محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 4107 - 2013 / 5 / 29 - 21:22
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الحلقة الثانية
العديد من الأمنيات الطيبة تداعب رؤوس البعض من المعارضة السورية والأطراف الإقليمية والدولية لكنها لم تتجاوز دائرة التمنيات والرغبات , والحل لا تجلبه التمنيات للأسف بل لغة الواقع , إن القوى الفاعلة على الساحة الإقليمية والدولية هي التي تقرر مصير الصراع , ولا يوجد ما يدل حتى الآن على اتفاقهم في التوصل إلى أي صيغة حل حولها مما يجعل من مصير الأسد وما يتعلق به من مصالح إيرانية تركية صهيونية لغز من الألغاز في كواليس القوى الدولية المؤثرة التي لم تتوصل بعد إلى صيغة حل مقبول , هناك غموض في موقف هذه الأطراف الدولية الفاعلة بما يشكل مقامرة بمستقبل سوريا ككيان موحد على حساب معاناة السوريين المتواصلة التي تفتقر لمقومات الحياة باستثناء المناطق المؤيدة التي مازالت تحت سيطرة السلطة لأن الناس هناك مازالوا يتلقون رواتبهم كموظفين في أجهزة السلطة وكمكافأة على موالاتهم للسلطة وتأييدها بينما حرم منها كافة المعارضين في المناطق التي خرجت من تحت سلطتها , ولكن وفي كل الأحوال هناك انهيار اقتصادي عام , حتى الشبيحة الذين كانوا يتلقون أجورا مجزية ومكافآت لقاء مجازرهم وأعمالهم الوحشية بحق المناطق والمدن التي اعتبرتها السلطة مناطق متمردة ومعادية بدأت بالنفاذ .
إن سوريا الثورة اليوم وهي تخوض غمار كفاحها ضد أعتى سلطة فاشية عرفها التاريخ المعاصر للسنة الثالثة على التوالي وبعد أن اتبعت كل أنواع الكفاح الشعبي سلمي ومسلح , تواجه اليوم أعظم تحدياتها التاريخية وهي خطر انجرافها إلى صراع طائفي مذهبي إثني جارف نتيجة العنف المفرط الذي مارسه نظام وقد أوغل بقتل البشر وحرق البلاد والعباد وأمعن في تقطيع جسدهما للحفاظ على سلطته ولو أصبحت طللا لا يجد فيها السوريون مأوا وملجأ سوى اللجوء لغرائزه الطائفية بعد أن أغلق النظام في وجهه ملاذ أي حل سياسي ممكن , سنحاول تلمس بعضا من سيناريوهاتها :
سيناريو انتصار الثوار
بافتراض أن الثوار على ضوء ما حققوا من تحرير أراضي من قبضة النظام تابعوا على نفس النهج واستطاعوا تخليص ما تبقى من أجزاء من الأراضي السورية من براثن الأسد الذي قد يهرب أو يختفي مع ما تبقى من نخبته الأمنية والعسكرية , ويدخل الثوار في نهاية المطاف دمشق منتصرين ويتمكنوا من إلقاء القبض عليهم فيضعوا نهاية للنظام كما حدث في ليبيا , فالخطوة التالية ستكون بالتأكيد مباشرتهم بتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة ما يقارب من 130 مدينة إلى حين إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية , فهل هذا السيناريو في متناول اليد أو قابل للتحقيق؟.
إن إلقاء نظرة واقعية سريعة ومتفحصة لمجريات الصراع بين الطرفين منذ عسكرة الانتفاضة والمرور على طبيعة المجموعات المقاتلة وتفحص الأجندات المتضاربة لجهات الدعم المالي والعسكري الإقليمية والدولية في مقابل ثبات خطوط الإمداد المالي والعسكري للسلطة الأسدية تدفعنا أن نستدل بوضوح إلى استحالة تحقق هذا الاحتمال وتحويله إلى حقيقة واقعة , ليس انتقاصا من شجاعة الثوار وعزمهم وإصرارهم على النصر ولا استخفافا أو غبنا لحجم تضحياتهم , وإنما هي محاولة متواضعة لقراءة سياسية واقعية تعتمد الحياد قدر ما أمكن وتستبعد االرغبات والأمنيات . لأن المجموعات السورية المقاتلة لا يجمعها جامع يذكر خارج اشتراكها في العداء للنظام والصبغة الإسلامية المشتركة , وعدا ذلك فهي تختلف في كل شيء : في الأجندات السياسية , جهات التمويل وما يترتب عليها من تضارب في الاستحقاقات , خلافات سياسية وحزبية فضلا عن تحكم النزعة الفردية , وغيرها الكثير لو تمحصنا . المشكلة الجوهرية في الثورة السورية لا تكمن في اختلاف البرامج السياسية وتبايناتها بل في الافتقار إليها عند المجموعات المقاتلة , فلا غضاضة لو وجدت , فضلا عن أن هناك