|
تدمير قرطاجة والسقوط العظيم للمشاعية البدائية
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 4094 - 2013 / 5 / 16 - 18:44
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحروب البونيقية أسست للاستعمار الغربي للشرق:
ـ القسم الرابع ـ تدمير قرطاجة والسقوط العظيم للمشاعية البدائية
مع توسع وتنوع الانتاج والعملية التبادلية، توسعت ايضا الوظيفة التنظيمية ـ القمعية للاشكال الاولى للدولة الفينيقية. ومع نشوء المحاكم والسجون وفرض الغرامات والضرائب اخذت المهمة القمعية للدولة تتوسع اكثر فأكثر، كما ازداد مستواها التمثيلي واتخذ طابعا اكثر شمولية، فتحول من التمثيل الاولي المباشر للجماعات الانتاجية، الى التمثيل الاوسع لـ"الشعب" بأسره. حيث انه اصبح يدخل في اطار الهيئات التمثيلية للمجتمع ليس فقط ممثلو المنتجين الاحرار، بل وممثلو التجار الكوسموبوليتيين والمزارعين الكبار مالكي العبيد و"المواطنين" الاخرين العاملين في الاطر البيروقراطية والبوليسية والقضائية والدينية للدولة. على ان الحضور القوي للجماعات الانتاجية الحرة، والتعددية الاجتماعية في التمثيل "الشعبي" جعل "الدمقراطية" في قرطاجة ارقى من اي شكل من اشكال الدول "الدمقراطية" الاخرى في زمانها، وهو ما اشار اليه ومدحه الفيلسوف اليوناني ارسطو في كتابه الشهير "السياسة". الا ان هذا التوسع "التمثيلي" وظهور البنية الفوقية للدولة، لم يستطع ان يكسر "الاطار الداخلي" للمجموعة الانتاجية الواحدة، التي ظلت "حرة في ذاتها" لها اعرافها و"قوانينها الخاصة" المتأتية من العهود الاولى للمشاعية البدائية. ولا نزال الى اليوم نرى امتدادا مشوها لهذه الازدواجية السلطوية، في العشيرة الحالية في المجتمع اللبناني وغيره من المجتمعات العربية والشرقية. فـ"العشيرة" تتعايش مع الدولة والمجتمع المعاصرين، الا ان لها "حياتها الداخلية الخاصة" و"اعرافها" و"قوانينها" و"تقاليدها" الخاصة. والدولة والمجتمع المعاصران "يتعايشان" وعلى الاقل "يأخذان بالاعتبار" الاوضاع الخاصة للعشيرة وعاداتها وتقاليدها. ولكن مع تحسن مستوى الانتاج الحرفي وزيادة كميته، لم تعد المصادر المحلية تكفي لتأمين الخامات الضرورية، كما اصبحت كمية الانتاج تزيد على كمية التصريف والاستهلاك المحلي، فنشأت الحاجة الى السوق الخارجية والتبادل الخارجي، وبالتالي نشأت العلاقات فيما بين المدن ـ الدول، الفينيقية اولا، ومن ثم بدأ البحث عن الخامات وعن اسواق التصريف خارج المدن الفينيقية. فبدأ ارتياد البحار واكتشاف عوالم مختلفة. ولم يكن همّ الفينيقيين موجها نحو استعباد ونهب شعوب وسكان المناطق التي كانوا يصلون اليها. بل ان الفينيقيين، المشبعين بعادات وتقاليد المنتجين الاحرار في مختلف اطوار المشاعية البدائية، كانوا يتعاملون تعاملا نديا مع الجماعات والشعوب التي يصلون اليها ويقيمون الاتصالات والتجارة معها. وكان الهدف الرئيسي للفينيقيين