الإدارة الأمريكية والمسؤولية الإخلاقية إزاء محنة الشعب العراقي
يناقش البعض من أصحاب النوايا
الحسنة (والسيئة أيضا) أنه ليس صحيحا أن تعتمد المعارضة الوطنية العراقية على
أمريكا وقوات دولية أخرى في إسقاط النظام الديكتاتوري في العراق ونصب حكومة بديلة،
فإسقاط الحكومة الجائرة، هو شأن داخلي يقرره الشعب العراقي وليست من قبل قوى خارجية
وخاصة أمريكية!. وهذه الحكومة البديلة مرفوضة.. فأية حكومة هذه التي تأتي للحكم على
ظهر دبابة أمريكية..!! الأمر الذي سيرفضه الشعب العراقي وهو ينظر بإحتقار إلى
النظام البعثي لأنه جاء إلى السلطة على القطار الأمريكي مرتين، الأولى عام 1963 في
عملية إغتيال ثورة 14 تموز المجيدة وقيادتها الوطنية والثانية عام 1968 (السلطة
الحالية). وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقبل المعارضة الوطنية أن تسلك ذات السلوك..
والحكمة تقول: (لا تنهي عن خلق وتأتي بمثله!!).
كذلك يجادل هؤلاء أنه كيف يمكن أن نثق بأمريكا وهي التي خذلت
إنتفاضة الشعب العراقي في آذار 1991، وسمحت للنظام بإستخدام مروحياته لقمعها. ودور
أمريكا في دعم النظام في حربه على إيران وتجهيزه بالأسلحة بما فيها أسلحة الدمار
الشامل ومده بالمعلومات الإستخباراتية العسكرية عن مواقع الجيش الإيراني إثناء
الحرب العراقية-الإيرانية، من الأقمار الصناعية.. وغيرها. والسؤال الأهم الذي يطرح
بإلحاح هو: هل يعقل أن أمريكا تريد الديمقراطية للعراق؟ (سيكون موضوع مقالنا
القادم) ولماذا تكون المعارضة بهذه السذاجة لتثق بكل ما تقول لهم أمريكا… إلى آخره
من الأسئلة والهواجس التي تدور في أذهان الكثيرين من القلقين على مصير الشعب
العراقي ومستقبله في هذه الفترة التاريخية العاصفة. لذلك أرى من الضروري طرح هذه
الأسئلة ومناقشتها بصراحة وبالتي هي أحسن.. للوصول إلى قناعة وأخذ موقف حازم من كل
ماله تأثير على مستقبل وطننا.
ابتداءً يجب أن نلتزم بمنهجية البحث عن الحقيقة
وإيجاد لغة مشتركة في هذا السجال ونكون صريحين في طروحاتنا وتجنب الشعارات
الديماغوجية والإنتهازية التي تتلاعب بعواطف البسطاء من الناس، و التي لا تكلف
أصحابها أكثر من تكاليف الحبر والورق لكتابتها. دعونا نتحدث بلغة القرن الحادي
والعشرين، لغة الديمقراطية والحوار المتمدن مع الإقرار بتشابك مصالح الشعوب والتحدث
عن مصير شعب مهدد بالإبادة من قبل أبشع نظام همجي عرفه التاريخ، لغة الربح
والخسارة، وتجنب الخطابات البلاغية والعنجهية التي ورثها البعض من العهود الغابرة.
فما كان مقبولاً في العصر الجاهلي غير مقبول في عصر الكومبيوتر. وكما يقول الوردي:
"الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد ان يبقى على آرائه العتيقة هو
كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد". والمشكلة، أننا ما زلنا نواجه
خطاباً ثوريا بليغاً مغلفاً بغلاف حضاري براق ولكن تحت ذلك الغلاف الخفيف يختبئ ذلك
البدوي المشحون بالعنجهية وأفكار من عهد حروب داحس والغبراء. فنحن الآن نعيش مرحلة
النظام العالمي الجديد الذي صارت فيه المشاكل الوطنية مشاكل عالمية والعكس صحيح
أيضاً.
