محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 4107 - 2013 / 5 / 29 - 21:22
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
لقد ارتأيت نشر الحلقة السادسة الأخيرة على مرحلتين تجنبا ملل القارئ راجيا التفهم مع كل الود والاحترام
قبل أن يلتقط النظام السوري أنفاسه على إثر ضربات المقاومة المتلاحقة ليستعيد زمام المبادرة بعد فترة انتظار أمنها له التسويف الروسي في مجلس الأمن وغيره من منظمات الأمم المتحدة بضخ بشري إيراني لبناني عراقي لينتقل إلى مرحلة الهجوم المضاد لاستعادة بعض ما كان قد خسره من مواقع عسكرية لتحسين أوراق تفاوضه على ما يبدو قبل انعقاد مؤتمر جنيف 2 لكن الثوار ورغم شح السلاح والإمداد مازالوا يحققون تقدما ملحوظا في العديد من المواقع في طريقهم لإسقاط الطاغية عسكريا , والمشكلة أن هذا التقدم لم يقنع السلطة الأسدية حتى الآن بتغيير أسس تفكيرها وتصميمها على القتال حتى النهاية على قاعدة يا قاتل يا مقتول , بل إن ما تتعرضت له من هزائم عسكرية متلاحقة في بعض المدن والقرى والضواحي دفعه إلى تعميم الدمار الشامل لإشفاء غليلها وليجعل منها درسا للمدن الأخرى باعتبار سكانها بمجملهم أعداءا وأن حربها عليهم حرب وجود يستعمل في خضمها كشقيقاتها كل أنواع الأسلحة المدمرة الذكية والغبية والكيماوية وحتى العمياء . أما ما يقوم به النظام هذه الأيام في مدينة القصير وما حولها من قرى تهيئة لوصل جغرافي لكانتونه "العلوي " المفترض للجوء إليه كورقة مساومة لمؤتمر جنيف 2 القادم مع الحيز الشيعي اللبناني إن فشل سيكفيه للاحتماء بسكانه عاقبة ما اقترف من جرائم حرب سيعتمد على استمرار الدعم الروسي والإيراني للبقاء على الحياة والحكم فيه وكأنه يحث المجموعات المعارضة المسلحة لقصفها ان اختارت قاعدة توازن الرعب والخوف والتدمير .
حقق المقاتلون بمختلف فئاتهم إنجازات عسكرية على مواقع ومعسكرات وبعض مطارات كتائب الأسد وباتت لا تخلو منطقة في سوريا من تواجدهم حتى داخل العاصمة دمشق مما شكل لهم قوة ضغط لا يستهان بها دفعت مسؤولي العديد من الدول المؤثرة على القرار الدولي في التعبير عن ضرورة تنحي الأسد في أي ترتيبات مستقبلية لتسوية القضية السورية ولكنهم على ما يبدو لم يتوقعوا على الإطلاق أن الأطراف التي ادعت دعمهم في صراعهم لإسقاط النظام تسعى لمنعهم بل لا تسمح لهم تحقيق نصر ناجز لو لم ......وهذا يحتاج لكثير من إشارات التعجب والاستفهام , إن أبسط ما يستدل عليه من تباطئ الأطراف الممولة بالمال والسلاح بما يمكن الثوار ليس من إسقاط النظام بل ما يمكنهم على الأقل من حماية أنفسهم وحماية المدنيين من غارات طيران الأسد وصواريخه في حين أن حلفاء النظام يغدقون عليه بكل أنواع الأسلحة والتغطية السياسية بل تعوضه عن أي نقص في قوته التدميرية مما يسمح له استعادته لزمام مبادرة الهجوم اليوم على حمص وريفها في القصير أو على دمشق وريفها , بعد افتقاره لها على مدار الفترة الماضية بضغط ضربات الثوار . لم يجد النظام بعد تقهقره سوى أن يعتبر جميع المدن التي حررها الثوار هدفا مستباحا ومفتوحا دون أي وازع أخلاقي وباستخدام جميع أنواع الأسلحة : من البراميل البدائية المتفجرة العمياء , وصواريخ سكود المدمرة للتجمعات المدنية , ومدفعية وراجمات صواريخ , دبابات , وطائرات حربية حديثة الطراز قد جبنت مرارا وبكل وقاحة في التصدي لطائرات العدو الصهيوني التي خرقت وقصفت الأجواء السورية عدة مرات وفي أكثر من موقع ومناسبة . ولكن ذلك كله فشل في إعادة المارد السوري الثائر إلى قمقمه بل ساهم في دفع الناس إلى البحث المحموم عن التسلح لحماية أرواحهم مما أعطى لتوجه عسكرة الانتفاضة الأولوية على حساب جميع النشاطات الأخرى .
