|
الثورات العربية و ضرورة العودة لسؤال شكل الدولة
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 4106 - 2013 / 5 / 28 - 01:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعد البحث في قضية الدولة من البحوث المثيرة للجدل، فالمجال السياسي مجال يحتاج إلى الكثير من الدراسة لحساسيته من جهة، وأيضا لتركيبة المجتمع الإسلامي من جهة أخرى. لهذا شغل البحث في طبيعة الدولة حيزا كبيرا من اهتمامات المفكرين قديما وحديثا. ولعل مطلع القرن العشرين وسقوط الإمبراطورية العثمانية ساهم في بلورة سؤال الدولة المدنية أو الدينية بشكل كبير، وانبرت الأقلام تنظر وتفكر وتضع الإطار النظري لشكل الدولة المرجوة بين داع إلى فصل الدين عن الدولة، وترك المجال السياسي ليشتغل في إطار ما هو مدني، برؤية تبلورت مع مشروع الحداثة الغربي. وبين مؤمن بأن شكل الدولة لا يمكن أن يخرج عن المشروع الإسلامي الذي تبنته الكثير من الحركات السياسية الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مصر. كان كل اتجاه من هذه الاتجاهات يبرر مشروعه، ويدافع عنه بالوسائل الممكنة، ويريد أن يخضع الآخر لقناعاته دون أن يترك المجال للبحث والنقاش للتفاعل، خاصة وأن موضوع السياسة والحكم ومجال السلطة بشكل عام من المجالات المثيرة التي لا يمكن أن تتبلور لدى المتتبع دون أن يفسح المجال للنقاش الحقيقي والفعال بعيدا عن ضيق الرؤية أو التحيز الذاتي. بلغ الصراع ذروته بين الفريقين إلى الحد الذي يقتل فيه فرج فودة ويحارب علي عبد الرازق وكل من أطر أو نظر للمشروع المدني، حينما كانت الأقلام تشير بأن أمر الرسالة السماوية تتجاوز لعبة السياسة، خاصة أن هذا المجال تعتريه مجموعة من الشوائب والإخفاقات ويجب أن نبعده عن كل استغلال ديني أو طائفي. وفي المقابل نجد من التطرف العلماني ما يبرز قبح الممارسة الفكرية حين يغتال حسن البنا وسيد قطب ويحارب العديد من المفكرين والحركيين ذوي المشروع الديني في ممارسة الحكم والسياسة. وبين هذا وذاك تبقى الحقيقة غائبة على حد تعبير فرج فودة، ولربما نغتال الحقيقة من حيث لا ندري، حين نختار لنا التطرف في القول والموقف والسلوك، ونتحيز على مسبقاتنا ونعتبر الآخر هو العدو والخصم في صراع وهمي، لا زالت آثاره ممتدة إلى حدود عالمنا المعاصر الذي تشكَّل فيه سؤال مدنية الدولة ودينيتها بشكل بارز، واعتلت الكثير من الحركات الإسلامية منظومة الحكم، لتجيب على سؤال النهضة بشكل واقعي، وتؤكد بالملموس هل هي قادرة على بلورة مشروع ديني للحكم أم لا؟. كان للثورة الإسلامية في إيران دور كبير في بلورة سؤال النهضة الديني، وظل الكثيرون ينتظرون ساعة الإخفاق لعل نظرية علمانية الدولة تتزكى من خلال إعلان ساعة الفشل. وبدأت معالم الثورة الدينية تتبلور مع الكثير من المفكرين كالإمام الخميني وعلي شريعتي وعبد الكريم سروش، وداريوش شايغان وغيرهم كثير، وانساق المجتمع ليسقط حكم الشاه وتتولى إدارة البلاد ثورة كان مشروعها سياسيا دينيا تحت ولاية الفقيه كما يعرفها الفقه الشيعي. وفي المقابل ظهر في تركيا العلمانية الأتاتوركية مشروعا آخر يسوقه حزب العدالة والتنمية، كان من إنتاجاته تنمية محلية كبيرة جعلت تركيا تدخل معترك المنافسة الإقليمي، وتحتل مراتب كبيرة في السياق الدولي، مما جعل الكثيرين يعيدون