مشكلة أكبر تكمن في عدم توفر جسم عسكري موحد ومنظم ومتفق عليه ينسق بين الجسم السياسي والعسكري يمكن أن يشكل حاضنة لمن يريد القتال والكفاح ضد الفاشية السورية المدعومة من ملالي إيران وحزب الله المذهبي إن من الكتل الشعبية السورية أو من المتطوعين العرب أو حتى من غير العرب , يكون له منهج سياسي واضح حتى ولو شعبوي يعبر عن توجهات الغالبية العظمى من السوريين يشغله هم سوريا ومستقبلها ووحدتها الجغرافية أرضا وشعبا , رؤية سياسية واضحة ومنهج سياسي يضمن مصالح الشعب بكل فئاته بعيدا عن التكفير والإقصاء والقمع والفرض , فهل يتوفر ذلك على أرض واقع المعارضة السورية أو المجموعات المقاتلة؟
ثم إن مراقبة العلاقات البينية لكلا من المجموعات المقاتلة وما يسمى إلى الآن المعارضة السياسية السورية وسلوكهما من خلال ما يردنا من مقابلاتهم التلفيزيونية وفي وسائل الإعلام الأخرى ومن أخبار الداخل والمعارف والأصدقاء وما يسرب من مؤتمراتهم المعقودة والنقاشات فيما بينهم , كل هذا يظهر لنا انعدام معظم المقومات الأساسية للاشتراك حول الهم الوطني , وحتى يتم ما نوهنا إليه من مقومات وحدة العمل والهدف والرؤية يحتاج الأمر جهدا مكثفا من الحوار البناء في ظل حرب مدمرة يصب النظام جامها على رؤوس الجميع منتهجا سياسة الأرض المحروقة وحرق كل ما تطاله يده المجرمة : بشر وحجر وشجر . لو حاول السوريون ذلك وأشهد أنهم حاولوا في القاهرة وتركيا ولكن محاولاتهم اصطدمت بعقبات متنوعة ومختلفة بتنوع واختلاف أجندات وأهداف القوى الإقليمية والدولية الداعمة بالمال والسلاح , مما يدع للاستنتاج أن لا أمل في نجاح مقاومة مسلحة على أنقاض حراك مدني شعبي واسع هو حاضن لها لو تعقلت , ولا يربط فيما بينها سوى أجندات متضاربة أخطر ما فيها أنها تساير ما سعى إليه النظام بكل قوته من خوض الصراع معه في حقله وأدواته وطريقته وأحيانا بسلوكه مما أدى إلى تدمير حاضنتهم الشعبية .
سيناريو المفاوضات مع النظام
ينبغي هنا الإقرار أن النظام ممتنع عن السياسة , ذلك بسبب بنيته الأمنية المختزلة بمبدأ عدم الإقرار أن هناك في سوريا آخر سياسي , وإن تجرأ أحد وأطل برأسه ليعلن عن نفسه أنه سياسي يسارع النظام إلى تصفيته سياسيا أو يشيح عن رؤيته , وإن استعصى عليه ذلك يصفيه جسديا , المهم بالنسبة له ألاّ يراه لكي لا يضطر للاعتراف به فيما بعد كخصم أو منافس له على السلطة فيضطر لمفاوضته . لم ولن ينظر/ يعتبر النظام لأي منافس سياسي سوى معيق لتواراثه للسلطة إلى الأبد وامتلاكه لها كملكية خاصة يستحلبها كما يريد دون رقيب أو مراجعة أو محاسبة , وإن حصل و"تبرع" لبناء مشروع فيها أو "منح" زيادة رواتب فهي ليست سوى منة وعطاء ومنحة من القائد "المالك الحقيقي" للبلد , فلا جدوى إذا بل من العبث البحث عن صيغة للحوار تبحث عن حل توافقي في سوريا تحت غطاء قبول الحوار مع حكم عائلة الأسد أو وكلائها قبل قاعدة التسليم أولا برحيلها لحقن الدم وحرصا على إيقاف العنف المباح وتعميم القتل والدمار وإلاّ سيكون عداه مجرد جهد ضائع فضلا عن استهانة بالدماء السورية التي نزفت ومازالت نازفة بشكل يومي ومتواصل بل مقامرة بمستقبل سوريا والسوريين بغض النظر عن النهايات المتوقعة للصراع , فإلقاء نظرة عامة على المشهد السوري منذ اندلاع الانتفاضة وحتى الآن تفضي للاستنتاج أن النظام قد استطاع أن ينفذ جميع ما هدد به لو مست مسلمته "إلى الأبد يا أسد" : حتى لو اضطر إلى تفجير منطقة المشرق العربي كلها بحريق صراع مذهبي إلى جانب توريط الأطراف الإقليمية والدولية في مغامرته , وهو يخير السوريين : إما العودة بسوريا إلى سابق عهدها , وهذا مستحيل , أو القبول بتقسيم سوريا وإقامة كانتونه العلوي فداءا لمصالح عائلة الأسد ومصالح إيران وروسيا والكيان الصهيوني لذا نراه يرهن سوريا بالكامل لينعقد على أراضيها صراع دولي إقليمي من سوء طالع السوريين أنه ينعقد على حساب طموحهم في التخلص من عبوديتهم والدخول إلى فضاء الحرية كبقية شعوب الأرض .