العراق ضحية من ضحايا الحرب الباردة. يوم كان الصراع بين المعسكرين
العملاقين على أشده في احتلال مناطق النفوذ. والشارع العراقي كان تحت تأثير الفكر
اليساري المعادي للغرب. فأية علاقة مع الإتحاد السوفيتي هي تضامن أممي وتزكية
للوطنية، وأية علاقة مع الغرب عمالة وخيانة!! والسياسة معناها لعبة المصالح.
فلا أعداء دائمين ولا أصدقاء دائمين وإنما مصالح دائمة فقط . فبعد ثورة 14 تموز
1958، قامت في العراق ولأول مرة حكومة وطنية مائة في المائة ذات سيادة كاملة وبصبغة
يسارية. ونتيجة للصراعات الدموية بين الأحزاب المؤدلجة والصراع بين المعسكرين على
مناطق النفوذ، تم ذبح تلك الحكومة الوطنية وجيء بحزب البعث الفاشستي إلى الحكم على
القطار الأمريكي في عام 1963 وجيء به ثانية وعلى نفس القطار في عام 1968 وتم تجهيزه
بالسلاح وغيره من أسباب البقاء كما أسلفنا.
ولذلك وكما أعترف الرئيس الأمريكي
السابق، بيل كلنتون في خطابه أمام مؤتمر حزب العمال البريطاني الأخير، أن الدول
الغربية وأمريكا خاصة، تتحمل مسئولية إخلاقية إزاء محنة الشعب العراقي لأن هذه
الحكومات هي التي جهزت النظام بترسانة السلاح وأسباب البقاء. ولهذا السبب
بالذات تقع عليهم المسئولية لمساعدة الشعب العراقي للخروج من محنته خاصة بعد
أن انقلب السحر على الساحر وتحول صدام من منفذ لما يريدون إلى مصدر تهديد لمصالحهم
ولأنه قد أستنفد دوره فيجب أن يلفظ لفظ النواة. فالوغد الذي يحكم في العراق الآن هو
وغدهم، على حد تعبير الأمريكان أنفسهم، ولا يمكن الخلاص منه إلا عن طريقهم. فقد جاء
الفاشست إلى حكم العراق بالقطار الأمريكي ولن يرحلوا عنه إلا بالقطار
الأمريكي أيضاً. أما قيام حكومة وطنية ديمقراطية، بعد الفترة الانتقالية التي نأمل
أن تكون أقصر فترة، فهي من مسئولية الشعب العراقي الذي كلما يريده هو توفير فرصة
إنتخابات حرة ليدلي بصوته عن طريق صناديق الإقتراع وتحت إشراف مراقبين دوليين.
وبذلك فلا أحد يستطيع أن يطعن بشرعية ووطنية تلك الحكومة المنتخبة. وليكن ما يكن
بعد ذلك، وسيندم الذين وقفوا ضد تطلعات الشعب العراقي وربما سينكرون ما قالوه اليوم
وأي منقلب سينقلبون.
أما دور الأمريكان في فشل الإنتفاضة، فأقول أن السبب الذي
دعاهم إلى التخلي عنها هو ما طرح العض من شعارات وهتافات أنزلت الرعب في قلوبهم
وقلوب الدول الإقليمية من أنه إذا انتصرت الإنتفاضة فأن البديل سيكون من نوع النظام
الإيراني الإسلامي، الأمر الذي لا يمكن أن تتساهل معه أمريكا حتى ولو بقي صدام إلى
الأبد. ويقول البعض أن عملاء النظام اندسوا في صفوف المنتفضين ورفعوا هذه الشعارات
الطائفية الإستفزازية من أجل إقناع أمريكا والدول المحيطة بإفشالها وقد تحقق لهم ما
أرادوا. وهذا يؤكد ، على ضرورة الدعم الأمريكي لا إلغائه، إذا أردنا ضمان نجاح
الإنتفاضة القادمة. وكذلك تحذير إلى من يهمه الأمر بوجوب تجنب ترديد الشعارات
الدينية أو المذهبية والطائفية، والحذر مسبقاً من الذين سيقومون برفع مثل هذه
الشعارات، وإذا ما حصل فيجب اعتبارهم من المخربين من أزلام السلطة لإجهاض الإنتفاضة
وعلى المنتفضين الحقيقيين القبض عليهم ومحاسبتهم.