النظر في تركيا حول سؤال علمنة الدولة كما نظر له جمال أتاتورك، وكما حافظ عليها الجيش التركي. وفي سياق الثورات العربية والانتفاضات الشعبية التي عرفها العالم العربي، لم يكن بد من أن نعيد البوصلة من جديد إلى سؤال علمنة الدولة ودينيتها. فالعالم العربي منذ حصول دوله على الاستقلال وهو يراوح مكانه، وأغلب الأنظمة التي حكمته كانت تحكمه بقبضة من حديد، وبقواعد شمولية هي إلى الحكم العلماني أقرب، فكل شيء في هذا العالم فرداني، الحريات مقيدة، الحزب الحاكم واحد، ديمومة السلطة واحدة، المؤسسات الديمقراطية منعدمة وهكذا... جاءت الثورات العربية لتخلق واقعا جديدا يعيد رسمه الحركات الإسلامية العربية، ولأول مرة يعتلي نظام الحكم في مؤسسات الدولة ومفاصلها تيارات تؤمن بدينية الدولة وتحارب الاتجاهات العلمانية بمختلف أشكالها، وتساهم بشكل أو بآخر في إدارة الشأن العام بعد أن كانت مبعدة عنه بفعل الإكراه السياسي. تبتدئ ثورة البوعزيزي ومعها الشعب التونسي، ويسقط رأس النظام التونسي الذي كان يمثل استثناء في الحالة العربية، باعتباره امتدادا لفكر بورقيبة العلماني الذي حارب كل مظاهر التدين في المجتمع بما فيها الحريات الشخصية من حجاب ولباس وصيام، وفي هذا السياق تعرض الإسلام السياسي للانتكاسة وهجرت قياداته في المنفى، وظل التصور العلماني يدير مفاصل الدولة إلى حين إعلان ساعة الصفر، ليبتدئ العداد من جديد، وتدار اللعبة بطريقة أخرى، يكون فيها الإسلام السياسي لاعبا أساسيا بعودة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، ويتسلم زمام الأمور قيادات إسلامية في تونس تعيد طرح السؤال الإشكالي في كل جوانبه حول علمانية الدولة ودينيتها. تبدأ الثورة ولم تقف في حدود ما رسمته شهادة البوعزيزي، وتنتقل إلى حدود الجوار، حيث توجد أكبر جماعة إسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأكبر من نظروا للفكر السياسي وخاضوا معارك انتهت بموت القادة والمؤسسين. تنتقل الثورة ويسقط رأس النظام المصري والحزب الحاكم المعارض للتوجه الديني في ممارسة السياسة، وتنتقل الكرة من جديد إلى ملعب الإسلام السياسي في جدلية ربما لن تنتهي عند هذه الحدود. وفي المغرب بعد أن استنفذت الطبقات الشعبية كل الخيارات بما فيها المناوئة للاتجاهات الدينية جاء الوقت ليتم تجريب الأحزاب الإسلامية ويترأس حزب العدالة والتنمية الحكومة في ظرف دقيق يطرح العديد من الإكراهات أمام سؤال النهضة. كل هذا السياق المتشابك من الأحداث والوقائع يطرح أمامنا سبل البحث في قضية لها أهميتها، ولها حساسيتها وخطورتها بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها. ولا يمكن أن نغفل هذا المسار التاريخي لنؤسس رؤية منفصلة عنه، ونجيب عن سؤال النهضة في ظل واقع ديني وسياسات أحزاب تحكم تارة باسم علمنة الدولة وتارة أخرى باسم الدين، وهنا تبرز أهمية الموضوع. أهمية الموضوع ودواعيه تنبع أهمية الموضوع انطلاقا من كل ما طرحناه سابقا، فمسألة الدولة ليست القضية الثانوية في الفكر الديني عموما والإسلامي منه على وجه الخصوص. وكذلك تنبع من السياق الواقعي الداعي إلى فتح النقاش حول طبيعة الدولة ومؤسساتها، ومدى قدرة التيارات الدينية على المنافسة من خلال الجودة وتكريس مبادئ حقوق الإنسان والمحافظة على القيم المشتركة بين كل