|
اللغة : الذات في سياق التاريخ
بتول قاسم ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 4097 - 2013 / 5 / 19 - 22:16
المحور:
الادب والفن
اللغة : الذات في سياق التاريخ (قراءة في الشعر القديم تحاور المناهج الحديثة)
تسعى بعض المناهج الحديثة في دراسة الأدب الى عزل النص موضع الدراسة عن ظروفه الخارجية نافية عنه كل أصوله ومراجعه لتكون كتابتها عن النص مرتبطة بلغة النص فقط وتصدر أحكامها النقدية عليه منصرفة عن كل ما تبوح به لغته من دلالات خارجية ، لأنها كما تذكر هذه المناهج لغة تتلاشى في داخلها الطوابع الاجتماعية أو الوراثية للغة لصالح حالة محايدة وجامدة يكتسبها الشكل ، لغة بريئة وفارغة تحقق غياباً كلياً ، لغة بدون صيغة فهي لغة إشارية لا يخصها التاريخ ، لغة أو كتابة تتغرب عن الذات وعن العالم اليومي المبتذل كما تصفه ، تشيد الكلمات فيها حقيقة في فراغ ، فهي تمثل صيغة لا تمت إلى حالة الكاتب ولا الى زمن أفعاله ، وهي تبحث عن الجوهر والمطلق ولكنها ترى جوهر الأدب هو الزوال(1). إن دراستنا تحاول أن تمتحن صدق هذه الأفكار والدعوات ، وهل تصح أن تكون منهجاً لدراسة الأدب ، وهل يؤكدها الأدب نفسه لتكون غير مفروضة عليه وغريبة عنه ؟ ونختار لمحاججة هذه الدعوة نصاً من نصوص الأدب الجاهلي هو معلقة طرفة بن العبد ، لأنه يمثل محاولة للانزياح عن الأصل أو المرجع أو محاولة لإقصائه في مرحلة أدبية تمثل سيادة الأصل أو المرجع وتحكمه في عملية الإبداع ، لنعرف هل استطاع أن يزيحه أو يقصيه ؟ .. ثم لنعرف هل هناك نص أو لغة لايمتان إلى حالة الكاتب والى زمن أفعاله؟. الشاعر الجاهلي ابن وسطه الاجتماعي ويمتد أحدهما في الآخر : امتداد من الذات الى الوسط ، وامتداد من الوسط الى الذات. وهما امتدادان متعاكسان ولكنهمـا متلاقحان يتزود الواحد من الآخر بعناصر الصلة والنماء ، ولا يغني قيام أحدهما عن الآخر. في حين تؤثر غلبة أحدهما في الآخر. وفي ضوء هذه الغلبة تتحقق هوية الشاعر في أن يكون ذاتياً أو ان يكون جزءاً من الوسط وفيه. ولإدامة هذه العلاقة بين الوسطين : وسط الشاعر ووسط جماعة الشاعر ، يحقق كل منهما مصالح الآخر لكي يغريه في الاستمرار ويحثه على العطاء. فالشاعر الذي يجد أناه ممتدة في أعمال المجتمع ، محققاً الانتباه على وجوده والانشداد لدوره ، يستمر في الاتصال وفي الامتداد. والوسط الذي يجد اهتماماته وهمومه ومعاناته جزءاً أصيلاً في الشاعر وعمله يظل دائم الصلة بذلك الشعر. ويقوم – لإغراء الشاعر – بتحقيق عوامل الأمن الثقافي والشخصي ومكافأة الإبداع وإقالة العثرة المادية في الغذاء والكساء والمأوى ليأخذ بدلاً من ذلك الشعر المتكلم بهمه والكلف بمعاناته والواصف لعلله والمعالج لشديدها ومزمنها. والشاعر في تعبيره عن الوسط والذات يمثل استبطاناً لذاتين في آن : ذات اجتماعية كبرى وذات مشاعر صغرى. وحين تطغى الذات الاجتماعية يصبح لا وعي الشاعر محتوى من المجتمع ومنسوخاً بالمؤثر الاجتماعي ، ويعم هذا التأثير كل قدراته ، ويتحول الشاعر في شعره القومي الى عنصر متطرف الرؤية أحادي النظرة : إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
وهذا هو الامتلاك الكامل لدواخل الشاعر من قبل صورة آخذة بالاتساع والشمول حد تعمية الشاعر عن رؤية أية حقيقة أخرى خارج صورة قبيلته. ويشتد أوار التعميم بالشاعر حدّ الاعتداد بأن قبيلته ومجتمعه ناتج بشري من أفراد يمتلكون طاقة تفوق البشر وتتفوق على الآدمية قدرة وتكويناً :
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
إنها الصورة الاحتوائية للاوعي الشاعر ، الصورة التي جعلته يعتقد أن الجسم البشري ما عاد مكاناً صالحاً لسكنى نفوس قومه. وقد ينحسر الامتداد الاجتماعي وتحدث مفارقة بين الشاعر والمجتمع ، ويصاب الشاعر بالاغتراب فيصير بعيداً في دواخله عن كل حاجات بيئته وإلحاحاتها. وقد يكون سبب هذه المفارقة اتساع مدركاته وتصوراته عن الكون والإنسان ، فيجد نفسه أكبر من مجتمع يفكر بمفاهيم وأطر محدودة الآفاق(2). ويتجلى التفاعل بين الشاعر والوسط الاجتماعي عبر اللغة التي هي أداة التواصل بينهما وتتأثر بمدى هذا التفاعل ، وهذا تؤكده نظريات اللغة. وإذا كان الشاعر يمثل استبطاناً لذات المجتمع الكبرى ولذاته فإن ذلك تعكسه اللغة ، كما تعكس غلبة إحداهما على الأخرى على صعيد الرؤية وعلى صعيد الطرائق والأساليب التعبيرية والقواعد اللغوية. وقد فرقت نظريات اللغة بين مستوى التعبير لدى الفرد ولدى هيئة المجتمع بأجمعه ، فسمته لدى المجتمع باللغة ، وهي مجموعة المصطلحات والقوانين اللغوية التي يتخذها المجتمع. أما التطبيق الفردي للغة والذي يتجلى فيه النشاط الإبداعي فهو الكلام. وتتأثر اللغة التي هي ملك المجموع بالمحيط الذي يوجد فيه مجموع المتكلمين بها ، وهو يرتبط بعوامل فيزيائية واجتماعية وثقافية تمثل الموروث التاريخي القومي لهذا المجموع. وتشير نظريات اللغة الى أن الأفراد يتعلمون لغة المجتمع التي تحتوي كل هذه المؤثرات ، ويصبحون قادرين على توليد وفهم عدد لا محدود من العبارات ، لأن هنالك عوامل داخلية مهيأة لديهم لذلك. فالفرد يكتسب اللغة ويتعلمها ثم يبدع فيها. ويتجلى النشاط الإبداعي للفرد من خلال الكلام. وتحدثت هذه النظريات عن حصة الجانب الفردي والجانب المكتسب في اللغة ومدى التعارض بينهما. فالنشاط اللغوي للفرد محكوم بالقواعد التي تمثلها لغته التي يكتسبها من محيطه وبيئته. ومن خلال التفاعل بين الفرد والنشاط اللغوي الاجتماعي تظهر إمكانات الإنسان اللغوية الكامنة ومدى تأثيره في اللغة. ويظهر تأثير اللغة في شخصية الفرد إذ تمارس سلطتها على تفكيره ، فتقولب التفكير بوساطة عناصرها المعجمية والنحوية وبناها الأسلوبية ، وتحدد إدراكه وتفكيره ، فتؤثر في تنظيم النشاط المعرفي للفرد وتصوره عن العالم. وكما تؤثر اللغة في الفرد يؤثر فيها بهذه الإضافات الفردية التي تنتقل باللغة من مرحلة استعمال لغوي معين إلى مرحلة تمثل انزياحاً(3) أو انحرافاً عنها ، أي الأنتقال إلى مرحلة الابتكار بالخروج على المتن اللغوي والانتقال الى حالة الاستثناء ، وهذا الكلام الاستثنائي يكشف عن إبداع الشاعر ، وبه تحدث الإضافة إلى متن اللغة(4). ومن المناسب هنا أن نشير الى تقسيم رولان بارت الذي تستند المناهج الحديثة الى دعواته في بعض ما تستند ، وفي كتابه (درجة الصفر