عندما
ساعدت المخابرات الاميركية CIA الجنرال الفاسد نورييغا للسيطرة على الحكم في
جمهورية بنما، كان الهدف من وراء ذلك ضمان تهريب المخدرات عبر قناة بنما المائية في
أكبر عملية تهريب مخدرات شهدها التاريخ. وبعدما قام تاجر المخدرات (نورييغا) بدوره
كاملا لصالح المخابرات الاميركية وبعد انتهاء صلاحيته طلبت منه الولايات المتحدة
تسليم السلطة لشخص آخر. ولكنه، بعد الارباح الهائلة التي حققها من تجارة المخدرات
وتمتعه بجبروت السلطة بمساندة اميركية مخابراتية كاملة، رفض الطلب الاميركي فما كان
من المخابرات الاميركية التي عينت (تاجر المخدرات هذا) بوظيفة رئيس لبنما إلا
القيام بعملية عسكرية انتهت باعتقاله ونقله بطائرة مروحية الى أحد السجون ليقضي
بقية أيام عمره في السجن مع زملائه تجار المخدرات.
الرئيس هوغو تشافيز الذي
وُلد عام 1954 وتخرج كملازم ثان من الاكاديمية العسكرية وشارك مع زملائه في تأسيس
الحركة الجمهورية عام 1982، هو صورة معاكسة تماما للجنرال نورييغا، فسجله الشخصي
يدل على تاريخه الوطني المشرّف. وقد سُجن مرات عدة على يد نظام الحكم الديكتاتوري
الذي كانت ترعاه الولايات المتحدة في ذلك الوقت بسبب المشاركة في النضال من أجل
الحقوق الوطنية والشعبية. وهو لم يأت بترتيب من المخابرات الاميركية، فقد تم
انتخابه عام 1998 لبرنامجه الانتخابي الذي يهدف الى محاربة الفقر والفساد وفرض
السيطرة الوطنية على الثروات الطبيعية للبلاد. وفاز مرة اخري بالاغلبية وحصل على
اكثر من 70% من الاصوات عام 2000 وكانت اعلى نسبة لأي رئيس منذ اربعين عاما، وفاز
مؤيدوه ب120 مقعدا من اصل 128 في الجمعية الدستوٍرية الوطنية (البرلمان)، واستطاعت
حكومته خفض التضخم من 40% الى 12% وحققت نموا قدره 4% وزادت عدد طلاب المدارس
الابتدائية مليون طالب في شهر تموز/يوليو 1999، وهكذا اصبح في ليلة وضحاها شخصا
معاديا لمصالح الولايات المتحدة.
المعارضة التي تقف ضد شتفايز والتي تتمسح بها
الادارة الاميركية، هي بقايا لأحزاب تفوح منها رائحة الفساد والمحسوبية ويقودها
رجال أعمال لهم مصالح مباشرة مع الولايات المتحدة، ويدعمها مناهضون للثورة الكوبية
متواجدون في ميامي في الولايات المتحدة، ومنهم على سبيل المثال هيرمان ريكاردو الذي
سُجن عام 1976 لتفجيره طائرة مدنية كوبية ومات على اثرها 73 شخصا.
التناقض بين
تشافيز والمعارضة (على <<النموذج الاميركي>>) هو ان الرئيس (الذي يتمتع
بتأييد كاسح في اوساط الفقراء) اقر 49 قانونا تسمح بزيادة دخل الدولة والحكومة من
عائدات النفط، وهو ما دعا غرفة التجارة التي تسيطر عليها مجموعة كومبرادورية منتفعة
من العقود مع الشركات الاميركية لمعارضة تلك القرارات ودعت الى اضراب عن العمل في
10/12/2001 وهو ما دعا اتحاد العمال للمشاركة في الاضراب، وهذا الاتحاد تقوده
مجموعة كانت تخاف من دعوات الرئيس الوطنية لإجراء انتخابات جديدة، وهو بالتأكيد ما
يعني انتهاءها. والتناقض الآخر هو محاولة تشافيز فرض الادارة والسيطرة الوطنية على
شركات النفط ومنها شركة PDVSA اكبر شركة نفط في العالم، وثالث أكبر شركة تصدر النفط
للولايات المتحدة. اما التناقض مع وسائل الاعلام فهو محاولة تشافيز التقليل من
سيطرة المال ورجال الاعمال المرتبطين هاتفيا مع الولايات المتحدة على وسائل الاعلام
وهو ما جعل المعارضة تتهمه بالحد من حرية الاعلام. لكن يبقى السؤال الأهم: ما هي
الاسباب الحقيقية للعداء الاميركي للرئيس الفنزويلي؟؟
اولا، ما حصل في فنزويلا
من محاولة للانقلاب العسكري الاول والفاشل الذي كان هدفه اطاحة الرئيس المنتخب
تشافيز هو تأكيد على ما قاله الرئيس بوش <<إما أن تكون مع الولايات المتحدة
او ضدها>>، وهو ما يعني ان كل من يحاول مقاومة املاءات السياسة الاميركية
سيعامَل كعدو للولايات المتحدة وحتى لو كان ذلك تحت شعار تبني سياسة وطنية مستقلة.