مكونات هذا الكون. إضافة إلى المعطى الواقعي الذي يفرضه السياق السياسي والاجتماعي لما نعيشه في وقتنا المعاصر، يبدو مفهوم العلمانية نفسه دافعا أساسيا لركوب البحث من جديد في مصطلح مثير للجدل، لم تنته معه كل البحوث إلى نتائج نهائية، وما زال السؤال مطروحا والبحث مستمرا والجدل محتدما بين أطراف كثيرة يشكل لها بلورة مفهوم العلمانية تحديا كبيرا، وعلاقة الدولة بهذا المفهوم إشكالا لم تفك رموزه بعد. ومن لا يعي خطورة المفاهيم قد يستصغر الأمور ويحسب أنها جاوزت القنطرة، ونحن في القرن الواحد العشرين لا زلنا لم نستطع أن نخلص إلى إجابات نهائية ربما بسبب التحيزات أو المسبقات أو العوائق المعرفية المختلفة. ولعل أزمة المفاهيم من أخطر هذه الأزمات الفكرية التي تحدث صراعات وتنشئ حروبا، وتقتل كل يوم فينا إنسانيتنا في النعيم بحرياتنا المفقودة، وراء الضغط الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعاتنا المقهورة بمختلف مستوياتها. و مصطلح أو لفظ بسيط في أعين متتبع قد ينشئ حروبا، وقد يميت أبرياء تحت مسميات عدة تارة باسم الدين وتارة باسم السياسة، وتارة باسم الحرية وحقوق الإنسان. هذا المنزلق الحضاري الذي تستدرجنا إليه اللغة، وما يحوم حولها من أعمق الأزمات الضاربة في بنية الفكر الإنساني عموما. والدين بحد ذاته مفاهيم مستقلة، تؤثر وتتأثر في مسيرة تواصلية بآلياتها ومصطلحاتها وألفاظها. ولعل الناظر في عمق الفكرة المشار إليها سيتضح له حجم الهوة التي قد تسقطنا فيها مفاهيم كبيرة، لا زالت مجتمعاتنا تجر سلبياتها وإيجابياتها. إن الداعي الأول لخوض غمار البحث من جديد في قضية الدولة وعلاقتها بالعلمانية: هو نفض الغبار من جديد عن هذا المصطلح، وتتبعه بشكل دقيق في سياقاته التاريخية لعلها توضح لنا المستور، ونستطيع بذلك الخروج بمفهوم يجلي حقيقة التطرف العلماني الذي يريد أن يؤطر علاقة الدولة بالفرد أو المواطن خارج حدود الدين كما يسوق البعض لذلك، ومن جهة أخرى أن نستفيد من المشترك الإنساني والقيم والحقوق في علاقة الدولة بالدين، وتصبح بذلك الدولة مفهوم مؤسس على الحق والعدل والحرية، ونتجاوز بذلك التطرفات العلمانية أو الدينية إلى آفاق يتعايش فيها الكل في إطار يبدأ من الإنسان وينتهي إليه كما تحدد أيضا نظرية المقاصد. والداعي الثاني تقريب وجهات النظر المختلفة، فليس مصطلح العلمانية دائما مقابلا للإلحاد والتفسخ، وليس الدين دائما مقابلا للتخلف والجمود والإرهاب. ولا بد للباحث أن يتوخى الموضوعية قدر الإمكان، ولو أن سؤال الموضوعية والحياد سؤال إشكالي في طرحه منذ نشأة الفكر الإنساني، وصولا إلى العالم المعاصر بكل تجاذباته وتقاطعاته. ومن الصعب الجواب عنه بالرغم من المحاولات الكثيرة التي أحيطت بطبيعة هذا الموضوع الشائك، لأن ولوج مثل هذا السؤال وكشف الغامض من حقيقته، يظل ضربا من التخمين النظري والتجريد المثالي بملامسته عالم الإنسان. فأياًّ وجد الإنسان كانت الموضوعية هدفا يسعى لتحقيقه هذا الكائن من خلال أبحاثه وجهوده الفكرية، وأياًّ وجد الإنسان أصبح الحديث عن المثالية أماني نفس يصنعها الخيال أثناء معركة الحياة، سواء كانت فكرية أو لها ارتباط وثيق بالعالم المعيش للإنسان. إن طبيعة هذا السؤال طبيعة مدمرة، إذا لم نتبين أيضا أبعادها ومآلاتها المستقبلية على