لم تعن المجازر الجماعية السلطة على هدي ما فعله الأسد الكبير في ثمانيات القرن المنصرم في إعادة الشعب المنتفض ثانية إلى "حظيرته" , وقفت مندهشة أمام شجاعة لم تتوقع ولم تشهد لها مثيلا فأدركت أن نهايتها قد اقتربت , لكنها عاندت فبدل أن تنفذ بجلدها بما نهبت من خيرات البلد كما فعل مبارك وزين العابدين وعلي صالح تمترست بجرائمها ومجازرها وسعت للتسلح حتى أذنيها منكفئة إلى العاصمة دمشق للتمترس فيها كحصن بعد أن أعدتها جيدا واهمة أن من يسيطر على العاصمة يكسب المعركة , مما أدخل سوريا مسارب سيناريو خطر يختلف كل الاختلاف عما جرى منه في تونس ومصر واليمن , ليتصاعد خطر تصادم طائفي مسلح مازالت أطراف المعارضة في المجلس والائتلاف لا ترى فيه سوى مبالغة غير واقعية , وذلك بسبب حساسية التركيبة الفسيفسائية للشعب السوري ما يعني الإصرار على المكابرة في استبعاد ذلك ولا نعلم إن كان جهلا أو تمويها أو حصافة مع أن واقع ما يجري على الأرض ومن خلال متابعة آراء العديد من الناس والقادة العسكريين على الأرض وبيانات العديد من المجموعات وحتى بعض المثقفين من كل الأطراف تومي إليها , فمن راقب الكم الهائل من أشرطة الفيديو المنتشرة في الشبكة العنكبوتية الحاوية على كم هائل من إهانات الرموز الدينية السنية حتى المشتركة منها كالمصاحف وتمجيد الرموز العلوية والشيعية والأسدية وإكراه الضحايا للسجود لصورة الأسد يقصد من وراء ذلك الحشد لخوض الصراع على أسس طائفية مذهبية كوسيلة مثلى للدفاع عن النظام وعن نفوذ إيران في المنطقة وعلى أنها الوصفة السحرية لتنفيذ ما كان هدد به بأن سقوطه سيعرض مجمل المشرق العربي للخطر . لقد كان زخم الانتفاضة السورية خارج توقعات السلطة الأسدية وما رتبت لها ليس اليوم فقط وإنما طوال فترة حكمها , واستمرت الانتفاضة لتكشف يوما بعد آخر ليس حقيقة وطبيعة السلطة وتعرية نهجها الطائفي وحسب بل وكشفت هشاشة أو باطنية من ادعى معارضتها من العديد ممن ادعى فكرا علميا او اشتراكيا يساريا رثا تقية وهو منخور بالولاء الطائفي المبطن فأدان الثورة واتهمها بالتطرف والإرهاب والأسلمة واستنكف عن إدانة وحشية السلطة في مواجهتها وهي مازالت مجرد مظاهرات مدنية بأجندات طائفية فاقعة الوضوح حشد لذلك جهاديين شيعة مارسوا القتل الطائفي وتطهيره دون مواربة بل بتفاخر يندى له الجبين العالمي وضميره من خلال تلذذهم بنشر أفلام الفيديو على الشبكة العنكبوتية وبدعم وتبني متعصب منقطع النظير من قبل روسيا وإيران لكل منهما أسبابه ومصالحه التي لا يخفي كرها لإسلامية الثورة غطاءا لما يدغدغ مخيلتهما من أطماع امبراطورية في الوصول إلى مياه البحر المتوسط : بالنسبة لروسيا يضغط عليها تجربة صراعها مع الشيشان وباقي مسلمي منطقة القوقاز ورغبتها العارمة في الإبقاء على قاعدة طرطوس , وبالنسبة لإيران فهو إنعاش لحلمها الامبراطوري الذي لم يفارق ذاكرتها القومية الجمعية والسيادة على المنطقة منذ هزيمتها الكبرى أمام العرب عصر الفتوحات الإسلامية الأولى وقد اعتبرتهم بدوا متخلفين بالنسبة لها كوارثة لحضارة عريقة كما ورد مرارا على لسان بعض آياتها ورجال دولتها عصر الفتوحات الإسلامية الأولى بعد أن دخلت الإسلام مكرهة لتتحول إلى مجرد صقع من أصقاع هذه الامبراطورية العربية العظيمة المترامية الأطراف ردحا طويلا من الزمن .
