فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 4082 - 2013 / 5 / 4 - 12:51
المحور:
الادب والفن
إسلاموتوبيا العصر في الدين والسياسة ، حوار مع الدكتور جعفر المظفر - بؤرة ضوء ..الجزء الأول
المظفر طبيب أسنان دمث الخُلق ،يعتمره الهدوء حد وجعه من الساسة والسياسة ويغيظه مدعيها ، إختصاصي من جامعة بغداد ونيويورك ، مدرس سابق في كلية طب الأسنان - جامعة بغداد، متفرغ حاليا للكتابة السياسية والفكرية والأدبية.
به يعصف الشوق :
أجلس الآن على البعد كأني
قد هويت الحزن حتى ملّ مني
من يعِّنْي..
من يكف الشوق عني..
إنه العمر, تمنيت, ولكن
ما تبقى منه شيء للتمني
كم تمنيت أن أصحو وألقى
إننــي قـــــد عدت إنـــــي
وديــار كنــت فيــــــــــــها
آتِها حيـــــــــــث أتَّنـــــي
صحبتي, أهلــــي, وداري
1. يقترف المظفر الغربة، قوامها وجع الشعر والكلمات ، ومدارات مسكونة بالتمني في الصحبة والأهل والدار، من بمقدوره أن يتجرأ على إيقاف شعور الإغتراب الروحي والإستلاب الفكري الذي خيّم على مغتربي الوطن ؟
الجواب :
لا أحد يستطيع يا سيدتي أن يقلع الوطن من داخلنا, فالوطن ليس فندقا نغادره إلى فندق آخر, وإنما مغادرة المكان لا تعني مغادرة الزمان, والوطن ليس جغرافيا لنغادرها, وإنما هي روح, وسيفارقنا هذا الوطن حينما تفارقنا هذه الروح, ولعل أفضل تعويض, له ولنا, ونحن خارجه, ولا أقول ونحن في الغربة, أن نكون إمتدادا له, فإن كتبنا وأبدعنا وقلنا القصائد, وصرنا علماء وفنانين, وأناس يتحلون بالأدب والأخلاق الرفيعة فسيكون الوطن عندئذ حاضر فيننا وبيننا, هذا هو علاج البعد, وبهذا لن يكون البعد منفى وغربة, وأظن أن الكثيرين منا, نحن الذين نعيش على البعد, هم أقرب إلى الوطن من كثيرين يعيشون على أرضه.لن أدعي أني أعيش محنة غربة كما يعبر عنها البعض, لأننا لسنا غرباء على الخليج كما كان بدر السياب, وإنما نحن صرنا أيضا أبناء للمجتمعات التي إحتضنتنا, والوفاء المطلوب للإثنين هو أن نكون على المستوى الذي نستطيع فيه أن نجمع ما بين الإثنين في مركب روحي وأخلاقي واحد, ولذا قلت نحن نعيش البعد عن الوطن الجغرافيا وليس عن الوطن الروح, فالوطن الروح قد تمازج وتزاوج وتداخل مع وطن آخر, ليصبح الإثنان معا حالة واحدة, وسيحتاج التعبير عن هذه الحالة الواحدة روحا قادرة على الإنجاب, وقادرة على التربية, وقبل ذلك قادرة على الحب.
