|
أصول الفوبيا
حمودة إسماعيلي
الحوار المتمدن-العدد: 4095 - 2013 / 5 / 17 - 18:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا يوجد شيء مخيف إلا الخوف نفسه ¤ فرانسيس بيكون
الفوبيا هي تفسير سيء أو فكر خاطيء يعتنقه الإنسان حول موضوع ما، فيُوّلد لديه ردود أفعال لامنطقية لدى حدوث مواجهة مع ذلك الموضوع. وبما أن الفوبيا أو الفوبوس كمصطلح يوناني يشير للخوف، فاختيار الخوف كرد فعل هنا يشير لضعف المعني أمام قوة الموضوع، أو أن هذا الأخير تضخّم قوةً وحجماً في عقله. وبهذا نعود فورا لطفولة الإنسان حين كان يرى نفسه في تلك المرحلة بالذات، كائنا ضعيفا وصغيرا مُحاطا بالعديد من المواضيع المُهدِّدة والمُخيفة. تساهم كذلك عوامل التربية طبعاً.
يتشرب الطفل الخوف من خلال التقليد، أي محاكاة تصرفات الكبار حوله وبالأخص أمه وأبيه. وباعتبار أنه يكتسب ثقافته وقدرته على التواصل من خلال وسطه الأسري والمجتمعي، فما أن يلاحظ الطفل أن أمه أو أي فرد من وسطه(الكبار) يبدي خوفا ورعبا من شيء أو موقف ما، فتلقائيا سيظهر الطفل كذلك خوفا، كيف لا ؟ وهو يرى شخصا أقوى وأكبر منه يَجبُن أمام هذا الموضوع، فمابالك به هو الضعيف قوة والصغير حجما. لهذا غالبا مانجد الطفل يخاف مما تخاف منه أمه أو إخوته، إن لم يتدخّل أحد ما ووضح له الأمر. كذلك قد يتشرب الطفل مخاوف وهمية من خلال التربية الرديئة، وهي عندما تعتمد بعض الأسر لكبح تصرفاته المشاكسة على تخويفه بالعفاريت والجن واللصوص أو الشرطة وماسواهم ممن يعتبرون غرباء بالنسبة للصغير. أو تهديده بالسفر وتركه أو أخده لمكان بعيد وما شابه ذلك من وعود النفي. بل والأسوأ هو تخويفه بالعذاب الديني وتهديده بالجحيم ! فتباً للفراعنة !! . وأيضا قد تساعد الخبرات المؤلمة على نمو الخوف وتضخيمه، مثلا إن قام شخص برمي قِط أو جرادة على طفل، أو قام بإلقاه في المسبح، وغالبا ما تظن مثل هذه الديناصورات أنها بقيامها بمثل هذه الأفعال فإنها تُخلّص الطفل من المخاوف. بل على العكس، فعقله يقوم بزيادة تثبيت الخوف وتضخيمه، لأن الخبرة السابقة أكّدت قوة الموضوع وكشفت ضُعف الصغير أمامه.
رغم ذلك يتجاوز الطفل هذه المخاوف خلال طفولة ماقبل المراهقة، فكثيرا مايتمسّك الأطفال بمخاوفهم في طفولتهم المبكرة والمتوسطة طالما أنها تحقق لهم سيطرة على الآخرين وتجذب اهتمامهم. فيستغل الطفل هنا مثلا العفاريت حتى ينام بجانب أمه، ويستغل الحيوانات الموجودة بالشارع كالقطط والكلاب ليظل محمولا. وهنا نريد توضيح نقطة مهمة، فقد تجد الطفل يخاف من الفأر (كرد فعل مكتسب من الأم)، لكن ما إن يرى أقرانه يطاردون فأرا ويستمتعون بذلك، حتى تجده هو الآخر انخرط معهم. فأصدقاءه هنا غيروا بسهولة فكرته وموقفه المُتخذ أمام الموضوع، أي صححوه له.