تروي كتب التاريخ أن الدولة الفارسية قد أعلنت تشيع الدولة في العهد الصفوي في سياق صراعها مع الامبراطورية العثمانية المسلمة بطابعه السني , ثم أكرهت السكان على تبنيه عن طريق ارتكاب مجازر لتصفية أصحاب المذهب السني خشية توفر من يساند العثمانيين في سياق صراعهما لإصرار إيران على إضفاء الاختلاف معها دينيا , وسعى الصفويون آنذاك لربط تشيع الدولة بالموروث الحضاري والقومي الفارسي التي تلاشت أو ضعفت لصالح هوية الأسلمة مما سهل لهذه العائلة الاستجابة والقبول لدى العامة في إيران خاصة في صفوف الأكثرية من القومية الفارسية , ومن هنا فإن حملة التشيع التي نشطت على نطاق واسع في سوريا تحت حكم آل الأسد لا تبتعد كثيرا عن سياق بسط نفوذ هذه الدولة الفارسية التي تتلطى بلباس الإسلام الشيعي , وهنا لا بد من الإشارة أن محاولات إيران لبسط نفوذها وهيمنتها على المنطقة لا يقتصر على سورية وحسب بل إكمالا لما حققته في العراق بتواطئ أمريكي أو على الأقل دون اكتراث لفرسنته نهائيا ولو عن طريق دفع السنة للانفصال للتخلص منهم ومن مشاكلهم في إقامة كانتون خاص بهم لتبرير ما يضمرونه رغبة في إعلان كانتونهم الشيعي برعاية فارسية بالمحصلة النهائية مستندين إلى ما قطعه الكانتون الكردي من شوط لابأس به , بل تتطلع إيران كهدف استراتيجي مستقبلي إلى توسيع بسط نفوذها عندما يحين الوقت وتتهيأ لها الظروف الدولية لقضم إمارات الخليج العربي الصغيرة كما فعلتها في السابق بالجزر الثلاث أيضا باعتماد وصفتها السحرية إثارة التوترات المذهبية لتبرر تدخلها تحت يافطة حماية الشيعة والحسينيات ومراقد الأولياء الشيعة كما يجري الآن من تضليل لحشد الجهاد الشيعي في سوريا كبلاد للرباط الشيعي بحجة الدفاع عن الشيعة هناك ومقام السيدة زينب ورقية وإلى آخره من الخزعبلات وهي لا تنوي في الحقيقة سوى إكمال الفك الآخر من الكماشة لتمدد مشروعها في المشرق العربي بعد ما تم لها في العراق ولبنان .
لم يعد خافيا أن الملالي في إيران يعتبرون دفاعهم عن حكم آل الأسد بصفتهم المذهبية خط الدفاع الأول , وقد عبر عن ذلك أكثر من ملاّ وفي أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسؤول بأن الاحتفاظ بطهران يتطلب الدفاع عن أبواب حكم آل الأسد في سوريا إن أرادت إيران الحفاظ على ما تم إنجازه حتى الآن . لا تود إيران التخلي عن مكاسبها التي حققتها في أفغانستان والعراق بتواطئها مع الغزو الأمريكي لهذين البلدين حيث راكمت رصيدا في سبيل بسط نفوذها الذي ذكرنا سابقا على المنطقة العربية كدولة إقليمية قوية متنافسة مع المشروع الصهيوني والتركي خاصة أنها على أبواب تتويج محاولاتها لامتلاك قوة الردع النووية غير آبهة بمخاطرها المستقبلية على المنطقة بأسرها فضلا عما استنزفت من أجله من ثروتها النفطية وقدراتها المالية والاقتصادية التي ستعرضها في نهاية المطاف لربيع عساه يقتلع خريفهم وشتائهم من أرض إيران كلها , على هذا الوجه يمكن فهم وتحليل الموقف الإيراني بعيدا عن الغوغائية المذهبية والطائفية لكي لا نجعل من أنفسنا خداما لأجنداتها .