فلا يوجد شيء اسمه مستقل ووطني أمام المصالح الاميركية ونظامها العالمي الجديد.
ولهذا قررت الولايات المتحدة التخلص منه وقالت بعد الانقلاب وتعيين أحد عملائها
(بيدرو كامونا) رئيس أكبر تجمع لرجال الاعمال، ان حكومة تشافيز هي التي تسببت في
الازمة وأدت الى طرده، وأيدت الحكومة المؤقتة وانتقدت أعمال الشغب واتهمت أنصار
الرئيس بإطلاق النار على المتظاهرين. وقالت وزارة الخارجية الاميركية في بيان لها
ان تشافيز لم يظهر اي احترام لحرية التعبير وحرية الرأي السياسي، وأكدت انها تتطلع
للتعاون مع القوي الديموقراطية في فنزويلا (القوى التي اطاحت بالرئيس الشرعي
والمنتخب)؟
والاسباب الاخرى لدعم الولايات المتحدة الانقلاب الذي تشير أصابع
الاتهام الى وقوفها وراءه كما قالت كوبا ومنظمات كثيرة مثل منظمة مناهضة الحرب
ومنظمة العمل الدولية التي يرأسها رامزي كلارك وزير العدل الاميركي السابق والكثير
من المحللين، كثيرة. أولها العلاقة القوية بين حكومة تشافيز وكوبا التي ارسلت
المئات من الخبراء والاطباء والتقنيين لمساعدة الحكومة الفنزويلية، وكذلك علاقة
الصداقة الحميمة التي تربط فيدل كوسترو بتشافيز والتي أثارت غضب الولايات المتحدة
التي قالت على لسان مستشارة الامن القومي كونداليسا رايس وأكده الكثير من المسؤولين
الاميركيين في تصريحاتهم <<ان على الرئيس تشافيز تصويب سياساته>>،
وموقفه من الحرب في أفغانستان وانتقاده للعدوان الاميركي على المدن والقرى
الافغانية واتهامه الولايات المتحدة بأنها تحارب <<الارهاب بالارهاب>>،
وهو ما جعل الادارة الاميركية تسحب سفيرها من كاراكاس بشكل مؤقت وترفض الاجتماع
بالرئيس الذي نشط في منظمة الأوبك لتحسين أسعار النفط حيث تُعتبر فنزويلا رابع مصدر
للنفط في العالم وثالث مصدر للولايات المتحدة. وقد اثارت زيارته الى العراق وليبيا
سخط واشنطن في وقت كان يحاول إحداث تغييرات اقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وعلى رغم غنى فنزويلا الا ان 80% من سكانها فقراء وهذا ما دفعه الى محاولة
تغيير الاتفاقات الموقعة منذ عقود طويلة على ما فيها من إجحاف واضح للاقتصاد
الفنزويلي مع الشركات الاجنبية والاميركية، وهو ما يعني خسارة هذه الشركات لأرباح
كبيرة، وبالمقابل زيادة دخل الحكومة الوطنية في فنزويلا.
البروفسور جيمس باتراس
من جامعة نيويورك أشار قبل محاولة الانقلاب الفاشل الى ان الولايات المتحدة تقود
حملة لزعزعة الاوضاع في فنزويلا، وهو نفس التكتيك الذي استخدمته في تشيلي حيث قامت
مجموعة من المتظاهرين بالاحتجاج والتسبب بالفوضى وتَواكَبَ ذلك مع حملة اعلامية
اميركية بوصف الرئيس بالديكتاتور ويقوم بعدها ضباط الجيش بالانقلاب العسكري تحت
شعار الحفاظ على أمن البلد ومصالحه. واتهم ايضا صندوق النقد الدولي والمؤسسات
المالية بالمشاركة في المؤامرة حيث قال مورغان ستانلي (البنك الدولي) انه يؤيد
ازاحة تشافيز من الحكومة، وأعلنت مؤسسة غولدمان الاستثمارية ان فنزويلا تواجه كسادا
اقتصاديا كبيرا وأبدت مخاوفها من انهيار اقتصادي وسياسي، وقالت ان المؤسسات المالية
في فوضى وهو ما يؤكد ان صندوق النقد الدولي IMF والمؤسسات المالية التي تسيطر عليها
الادارة الاميركية، تحاول فبركة أزمة مصطنعة داخل فنزويلا. محاولات الانقلاب التي
تخطط لها الولايات المتحدة ومخابراتها تذكّرنا بما حصل في إيران عام 1953 يوم ساندت
الولايات المتحدة الانقلاب الذي اطاح بالرئيس مصدق وحكومته التي حاولت تأميم النفط
الايراني، ويشبه ما حصل في جنوب فيتنام 1963 وفي تشيلي عام 1973 عندما تآمرت
الولايات المتحدة ودعمت الجنرال بينوشيه للاطاحة بالحكومة المنتخَبة ورئيسها
سلفادور أليندي المعروف بوطنيته ودعواته للاستقلال عن التبعية الاميركية.
() باحث إعلامي فلسطيني جامعة تيمز فالي لندن.
...
©2002 جريدة السفير