ملخص القول : إن حظوظ نجاح مبادرة سياسية لا تبحث عن وسيلة لرحيل الأسد تبدو مستحيلة خاصة بعد كل ما أوكت يداه , وهذا بالتأكيد لا يعني رفض مبدأ التفاوض لرحيله , ليس بالطبع مع الأسد بل مع من تبقى من الدائرة التي تحيط به والقادرة على اتخاذ القرارات بعد أن أدركت استحالة النصر على الثورة فيوافقون على التفاوض تحت سقف رحيل الأسد مع المجموعات المقاتلة أو من ينوب عنهم والقادرين على السيطرة عليهم والحفاظ على الضمانات المقدمة ثم إدارة سوريا ما بعد الأسد والاتفاق على مصيره الذي يمكن أن يفضي إلى احتمالات ثلاث : إما الاستقالة والبقاء في ملجأ داخلي لكنه ضعيف الاحتمال من طرفه ومن طرف الثوار , أو مغادرته إلى المنفى الروسي أو الإيراني , أو اعتقاله ثم إرساله إلى جهنم .
هل هذا السناريو عادل؟ بالطبع لا , لكن الهام فيه أنه الأكثر واقعية خصوصا في ظل التوازن العسكري بين الطرفين وفي ظل التوازنات والرغبات الدولية ولأنه , وهذا هو الأهم , يتوق إليه أغلبية السوريين بعد أن لمحوا وراحوا يتحسسون مخاطر انهيار سوريا فضلا عن أنه البديل الأمثل عن استمرار الحرب المجنونة التي أدت ليس إلى خراب سوريا وتدمير بناها التحتية وإنهاك أكثرية المواطنين الذين باتوا يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة وحسب بل لأنها ستؤدي إلى تلاشيها وفقدان هويته كسوري نهائيا , يبقى السؤال الأهم بعد كل هذا الإسهاب عن تفضيل هكذا سيناريو : هل هناك إمكانية لإنضاج فرصة للحوار بين القوى المتصارعة عسكريا وبالتالي فتح آفاق للوصول إلى حل سياسي متفق عليه ترعاه قوة دولية فاعلة ومؤثرة , وكيف؟
تحتاج المفاوضات طبعا إلى أطراف سياسية تتكلم باسم الأطراف المتصارعة والأمر ليس بهذه السهولة التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن , لإن إصرار السلطة على الحل العسكري وإهدارها لكل الفرص السابقة ورفضها لكل المحاولات بدفع من إيران بالطبع عن طريق ضخ كل أدوات القتل والرجال وحماية روسيا وتمسكها بقاعدتها على الساحل السوري في طرطوس إلى جانب صفقات السلاح المدفوعة نقدا عبر تعطيل مجلس الأمن . أما ما يتعلق بالطرف الثاني وهو المعارضة السياسية في الائتلاف والمجلس فإن تمثيلها مجروح يشوبه عور كبير , ركاكة وتهافت وفساد وتنافس على الكراسي وتسابق على تقاسم "الغنيمة" عدا عن عدم قدرتها واقعيا وعمليا على فرض ما يتم التوصل إليه من حلول واتفاقيات على المقاتلين بمختلف مشاربهم ودفعها للالتزام به .
ليس من مهمة المعارضة السياسية مسايرة الشارع أو ما تطرحه المجموعات المقاتلة بقدر ما تتطلبه المصلحة العامة لسوريا وشعب سوريا بكل فئاته وتركيبته وبالاستناد إلى قراءة دقيقة وحكيمة للواقع وعقابيل الحل ورصد التوازنات الإقليمية والدولية والتعامل مع كل ذلك بجدية وديناميكية , واضعة مصلحة سوريا العليا فوق كل اعتبار .
ينبغي أن تكون الأولوية اليوم لوقف نزيف الدم والخراب وتوحيد الجهود لإكمال إسقاط النظام , وتصحيح مسار الثورة بإبعاد اللصوص والمتسلقين وأجندات العابثين بمصير سوريا والمتربصين بوحدتها عنها ليتسنى إكمال الثورة حتى تحقيق أهدافها وبناء دولتها الديموقراطية الجامعة لكل أبنائها والتحضير لتحرير أرضها المحتلة من العدو الصهيوني .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