*
*
*
كان الأمر نكاية في بيان رقم "أُسكت" ، فتعددت البيانات في :
بلاغ رقم (أهرب)
بلاغ رقم ( اصرخ )
بلاغ رقم ( إلعن)
بلاغ رقم ( أشتم)
بلاغ رقم ( أضرب )
فهربت حيث أرضٍ لا تضاجعها البلاغات
ولا يقد قميصها, من دبرٍ، فاقترحت ذات يوم إلغاء التصفيق
والحكم على المصفقين
بالإعدام تصفيقا حتى الموت
2. محوت بسيف الفكر أسطار البلاغات ، وانتحيت عند صقيع المنافي ، وقبل ذاك شددت يديك بوثاق كي لاتصفقان ، ولم تحلل عقدة لسانك من صمته ، فأي جور لصدى صرخة ممهورة بجنون الصمت .؟
الجواب :
في منفاي أو مهجري أو وطني الثاني أنا لم أسكت أبدا وما إستعملت الصمت إلا كإستراحة بين مقالتين.. في بداية الثمانينات منعت من الكتابة فأحسست طيلة الفترة بعدها أن هناك مخلوقا يتعذب في داخلي, وحينما كنت أكتب, ما تملقت لأحد, ولا شيطنت رئيسا ولا تعصبت لفكرة, رغم إنتمائي لعقيدة محددة. بعد السقوط إخترت الصمت في وسط غابة من الأقلام كان بعضها يعبر عن ذات صاحبه أكثر من ذات وطنه, فلما تعقد الوضع ودخل الإرهاب في الصورة وطغيان المليشيات, لم يكن معقولا أن أسجل آرائي بصراحة وأنا المعلق في عيادتي كهدف ثابت, وهكذا طلبت من الكاتب في داخلي أن يصمت, وصرنا نعاني بشدة, هو وأنا. في تلك الفترة أعطاني الكاتب في داخلي فرصة أنذرني بعدها أنه سينفجر كقنبلة ما لم أعطه حقه فوعدته الصبر فرضى. فلما إضطررت على الهجرة أحسست أن ذلك المخلوق قد بدأ يرقص في داخلي, حتى إنني سمعت صوت زغاريد تحاول أن تزيح صراخ الفراق, وكأنها تريد أن تقول لي, نعم لقد إنتصر المخلوق في داخلك عليك, فأحسست أن ذلك حقيقة هو ما حصل, لأن ذلك المخلوق هو من إستل قلمه وفتح محبرته وبسمل على ورقه بإسم الوطن ثم راح يكتب ويكتب ولم يتوقف يوما أو بعض يوم, وكأنه يعوض عن سنين إضطر فيها على الصمت القاتل, ومع ذلك فأنا لم أصمت كليا ولم أسكت عن قولة حق في تلك المرحلة, فلقد كان لساني بديلا لقلمي.
إذا أتيت لقصة مقت التصفيق فلأننا شعوب إمتهنته مثلما إمتهنت الهتاف والتمجيد إلى درجة تغييب الشخص والغياب فيه حتى إنني قلت إن الطاغية يصنع نصف نفسه أما النصف الثاني فيصنعه شعبه, ولذا فنحن نساهم بخلق ( نصف الطاغية) وحتى أكثر من نصفه, فإن تكَّون هذا الطاغية وصار وحشا فسوف تكون له إستحقاقاته من دمنا ولحمنا, فالوحوش آكلة لحوم وشاربة دم, ولكي لا يحدث هذا, فإن علينا أن لا نصفق, ليس بمعنى الفهم التقليدي للمفردة, وإنما بمعانيها ودلالتها التي ترمز إلى النفاق والرياء والغيبوبة في الحاكم وقضية الولاءات المطلقة وشعار بالروح بالدم نفديك يا ريس.
*
*
*
يقول المظفر :
نحن الذين لم نعد نحن
وبغداد التي كنت فيها
زاعما أن سدارتك سفينة نوح
***
يوم اعتقدنا أن ركوب الأمواج
أفضل من ركوب سدارة
ومذ ذاك حتى وقتنا هذا
لم نترك قبعة إلا ركبناها
عفوا ..
ركبتنا
ولم نترك فردة نعل إلا لبسناها
عفوا..