ليس نهب وسلب واستعباد الاخرين وخداعهم والاحتيال عليهم وسرقتهم ونصبهم واستعبادهم وسبيهم، كما كان يفعل الرومان واليهود، بل كان هدفهم هو التبادل مع تلك الجماعات والشعوب، وتسويق بضائعهم الخاصة لديها، وشراء الخامات والبضائع الخاصة التي تنتجها تلك الشعوب. والمبدأ الاساسي الذي كان يسير عليه الفينيقيون هو: "عش، ودع غيرك يعيش". وفي مرحلة تاريخية معينة تطور التبادل بين المجموعات الانتاجية، ومن ثم بين المدن ـ الدول الفينقية، الى التبادل الدولي والتجارة الدولية. وقد تولد عن ذلك نشوء طبقة التجار الكوسموبوليتيين. في البدء كان التجار الفينيقيون "تجارا وطنيين" يشحنون المنتوجات الفينيقية (التي ينتجها المنتجون الاحرار) لتسويقها في الخارج، ويبتاعون المواد الخام والسلع من الخارج لصالح المنتجين الفينيقيين الاحرار. ولكن بالتدريج بدأ التجار الفينيقيون يبتاعون ويبيعون لحسابهم الخاص السلع الاجنبية التي يشترونها من اي مكان يصلون اليه، ويبيعونها في اي مكان آخر يصلون اليه، وتحول قسم منهم من "تجار وطنيين" يقوم معظم نشاطهم على تسويق السلع الفينيقية واستيراد الخامات والسلع للمنتجين الفينيقيين، ـ تحولوا الى طبقة "تجار كوسموبوليتيين" يشترون السلع والخامات من اي مكان، ويبيعونها في اي مكان اخر، واصبحت السلع الفينيقية ذاتها تمثل جزءا فقط، وجزءا يسيرا من "دائرة اهتمام" التجار الكوسموبوليتيين ومصالحهم التجارية الخاصة. وبالتدريج، ولاجل الحصول على ارباح اكبر، وبدلا من الاقتصار على تسويق منتوجات المنتجين الاحرار الفينيقيين، اخذت طبقة "التجار الكوسموبوليتيين" تتحول الى "منتجين لحسابهم" الخاص، بالاعتماد على العمل الحرفي للعبيد، ومن ثم مزاحمة المنتجين الفينيقيين الاحرار الذين كان انتاجهم يقوم على الملكية الجماعية البدائية: العائلية والعشائرية. ولكن مشاغل الانتاج الحرفي التي تقوم على عمل العبيد لم تستطع ان تشق طريقها بسهولة. فبوجود مشاغل انتاج حرفي للمنتجين الاحرار، الذين كانوا يمارسون نفوذهم كمواطنين احرار للدفاع عن مصالحهم الجماعية، فإنه كان من الصعب، "اجتماعيا" اكثر منه "اقتصاديا"، على مشاغل الانتاج الحرفي، القائمة على العمل العبودي، ان تشق طريقها، حيث كانت تواجه بالمقاومة من قبل المنتجين الاحرار وروابطهم العائلية والعشائرية. فاتجه الرأسمال "التجاري ـ العبودي" الانتاجي اكثر فأكثر نحو الزراعة، فنشأت مزارع عبودية قرطاجية يعمل في بعضها عشرات الاف العبيد في الاراضي غير المشغولة سابقا. وهكذا، الى جانب المنتجين الاحرار، نشأت في قرطاجة طبقة مالكة ذات شقين مترابطين: التجار الكوسموبوليتيون، وملاكو العبيد. وعلى اساس هذا الانقسام الاجتماعي العميق تشكل في قرطاجة حزبان متناقضان: ـ الحزب الشعبي الوطني الذي قادته عائلة برقة (همقار وهنيبعل الخ) خلال الحروب البونيقية؛ ـ وحزب الاغنياء (التجار الكوسموبوليتيين وملاكي العبيد