تظل الفوبيا مصاحبة للإنسان حتى في كبره، وبالأخص المخاوف الناتجة عن خبرات مؤلمة حدثت له، أو حصلت لبعض معارفه. فيتقمص في كل مرة يجد نفسه في الموقف المشابه نفس الإحساس أو رد الفعل الذي عاشه يوم الصدمة(التعرق، تسارع دقات القلب، الارتجاف الخ). وكل موقف مشابه يزيد من تعزيز الخوف ويشل من قدرته على التعامل معه، رغم أن المعني قد يدرك تفاهة تصرفاته، لكنه يجد نفسه عاجز عن تغيير موقفه. لماذا ؟ لأن الاعتقاد المولد للسلوك(رد الفعل) لا زال مُعشّشا في عقله. لكنه قد يحدث ويتخلص المعني هنا من خوفه إن تعرض لموقف خطر حقيقي، فغالبا ما يطرد الخوف المنطقي المخاوف الوهمية. فلنتخيل مثلا شخصا لديه رهاب الصراصير، وحدث أن تم اختطافه من قبل جماعة ما، وبطريقة ما وجد المعني فرصة للهرب من المكان الذي احتزج فيه، والمكان(الباب مثلا) الذي يستطيع الفرار منه مليء بالصراصير. فهل تظن أن المعني سيتخلى عن رغبته في الفرار ؟ طبعا لا، لأنه يعلم أن الصراصير لن تقدر على شيء مقارنة بما يمكن أن يفعله به المختطفون. فالعقل يمنح الأولويات اهتمام أكبر في مثل هذه المواقف. ونفس الأمر يعتمده العلاج النفسي بجعل المعنيين يعيشون تجارب اختبارية(كالقيام بعملية جراحية وهمية)، ليتسنى للمعني أن يدرك أن هناك أشياء أهم، هي التي تحتاج للخوف وليس أفكاره الصبيانية ! .
تتجلى لنا الفوبيا هنا كخوف تعويضي، فالإنسان ولا نود أن نقول الفاشل ! يجد في الفوبيا تحقيقا لنرجسيته واظهارا لأهميته الكونية. فكيف نفسر اعتقاد شخص بأن حيوانا ما سينقض عليه دون الآخرين الذين قد يتواجدون معه في نفس المكان ؟ أو أن المصعد سيتعطل فقط إن دخله هو ؟ أو أن الناس يراقبونه وينتظرون أدنى حركة سخيفة منه حتى يسخروا منه ؟ . هذه الأفكار جميعها تكشف عن اعتقاد المعني بأنه شخصية مهمة لدرجة أن القدر يحيك مؤامرة للإيقاع به في مواقف كارثية، كما عبر عن ذلك أرسطو بجملة مفيدة : الخوف ألم نابع من توقع الشر. وبما أن المعني يتوقع الشر دون قدرته على أن يعبر عن فكرته هذه بعلانية : أنه الشخصية المهمة المُطاردة من قبل القدر، لإدراكه أن هذا هو الجنون بعينه ! . فإن الفوبيا قادرة على اخفاء ذلك باعتبار أنها متولدة عن تجربة سيئة عاشها المعني، فإنه يمكن أن تعاد مجددا، أو حتى إلى مالا نهاية ! . وهي في أصولها فكرة الطفل الذي لايرى أحداثا للعالم خارجه، فكل شيء يدور حوله وعنه. والأمر هنا شبيه بالوسواس القهري، غير أن الاختلاف البسيط يكمن في تخلص المعني بالوسواس من خوفه(توقع الشر) لدى قيامه بطقوسه(حركات معينة يكررها لعدة مرات يوميا).
رغم كل ماذكرناه، فهذا لا يعطي لأحد الحق بالسخرية من المعني أو التقليل من شأنه وشأن مخاوفه لأنه يعلم ذلك، لكن ما لايعلمه أو يكبته عن نفسه، هو أن الفوبيا(خصوصا الاجتماعية) يبرر بها فشله وعجزه عن تحمل مسؤولية القيام ببعض الأمور، فمخاوفه تحكم سيطرتها عليه ! أو أنه مُطارد من قبل قوة شريرة يخفيها القدر. ونجد قصة رمزية قد توضح لنا ماسبق، وهي قصة باتمان (Batman Begins) عندما تخلص من خوفه من الخفافيش، فصار مسؤولا عن حماية الناس طالما أن لديه القدرة لفعل ذلك. فلو ظلت لديه الفوبيا لما تحول لبطل مسؤول عن القيام بتلك المهمة، لأنه سيظل شخص عادي يرتعب من أن يتصادف مع خفاش بمكان ما، ويبرر أي إخفاق للخفاش الذي يمكن أن يظهر له بأي مكان، أو حتي في بعض الحالات(القصوى) يمتنع عن الخروج من البيت و عن ممارسته للحياة بطبيعية.