لبستنا
** ويقول مارتن لوثر كنج: "لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت."
3.كنا ومازلنا نعيش عالما صاخبا ومفترسا ، والمثقف فيه بوقا ولوقا ، يهز خصر الكلمات لمنتعليه أو راكبيه ، فهل من صحوة ممزوجة ببعض توهم أن هناك عصرا ، أو زمنا ، أو لحظة كونية ما، تأتي دون أن ندفع ضريبة على كرامتنا، ونعيش كإنسان يسمعه الشجر حين يبسمل، ويغتسل بندى الصباحات، ويتعطر برذاذ غفوة نقاء ذات ليل ؟
الجواب :
- أبدأ بالقصيدة, (سدارة نوح):
كنت كتبتها قبل عام ونشرتها في مجلة المثقف, واضح أن السدارة المقصودة هي سدارة الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة ! والتي حاول أن يجعل منها رمزا للعراقيين لكي يجتمعوا عليه في وقت تفاوتت واختلفت فيه أغطية الرأس, ونوح كما معروف هو النبي الذي ارتبطت قصته بقصة الطوفان المعروفة, لذلك أتى العنوان لكي تتمثل السفينة التي أنقذت الخلق بالسدارة التي أراد لها فيصل نفس الدور. بالتأكيد أنا لست مع أولئك الذين يمسحون أخطاء العهد الملكي بممحاة شرور العهود التي أتت بعده, ولأن حديثنا الأن ليس حديثا سياسيا فسأكتفي بالقول إنني أردت من القصيدة هذه, ومن السدارة تلك, أن تكون نداءً متجددا للعراقيين للبحث عن المشتركات, فالسدارة على الرأس هي بمعنى الوطن الذي يجمع الكل لإنجاب حالة روحية وأخلاقية ومادية واحدة, هذه الحالة بكل تأكيد لن تلغي الخصوصيات لكنها تجعل لكل حادث حديث, وتبدأ بالوطن لكي تجعله سدارة على الرأس, اي تاجا للجميع. وحينما سيكون الإنسان العراقي بمستوى تاجه سيكون الوطن العراقي بألف خير, ولا قيمة لتاج إلا بالرأس الذي يعتمره, وفيصل كان خلع تاج الذهب لكي يضع بدلاً عنه تاجا من قماش, أين غلاوة الذهب من غلاوته. إنه راس فيصل من حول قطعة القماش تلك إلى ما هو أغلى وأغلى من الذهب, فهو بعد حفلة التتويج ما وضع على راسه تاجا سوى تلك السدارة, وقد أراد من الجميع أن يشاركه تاجه, أن يضعوا سدارة على الرؤوس بمعنى الوطن, وليختلفوا بعدها تحت تلك السدارة وبوجودها. وبالتأكيد فإن العراقيين لا يتحملون لوحدهم وزر الخطيئة لأنها من صنع مجموعة قوى متداخلة, فيها الدولي وفيها الإقليمي أيضا, ولن يعني ذلك بأي حال رفع بيرق نظرية المؤامرة للتعتيم على أهمية العامل الداخلي, لكن الإعتراف بالأهمية الإستراتيجية للعراق يجعل تغييب ( المؤامرة) بمثابة مؤامرة, كما أن هناك فرق كبير بين المؤامرة لأن وجودها حقيقي وملموس وبين نظرية المؤامرة التي هي إلغاء للعامل الداخلي الذي ياتي كركيزة إسناد للعوامل الأخرى
وفيما يتعلق بالسؤال :
- بداية أنا أميز بين المثقف وبين المفكر. الأول يتقدم فيه محصوله القرائي على عقله, والثاني يتقدم فيه عقله على محصوله الثقافي, الأول تقوده ثقافته, والثاني يقود ثقافته, وحينما نبحث عن الفرق بين المثقف والكاتب علينا أن نبحث عنه في من يسبق من وفي طريقة الإستخدام أيضا, ولعل احباطنا من قضية الثقافة والمثقفين يأتي من هنا, في عدم التمييز بين المفكر والمثقف, معتقدين أن كل من قرأ وتحدث واتقن ببلاغة صياغة الكلمات وألقى شعرا هو في النتيجة وبالسياق سيؤدي دوره الوطني والإنساني ويكون وفيا لقلمه ولثقافته. أمراض الثقافة والمثقفين مشهورة ومعروفة, منها التنظير بعيدا عن الواقع, ومنها تحويل الثقافة إلى وظيفة للعيش, ولا أقصد بها هنا سوى ما هو ذا صلة بقضايا الفكر والسياسة, حينها تكون الثقافة كالمتفجرة التي تتشظى بوجه الوطن والتي يكون صاعق تفجيرها بيد من يدفع, نظاما كان أم جهة. لكن على الجهة الأخرى فإن المفكر قد يكون بنصف ثقافة ( المثقف) لكنه بكل تأكيد أفضل من المثقف بطريقة وضع ثقافته في خدمة أخلاقياته وإنسانيته ووطنيته, واستخدامها بوعي كأداة ومناهج للتحليل لأغراض الإستنتاج والإستنباط بما يضع المخزون الثقافي في خدمة رؤى مستقبلية . حينما يحظى وطننا بنظام ديمقراطي حقيقي فإن مهنة التسول الثقافي التي يشترك في صناعتها الحاكم والمثقف تتراجع كثيرا. هناك يمكن لنا أن نفكر بتشريع نطام أخلاقي من شأنه أن يضيق المسافة كثيرا ما بين سلوك المثقف وسلوك المفكر.