ما يميز الأسد كدكتاتور استثنائي عن سابقيه في مصر وتونس وليبيا واليمن فضلا عن أنه وريث حكم نجح في الوصول إلى الحكم وهم لم ينجحوا , فإنه يسعى حثيثا وبدفع منقطع النظير من إيران وبشهية من "إسرائيل" التي دغدغ رؤوس مؤسسيها الأوائل بالإضافة إلى آل سعود حكام الجزيرة العربية والعائلات الحاكمة الأخرى في إمارات الخليج , لتقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية , والمشكلة أن ذلك يساعد فيه عن قصد أو غيره بعض المجموعات الإسلامية المقاتلة في سوريا والتي تتبنى أجندات مذهبية في الأصل لا علاقة لها لا بما يريده الشعب السوري من حرية وكرامة ولا يراعي أصلا مصالح سوريا يجمهم جميعا فقط الرغبة في سقوط الأسد . إن رغبة سقوط السلطة الأسدية ليست محصورة بأكثرية الشعب والثوار السوريين بل هي في الحقيقة رغبة تداعب مخيلة العديد من اللاعبين على ساحتها بالأصالة أو بالوكالة , سواء الأساسيين منهم أو الاحتياط وحتى مخيلة المتفرجين , وتتكون على هامشها سيناريوهات عديدة مفتوحة ومختلفة يعتمد على نجاح أحدها مستقبل سوريا والشكل الذي ستؤول إليه , ولا يسمح متن المقالة لاستيفائها جميعا لشح في المعلومات المستقاة عما سيتفق عليه الكبار , وافتقار التنبؤ بما ستسفر عنه المفاوضات بينهم وإن كانت ستحوز رضا الرؤوس الإقليمية المتوسطة وتعبر عن موازين القوى على الأرض بين الرؤوس الصغيرة , وقبل هذا وذاك , إن كان هناك قناعة قد تكونت للجميع بأن حكم السلطة الأسدية على وشك الانهيار . فهل حقا أصبح وجود الأسد في سدة حكم سوريا بحكم المنته في الحسابات الدولية والإقليمية فضلا عن المحلية؟
ليس الثوار هم الوحيدون الحريصون على إسقاط الأسد , بل هي رغبة العديد من الأطراف الإقليمية والدولية مع اختلاف الأسباب والدوافع فضلا عن اختلاف التصورات والنوايا حول مستقبل سوريا . والسؤال المجدي الذي ينبغي أن يتفكر به كل الغيارى على سوريا هو : إلى أي منحى يمكن أن تنحو هذه السوريا مستقبلا يا ترى , وما هو المآل النهائي للحرب المجنونة المدمرة الدائرة على أرضها ومن أجل من؟
إن من أهم ما يتبين من مراقبة الصراع العسكري والكر والفر المتبادل بين الطرفين المتصارعين استحالة الحسم العسكري بينهما في ظل موازين القوى السائد فضلا عن تأثير التحكم بمصادر التمويل بالمال والسلاح , فالحسم بكل بساطة مع كل الاحترام لدور الإرادة المخلصة والشجاعة في المعارك يعتمد بشكل كبير على كمية السلاح ونوعيته واستمرار تدفقه من مصادره ومصادر تمويله , وبمتابعة تطور المعارك بين الطرفين يتبين بوضوح أن الأطراف الدولية ذات التأثير الفاعل في الصراع على الساحة السورية لا تميل إلى حسم الصراع عسكريا لصالح طرف من الأطراف , فضلا عن عدم توفر رغبة لكليهما لإجراء مفاوضات متبادلة سوى عن طريق البنادق على أرض المعركة : أجندة النظام فيها : "الأسد أو نحرق البلد" مع تجانس في مصادر التمويل رجالا ومالا وسلاح وقد اختارت الدفاع عن النظام حتى النهاية , أما المجموعات المقاتلة المعارضة فهي متفقة على إسقاط الأسد لكنها تواجه قواته مفتتة وبأجندات متضاربة , مصادر تمويل متضاربة ليس من أولوياتها الحرص على انتصار الثورة السورية ذات الطابع المدني الجامع لكل سكانها , لا يحركها في التمويل والدعم مصلحة سوريا كوطن للجميع , تكتنفها أجندات مذهبية أو إسلامية لا تصبو للحفاظ على سوريا للبناء منها وطنا للسوريين قدر رغبتها في إقامة دولة الخلافة التي انهارت في أوائل القرن الماضي . لا مصلحة ظاهرة حتى الآن لتدخل جدي لإيقاف القتال والبحث عن حل من قبل الأطراف الدولية ينقذ ما توفر من يد النظام التي عاثت في سوريا تدميرا
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