الكبار). وقد تميز هذا الحزب بدوره الخياني، من جهة، وباساءة معاملة السكان الافريقيين الشماليين الاصليين بمن فيهم وخصوصا الامازيغ (لاخذ العبيد منهم)، من جهة ثانية. وكان هذا الحزب يمثل طابورا خامسا لروما داخل قرطاجة، تماما وحرفيا كما هي الطبقات الارستقراطية والاقطاعية والرأسمالية، عميلة الامبريالية والصهيونية، في البلاد العربية اليوم. وكان هناك صراع مستميت بين هذين الحزبين داخل قرطاجة وهو ما ساعد على انتصار روما على قرطاجة. ولكن حتى حينما ظهرت طبقة ملاكي المزارع العبودية التي يعمل فيها عشرات آلاف العبيد، فإن الطابع الغالب للانتاج، في "المدينة ـ الدولة" قرطاجة ومجتمعها، ظل هو الطابع الجماعي ـ المشاعي الحر، لـ "المنتجين ـ المواطنين" الاحرار، الاعضاء في مختلف "المشاعيات الانتاجية" العائلية والعشائرية. الا ان الانقسام الطبقي ـ الاجتماعي بين الحزبين القرطاجيين، انعكس بحدة على الحياة السياسية لقرطاجة وخصوصا على تطورات الحرب مع روما. وفي خروج الفينيقيين الى خارج عالمهم الخاص والعالم القريب منهم، وخاصة خروج قرطاجة الى العالم الاوروبي، جرى الاصطدام مع روما، التي كانت دولة استعمارية ـ استعبادية صاعدة تبحث عن مداها الحيوي، مستخدمة ستراتيجية "القضم والهضم" اولا حيال العالم القريب المحيط بها، ثم الابعد فالابعد. وكانت قرطاجة قد توسعت في بعض اجزاء اوروبا، وخاصة اسبانيا وجزر صقلية وسردينيا وكورسيكا وجزء من فرنسا وايطاليا الحاليتين، واقامت فيها "مستعمرات فينيقية" كانت مهمتها الاولية تسويق منتوجات المنتجين الاحرار القرطاجيين، وابتياع المواد الخام والسلع من المناطق والشعوب الاخرى. وكان من المحتم ان تصطدم المستعمرات القرطاجية، جنبا الى جنب الشعوب التي تقيم بين ظهرانها، مع سياسة التوسع الرومانية. وادى الاصطدام مع روما الى اندلاع الحروب البونيقفية وطرد القرطاجيين النهائي من الجزر والاراضي الاوروبية، ثم هزيمتهم على الارض الافريقية ذاتها، واخيرا السحق التام لقرطاجة نفسها وازالتها من الخريطة. وفي رأيي المتواضع ان السبب الرئيسي الذي ساعد روما على الانتصار على قرطاجة هو ليس القوة الذاتية لروما، بل اساسا الدور الخياني الذي اضطلع به الحزب الارستقراطي ـ التجاري الكوسموبوليتي القرطاجي الذي لم يكتف بعدم المشاركة في ما يمكن تسميته "الحرب الوطنية" لقرطاجة ضد روما، بل انه خان وطعن في الظهر "الحزب الوطني" الشعبي القرطاجي الذي قامت الحرب على كاهله. وقد اعاد الرومانيون بناء قرطاجة جديدة فوق انقاض قرطاجة الكلاسيكية. ولكن قرطاجة الرومانية تحولت الى مدينة هجينة عاد اليها بعض القرطاجيين او الفينيقيين (الكنعانيين) القدماء، ولكنها لم تكن بالاجمال استمرارا تاريخيا لقرطاجة القديمة الا بالاسم وبعض المطمورات الاثرية وبعض التقليد الروماني لفن العمارة وبناء المسارح والمنشآت العامة التي اخذها الرومان عن القرطاجيين ونسبوها زورا لانفسهم. والسؤال التاريخي الكبير الذي ينبغي الاجابة عليه هو: كيف استطاعت روما، التي لم تكن في البدء في مستوى تطور وحضارة وغنى و"دمقراطية" قرطاجة، ولا خصوصا في مستوى قوتها العسكرية، ان تهزم قرطاجة وتسحقها بهذا الشكل الحاسم؟ ان الجواب على هذه المسألة هو ذو اهمية مفصلية، تاريخية وراهنة، لوضع الحقائق التاريخية في نصابها الحقيقي. فما يمكن تسميته "المدرسة الغربية" او "التبعية للغرب"، وكل ما ينشأ عنها من عمالة وخيانة وطنية وقومية في عصرنا الراهن، تحاول ان تعزو هزيمة قرطاجة، كما كل الهزائم الشرقية امام الغرب الاستعماري، الى سبب رئيسي هو: التفوق الحضاري والثقافي والعلمي للغرب على الشرق. وهذه "كذبة تاريخية" كبيرة، منافية للعلم وخصوصا لعلم التاريخ وغيره من العلوم الاجتماعية. وللاسف ان الكثير من المثقفين والقوى الوطنية التحررية العربية تستسلم ضمنا لهذه الكذبة وتحاول ان تأخذنا، ولو من الباب الخلفي، الى التسليم المسبق بتفوق الغرب، وبأنه اذا كان لنا ان ننتصر ونتحرر من الامبريالية والصهيونية واسرائيل والتبعية للغرب، فهو عن طريق "تقليد الغرب" و"التغرب" الثقافي والحضاري على الطريقة التركية الاتاتوركية، اي "تتريك" او "توركة" المجتمع العربي، او على الطريقة "الاسرائيلية"، اي "اسرلة" فلسطين ومن ثم "اسرلة" كل البلاد العربية، وذلك تحت شعارات براقة تقوم على وضع السم في الدسم، كشعارات "العلمنة" و"الحداثة" و"الدمقراطية" و"الحرية" الخ الخ. ومن مظاهر الوقوع في براثن هذه الكذبة التاريخية: التخلي عن ستراتيجية حرب التحرير الشعبية في مواجهة اسرائيل، واعتماد ستراتيجية الحرب النظامية، ورفع شعارات ذات مؤدى خياني مثل: شعار تطوير المجتمعات العربية اقتصاديا وعلميا قبل مواجهة اسرائيل. وشعار التوازن الستراتيجي ـ النظامي مع اسرائيل. وشعار تحقيق الدمقراطية في المجتمعات العربية قبل وبدون معركة التحرير. وغير ذلك من الشعارات التضليلية التي تدعي "العلمية" و"العلمانية" و"العصرية" في مواجهة اسرائيل، ولكنها تصب في النهاية في مصلحة الامبريالية والصهيونية واسرائيل. ونقول ذلك ليس للتقليل من شأن العلم والعلمانية والتحديث والدقرطة في مواجهة الامبريالية والصهيونية، بل للتأكيد ان النقطة المفصلية في الصراع تقع في مكان آخر، عسكري ـ اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي تاريخي، هو التحرير اولا، وان العلم والعلمانية والتحديث والدقرطة هي مسائل متفرعة، لاحقة، وليست هي المسألة الاصلية في المواجهة بين الغرب الاستعماري والشرق المستهدف للاستعمار. وبالعودة الى اسباب انتصار روما على قرطاجة فإنها، برأينا المتواضع، تعود الى ما يلي: ـ1ـ ان قرطاجة لم تكن دولة استعمارية ـ استعبادية، على خلاف روما. بل كانت تحمل بقايا النظام المشاعي البدائي الآيل تاريخيا الى السقوط. وان الظروف التاريخية الملموسة لم تكن تسمح بتطوير النظام المشاعي