لكن أن نحلم في هذه المرحلة, التي تتقاسمها الميليشيات والأموال وأيديولوجيا المقدسات, بوجود مثقف خال من أمراض الثقافة كنشاط, ومن أمراض المثقف كذات, هو ما أعيب عليه, أي على الحلم الذي يغيب في التعريف العام للثقافة وينسى أنها كسائر الوظائف ميالة لأن تتحول إلى وظيفة للعيش وللكسب وللإرتزاق. فالمثقف ليس حالة منقطعة عن الواقع والجذور. ومع النظام السابق لم يكن بوسع المثقف أن يفعل شيئا يتناقض والرؤيا الأيديولوجية السائدة ومناهج إستلاب الإرادة والفكر, وإلا لقطع رأسه قبل قلمه, وحينما يكون المثقف والحالة هذه موظفا, فهو يخطأ مثلما يخطأ الموظف المضطر للتصفيق والمشاركة بالغناء في عيد ميلاد (الرئيس القائد), لكن تأثير المثقف الموظف بطبيعة الحال لن يكون بمقدار تاثير خطأ الفني أو الإداري الموظف, , وفي مطلق الحالات ليس العيب في التصفيق الذي قد تضطر إليه حفاظا على رأسك، وإنما في طريقة التصفيق, أي بالرقص والردس الذي يرافقه, ومن هنا أتت قصتي مع التصفيق التي وضعتها في قصيدة ( بيان رقم إخرس) والتي جاءت (نكاية) بديوان إبني وتلميذي السابق في كلية طب الأسنان, وأحد أساتذتي في الشعر حاليا, الدكتور الشاعر سعد الصالحي, الذي وضع ديوانا له بعنوان (بيان رقم اسكت), وفي حالتي أنا شخصيا لم اسكت وإنما (أُخْرِسـت)>
*
*
*
فقط جربوا أن تصنعوا أجنحة من أحلام
مارتن لوثر كنغ المتسامي من سجنه،
بن فرناس ومجد المنتحرين
ونيلسون مانديلا
يتجول بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجز أن يولد، فليس من مكان يريح عليه رأسه
وعظماؤنا الميزوبوتاميون يتناسلون
من منبع دجلة والفرات
حد شط العرب
يقترفون معنى غياب الآخر
لا قدرة تغييبه
4. متى يكون المرء حرا ، لاتكبله أجنحة فرناس ، ولا تسامي لوثر من بين القضبان، ولا حلم نيلسون في حرية تعطى على جرعات ، و ليس هناك من أشرار تهوى سفك الدماء والعنف في وطن ذبيح، تسنه الطائفية والعرقية ، بات على شفا هاوية ؟
الجواب:
على الجهتين يجب أن لا نتحدث بالمطلق, أي عن وجود إنسان إنموذجي, فما نريده في المقام الأول هو (ناس) يكلع منهم الإنسان. والناس الذين نحلم بهم ونعمل من أجل وجودهم هم نتاج (نظام) يفلح ببناء بنى إقتصادية وإجتماعية وثقافية وأخلاقية قادرة بدورها على تضييق فرص خروج (إنسان) على خط السياق (الناس) إلا كحالة إستثناء تحتاج إلى ضبط قانوني او إعادة تأهيل. بدون ذلك النظام فإن الحرية تبقى محدودة, فإن وجدت فهي ستكون سائبة. الحرية من منظور سياسي هي نتاج لنظام يتراجع فيه دور الدولة لصالح المجتمع وتنظم فيه علاقة الإنسان مع الآخر ومع المجتمع عامة من خلال عقود إجتماعية ودساتير وقوانين تحرسها.