الواقع البعيد والقريب. ولعل أهم معطى قد يترتب عليه خطر في حجم ما نحن بصدده، هو علو الإنسان بدعوى الموضوعية والعلمية، وخروجه عن حجم حقيقته المحدودة في الزمان المكان، والمؤطرة سلفا بحجم سقفه المعرفي. وإذا تم العلو فكرا وسياسة واقتصادا واجتماعا، ضاع الإنسان في فلك التجبر على الآخر، بكل ما يحمله هذا الآخر من قيمة مضافة سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، وبات الإقصاء بكل تجلياته هو السبيل الممكن لتنميط الناس وفق رؤية معينة، وتعليبهم بشكل يفقد الكون تنوعه المبثوث، وفق سنن وقوانين ثابتة لا تحابي في دقتها وعظيم صنعها أحدا.
والتقريب مطلب ملح في عالم اليوم، فكل الصراعات القائمة الآن سببها هذا التباعد في وجهات النظر، وهذا الإقصاء المتعمد لكل الأطراف، دون السماح لقنوات التواصل أن تأخذ مجراها، وبدل أن ينشغل الإنسان بالبحث عن المشترك ينشغل بالبحث عن الجزئيات المفرقة وما أكثرها، ولعل ثقافة الإقصاء أهم عامل أساسي في عدم الوصول إلى مقاربة فيها نوع من التلاقي بين القيم المشتركة على مستوى تسيير الدولة. إن الناظر في تاريخ الفكر الإنساني القديم أو المعاصر، وفي تجاربنا وتجارب غيرنا يرى أن الاختلاف كثيرا ما يدبر بمنطق لست على شيء. بمعنى أن المختلف فكريا دائما يرى في الآخر عدما لا وجود حقيقي له، إلا داخل إطار نسقه المعرفي المشبع بالحمولات الثقافية والخلفيات الإيديولوجية، حيث يتم التعامل معه وفق شروط التهميش والإقصاء. ولنقف مع القرآن الكريم متحدثا عن هذه الصورة القاتمة من تاريخنا تقول:” و قالت اليهود ليست النصارى على شيء و قالت النصارى ليست اليهود على شيء و هم يتلون الكتاب ”. فهذه الآية طبعا وغيرها كثير قد تم التعامل معها بشكل مخل في ثقافتنا الإسلامية ومنظومتنا التفسيرية. حتى قال البعض لعل أصدق شيء قاله اليهود، هو أن النصارى ليست على شيء، وأن أصدق شيء قالته النصارى هو أن اليهود ليست على شيء. وموقف مثل هذا ينسب للقرآن من خلال هذا البيان في الحقيقة يضع الكل على المحك. وهو موقف مشبع بثقافة الإقصاء للآخر والرمي به خارج أي وجود فكري أو ذاتي بالقول:” لست على شيء ”. إنها ثقافة حاقدة لا ترى الوجود إلا في ذاتها وما تصنعه أيديها، وثقافة تسمح لنفسها أن تكون مدعيا وحكما في الوقت نفسه. فهل فعلا يكرس القرآن الكريم منطق الإقصاء للآخر بهذا الشكل؟ ولماذا يصر أن يلبسوه هذا الاتهام إذا لم يكن كذلك؟. إن صناع ثقافة الإقصاء قديما وحديثا يبحثون عن الشرعية المفقودة، ولا زالوا يتوسلون بالوسائل الممكنة والمتاحة بين أيديهم لتبرير أفعالهم. ولعل أهم وسيلة قد يسيطرون ويؤطرون العامة بها وفقا لتأصيلاتهم، هي النص القرآني بآلية القراءة التجزيئية. وهذا ما حدث بالفعل للنص المطروح للنقاش. فالنص أساسا هو عملية نقدية لبنية الفكر الإنساني، سواء مثله اليهود أو النصارى. إذ الاتهام بمنطق لست على شيء، والرمي بالآخر إلى حدود العدم، هو اتهام باطل لا يستند على حقيقة، إلا في أذهان صناع ثقافة الإقصاء. وقراءة الكتاب أيا كان هذا الكتاب، كونا أو واقعا إنسانيا لا يمكن أن تسمح بمثل هذا التصور لهذا جاء التعقيب:” وهم يتلون الكتاب ”. فتلاوة الكتاب ليست قراءته بل في التلاوة معنى التتبع وهي أكبر من أن تسقط الإنسان في شرك هذا المستنقع الخبيث:” ليسوا سواء ”.