للكتابة)- لمستويات التعبير اللغوية هذه وهو يحاول تصنيف الكتابات الفرنسية في خلال مائة سنة [من (1850-1950)] ، فلقد اعتمد على ثلاثة مصطلحات إجرائية أعاد تحديدها قبل أن يستعملها في تمييز انتماء كل كتابـة إلى نمط من الأنماط التي يقترحها ، وهذه المصطلحات هي : اللغة ، الأسلوب ، الكتابة. وهو يعرف اللغة بأنها معطى اجتماعي ، معطى مشترك محمل بالمعاني والاستعمالات (ملكية مشاعة) للناس ، إنها شيء اجتماعي بالتحديد وليس بالاختيار ، ولابد من عنصر الاختيار للأدب أو الكتابة. وهي عنصر سلبي بالنسبة الى الكاتب لأنها لا تخصه ، وهو يستعملها بدون أن تكون له حرية كبيرة في تغييرها. إن ما يستطيعه ضد اللغة هو أن يخلق لها سياقاً آخر يبعدها عن الاستعمالات المألوفة في مجال التواصل ، ومع ذلك فإن الكاتب يظل مقيداً بلغته وبموروثاتها. إن اللغة سلب ولكنه يقترب من الإيجاب من خلال الإجراء. ومن خلال الإجراء لا تتشابه لغة كاتبين وهي مغايرة لكل اللغات العتيقة والمستقبلية. وتعبرمرحلة الأدب الكلاسيكي في الأدب الغربي عن مستوى (اللغة) فهي أكثر تمثيلاً لها ، وفي هذه المرحلة كانت اللغة متاعاً مشتركاً ، فكان الشعر عند رجال القرن السابع عشر مناخاً يعني أساساً مواضعة في اللغة. والذي يجده في الكتابة الكلاسيكية أنها كانت موحدة طيلة عدة قرون ، على عكس الكتابات الحديثة التي يجدها متكاثرة حد الانفجار. وفي هذه المرحلة فهم الكتاب الكلاسيكيون الكتابة على أنها (التجويد) في نقل اللغة المشتركة الى (أعلى) درجة من (الاكتمال) لتطابق ما يريدون التعبير عنه (وهذا ما تمثله أسس البلاغة القديمة). إن الكاتب الكلاسيكي يؤثر أمان الفن على عزلة الكلام الذي يعبر عنه بالأسلوب ، وهو يعكس الأخلاقية الكلاسيكية ، فالكتابة عند الكلاسيكيين تمتص الأسلوب. أما الأسلوب ، فهو تعبير عن الذات بعيداً عن غيرها ، إنه عزلة الكاتب وسجنه وشيأه ، إنه الخصوصي في الطقوسي ، هو يغوص في الذكرى المنغلقة للشخص ولايبالي بالمجتمع. الأسلوب يتموضع خارج العقد الذي يربط الكاتب بالمجتمع. إنه لغة مكتفية بذاتها لا تغوص إلا في الميثولوجيا الشخصية والسرية للكاتب. له علاقة بالماضي الشخصي للكاتب وليس بالتاريخ العام. في اللغة نلتقي إلفة التاريخ ، وفي الأسلوب إلفة الماضي الخاص. في الأسلوب نجد نرجسية اللغة إذ تنفصل الكتابة عن وظيفتها الأداتية ولاتفعل شيئاً سوى النظر الى ذاتها. والشعر الحديث مشبع بالأسلوب. أما الكتابة فهي حصيلة تفاعل العنصرين السابقين ، إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع ، وهذا ما يجعل الكتابة لا اللغة ولا الأسلوب مجالاً لرصد تطورات الوعي وتحليل تجليات الآيديولوجيا ، لأنها في خصوصيتها وحريتها تلامس التاريخ وتتفاعل معه. إن الكتابة تعكس الذات والتاريخ فتوقف السلب المطلق الذي تمثله اللغة ، ففي الكتابة تتوقف حركة السلب المطلق ويأخذ السلبي صياغة. الكتابة ليست موضوعية ولا ذاتية. هي وسيط بين نسق أمة ونسق ذات. إن الكتابة بوصفها إشارة دلالية للكاتب تتصل بالتاريخ وتلامسه. وفي العصر الحديث تغيرت مفاهيم الكتابة وتنوعت وأصبحت الكتابة قبل كل شيء سعياً الى التخلص من ركام قواعد الصنعة ووصفات المدارس وأصبحت مغامرة ، بحثاً عما يشخص كلية علاقة الكاتب بنفسه وبالكون والمجتمع وقد تفضي به الى أن يستعيض عن الكتابة بـ (اللاكتابة) ، وهو ما يسميه بارت الكتابة في درجة الصفر ، أي جعل الأدب قريباً من الحياد ومن الصمت ، على حافة الزوال بدون تلك الزوائد التي تحيله الى جعجعة وأكاذيب. ومن هذا المنظور رصد بارت أربع لحظات أساسية في تاريخ الكتابة الأدبية الفرنسية في خلال مائة سنة الماضية. إن هذه الأنماط للكتابة التي رصدها بارت في مرحلة الأدب الحديث قد توجد متداخلة متعاصرة(5). وقد ذكرنا أنه وجد أن مرحلة الأدب الكلاسيكي الغربي أكثر اقتراباً في التعبير عن مستوى (اللغة) كما حدده. وتشبهها في التعبير عن هذا المستوى مرحلة الأدب الجاهلي في تاريخ الأدب العربي ، حيث اللغة ملك مشاع ومعطى مشترك ، شيء اجتماعي محدد يلزم به الشاعر ، فالشاعر ليس حراً في مجتمع الجاهلية ، إنه مقيد بلغة القبيلة وموروثاتها حيث الصدور عن وعي موحد جماعي. وتعبر عن مستوى (الأسلوب) – الذي هو الإجراء الفردي داخل ما هو عام والمغايرة والانزياح عما هو قديم ومحافظ – محاولة بعض الشعراء الابتعاد بكلامه عن لغة التواصل المألوفة. ونستشهد في دراستنا هذه بواحد منم هو الشاعر (طرفة بن العبد) في معلقته الشهيرة التي تمثل - كما قلنا – محاولة للمغايرة والتجاوز. ونحاول أن ندرس التفاعل بين (اللغة) التي تمثل المستوى العام ، و(الأسلوب) الذي يمثل المستوى الخاص بالشاعر من خلال قصيدته. فنحن نفترض بدءاً أن قصيدة الشاعر تمثل مستوى (الأسلوب) كما حدده (بارت) فهي تؤشر ذاتية وعزلة ومحاولة للتجاوز وقدرة على إحداث التأثير ، لأن الشاعر هو فرد قادر على إحداث تأثير في اللغة لأنه موهبة ، وهذه لابد من أن تمثل انحرافاً ، لأن صاحبها ليس فرداًِ لا يختلف عن الآخرين ، بل هو ذات مبدعة تمتلك القدرة على الخلق والإضافة وتحقيق التجاوز على المألوف والسائد والاعتيادي. وبدون هذا التجاوز والانحراف لايكون هنالك إبداع أو موهبة ، لأن الإبداع مع المألوف والاعتيادي وإن كانت نسبة هذا الاختلاف تختلف باتساع تلك الموهبة أو ضيقها ، فبمدى اتساع الموهبة يكون اتساع الانحراف والتجاوز. ومعلقة طرفة بن العبد تؤشر انحرافاً ورغبة في التجاوز نريد أن نستجلي مداهما على صعيد الرؤية والطرائق التعبيرية ، لنعرف هل استطاع (بأسلوبه) أن يتجاوز سلطة اللغة التي قلنا إنها تمثل كل سلطة الآخر. هل يستطيع (أسلوب) الشاعر أن ينحي سلطة (اللغة) ، أم ان الكتابة لابد من أن تؤكد التفاعل بين هذين المستويين وكما حددها بارت؟ وإذا كان الشعر يمثل حالة (الكتابة) فهل يمكن أن يمثل حالة الكتابة البيضاء أو البريئة أو المحايدة .. هل يمكن أن يمثل درجة الصفر للكتابة ؟. إن معلقة طرفة بن العبد تمثل لحظة من لحظات التمزق داخل الأدب ، لحظة التمرد ، لحظة التغيير والحداثة ، لحظة الجدل التاريخي ، لحظة الخروج على الوحدة الكلاسيكية وولوج بوابة التشتت والتعدد والاختلاف. عندما يكون الوعي شقياً ، فالوعي يختار إما بالاستمرار في الموروث وإما برفضه ، وفي هذه اللحظة تتفجر الكتابة الكلاسيكية. أما عندما يكون الوعي موحداً (آيديولوجية واحدة) فإن الكتابة تكون وحيدة ، تكون حرماً اجتماعياً وليس طبيعياً ، وعندما تكف عن أن تكون طريقة للجريان محظوظة اجتماعياً ، عندها يكون الشكل في حالة اختيار بين الشذوذ والإلفة ، التقزز والممالأة والاستعمال والقتل. اختيار بين الناس أو الاعتزال ، اختيار أحد أمرين فلابد من تجاوز واختيار(6) ، اختيار الذات أو اختيار الآخر ، وهو ما عكسه موقف طرفة الذي نتصدى لدراسته. وكانت لغة الشاعر تعكس التردد بينهما لأن اللغة أداة الفرد والجماعة ، أداة الاتصال الفردي بالجماعة ، الاتصال بين الشاعر وقومه ، هي أداة لنقل الفكر ، فالشاعر يلجأ لنقل أفكاره ولتحقيق اتصاله بقومه الى محتوى الشعر ، مضمونه ، والمضمون الشعري في ظل مجتمع الجاهلية هو مضمون الجماعة بكل ما تشكل به رؤيتهم في التاريخ والفلسفة والدين والأسطورة والعلوم(7). فالمرحلة وطبيعة العلاقات الاجتماعية كانت تملي على الشاعر أن لا يقول (نفسه بقدر ما يقول الجماعة ، أو إنه كان لا يقول نفسه إلا عبر قوله الجماعة) ولذلك فإنه كان يقول (ما يعرفه السامع مسبقاً : كان يقول عاداته وتقاليده ، حروبه ومآثره ، انتصاراته وإنهزاماته(8)) ولأنه كان يقول الجماعة ، اقتضى ذلك منه معرفة ما يتصل بالجماعة. ومن هنا تنبه النقاد العرب القدامى إلى أن أهم أدوات الشاعر الفكرية إلمامه بتاريخ الأمة والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم ومثالبهم(9). وهذه المعرفة توجبها طبيعة الموضوعات التي يستلزمها التعبير عن الجماعة ، فهو يحتاج إليها لأنه بصدد مدح الآخر وهجائه ووصف الانتصار عليه والفخر عليه بهذا الانتصار. وهكذا اقتضت المرحلة أن تتوحد رؤية الشاعر مع رؤية الجماعة لأنها رؤية التجربة الواحدة في الزمان والمكان. فكان الشاعر مندمجاً في جسد الجماعة التي فرضت عليه من خلال ذوقها العام الطريقة الأسلوبية التي عبرّ بها عن رؤيته لكي تعترف بشعره وتسبغ عليه نعوت التميز. أما شاعرنا طرفة بن العبد ، فلم تكن ذاته منسوخة بالمؤثر الاجتماعي ، ولا يحتويها طغيان الامتداد الاجتماعي ، بل ان هذا ينحسر لديه مستجيباً لدوافعه الذاتية التي لا تتطابق مع الحافز الإجتماعي في الهدف والمفاهيم. لقد أراد أن يتكلم بلغته ، وكانت له رؤيته الخاصة التي لم تكن لتتطابق مع رؤية الجماعة وتصوراتها العامة مما أدى الى القطيعة الاجتماعية بينهما :
51- وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
52- إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت أفراد البعير المعبد (10)
ينصرف الشاعر في قصيدته الى ذاته يحاول التمرد ولا يقر المألوف من الحقائق والمفاهيم والتصور المقدم سلفاً. يرفض القيم المقررة ، مكوناً لنفسه فلسفته الخاصة ويتساءل من خلالها عن حقائق كبيرة ويجيب عنها .. يتساءل عن معنى الحياة عن الموت ، ويحس بفقد عنصر الحياة ، وبحتمية الموت الذي تنتهي لديه كل عاقبة ، وتتساوى لديه كل الصحائف ، وينتهي إلى التسليم للقدر الذي لابد منه ، مقراً بمرارة أن الذي ينضب هو الحياة لا الموت :
63- أرى قبر نحام بخيل بماله كقبر غويّ في البطالة مفسد
64- ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد
65- أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
66- أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة وما تنقص الأيام والدهر ينفد
67- لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخي وثنياه في اليد
لذا فهو يبادر النهاية بأسلوب آخر يخصه هو وقد ارتضاه لنفسه ، ولا يحجم بعد ذلك عن ملاقاة الموت ، وهو لا يخافه لأنه نهاية كل حي ، لذا يعاجله بانتهاب اللذات الفانية وببذل النفس وعدم الضن بما في اليد لأن الفناء يعتام النفوس والأموال ، مقرراً مخالفته للجماعة التي لا تقره في تفريطه وبذله وانغماره بالملذات ، يريد انتهابها قبل أن يعاجله الموت ، وهذا هو ما يعالجه الغرض الرئيس الذي تخرج إليه القصيدة :
44- ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
45- وإن تبغني في حلقة القوم تلقني وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
46- متى تأتني أصبحك كأساً روية وإن كنت عنها غانياً فأغن وأزدد
47- وإن يلتق الحي الجميع تلاقني إلى ذروة البيت الكريم المصمّد
48- نداماي بيض كالنجوم وقينة تروح إلينا بين برد ومجسد
49- رحيب قطاب الجيب منها رفيقة بجس الندامى بضة المتجرد
50- إذا نحن قلنا أسمعينا أنبرت لنا على رسلها مطروفة لم تشدد
51- وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
52- إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت أفراد البعير المعبد
53- رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطراف الممدّد
54- ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغى وأن أحضر اللذات هل أنت مخلدي
55- فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
56- فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدّك لم أحفل متى قام عودّي
57- فمنهن سبق العاذلات بشربة كميت متى ما تعُل بالماء تزيد
58- وكري إذا ما نادى المضاف محنباً كسيد الغضا نبهته المتورد
59- وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهنكة تحت الخباء المعمّد
60- كأن البرين والدماليج علقت على عشر أو خروع لم يخضد
61- ذريني أروي هامتي في حياتها مخافة شرب في الحياة مصرد
62- كريم يروي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غداً أينا الصّدي
ويعبر في البيتين الأخيرين عن تفكير يخالف اعتقاد الجماعة من أنه إذا مات الميت خرجت من قبره هامة تصيح أن يسقوها ، فهو يريد أن يسقي هامته في الحياة لا بعد الموت ، ويريد أن يسقيها خمراً لا دماً. وهو يؤكد أن نظرته إلى كل الأمور التي تحدث عنها هي الصحيحة ، فلا تشتبه عليه وجوه الأمور ولا أمره عليه بغمة : 98- لعمرك ما أمري عليّ بغمة نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
ولعله يريد أن يقول في بيته الأخير إن مستقبل الأيام سيثبت ما يجهله غيره ، ولعله يريد أن يقول إن رؤيته هي رؤية المستقبل :
102- ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
