة صراخ تلك الفتاة واستغاثاتها مختلطة بصوت لسعات أكبالهم حين تهوي على جسدها الأنثوي, تمنيت لو تنشق الأرض وتبتلعني, أن أتلاشى من على وجه الكرة الارضية, تمنيت لو كنت حينها أخرساَ لا اسمع, لوأمتلك قوة تدميرية خارقة أستطيع فيها أن أخلع باب زنزانتي وأنطلق إلى الجلادين أنتزع أكبالهم من أيديهم وأنهال عليهم ضربا حتى الموت, انتابني رغبة جامحة لتدمير المكان على من فيه, سؤال لا يبرحني يجعلني مملوءا بالذنب إلى آخر يوم في حياتي: كيف استطعت أن أحتمل صراخها ولسعات أكبالهم على جسدها دون أن أنبس ببنت شفة؟ دون أن أصرخ احتجاجا؟ كنت جبانا أو أكثر, شيء يقترب من النذالة يجعلني مملوءا بالخجل طوال عمري. كيف تصل سادية ببشر يستبيحون جسداَ أنثويا ضرباَ بهذه الكمية من العنف والقساوة وهم يهمهمون وكأنهم يتلمظون أثناء جماع جنسي؟ كيف لإنسان أو حتى حيوان أن يتعامل مع امرأة بهذه الطريقة؟ فكرت مليّا وتساءلت: هل حقّاَ الجلادون بشر مثلنا؟ فكيف يستطيعون أن يأكلوا بأيديهم هذه بعد أن تكون قد تلطخت بكل تلك الدماء المنسابة من ضحاياهم؟ كيف يمكن أن يبتسموا أو يأكلوا مثلنا بأفواههم بعد هذا الكم الهائل من الشتائم المقذعة التي يوجهونها لنا طوال الليل والنهار؟ أتساءل إن كان لهم نساءاَ يسرون إليها حين يفرغون منا ؟ ترى كيف يغازلون نساءهم أو يمارسون الحب معهم؟ هل يا ترى يتبادلون معهم كلمات الحب والغزل؟ هل لهم أولاد؟وإذا كان كيف يمكن لهؤلاء الآباء أن يتعاملوا مع أبنائهم؟ كيف يلعبون معهم؟ كيف يهدهدوهم وهم أطفالا؟ماذا يروون لهم حكايات قبل النوم؟ تساءلت وما زلت أتساءل, كيف تم صنع بشر إلى هذه الدرجة من التشوه والبذاءة والتسوس؟كم من الجهد احتاج الدكتاتور حتى أعاد صياغة آدميتهم فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من العطب؟
لا يمكن لأحدنا أن يصور أو يتصور ما حدث هناك في العالم السفلي أو يستحضره إلا إذا امتلك ملكة استثنائية...
درسا من الدروس الهامة علمتني تلك الفتاة السجينة لا يقل عن الدروس التي تعلمتها على مدار ما مضى من سنوات العمر وهو: علينا أن ننتفض مرة وإلى الأبد ضد كل الطغاة للخلاص الفردي والوطني والبشري من أجل المسجونين والسجانين, المجلودين والجلادين, ولا نرضى بأنصاف الحلول..أن نكون لعنة وبدون تردد على كل المجرمين الذين أوغلوا في دماء البشر واستباحوا كراماتهم وحقهم في الحياة الكريمة العزيزة..علينا أن نهب ولا نخاف لإزاحة هذا الكابوس من الوطن سوريا ومن كل الأوطان.
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