وتستمر الآية في عملها النقدي لطبيعة هذا المنطق لتقف بنا على معترك حاسم وخطير في الوقت ذاته فتقول:” كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ”. فالقول بمنطق لست على شيء، نابع من أرضية عدم العلم بطبيعة الواقع الإنساني ومتجاوز أيضا للحقائق المبثوثة سننا وقوانين في الكتاب. وعلى من يردد نفس القول عاجلا أم آجلا، أن يتبين حقيقة جهله المركب بهذه السنن الإنسانية والنفسية مهما كان حجمه أو ماهيته، ومهما كان انتسابه الفكري والثقافي. ولكن بالرغم من هذا المنزلق الفكري الخطير الذي قد يعترض طريقنا جميعا في لحظة من اللحظات، لا زال الكثير من الناس يراهنون عليه في إسكات المخالف فكريا أو سياسيا، متناسين هذا المعطى الواقعي الذي أكدنا عليه من خلال الآية نفسها. فالقول بمنطق الإقصاء:” لست على شيء ”، هو خطوة نحو الجهل بنواميس هذا الكون العجيب، والجهل بهذه النواميس خطوة نحو الإقصاء وإلغاء الآخر فكريا وجسديا، والإقصاء خطوة نحو التردي الحضاري والإنساني بكل مستوياته. الداعي الثالث هو ربط الأمور بسياقاتها فالعلمانية الغربية أو الحداثة بشكل عام كما نظَّر لها المؤسسين، هي وليدة ظروف محددة، ولكي ننقلها إلى واقع مغاير وثقافات مختلفة، يجب أن نراعي الشروط الموضوعية لظهور هذه المفاهيم وهذه المصطلحات. ولعل أهم الأسباب الحقيقية في بروز معالم هذا التوجه في إدارة الدولة والحياة هي تسلط الكنيسة، وعندما نتحدث عن الكنيسة كمؤسسة دينية، فإننا نتحدث عن رجال الدين ودورهم السلبي في محاربة كل مظاهر العلم والفكر والثقافة الخارجة عن إطار الدين. كما عرف الانحراف والاستبداد والتحالف مع الحكام والفساد في المؤسسة الكنسية أوجه في القرون الوسطى، جعل الفكر التنويري والحداثي يقف وقفة الثائر أمام هذا التسلط وهذه الوساطة التي تحول بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ومظاهر الخلق، فقد قتل العلماء وأحرق المفكرين وحورب كل من سولت له نفسه الخروج عن النسق. لتصبح الظروف ملائمة للحد من هذا التسلط ولو باستعمال مقولة الإنجيل:" دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر " تعبيرا عن فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية. الداعي الرابع هو النظر في إخفاق بعض التجارب الإسلامية ونجاح أخرى في مقاربتها لحكم الدولة، نتساءل عن الأسباب وعن النتائج وعن المشروع وتقاطعاته مع المشروع المدني للدولة. وأهمية التساؤلات ومشروعيتها نابعة من عمق الاسئلة التي يطرحها المواطن وتشكل هاجسا مخيفا عبر عنه الغرب بالإسلاموفوبيا ونقل هواجسه إلى قلب دارنا لتطرح الأقليات الدينية في بلداننا الإسلامية أسئلة وجودية حول المصير والمآل. فبلد مثل مصر يشكل الأقباط جزء مهما من نسيجه الاجتماعي، ومن حق هاته الأقليات أن تعطى ضمانات بعدم المساس بحقوقها وتشعر بأن الوطن يجمع برغم اختلاف المرجعيات أو الإيديولوجيات الدينية أو السياسية، وما يقع في سوريا وليبيا مؤرق بالنسبة للكثيرين ممن يهمهم الجواب عن سؤال الدولة. وليس عيبا أن نطمئن الناس على حقوقها في إطار الدولة الدينية، وأن المواطنة حق