إن وعي الشاعر بذاته عبرت عنه لغته ، ونقصد ألفاظه وتعابيره ، فهو يكثر من استخدام الأدوات الدالة عليها كياء المتكلم والضمير المنفصل (أنا) وتاء المتكلم المسندة إلى الفعل ، وبالفعل متكلماً به من دون ضمير ظاهر يدل على الذات. وسنحاول أن نتتبع ورودها حسب تتابع أبيات القصيدة : 1- ظللت .. أبكي وأبكي/2- صحبي عليّ/11- لأمضي/-12- نسأتها/36- شئت/37-شئت/39- أمضي .. صاحبي .. ليتني/41- خلت أنني عنيت .. أكسل .. أتبلد/42- أحلت/44- لست .. أرفد/45- تبغني .. تلقني .. تقتنصني/46- تأتني .. أصبحك/47- تلاقني/48/نداماي/51- تشرابي .. لذتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي/52- تحامتني .. أفردت/53- لاينكرونني/54- اللائمي .. أحضر .. مخلدي/55- منيتي .. دعني .. أبادرها .. يدي/56- أحفل .. عودي/58- وكرّي/61- ذريني أروّي هامتي/62- يروي .. (عن نفسه)/63- أرى/65- أرى/66- أرى/68- فمالي أراني .. عمي .. أدن. عني/69- أدري .. يلومني .. لامني/70- أيأسني .. طلبته ../71- قلته .. أنني نشدت .. أغفل/72- قربت .. أشهد ../73- أدع .. أكن .. أجهد/74- أسقهم/75- أحدثته .. هجائي وقذفي .. ومطردي ../76- مولاي .. كربي .. لأنظرني غدي/77- مولاي .. خانقي .. أنا مفتد ../79- فذرني وخلقي أنني .. بيتي/80- ربي كنت .. ربي كنتُ/81- فأصبحت .. عادني/82- أنا ../83- فاليتُ .. كشحي ../84- قمتُ/86- وجدتني .. يدي ../87- مخافتي ../89- ألست ترى .. أتيت (هو المخاطب ..)/93- متُ فأنعيني .. أنا أهله .. علي ../94- ولا تجعليني .. كهمي .. غنائي ومشهدي/96- كنت ... لضرني ../97- عني .. جرأتي .. وإقدامي وصدقي ومحتدي/98- أمري عليّ .. نهاري ، ليلي عليّ/99-حبستُ/101- نظرت .. استودعته. هذا غير الأوصاف التي يصف بها نفسه ، وحديثه غير المباشر عنها بصيغة الغائب. وفي مقابل إحساسه المفرط بذاته الذي يحتويه بما يدل عليه في اللغة ، نجد إحساسه بالآخر إحساس مفارقة ، هو يحسه ليقصيه .. يحس اختلافه معه ، تمرده عليه ، وهذا يعمق إحساسه بذاته وانحيازه لها وانعزاله عن الآخر ، فهو يحاوره مؤكداً تمسكه بمخالفته ، وتمسك الآخر بما عنده :
46- متى تأتني أصبحك كأساً روية وإن كنت عنها غانياً فأغن وازدد
ويكثر من تأكيد عدم الاتفاق بينهما ، الذي قاد الآخر الى خذلانه في مواقف إجتماعية كثيرة ، لكن الشاعر لا يتخلى عن موقفه ولايرى موجباً لعذله :
68- فما لي أراني وابن عمي مالكا متى أدن منه ينأ عني ويبعد
69- يلوم وما أدري علام يلومني كما لامني في الحي قرط بن أعبد
70- وأيأسني من كل خير طلبته كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
71- على غير ذنب قلته غير أنني نشدت فلم أغفل حمولة معبد
72- وقربت بالقربى وجدك إنه متى يك أمر للنكيثة أشهد
73- وأن أُدع في الجُلى أكن من حماتها وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
74- وأن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم بشرب حياض الموت قبل التنجد
75- بلا حدث أحدثته وكمحدث هجائي وقذفي بالشكاة ومُطردي
76- فلو كان مولاي أمراً هو غيره لفرج كربي أو لأنظرني غدي
77- ولكن مولاي امرؤ هو خانقي على الشكر والتسآل أو أنا مفتد
78- وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
79- فذرني وخلقي إنني لك شاكر ولو حل بيتي نائياً عند ضرغد
وهكذا لا نجده يستحضر الآخر الا ليشير الى موقفه من الآخر ، أو موقف الآخر ، الذي يفترض أنه لا يقدره التقدير الذي يستحقه ، لذا يطلب إليه أن ينظر له النظرة التي يستحقها :
93- فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا أبنة معبد
94- ولا تجعليني كامرئ ليس همه كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي
لقد كان ما ذكرنا إنزياحاً أو انحرافاً على مستوى النظر والتصور. أما على مستوى الطرائق الأسلوبية ، فسنحاول أن نعرف هل استطاعت ذاتية الشاعر أن تنحرف بالطرائق التي حددتها الأعراف الأدبية ، فقد فرضت على الشعر لكي يكون مقبولاً لدى الذوق العام أن يأتي الغرض الشعري الذي يمثل تجربة الشاعر من خلال أغراض أخرى محددة ، مفتاحها الوقوف على الطلل الذي يستلزم ذكر المرأة ، لأن الأطلال التي يبكي عليها هي ما بقي من منازلها. ثم ينتقل الى حيث الرحلة في الصحراء على راحلته ، إلى أن ينتهي إلى الغرض الذي دفعه إلى نظم القصيدة. وقد استنتج دارسو الشعر الجاهلي أن ما يلوح من تعدد في الموضوعات إنما هو أمر ظاهر ، لأن هناك معنى أو مستوى عميقاً يوحد هذه الأغراض المتعددة ويتحرك تحتها. يتمثل هذا المعنى العميق بالغرض الذي تخرج إليه القصيدة بعد هذه الأغراض الممهدة. لقد لاحظ أولئك الدارسون أن هذا الغرض يوجه بقية الأغراض ويجعلها تتأثر بلهجته وطابعه. وقد نبه الدارسون المحدثون كذلك على أن هذه الأغراض الممهدة ما هي إلا رموز تؤدي (مهمتها في تهيئة المناخ النفسي المطلوب لقبول التجربة الآنية التي يعالجها موضوع القصيدة الرئيس(11)) فليس ما تمهد به قصائد الشعراء الجاهليين من الوقوف على الطلل إلا رموزاً فنية وصيغة مفرغة من مدلولها الموضوعي (فثمة شعراء وقفوا على أطلال حبيبات في قصائدهم لا يصلح ظرفهم البيئي أو الشخصي لبعث القناعة بأنهم مارسوا ذلك على وجه الحقيقة(12)) ولم تكن صورة المرأة لتخرج عن طبيعة استخدام صورة الطلل(13) ، وكذلك صورة الناقة. ومن هنا يتضح أن هنالك مستويين للمعنى يحرك الشاعر شعره عليهما : مستوى ظاهر يتمثل بهذا المتعدد من الموضوعات والأغراض ، ومستوى عميق يتمثل بالغرض الذي يمثل التجربة الآنية ، والذي يتحرك تحت هذه الأغراض ويطبعها بطابعه. وتبرير هذه الازدواجية هو عدم القدرة على تجاوز سلطة الوسط الإجتماعي المتمثل بسلطة اللغة ، فالشاعر يؤثر الانصياع إلى سلطة الأعراف اللغوية والأدبية حرصاً منه على ارتباطه الاجتماعي. ونجد التزاماً بهذا التعدد للأغراض من شاعرنا الذي قلنا إن ليس له في قصيدته غرض خارج ذاته ، فغرضه ذاته ولا غرض آخر لديه. أما ما يبدو من أغراض أخرى فرضتها الأعراف الأدبية العامة للجماعة ، فهي تغلف مضمون الشاعر ، ولكنه لا يكمن وراءها إلى الحد الذي قد يحمل على الاعتقاد بأنها أغراض تعبر عن تجارب أصيلة ، كما نجده لدى غيره من الشعراء ، بل إنه يطفح لديه على السطح ويكاد يعمل على تشتيت جمع الأغراض الشعرية التي توصي بها قوانين القصيدة الجاهلية. وتعبر الوقفة السريعة للشاعر على الطلل وبكائه عن ضيقه بهذه التقاليد وعن عدم إيمان راسخ بها. ويؤكد هذا الذي نقول عدم اكتراثه بالالتزام بما يفرضه الوقوف على الطلل وبكاؤه من أجواء نفسية حزينة ، بالانتقال إلى أجواء أخرى والحديث عن امرأة أخرى غير التي بكى أطلال منازلها ، كأنه يريد أن ينبه بهذه المفارقة على كذب التجربة التي تصرح بها المقدمة ، ففي ما يأتي من الأبيات يتحدث عن امرأة أخرى وجو ترف ولهو يختلف عن جو الوقوف على الطلل حيث فراق للحبيبة ودموع وبكاء يتصل من يوم الشاعر إلى غده :
