محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 4086 - 2013 / 5 / 8 - 16:51
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
لملامسة الجواب قدر الإمكان على هذا السؤال , من الضروري إلقاء نظرة سريعة على الماضي القريب لسوريا للتركيز على ما جرى في مرحلتين من تاريخ ما تعارف على تسميته بالجمهورية العربية السورية , وذلك لاستشراف ما يمكن أن تفضي إليه الأحداث الجارية في سوريا اليوم وباالمحصلة ستساهم في فهم ما يجري:المرحلة الأولى تتناول رحلة "الجمهورية العربية السورية منذ إنشائها بعيد مرحلة الاستعمار والحصول على "الاستقلال السياسي" وموقف السوريين بتنوعهم منها , والمرحلة الثانية هي مرحلة حكم عائلة الأسد باعتبارها الأكثر أهمية من منطلق مسؤوليتها عما يجري اليوم في سوريا بما بذلته من سعي سابق للتأسيس لما وصلت إليه الأمور في المشهد السوري الأخير بل ما سيؤول إليه من نتائج . لقد جهدت هذه العائلة على تحويل سورية مبكرا ومنذ استيلاء الأسد الكبير على مقاليد حكمها بانقلاب عسكري إلى جملوكية طائفية وقد أنجزها بنجاح باهر. ولكي تكتمل صورة المشهد نجد أنه من الضروري المرور على الفروقات بين المشهد السوري وأمثاله من المشاهد العربية الأخرى كتونس ومصر رغم المشتركات الكثيرة وذلك لفهم وتوضيح الحيثيات والآليات التي حكمت الصراع الحالي في سوريا كواحد من العوامل الأخرى التي كان لها دور في إطالة الصراع وفي غزارة الدم المرهوق وزهق أرواح كثيرة ودمار كبير ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين , وانفتاح أبواب الاحتمالات لكل ما يمكن أن يؤدي , وهذا أخطر ما تحمله في طياتها وبدفع من وحشية النظام المنفلتة بالتعاضد مع أجندات الدول الإقليمية المحيطة والدولية وتقاعس دولي فاقع غير بريء , إلى عواقب وخيمة يمكن أن تحيق بكيان سورية الحالي وتقسيمه إلى كونتونات طائفية أو تحولها إلى دولة فاشلة كالصومال أو أفغانستان أو في احسن الأحوال كلبنان والعراق إن لم تتضافر جهود مكثفة تبذلها وتقوم عليها قوى مدنية ولبرالية وعلمانية سورية ومعتدلين من أصحاب كل الأديان بكل فئاتهم وأشكالهم وأنواعهم للتصدي والوقوف في وجه وحشية عائلة الأسد المنفلتة من عقالها والبحث عن وسائل الحفاظ على وحدة سورية بلا استبداد وبوجه مدني وهوية دستورية وإعمال العقل ونشر روح المسامحة والمصالحة بدلا من غريزة الثأر بعيدا عن الولاءات الطائفية المذهبية والتعصب والعمل على تشكيل قوة سياسية شعبية ضاغطة ذو تأثير فاعل على الشارع وعلى إحداثيات الحدث السوري من الأفضل لكي يحالفها النجاح أن تكون مدعومة بجهود دولية مخلصة وجادة لوقف المذبحة الجارية والبحث عن مخارج لأزمة والاستعصاء للخلاص من هذا الأسد الأهوج المتعطش للدم وذبح الأطفال .
بناءا على ما تقدم يستهل الحديث بطرح السؤال البديهي الذي يتهرب أغلب السوريين من مواجهته والإجابة عليه أو طرحه للنقاش العام علنيا على الأقل , إما بسبب اتباع سياسة النعامة , أو عدم السماح لهم بطرحه طوال فترة حكم البعث المستبد , أو بسبب عدم تهيء الظروف في إتاحة فرصة للوقوف عليه , والسؤال هو : هل شكلت وتشكل ما اتفق على تسميتها سياسيا بالجمهورية العربية السورية على مدار فترة وجودها منذ نشوئها أو إنشائها على أنقاض انهيار الامبراطورية العثمانية وبالتوازي مع شقيقاتها الكولونياليات العربية الأخرى ومازالت هوية وطنية جامعة تسمح بأن نطلق على سكانها أمة سورية أو شعب سوري واحد كما هتف الشباب الحالمون بدايات الثورة " واحد واحد واحد , الشعب السوري واحد ؟ وهل فعلا كانت كذلك في الذهنية الجمعية لسكان سورية؟ إن لجهة الذين منذ وعوا عليها منذ أن فتحوا عيونهم على الحياة وجدوا أنفسهم من رعاياها فتعودوا على الحياة فيها كما وجدوها فسلموا بها دون بذل جهد التفكير حولها , أو لناحية الذين قبلوا بها أو يقبلونها على مضض ولكنهم يحلمون بوطن آخر له شكل آخر وعلم آخر وأجندات أخرى لكنهم عجزوا عن تحقيقه بسبب التوازنات الدولية التي سادت عند الاستقلال , أو لناحية الذين يجهرون بالقبول بصيغتها الحالية لكنهم يضمرون حلما بوطن آخر يسعون إليه ويعملون له بانتظار حدوث تغيير في التوازنات الدولية الحالية على طريقة أهل العراق؟.