للجميع يتساوى فيه المسيحي واليهودي والمسلم وغيرهم ولا إكراه في الدين كما يقول الله تعالى. إشكالية البحث من خلال كل ما سبق تنبع إشكالية البحث، وهي إشكالية مفاهيمية بامتياز، فلا بد من تحرير هذا المصطلح لنزيل الغشاوة التي قد يلقيها علينا أطراف النزاع على حين غفلة منا، فالعلمانية جاءت في سياق ثوري على مؤسسة كنسية كان لها الأثر السيء على إنسان القرون الوسطى، ولا يمكن بحال أن ننزع من البيئات والدول الإسلامية مفهوم الدين كجزء من التركيبة الذهنية والعقدية للإنسان لتصبح العلمانية مقابلة للتطور والتقدم، ولا أن نكرس منظومات دينية قد لا تراعي شروط القيم والحقوق والمبادئ التي وصل لها الإنسان وكان الدين جزءا مؤسسا فيها. وإضافة إلى ما سبق نعرج عن بعض المشاريع التي قد تكون نقطة انطلاق نؤسس عليها في البناء المفاهيمي وعلى رأسها ما كتبه عبد الوهاب المسيري حول العلمانية وتقسيمها للعلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية. فحسب الكاتب العلمانية الشاملة هي:" التي يمكن أن نسميها أيضاً «العلمانية الطبيعية/المادية» أو «العلمانية العدمية» هي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتـم نزع القداسـة تماماً عن العالم (الإنسان والطبيعة). وهي شاملة، فهي تشمل كلاً من الحياة العامة والخاصة، والإجراءات والمرجعية. والعالم، من منظور العلمانية الشاملة (شأنها في هذا شأن الحلولية الكمونية المادية)، مكتف بذاته وهو مرجعية ذاته، عالم متماسك بشكل عضوي لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع أو الثنائيات، خاضع لقوانين واحدة كامنة فيه، لا تُفرِّق بين الإنسان وغيره من الكائنات، فهو عالم يتسم بالواحدية المادية الصارمة (وهذه هي كلها صفات الطبيعة/المادة). والمبدأ الواحد كامن (حال) في العالم لا يتجاوزه ويُسمَّى «قانون الحركة» أو «القانون الطبيعي/المادي»، الأمر الذي يعني سيادة الواحدية المادية وأن كل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، مادية نسبية متساوية لا قداسة لها، وأنه يمكن معرفة العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) من خلال الحواس الخمس. والعلمانية الشاملة بطبيعة الحال لا تؤمن بأية مطلقات أو كليات، ولعل المنظومة الداروينية الصراعية هي أكثر المنظومات اقتراباً من نموذج العلمانية الشاملة ". أما العلمانية الجزئية فهي:" هي رؤية جزئية للواقع تنطبق على عالم السياسة وربما على عالم الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بفصل الكنيسة عن الدولة. والكنيسة هنا تعني «المؤسسات الكهنوتية»، أما الدولة فهي تعني «مؤسسات الدولة المختلفة». ويُوسِّع البعض هذا التعريف ليعني فصل الدين (والدين وحده) عن الدولة بمعنى الحياة العامة في بعض نواحيها. ونحن نُسمِّي هذه الصيغة «علمانية جزئية» لسببين: 1 ـ الدولة التي يشير لها التعريف هي دولة القرن التاسع عشر التي لم تكن قد تغوَّلت بعد ولم تكن قد طوَّرت مؤسساتها التربوية والأمنية المختلفة التي تُمكِّنها من محاصرة المواطن أينما كان، ولذا تركت له رقعة واسعة يتحرك فيها ويديرها حسب منظومته القيمية. 2 ـ تلزم العلمانية الجزئية الصمت تماماً بشأن المرجعية الأخلاقية والأبعاد الكلية والنهائية للمجتمع ولسلوك الفرد في حياته الخاصة وفي كثير من جوانب حياته العامة. كل هذا يعني أن العلمانية الجزئية تترك حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية مادامت لا تتدخل في عالم السياسة (بالمعنى المحدد)، أي أنها صيغة لا تسقط في النسبية أو العدمية. وهذه الصيغة هي الشائعة بين عامة الناس في الشرق والغرب، بل بين الكثير من المفكرين العلمانيين. ويمكن تسميتها «العلمانية الأخلاقية أو الإنسانية» (وهناك بعض المفكرين الإسلاميين يرون أن هذه العلمانية الجزئية الأخلاقية لا تتناقض بأية حال مع المنظومة الدينية الإسلامية وأنهما يمكنهما التجاور والتعايش بل التكامل) ". في واقعنا المغربي أيضا تبرز مجموعة من المساهمات التي ظلت حبيسة التداول النخبوي، والتي يجب أن تدرس بما فيه الكفاية والاستفادة منها لإغناء المنظومة السياسية والدينية والثقافية. ولعل أبرز المساهمات التي نظرت للدولة والعلمانية ومسألة التراث بشكل عام، هي مساهمات الثلاثي الفكري محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمن، وعبد الله العروي. وهي مشاريع في بنيتها متناقضة لكنها متكاملة أيضا إذا ما استجمعنا هذه الجهود واستفدنا منها في البناء المستقبلي لشكل الدولة المرجوة. فالجابري مثلا لم يفرد للعلمانية كتبا كما أفردها للعقل العربي أو للتراث أو الحداثة، ربما لأنه لا يعتبرها جزء من منظومة النهضة العربية كما تصورها كما يقول البعض. وأغلب الأحاديث عنها كما يراها من كتب عنه هي أنه اعتبر السياق الواردة فيه لا تعني المنظومة العربية، لأننا نفتقد لمؤسسة كالكنيسة بهيكليتها وتنظيمها. أما طه عبد الرحمن فمشروع الحداثة الذي ينبني على أسس أخلاقية لا وزن له في الميزان الإنساني، فبدون أخلاق لا يمكن أن تكون الدولة مؤسسة على العدل، ومن خلال مؤلفه روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الإئتمانية، ينتقد المشروعان الداعيان إلى الفصل والوصل، ويتجاوزهما إلى فضاء يلتئم فيه الغيبي بالمرئي، ولا يمكن أن يكون هذا الفضاء إلا الأخلاق، وهي مقاربة روحية كما سمى بها كتابه، لأن الروح مجال تناساه كل دعاة الفصل والوصل على حد سواء. أما عبد الله العروي فكلمة علمانية عنده، رغم ما يلازمها منذ القرن الماضي من إشارة قدْحية، لا تعني سوى هذا الحياد المنشود، وعلاقته معروفة بالتراث فهو من الداعين إلى القطيعة الإبستمولوجية.
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلفية الوهابية والعود الأبدي
-
السلفية الوهابية وشمولية الخطاب
-
ربيع عربي أم خريف؟
-
زجل: غرايب اللسان
-
تعالي
-
زجل: احوال الدنيا
-
يا ماضي الحزن توقَّفْ
-
لا تعتبي علي
-
همسات من وطن جريح
-
وخز الذكرى
-
كالغريب...
-
بالصمت أجابت...
-
صدى الرحيل
-
في ذكرى التحرير
-
جرح القدس
-
سكون الخوف
-
في بيداء الذاكرة
-
حب بطعم الخوف
-
رقم وأمنية
-
على طريق الأمان
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|