يقول المدافعون عن النظام من العرب والأجانب، أن
صدام حسين ليس الدكتاتور الوحيد في المنطقة، فلماذا التركيز عليه وحده دون غيره
وإسقاده بقوة خارجية؟. وجواباً على ذلك نقول أي دكتاتور في التاريخ شن حروباً
بأسلحة الدمار الشامل على أبناء شعبه غير صدام حسين؟ فمنذ مجيء حزب البعث إلى
السلطة ولحد الآن والنظام يشن على الشعب العراقي حروباً متواصلة وبأشكال مختلفة،
داخلية وخارجية التي كلفت العراقيين ما يقارب المليونين نسمة خلال أكثر من ثلاثة
عقود، من ضحايا الحروب والأنفال وحلبجة والأهوار والإعدامات وتطهير السجون
والإغتيالات والمجاعة وسوء الخدمات الصحية..الخ.
كذلك يجادل البعض أن إسقاط
الحكم من مسئولية الشعب العراقي وليس غيره وكأنهم لا يعرفون أن النظام العراقي هو
الفريد من نوعه ولذلك يحتاج إلى حل فريد من نوعه أيضاً. لقد حاول الشعب العراقي
التخلص من هذا النظام منذ اغتصابه للسلطة عام 1968، سواء بإنتفاضات شعبية أومحاولات
إنقلابات عسكرية، لكن كلها باءت بالفشل. وأعظم هذه الإنتفاضات كانت عام 1991 التي
انتهت بالمجزرة الكبرى التي راح ضحيتها ما يقرب 300 ألف شهيد والآن يوجد بحدود
أربعة ملايين عراقي في الشتات, فكيف يستطيع هذا الشعب إسقاط هكذا نظام دموي لوحده؟
مع الضربة الأمريكية للنظام أم
ضدها؟
ليس هناك أي وطني غيور وإنسان سليم العقل يريد الحرب وخاصة على بلاده.
وكما تقول الحكمة الصينية (أعظم نصر يحققه الإنسان على خصمه هو النصر الذي يتحقق
بدون حرب). ولكن هل تنطبق هذه الحكمة على نظام دموي مثل نظام صدام حسين؟
أن تقبل
بالضربة الأمريكية للنظام، يعني إحتمال بعض الخسائر، ولكن معها الخلاص الأبدي من
هذا النظام الجائر وعودة العراقيين لممارسة حياتهم الطبيعية والعيش بسلام أسوة
بالشعوب الأخرى وبناء وطنهم من جديد وإعادة مكانتهم المحترمة بين العالم، علماً بأن
الأمريكيين قد أكدوا لقادة المعارضة أن هذه الحرب، إن حصلت، فهي ليست كحرب عام
1991، لأنهم سيتجنبون ضرب الركائز الإقتصادية والمناطق السكنية. لا بل وحتى القوات
العسكرية التي لا تدافع عن صدام.
بدون الضربة، يعني بقاء النظام متسلطاً
على رقاب الشعب إلى أجل غير منظور يسوم الشعب سوء العذاب وسيذبح مليون عراقي آخر
والمزيد من السجون والتعذيب والفرار من الوطن والجوع والأمراض والحرمان والتخلف
والعزل عن العالم وضحايا الغرق في البحار والإبادة. فأية حياة لهذا الشعب في ظل
حكومة جائرة كهذه؟
أغلب العراقيين الذين ألتقيهم وأناقشهم بالموضوع يقولون: نعم
لقد شن النظام حروباً متواصلة على الشعب العراقي خلال أكثر من ثلاثة عقود، لذلك فهم
يرون في الحرب القادمة أنها حربهم على النظام وأن تكون آخر الحروب.
يحكى أن وقع
الذئب يوما في فخ الصياد فاقترب منه الثعلب يتأمله. قال له الذئب يقولون ان القيامة
قامت. أجاب الثعلب إما القيامة فليس عندي خبرها ولكن الشيء الأكيد ان قيامتك قامت.
ويبدو أن قيامة صدام حسين قد اقتربت.
*-عن المؤتمر اللندنية.