وطالما أننا لازلنا مع باتمان، فمن سيعمل على تخليص هذا البطل من الفوبيا هو مدربه. ليس بوضعه مباشرة أمام الوقف، إنما بإدراك أنه يلزم أولا أن يُفكك الوهم الذي أحاط بالموضوع في العقل، وهو مايبدو بوضوح في تقلينه لتلميذه مامفاده أن : أكثر ما مايخفينا هو الخوف نفسه وأن الخوف الحقيقي هو مايعيش بداخلنا. فما يخيف هنا ليس الموضوع، بل الفكرة التي حول الموضوع والتي ضخمته ومنحت له قوة جبارة، لدى فما إن يتم التخلص من الفكرة الخاطئة حول الموضوع، حتى يتم التخلص من الخوف منه. فالمخاوف قوية لأنك أنت من منحها تلك القوة، فهي في الأخير قوتك أنت ! .
المعرفة العقلانية حول الموضوع هي التي تمكن الإنسان من التحكم في رد فعله لدى مواجهته للموضوع المذكور، فحينما يغير الإنسان معتقده الوهمي حول موضوع ما باعتقاد منطقي، فإنه خوفه يتلاشى، كما يقول أحد شخصيات القصة المذكورة : "أنت دائما تخاف مما تعجز عن فهمه" ليس بالضرورة، بل مما تفهمه بشكل خاطيء أو ما تمنحه هالة خرافية. لدى يلزم على المعني أن يبحث عن توضيح حول مخاوفه ويضطلع على تجارب (والأفضل لو كانت معاينة مباشرة) من يتعاملون مع نفس الموضوع بواقعية موضوعية. بدل الاعتماد على السينما الخيالية أو برامج المُغفلين، وأحاديث العجزة والمتقاعدين فكريا ومهنيا، وكل من يساهمون في استمرار تواجد "الشياطين". في عالم لازالت تسكنه الشياطين ! .
#حمودة_إسماعيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيكولوجية الفضيحة ودوافع الفاضحين
-
عقدة المهاجر
-
استعراض السادية
-
صراع الوجه مع البثور
-
الطفل والعلاقات الغير شرعية
-
تشريح الكراهية
-
الحسد اللاشعوري
-
التطرف كمرض نفسي
-
التعري.. احتجاج أم دعوة جنسية ؟
-
كشف حيلة المستغل
-
الجنون الجماعي الحديث
-
الحيض بين الطب والدين
-
لما النساء تكره العاهرات ؟
-
سيكولوجية الحب : الذل كشرط
-
عقدة لوقيوس والنرجسية
-
عقدة لوقيوس أو اللوقيوسية
-
تحليل نفسي للصوص المقالات والنصوص
-
سيكولوجية الخيانة : تحليل لدور الضحية
-
سيكولوجية تدمير المرأة
-
الكوتش أو المُخدر اللغوي العصبي
المزيد.....
-
ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية.. كيف يؤثر ذلك على المستهلك؟
-
تيم حسن بمسلسل -تحت سابع أرض- في رمضان
-
السيسي يهنئ أحمد الشرع على توليه رئاسة سوريا.. ماذا قال؟
-
-الثوب والغترة أو الشماغ-.. إلزام طلاب المدارس الثانوية السع
...
-
تظاهرات شعبية قبالة معبر رفح المصري
-
اختراق خطير تكشفه -واتساب-: برنامج قرصنة إسرائيلي استهدف هوا
...
-
البرلمان الألماني يرفض قانون الهجرة وسط جدلٍ سياسيٍ حاد
-
الرئيس المصري: نهنئ أحمد الشرع لتوليه رئاسة سوريا خلال الم
...
-
إسرائيل.. تخلي حماس عن السلاح أو الحرب
-
زكريا الزبيدي يتحدث لـRT عن ظروف اعتقاله
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|