المجموعة العربية بشكل عام تحلم وتطمح في إنجاز دولة الأمة العربية أو دولة القومية العربية : هرلاء قبلوا سورية على هذي الشاكلة السياسية باعتبارها خطوة في طريق إنجاز هذا الحلم مما شكل لديهم وجدانية اغترابية نحو سوريا الحالية بالتأكيد .
بالتضاد مع أصحاب النزعة القومية العربية وعلى النقيض منها هناك من كانوا يفضلون في إنشاء دويلات على مقاساتهم الطائفية والدينية المتعارضة وسعوا لدى المحتل الفرنسي قبل انسحابه لتحقيق مطلبهم . وهناك بالطبع حلم الأكراد في وطن قومي , ولا ننسى الآشوريين والكلدانيين والسريان والارمن والتركمان والأزديين وهكذا والتي أمضت العيش إلى جانب "أعدقائها" تحت سقف "الجمهورية العربية السورية" ولكنها تفضل العيش بالتأكيد في كنتون خاص بها على العيش مع من لا تأمن جانبهم ويعتبرها حفنة من الكفار أو الغرباء . كل ما سبق يدفع إلى تقسيم سوريا إلى "أوطان" صغيرة على قياسات القوميات أو بقاياها والطوائف والمذاهب تطلعا إلى العيش الآمن وراحة النفس بعيدا عن وجع راس العيش المشترك بعد أن قضت كل الفترة السابقة من عمر الجمهورية العربية السورية تعاني قهر الاغتراب الجمعي نحو هذا الوطن المفترض وحذرة ومتشككة من المجموعات الأخرى .
إن المعضلة الرئيسية للسوريين خصوصاً ولمجتمعات المشرق العربي عموماً تكمن في اختلاف تصوراتهم عن المشتركات وما يترتب عليه من تفاوت في الوعي الجمعي السكاني والمتكون خارج إراداتهم من مرجعياتهم الثقافية والدينية عن العيش المشترك , ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على تاريخ المنطقة منذ مرحلة ما بعد الاستقلال يتبين أن هذه الوجدانيات الجمعية والبنيات الفكرية والعقائدية للمكونات السكانية في المشرق العربي قد استمدت معظم شرعيتها ومبرراتها الأخلاقية والدينية والولائية إما من مقولات وشعارات وهويات وعصبيات ماقبل وطنية : قبلية طائفية-مذهبية-دينية , أو ما فوق وطنية : يسارية-قومية-أممية ، أي بمعنى آخر بالاعتماد على أيديولوجيا مصدرها المخيلة والافتراض لتفسير العلاقات تفتقر إلى الحس التطبيقي لمبدأ المواطنة ومفهوم العيش المشترك يحاولون بها تطويع الواقع على قياس أيديولوجياتهم عوضا عن الاعتراف بالواقع كما هو ثم البحث الجاد عن آليات ذاتية لتحسينه واجتراح وسائل لذلك عبر التوصل إلى صيغ معينة ومحددة متفق عليها بإرادات حرة ستشكل ثقافاتهم المتنوعة حينها في سبيل ذلك أجمل وطن من الواقع سيضطرهم ضرورة عيشهم المشترك للبحث عن صيغ ناجعة له سيتمخض عنها بالتأكيد التوصل إلى صياغة عقد اجتماعي طويل الأجل يصون ويوضح حقوقهم وواجباتهم كمواطنين أحرار متساوين أمامه بالحقوق والواجبات وعلى كامل تراب هذا الوطن المتعيّن بذاته والمشترك فيما بينهم .
إن فشل السوريين في ذلك جعل االوعي بالمواطنة وحقوقها لديهم هي الغائب الأكبر خلال العقود الماضية وزاد طين بلتها استبداد العائلة الأسدية النوعي وممارستها السياسية التي انتهجتها لتثبيت ملكها بقاعدة "فرق تسد" , لأن هذا الوعي بالمواطنة والسعي لدسترته عبر اتفاق بالإجماع وبإرادة حرة كان المعول عليه الوحيد لبناء اللحمة المجتمعية الحقيقية الواحدة تدريجيا والتي لو وجدت فرصتها كانت ستتطور حتما وتكتمل ذاتيا إلى مجتمعات حقة في دول حقيقية لا أن تكون ما هي عليه الآن عبارة عن جزر بشرية متناثرة لا يجمع بينها سوى السكن في حدود دويلات كراكوزية متخارجة هشة وتابعة على شاكلة ما نحن عليه . إنه الشكل الذي جهدت الأنظمة الاستبدادية للوصول إليه باتباع كل الحيل الاستعمارية والوسائل القهرية والتفريقية وبانتهاج سياسات ديماغوجية تحت شعارات فارغة ومزيفة . لاقت هذه السياسة بالطبع استحسان ورضى الأطراف الدولية الطامعة في خيرات المنطقة بل إنها رعت وبذلت كل جهودها حتى باستعمال القوة العسكرية والتآمر بعد اكتشاف النفط لقيام الأحلاف ورعاية الانقلابات العسكرية أصلا لتهيئة الظروف لوصول هذا الاستبداد إلى سدة الحكم في هذي البلاد وعلى مدار الستين سنة المنصرمة من عمر هذه المنطقة . هذا ما يكابده السوريون في هذه المرحلة من تاريخهم وما يحاولون تجاوزه بثورتهم ، رغم كل المؤامرات والثغرات والنواقص والمشكلات .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