البدائي الى مجتمع ارقى انتاجيا الا نحو النظام العبودي الذي كانت تمثله روما وكان له حزب كبير وقوي داخل قرطاجة ذاتها. ـ2ـ ان العمل الانتاجي للمنتجين الاحرار في قرطاجة في المجموعات الانتاجية العائلية ـ المشاعية، كان اكثر انسانية، لان المنتج كان يحصل على مستوى معيشة تبعا لمستوى انتاج المجموعة الانتاجية التي ينتمي اليها. ولكن العمل الانتاجي للعبيد في روما فكان اكثر انتاجية، لان العبد كان يعيش في ادنى مستوى حيواني ممكن، وبالتالي كان اقل كلفة من المنتج الحر، كي يعطي اقصى ما يمكنه من الانتاج. وباعتبار ان المقياس الانتاجي، وليس المقياس الانساني، كان هو العامل المقرر في المجتمع البشري في الظروف التاريخية الملموسة للمجتمع البشري، التي لم تخرج الى اليوم من طور الضرورة الحيوانية الى طور الحرية الانسانية، فكان من المحتم ان ينتصر نمط الانتاج الوحشي ـ الحيواني ـ العبودي الذي كانت تمثله وتجسده روما، على نمط الانتاج الانساني ـ المشاعي ـ الحر الذي كانت حتذاك لا تزال تتميز به قرطاجة. ـ3ـ ان "المواطنين" و"الرعايا" الاحرار (المرشحين للمواطنية) في الدولة الرومانية كان يمكن ان يتوجهوا جميعا الى الحرب، دون ان تتأثر عملية الانتاج. لان الانتاج كان يقوم على كواهل العبيد. في حين ان "المواطنين" الاحرار في قرطاجة كانوا هم انفسهم "المنتجين" الاحرار، ولذلك فإن توجههم الى الحرب كان سيكون على حساب الانتاج، وبقاءهم في الانتاج كان سيكون على حساب القدرات الحربية للجيش القرطاجي. ولذلك فإن روما كانت اكثر قدرة على تجنيد "مواطنيها" في الحرب. في حين ان قرطاجة كانت، بحكم الضرورة، اكثر اعتمادا على "المرتزقة". ـ4ـ ان المنتجين القرطاجيين الاحرار لم يكونوا يملكون الوفرة الكافية لاجل تمويل الجيش القرطاجي. في حين ان طبقة التجار الكوسموبوليتيين وملاكي العبيد القرطاجيين كانوا يملكون الوفرة لتمويل الجيش القرطاجي، ولكنهم كانوا يمتنعون عن ذلك لانهم كانوا اساسا ضد الحرب مع روما، ويتآمرون سرا معها ضد "الحزب الوطني" القرطاجي. -5- ان الحرب بالنسبة للمجتمع المشاعي لقرطاجة كانت عملية دفاعية وعملية تضحية، في حين ان الحرب بالنسبة لروما فكانت عملية مصلحة كوسيلة لنهب الشعوب الاخرى واستعبادها. وبذلك كان "الشعب" الروماني (ومن ثم كل مواطن روماني) لديه حوافز عامة وفردية للقتال، كشعب استعماري يقاتل لاجل الحصول على الغنائم والعبيد، كأي عصابة مافيا ولصوص وقطاعي طرق، ولكن باسم "دولة" هي الامبراطورية الرومانية. -6- ان حزب التجار الكوسموبوليتيين وملاكي العبيد القرطاجيين كان حزبا خيانيا يعمل على انتصار روما، ويتآمر على الحزب الوطني القرطاجي الى درجة التآمر لتسليم هنيبعل الى روما مما اضطره للفرار من قرطاجة. ولا يزال هذا الحزب يفعل فعله الخياني الى اليوم في تدمير المجتمع العربي من الداخل لصالح الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية.