1- لخولة أطلال ببرقة ثهمد ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد
2- وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد
فهو يقول في أبيات تأتي بعد :
48- نداماي بيض كالنجوم وقينة تروح إلينا بين برد ومجسد
49- رحيب قطاب الجيب منها رفيقة بجس الندامى بضة المتجرد
50- إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا على رسلها مطروفة لم تشدد
51- وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
فهنا وصل لذة وترف ، والمرأة ليست خولة بل قينة تُسمع وتُطرب وتنادم الرجال وتبذل لهم نفسها. وهذه هي التجربة الحقيقية للشاعر إذ تفصح فلسفته في أبياته عن أنها نمط الحياة التي يعيش فيها وينشدها. ويمثل فعل الشاعر رغبة في تجاوز لوحة الطلل والانحراف بالقصيدة عنها لكي تبقى تتحدث عن تجربة الشاعر الصادقة ، وهي بداية مرحلة تستشرف المستقبل ، وبذرة قطف الأدب ثمارها على يد متمردين أو مختلفين أرادوا تجاوز المألوف ، جاؤوا بعد الشاعر في عصور لاحقة. أما حديثه عن الناقة فيكشف عن أنها كانت (تشكل معادلاً لأداة الصراع الإنساني في مواجهة الحياة) وقد استوفى في حديثه عنها (من سمات القوة والصلابة والضخامة ما يستغرق تسعة وعشرين بيتاً من مطولته التي تقع في بيتين ومائة بيت .. لتكون صورتها قادرة على تهيئة المناخ النفسي المطلوب لمحور التجربة المتجهة لتقرير ملامح بطولته المتميزة (14)) والدليل على أنها رمز لصلابته وبطولته واستعداده في مواجهة الصراع الإنساني ، وأنه كان يتحدث من خلالها عن نفسه ، أنه انتقل من وصف قوتها التي تؤهلها لمواجهة الصعاب إلى الحديث عن نفسه ونجدته واستهانته بالخوف :
41- إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
والدليل على أن الناقة كناية عن نفسه أنه بعد أن انقطع كلامه عن الناقة وانتقل إلى وصف شجاعته ونجدته في البيت الذي ذكرناه ، عاد يتحدث عن الناقة ، ونرى أنه يتحدث عن نفسه ، وكيف أنه يسوسها بقوة إذا انصرفت عن مواجهة الملمات عندما تضطرب الأمور وتشتعل :
42- أحلت عليها بالقطيع فأجذمت وقد خب آل الأمعز المتوقد
43- فذالت كما ذالت وليدة مجلس تُرى وبها أذيال سحل ممدد
ثم يرجع مرة أخرى ببيت آخر من الناقة إلى نفسه مما يؤكد أن الأبيات ليست للناقة لأنه يعود إلى نفسه أو يستمر في حديثه عن نفسه :
44- ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فالحديث عن الناقة صيغة فرضها وعي المرحلة التاريخية ووعي الأعراف اللغوية والأعراف الأدبية العامة التي تحددها تلك المرحلة. أما باطنها فحديث عن النفس ، فهناك باطن عميق للنص يتقنع بظاهر يفرضه الالتزام بالتقاليد السائدة ، وهو باطن يطفح على ظاهر القول ويشير بصراحة إلى غاية الوصف ويهدد البنية التقليدية بالانهيار. وإذا استطعنا أن نلمس لدى الشاعر محاولة لتجاوز سلطة اللغة ، فإن اللغة تعود فتتسلط عليه ، وتتمثل سلطة اللغة على مستوى الطرائق اللفظية بالامتثال للنماذج اللفظية ، والتكرار الأمين للعبارات والألفاظ ، مما يعبر عن خضوع الشاعر للتعاليم اللغوية المعطاة ، فعندما يصف ناقته مثلاً ، فبالألفاظ التي وضعت لوصفها في معاجم الشعراء الآخرين. وعندما ينتقل إلى وصفها أو من وصفها ، فهو يستخدم طرقاً لغوية متعارفاً عليها :
11- إني لأمضي الهم عند احتضاره .. 39- على مثلها أمضي ..
وتتجلى سلطة اللغة كذلك من خلال ميل الشاعر إلى الالتزام بالأوزان والبحور التي عزف عليها الشعراء الآخرون ، وهو يختار الوزن والبحر والتفعيلة مما تعارف عليها قومه. ولا نريد أن نبحث في استجابة هذا الوزن والبحر لعاطفة الشاعر الذاتية ، فهذا نفترضه ، ولكنه يؤكد في الوقت نفسه التزام الشاعر بأن ينشد شعره من خلال الموسيقى التي أطربت جماعته. كذلك استخدامه للقافية – وهي في المعلقة حرف الدال – يؤكد تعلقه غير الواعي بالجماعة ، فمن خلال أسماء الأعلام والمواضع الواردة في القصيدة – وهي تنتهي بحرف الدال – نعرف أن هناك ميلاً لدى قبيلته لهذا الصوت. من هنا يبدو استخدام الشاعر لهذا الحرف في قافيته كأنه آصرة قبلية يحرص على أن يشد بها أبياته ، فمن أسماء أعلام قبيلته ومواضعها الجغرافية ورد ما يأتي : (قرط بن أعبد – معبد – عمرو بن مرثد – ابنة معبد – برقة ثهمد). ونرى لغته تستجيب لوظيفة التماس التي هي أكثر أهمية من وظيفتها في التعبير في ظل مجتمع الجاهلية القبلي إذ لا يستطيع الفرد الانفصال عن قبيلته. فالشاعر الجاهلي حريص على الآخر يحركه هاجس التوجه الى أحد يخاطبه ، فتتسم لغته بهذه الخطابية أو الندائية التي تظهر بوضوح في الأوامر والنواهي وفي تبادل الأسئلة والأجوبة ، وإن كنا قد ذكرنا عن شاعرنا أنه يتصل بالآخر ليفارقه :
54- ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغى وإن أحضر اللذات هل أنت مخلدي
55- فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ...... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
61- ذريني أروي هامتي في حياتها ...... مخافة شرب في الحياة مصرد
79- فذرني وخلقي إنني لك شاكر ...... ولو حل بيتي نائياً عند ضرغد
93- فإن مت فأنعيني بما أنا أهله ...... وشقي علي الجيب يا أبنة معبد
94- ولا تجعليني كامرئ ليس همه كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي
وتظهر على لغة القصيدة بسبب التوجه الى الآخر ، التقريرية التي تفصح عن إدراكه لحاجة السامع إلى الإيضاح. ومن مظاهرها الاستطراد في الوصف والإلحاح في التبيين. وقد يكون لتأثير طبيعة المرحلة التاريخية على الشاعر سبب في هذا ، وقد قلنا إن درجة التطور التاريخي تنعكس على اللغة ، فالميل الى التفصيل يقترن بالمراحل المتقدمة من عمر اللغة. أما الإيجاز والترميز فيقترن بمراحل يعمق فيها التفكير وترتقي الثقافة. ولهذا نجد الشاعر عندما يصف المرأة أو الناقة تأتي الأبيات اللاحقة تحمل تتابعاً في الوصف حد الإسهاب ، فهو يدقق في كل التفاصيل كأنه يراعي كمال وضوح الصورة للسامع. في البيت السادس يذكر المرأة ، وفيه تتلاحق أوصاف هذه المرأة بألفاظ متتابعة بعضها يردف بعضاً. ويستمر فيما يأتي بعد أبيات يبين أوصاف هذه المرأة بذكر كل ما يوصف به حسن المرأة ، وهكذا الى البيت الحادي عشر إذ ينتقل الى حديث الرحلة ووصف الناقة ، فيصفها في البيت الثاني عشر بألفاظ استعملها في وصفها غيره من الشعراء. وبعد أن تابع وصفها في هذا البيت بدقة ، جاءت الأبيات اللاحقة تفصل في كل ما يظهر من هيأتها ، حتى يتجاوز ما يلوح من الظاهر إلى وصف ما في جوفها ، قلبها مثلاً. ويستمر الوصف إلى البيت الأربعين ، ثم يعود في البيتين الثاني والأربعين والثالث والأربعين. ونلاحظ أن الأوصاف تتتابع بلا عاطف بينها لتدفقها وكثرتها. وقد يزيد الوصف تبيينا بأن يعمد إلى وصف الشيء ثم تشبيهه زيادة في التوضيح :
35- وأروع نباض أحذ ململم كمرادة صخر في صفيح مصمد
وكثرة لجوء الشاعر الى التشبيه في لغته يؤكد هذه التقريرية والرغبة في زيادة الإيضاح لأن تشبيه الشيء إيضاحه. ونلاحظ أن تشبيهاته حسية مما يراه في البيئة ، وهذا ما يجعل التشبيه مستطاعاً من الجميع ، فهو يجمع بين شيئين مما يدخل تحت الحواس ، وهذا أسبق الى تصور السامع وإدراكه ، ولا يحتاج منه الى ضرب من التأول الفكري ، مما لا يتسنى للجميع ومما يمتنع إلا على المميز الحصيف(15) ، فتشبيه الشاعر إذن هو مما يستعمله الجميع ويفهمه. ونلاحظ أن أدوات التشبيه هي مما يقترن بأصل معنـى التشبيـه ، أي مما كان أعرف لدى السامع ، ومما استقر في نفسه وفي عرفه ، أي إن ألفاظـه في أصلها الأول من الاستعمال. فهو يكثر من استعمال الكاف التي وردت في الأبيات: 5/12/17/19/20/30/31/32/34/35/48/ 63/67/69/70/75/76/82/88/94 .. وكأن التي وردت في الابيات : 3/8/10/12/16/18/20/21 (كأنما)/26/27/29(كأنما)/60.. ويستعمل غير هاتين الأداتين (مثل) في البيت 29. ويبين نوع التشبيه وأدوات التشبيه أن لغة الشاعر تنتمي إلى المراحل الأولى في حياة اللغة ، بل إن التشبيه نفسه يؤكد هذا الانتماء ، وكان من أقدر وسائل التصوير في الشعر الجاهلي(16) ، إذ يستخدمه أكثر مما يستخدم الاستعارة التي هي تطور عن التشبيه ، أي أنها متأخرة عنه. ومنها ما لايدرك إلا بالتأول والتأمل وغوص الفكر ، أي أنها ليست من مرحلة نشأة الفكر كالتشبيه. إن لجوء الشاعر الجاهلي إلى التشبيه هو من ممارسة التاريخ لسلطته عن طريق اللغة. إن الاستعمال اللغوي يرتبط بالتاريخ ، فاستعمال الألفاظ يخص عصراً دون سواه ، والدلالة تختلف باختلاف التطور التاريخي ، إن دلالة الألفاظ استعمال اجتماعي ونحن لا نستغني عن العنصر التعاقبي ونحن نضع معجماً لدلالات الألفاظ. وإن دراسة الألفاظ معزولة عن السياق عملية تنطوي على مخاطر كثيرة للباحث اللغوي. وإن الأساليب تختلف باختلاف العصور ، والنظرة التعاقبية للأسلوب أمر مفروض تحتمه الضرورة ، وعلم اللغة في دراسته للأنساق يستعين بالدراسة التاريخية. ويؤثر الابتكار الفردي في الاستعمال اللغوي ، فقد أحدث الشعراء تغييرات جذرية في اللغة ، في الصياغات ودلالات الألفاظ ، وتعزى هذه المقدرة الى طاقاتهم الإبداعية التي تعرض لنا الشيء المبتكر وكأنه الوليد الطبيعي للأسلوب الشعري. وبهذا يكون تاريخ اللغة هو تاريخ تفاعلها المتبادل مع الأساليب الفردية ، هو تاريخ تأثير الوعي الجمعي بالوعي الفردي وتفاعلها في كتابة الشاعر. إن الوعي الفردي يصدر عن الوعي الجماعي وينطلق منه. ويتبين من هذا أن النص بوصفه هوية ذاتية لايمكن قطعه عن خارجه ، عما يتصل به ، آخره ، بل إن لحظة تجاوز هذا الآخر هي لحظة وعيه واستيعابه. إن وعي الشاعر لذاته ومحاولة تجاوزه الآخر ، تعني وعي الآخر. فكل من الطرفين المختلفين ضروري لوجود الطرف الآخر ولوعيه. وهذا ما تنطلق منه الفلسفات الجدلية التي تتأثر بها وتأخذ منها المناهج الحديثة التي نحن بصدد الحوار معها ، فهي تدرس الظاهرة من خلال علاقات الاختلاف والتناقض التي تحكم عناصرها ، ولكنها تسعى الى قطع النص عن أطاره المعرفي والتاريخي وعزله عن سياقه العام وإبقائه خارج مراجعه الأولية. وتتحدث عن الكتابة في درجة الصفر ، كتابة بريئة تتحرر من كل تبعية لنظام لغوي ولغيره. كتابة محايدة ، بيضاء ، تقترب من حالة الصمت ، وتحقق غياباً كلياً. ولو رجعنا الى مفهوم هذه الكتابة عند مؤسس هذا المفهوم وهو (رولان بارت) في كتابه (درجة الصفر للكتابة) لوجدنا أنها حالة للكتابة يقيس بها الحالات الأخرى لها التي عبر عنها تاريخ الأدب الفرنسي في خلال مائة عام – كما ذكرنا – أي أنه يحدد حالة (الكتابة في درجة الصفر) من خلال مقابلتها مع غيرها ، أو يحدد غيرها من خلال مقابلتها معها. وبهذا يتحدد وجودها من خلال غيرها ، أي إن غيرها وجوده مطلوب لكي توجد هي ، وهي تشير اليه ، إلى حالة التغاير التي تربطها به فهي ليست بريئة منه ، وهي ليست غير ما تختلف به معه ، ولو لم يكن موجوداً لما كان تغاير واختلاف ، ولما كانت هي فالكتابة في غير درجة الصفر حالة موجودة ، وهي كتابة محملة بالطوابع الاجتماعية والذاتية. وهذا نتعلمه من المنهج الذي تلتزمه النظريات الحديثة. وهو منهج يدرس الظواهر من خلال ارتباطاتها مع غيرها. ولا يؤمن بانعزالها وبوجودها وحدها دون غيرها. إن (درجة الصفر للكتابة) ليست حالة وحيدة للكتابة وإنما هي – كما قلنا ولدى بارت – مرحلة من مراحل تطور الكتابة الأدبية ، ولكننا نلاحظ عند بعض النقاد ودارسي الأدب الذي ينطلقون من المناهج الحديثة عدم اتضاح لهذا المفهوم ، فينطلقون من تعميم حالة الأدب البريء أو المحايد التي تمثل لدى بارت حالة يجعلها مقياساً يقيس به الكتابة الأخرى في ضوء ما تحمله من صيغ وحالات وأشكال. فهي إذن ليست حالة عامة للكتابة في كل وقت ولدى كل أديب. وهو في كتابه هذا – وهو يحلل الكتابة الأدبية من الداخل لمحاولة تصنيفها وتنظير خصوصيتها – إنما يحللها في تماسها وتشابكها مع التاريخ باعتبار أن الكتابة منحدرة من الذات ، والذات التي تكشف عنها الكتابة هي ذات تاريخية تصلح مرصداً لاستكناه التقاء الذات بالتاريخ ، فالكتابة تضفي (الموضوعية) على (الأنا) وتدرجها في سياق التاريخ ، تقدم لنا التاريخ (مذوتا) والذات (موضعة). وهذا هو ما يتيح لنا استخلاص الجدلية الكامنة وراء المعرفة الأدبية إذا ما عددّنا أن الكتابة تجمع بين الصدفة والضرورة بين الذات والتاريخ. إن الكتابة الأدبية تصلح لرصد سيرورة التاريخ والعلم والآيديولجيا – كما يبين بارت – فهو لا يستبعد التاريخ من مشروعه ، وهو يبرز علاقة الأشكال أو الأنماط الأدبية بالتاريخ ، فهناك تاريخ للأشكال وللبنيات والكتابات. تاريخ له زمنه الخاص ، تاريخ يحاذي التاريخ العام ويتفاعل معه ولكنه لا يستنسخه ، لأنه لا يعكس التاريخ إنما يعكس الوعي المنفعل بالتاريخ. ومن هنا فإن مراحل الأدب غير مراحل التاريخ ، والثورة الاجتماعية ليست ثورة في الأدب ما لم تكن ثورة في الوعي الأدبي. فالثورة الفرنسية بفورتها وعنفها الدموي وفعلها المزعزع للمواصفات الاجتماعية لم تؤد الى تفجير الكتابة الكلاسيكية وامتداداتها في عصر الأنوار مثلما حصل حوالي سنة 1850 عندما تمزق الوعي البورجوازي حقيقة تاريخية ملموسة معيشة في داخل الكتاب البورجوازيين. فقد يتغير التاريخ ولا يتغير الأدب ، الأدب يتغير عندما يتغير الوعي المنفعل بالتاريخ ، وهذا هو الحدث التاريخي في الأدب. وبهذا فإن الأدب عند بارت هو صورة للوعي الذي هو انفعال بالتاريخ(17). لقد كنا نرجو أن تعيننا المناهج الحديثة على اكتناه النص وتهبنا المعرفة الضرورية لاكتشافه ، لكننا نجدها بما تكرسه من أفكار تهدف إلى إبعاد الدارس عن ذلك ، إذ تستبعد أية سلطة خارجة عن النص في دراسة النص لأنها لا ترى في التاريخ أداة صالحة للوصول الى الحقيقة. ولا تقطع هذه الدراسات النص عن ظروفه التاريخية فقط بل تقطعه عن مؤلفه ، فهي ترى أن الأعمال الأدبية لها معاييرها التي لا تستمد من أي حقل ثقافي آخر ، وأن الأدب لا يقدم معرفة أوسع بالمجتمع ولا بشخصية المبدع وإنما بالعملية اللغوية ، ولذلك فإن معرفتنا الموسعة لشخصية الكاتب لن تكون بديلاً للتأمل الداخلي للعمل الأدبي(18). ولقد شاع في الكتابات الأخيرة مصطلح (موت المؤلف) (19) وحاول بعض الباحثين تقرير الحقيقة التي يعنيها هذا المصطلح في الشعر العربي القديم(20). إن كثيراً من النقاد ودارسي الأدب لدينا لم يتحرروا من تأثير معارف العصر وتياراته النقدية أو تسلطها عليهم ، والتسليم بمبادئها وثوابتها النظرية الأساسية ولا يطورون أسلوباً خاصاً بهم في التعامل ، ولا ينطلقون من الذات الغنية الحساسة. ونحن لا نمنع من الاستجابة للمعرفة المعاصرة والاستعانة أو الاستضاءة بها وعدم الانعزال عنها ، لكن ليس على هذا النحو الذي نجده من الإسراف في الأخذ والاقتصاد في العطاء. إن الباحث صاحب الدراسة يصدر عن أفكار البنيوية ، ومن المعروف أن البنيوية تبحث عن بنية عميقة تنتظم الظواهر ومنها ظاهرة الأدب. وقد تجعلها بنية لا واعية لذا فإن (موت المؤلف) يفسر بجماعية الواحد وهذه الجماعية لا تعني جماعية الوعي إنما جماعية اللاوعي ، فالبنيوية لا ترتد إلى الوعي الذي هو ظاهرة إنسانية. ولهذا نجد البنيوية تستبعد الإنسان عن البنية وتستبعد التاريخ كذلك(21). ولكننا وجدنا الوعي الإنساني (وعي الشاعر) الذي يرتبط في جانب منه بالوعي الجماعي أو التاريخي في أعماق البنية الأدبية (الشعرية) التي ندرسها. فالكتابة في العصر الجاهلي تمثل صدوراً عن الوعي الموحد الجماعي ، فهي جماعية الوعي وليست جماعية اللاوعي التي تحدث عنها الباحث التي تنتهي الى استبعاد الإنسان والتاريخ. ولقد أحس بعض البنيويين بهذا الخطأ الفادح ودعوا الى مزج البنية بالبحث التاريخي ، والى بنيوية جدلية لا تنكر النشاط الإنساني بوصفه مولداً للبنى ولا تنكر التاريخ إذ لا شيء أكثر جدلية من البنى ، فلا بد من البحث في نشأتها وتكوينها وتطورها واندثارها. وقد نجد تصريحات للبنيوية تؤكد إحساسها بخطأ تنكرها للتاريخ وللإنسان ، فهي تصرح أحياناً بأنها عندما تقول بتجريد اللغة عن باقي الواقع ، عن التجربة ، عن الحياة ، عن العالم ، وتبقيها مستقلة ذاتياً ومعزولة عن المجتمع ، فلا يعني ذلك أنها كذلك فعلاً وأنها توجد في العالم الواقعي مفصولة عن كل وظيفة أخرى ، إذ ليس الأمر كذلك لأن اللغة نسق رمزي للتواصل واستخدامنا لها مرتبط على نحو وثيق بالبنيات الاجتماعية ولكنها تفعل ذلك من أجل الدراسة ، فتعمد إلى تثبيت اللحظة التاريخية وقطع المتغيرات التاريخية عنها لكي تستطيع تفحص تلك اللحظة والأمعان فيها ودرس مختلف جوانبها وعلاقاتها(22) ، مع أنها بينت في مبادئها الأساسية أنها لا تدرس الشيء معزولاً عن آخره الذي يختلف معه ، والذي يحدد عن طريق هذا الاختلاف هويته ، وبهذه يصح انطلاقاً من هذا المبدأ أن دراسة اللحظة التاريخية الثابتة غير مجدية إلا من خلال علاقاتها مع هذا المتعاقب التاريخي. فنحن نأخذ عليها أنها تزعم أنها منهج شمولي لا يدرس الجزء مقطوعاً عن غيره أو الظاهرة معزولة عن غيرها ، فلماذا تسعى إلى قطع اللحظة الآنية عن تاريخها الشامل. إن دعوتها هذه قادت المناهضين إلى اتهامها وربطها بدعاوى سياسية محددة(23) ، إذ لا مصلحة للعلم في ما دعت إليه ، وأن لا سبيل إلى هذا الفصل ، وبينوا أن دعاتها لم يستطيعوا (دراسة الأدب في منأى من التاريخ وعما يحيط بالنص من ظروف ، بل تجدهم يستخدمون ألفاظاً اصطلاحية لا مدلول لها بعيداً عن معرفة الإنسان بالمجتمع الذي ينحدر منه الأديب)(24). ويؤكد المناهضون أن (استخدام اللغة وهي وسيلة تعبير وإنتاج معا تضع الكاتب الخالق والقارئ والناقد في السياق التاريخي وأنه لا يمكن لنا أن نفهم الأدب أو أن نستخدم اللغة مجردين تماماً من وعينا التاريخي(25)). ومن البنيويين الجدليين من دعا إلى دراسة البنية من خلال المنظور التاريخي ، فيرى (غولدمان) أن على الدارس الذي يريد فهم هذه البنى أن يتفتح على نشأتها وأصلها الثنائي وتكونها التاريخي ، فلا يمكن دراستها في منأى عن التاريخ. وبهذا دعا الى بنيوية جدلية على عكس البنيوية الجامدة والمنهج الشكلي الذي يفتقر الى الجدل أو الديالكتيك الذي نعثر عليه في البنيوية التكوينية أو الجدلية التي رسخ غولدمان أركانها أو دعائمها ، ومن خلالها استطاع أن يضع حداً لأزمة العلاقة بين النص والمجتمع. ويبين غولدمان أن البنى من نتاج الأفراد المنخرطين في شريحة اجتماعية. والإنسان كذلك بنية وهذه البنية حصيلة عناصر مادية ليست من صنعه ، ولكنها تأتي إليه وتمر عبره مؤدية إلى تكوين رؤيته للكون. وقد استخدم غولدمان مصطلح (الذات الجمعي) بدلاً من مفهوم (اللاوعي) الذي قال به البنيويون. فالذات الجمعي يسهم في تكوين الذات الفردي. وإنه يصوغ ما يسميه (رؤية العالم) التي تكون بدورها الوعي الأقصى الذي يعبر عنه الأفراد. ويتحدث عن العلاقة الجدلية بين الفرد والكل وأن يكون كلاهما مؤثراً في الآخر ، فالبنى الفردية تسهم في تكوين البنية الكلية لأنها عنصر منها ، والبنية الكلية تصوغ بنى الأفراد. ورد غولدمان على البنيوية الجامدة ، وأكد أن القيم الجمالية وليدة النظام الاجتماعي. ومن خلال توضيح مصطلحه (الذات الجمعي) أو الذات (غير الفردي) بين أنه بالمستطاع فهم بنية الذات الفردية بالرجوع إلى الظروف الاجتماعية المحيطة بالمبدع وإلى المقولات الفكرية المؤثرة في تكوينه الشخصي ، وهذا ما أسماه بالعناصر الشمولية التي تتدخل في تكوين الذات الفردي ، وهي عناصر تمثل مساهمة التاريخ في تكوين الفرد. وحقيقة الأمر أن التاريخ لا يتجلى إلا من خلال الذات الجمعي. من أجل ذلك ينبغي ملاحظة التحولات المحتملة التي تقود إلى شكل من أشكال التفاعل والتلاحم بين مفاهيم الفرد وأفكاره وبنيته العقلية وعمليات التبنين الثقافي. وهذا ما يسمح لعلم الاجتماع الأدبي أن يلعب دوراً في تفسير الآثار والنصوص. إن الذات الجمعي – كما يذهب غولدمان – هي العامل الحاسم في تحريك التاريخ. والفنان يختار من الذات الجمعي ، ومجمل العناصر البنيوية التي يستخدمها متجذرة خلال الوعي القائم عند معاصريه من الناس. وبهذا يتم استيعاب الفردي وغير الفردي وتوحيده ، وهذا ما يصطلح عليه (بالإنشائية) أو (الشعرية) وهي ما يشد الوعي الخاص إلى الوعي الاجتماعي ، وعندئذ يصبح بالإمكان رد الأفكار والمشاعر التي يمتلكها الأفراد في ظروفهم الفردية إلى عناصر متشابكة في بنية اجتماعية شاملة(26). هوامش البحث ومصادره 1. ينظر : درجة الصفر للكتابة ، رولان بارت ، ترجمة محمد برادة ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، ببيروت – لبنان. والشركة المغربية للناشرين المتحدثين ، الرباط – المغرب ، الطبعة الأولى ، 1980 ، ص7 ، 10 ، 86-87. 2. ينظر : نقد الشعر في المنظور النفسي ، د. ريكان إبراهيم ، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة. العراق – بغداد ، الطبعة الأولى ، 1989 ، ص173 ، 178-179. 3. مفهوم (الإزاحة) من المفاهيم الأسلوبية التي تفسر لنا تحول اللفظة من الدلالة على معنى الى الدلالة على معنى آخر ، والخصوصية في لغة الأدب التي تمثل خروج الأساليب على النحو المألوف. ويتجلى مبدأ الانزياح ليس بالنسبة الى أشكال التعبير بل يتجاوز الى المفردات والنظم والأصوات مما جعل التغيير يبدو واضحاً كل الوضوح ، ولهذا فإن المعنيين بدراسة الأساليب يقفون عند المرحلة كلها ويحكمون من خلالها على النص الأدبي برمته. ينظر : اللغة .. الأدب .. التاريخ/وليامز شوبان/ضمن كتاب (مقالات ضد البنيوية) ترجمة إبراهيم خليل/عمان/الطبعة الأولى ، 1986 ، ص60. أما تعريف عبدالسلام المسدي للإزاحة والانزياح : (المقصود بالإزاحة والانزياح هو النتيجة المترتبة على تصرف مستعمل اللغة في هياكل دلالاتها أو أشكال تراكيبها بما يخرج عن المألوف فينتقل كلامه من السمة الأخبارية الى السمة الإنشائية ، وهو ما عناه البلاغيون العرب بكلمة (العدول) للدلالة على التوليد المعنوي) أنظر : عبدالسلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، تونس (1977) ص158-159/ضمن (مقالات ضد البنيوية) ص60. 4. ينظر : اكتساب اللغة ، مارك ريشل ، ترجمة د. كمال بكداش/المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت – لبنان ، طبعة أولى ، 1404 ، 1984 ، ص8-111. 5. ينظر : درجة الصفر للكتابة ، ص12-14 ، 18 ، 22 ، 27 ، 28 ، 30 ، 32 ، 34 ، 35 ، 36 ، 38 ، 39 ، 66 ، 75. 6. ينظر : المصدر السابق ، ص12 ، 29-30. 7. ينظر : نقد الشعر في المنظور النفسي ، ص177. 8. الشعرية العربية ، ص6. 9. ينظر : دراسات نقدية في الأدب العربي/الدكتور محمود الجادر/مطبعة دار الحكمة للطباعة والنشر ، الموصل -1990 ، ص298. 10. نعتمد في إيراد أبيات المعلقة على رواية أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات). 11. دراسات نقدية في الأدب العربي ، ص18. 12. المصدر السابق ، ص12. 13. نفسه ، ص16. 14. نفسه ، ص29. 15. ينظر : دلائل الأعجاز ، عبدالقادر الجرجاني ، تعليق وشرح محمد عبدالمنعم خفاجي ، مطبعة الفجالة الجديدة ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1969 م ،ص80-90 ، 173. 16. ينظر : دراسات نقدية في الأدب الجاهلي ، ص 434. 17. ينظر : درجة الصفر للكتابة ، ص6-12 ، 31. 18. ينظر : سوسيولوجيا الأدب ، مدخل في التراث النظري ، جون هال ، ضمن كتاب (مقالات ضد البنيوية) ص14-15. 19. ينظر : درس السيميولوجيا ، رولان بارط ، ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء – المغرب .. فصل (موت المؤلف) ص81. 20. ينظر : موت المؤلف مفهوماً (القسم الأول) ، د. مالك المطلبي ، جريدة الجمهورية ، صفحة آفاق ، العدد 6667 ، الأربعاء 6 كانون الأول 1987 ، و : (موت المؤلف مفهوماً) – القسم الثاني ، الصفحة نفسها من الجريدة نفسها ، العدد 6674 ، الاربعاء 23 كانون الأول ، 1987. 21. ينظر : البنيوية فلسفة موت الإنسان ، روجيه غارودي ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت – لبنان ، الطبعة الأولى ، 1979 ، ص13 ، 20 ، 112 ، 113. 22. ينظر : نظرية البنائية في النقد الأدبي ، د. صلاح فضل ، دار الشؤون الثقافية العامة ، العراق – بغداد ، 1987 ، ص31. 23. ينظر في سبيل المثال المعارك الفكرية التي شهدتها صفحات الجرائد العراقية على أثر مقالة الدكتور علي جواد الطاهر : البنيوية أعلى مراحل السوء في ترف نظرية الفن للفن ، جريدة الجمهورية ، صفحة آفاق ، الأحد 8/12/1985 ، إذ ربطها بأهداف استعمارية. 24. مقالات ضد البنيوية ، مقدمة المترجم ، ص6. 25. المصدر السابق ، ص6-7. 26. ينظر : غولدمان ، وعلم الاجتماع الأدبي ، ضمن (مقالات ضد البنيوية) ص24-25 ، 33-36 ، 45-46 ، 51.
#بتول_قاسم_ناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فؤاد التكرلي .. فن ( الوجه الآخر )
-
دولةالقانون والموقف الوطني المطلوب
-
هكذا علمنا تشافيز
-
العولمة والديمقراطية
-
الفلسفة التي تحكم الذرة
-
الحركة المحورية للعقل في الأشياء
-
فلسفة مرض السرطان
-
المثقف العراقي ومهمة التنوير
-
النار بغير لظاها
-
العولمة وفن الأغنية
-
الأدب والسياسة
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|