وهنا يجب التوقف عند نقطة جوهرية: ربما يعتقد البعض ان الانتقال من النظام المشاعي البدائي الى النظام العبودي قد تم بطريقة "سلمية" و"تطورية"، "مصلحية" و"براغماتية"، استنادا الى ان النظام العبودي هو ارقى من وجهة النظر الاقتصادية ـ الانتاجية، اي انه ارقى "انتاجيا" بالمقارنة مع النظام المشاعي. وبهذا المفهوم يكون المجتمع، مأخوذا بمجمله، قد "اختار" و"بحرية" الانتقال الى النظام العبودي ـ الوحشي الذي انحط بالكائن الانساني الى ادنى مستوى الحيوانية وفقدان الحرية الطبيعية والفطرية وفقدان الكرامة الانسانية. ولكن هذه الفكرة ليست خاطئة فقط، بل هي فكرة اجرامية، استغلالية، منحطة، "يهودية"، معادية للانسانية، تقوم على اعتبار ان محور الحياة الاجتماعية هو "الانتاج"، وان مقياس التقدم الاجتماعي هو "زيادة الانتاج"، وان الانسان هو "اداة" شيئية او حيوانية في خدمة العملية الانتاجية. ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما: فالانتاج هو في خدمة الانسان، وليس العكس. ولكن الضرورة التاريخية للطبيعة الانسانية، وللارتباط الانساني الشامل بالطبيعة ومخاطر الفناء، تحتم على الانسان تحسين الانتاج وتطويره كما ونوعا. والنزعة التاريخية ـ الوجودية للانسان، مأخوذا في كليته الاجتماعية، تقوده نحو تحسين وتطوير الانتاج لاجل تحسين شروط حياته، توصلا نحو تحقيق المجتمع المشاعي الارقى (اي المجتمع الشيوعي) الذي يتحرر فيه الانسان من الضرورة العمياء ويصبح سيدا لعلاقته الاجتماعية، ولعلاقته مع الطبيعة. وقد جاء انتصار النظرة الوحشية "الانتاجية ـ الميكانيكية" ليس بشكل "سلمي" و"تطوري" و"اختياري"، للمجتمع، بل بشكل عنفي، وبالقوة، وكمظهر للانقسام الطبقي للمجتمع. وكانت الحروب البونيقية احد اهم اشكال الانتقال العنفي، في العالم القديم، من طور المجتمع المشاعي البدائي اللاطبقي الى طور المجتمع العبودي الطبقي. ولكن بالرغم من انتصار المجتمع الطبقي ـ الاستغلالي على المجتمع المشاعي للمنتجين الاحرار، فإن نزعة الكفاح لاجل تحرير الانسان من العبودية والاستغلال ظلت هي القوة المحركة للنضال ضد الطبقات المالكة الاستغلالية. وقد ظهرت المسيحية الشرقية كتجسيد مثالي للنزعة التحررية للانسان، ضد النظام العبودي لروما. وهو ما ينبغي التوقف عنده بشكل خاص. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قرطاجة والطور الاخير للنظام المشاعي البدائي
-
فلاديمير بوتين: قيصر شعبي عظيم لروسيا العظمى
-
مسؤولية الغرب الاستعماري عن المجازر التركية ضد الارمن
-
الكتل المالية العالمية المتصارعة في الغرب تصطدم برأسمالية ال
...
-
الضرورة التاريخية لوجود حركة نقابية تعاونية جديدة في لبنان
-
روسيا هي العدو التاريخي الاول لليهودية اليوضاسية
-
بطريرك كل المسيحيين وكل العرب
-
-المسيحية العربية- حجر الاساس للوجود الحضاري للامة العربية
-
المسيحية قبل وبعد ميلاد السيد المسيح
-
-الفوضى البناءة- ردة اميركية رجعية على هزيمة اسرائيل في حرب
...
-
الحرب -الاسلامية!- الاميركية ضد سورية والنفط والغاز في شرقي
...
-
معركة سوريا... مشروع افغانستان معكوسة، او الفخ الروسي للعصاب
...
-
من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية
-
الاهمية التاريخية للحروب البونيقية
-
بدايات الصراع القومي مع الامبريالية الغربية (تدمير قرطاجة، س
...
-
الجذور التاريخية للصراع القومي في العالم القديم
-
مأساة غزة وظاهرة الحرب الاستعمارية والابادة الجماعية
-
الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية
-
من رسالة الى الاتحاد البلغاري للمناضلين ضد الفاشية
-
مجزرة اطفال بيت لحم
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|