أما أجنحة بن فرناس التي تحدثت عنها في تلك القصيدة فهي أجنحة شمعية معرضة للذوبان تحت أشعة الشمس وهي أجنحة للهروب وليس أجنحة لطائر الحرية.
وعن تسامي لوثر أقول:
عِبر حلمه الكبير أفلح في إعادة صياغة أمة, وأمريكا صار لها تاريخين, قبل لوثر كنغ وبعده, لكن حلم كنغ لم يتحقق لمجرد رؤيا منامية وإنما نتيجة لتحولات هزت البناء الإجتماعي للأمة لكي تنتج ثقافته اللاعنصرية, وهي ثقافة لم تكن بعيدة عن كونها وليدة أيضا للديمقراطية وللنظام الإقتصادي الحر ولمفهوم الأمة العالمية. هم أقاموا تمثالا كبيرا لكنغ في قلب العاصمة الأمريكية, وهو تمثال لكل من يحلم ولكن ليس إلى درجة الغيبوبة, أما نحن فقد أقمنا تمثالا لإبن فرناس, الذي لا أدري من أين جمع كمية الشمع الكبيرة اللازمة لصناعة جناحيه الكبيرتين, يبدو أنهم كانوا يقيمون إحتفالات أعياد ميلاد كبرى في السجن الذي كان فيه, ليصنع إبن فرناس أجنحة مما تبقى منها, أو أن إبن فرناس كان لديه معمل شمع سري, والفرق بين تمثال كنغ وتمثال بن فرناس أن الأول هو تمثال لحالم أما الثاني فهو تمثال لمختل جاهل ومنتحر. منديلا من ناحية أخرى فيه الكثير من كنغ, كلاهما حالمان كبيران بوطن يسوده الحب والتسامح ويكون بقية سيف, وأقصد بالسيف هنا مجموعة المحن الكبرى التي يمر بها المجتمع والتي يواجهها بتصميم من يريد صناعة مستقبل عادل ومتحرر ومزهر. من الخطأ المقارنة بين مجتمعاتنا ودولنا مع هذه المجتمعات والدول, ففي هذه المرحلة بالذات الشرط الأول للإنطلاق بات مكبلا بنوعية من الأيديولوجيات التي لم يكن بمقدور كنغ حتى أن يحلم في ظل وجودها وإلا لكان طار بأجنحة بن فرناس الشمعية, وإبن فرناس في تصوري هو بالنهاية محاولة هروب فردية فاشلة من سجن وليس محاولة تحرر وبناء مستقبل بديل . الحلم بالحرية في ظل وجود أنظمة الإسلام السياسي والكهنوت الطائفي هو حلم على طريقة بن فرناس وليس على طريقة مارتن لوثر كنغ أو منديلا. ولهذا علينا أن نعي حقيقة أن خروجنا إلى هذه الحرية بات مرتهنا بمدى قدرتنا على الخروج من نطام الأيديولوجيات المقدسة, دينية كانت أم غير دينية, والإلتزام بالنظام العلماني الذي يوفر لنا على صعيد سياسي فصل الدين عن الدولة وعلى صعيد إجتماعي حرية التفكير غير المقيدة.
*
*
*
5.الدولة تملك سلاحا وجيشا مملشا وموجها طائفيا وعرقيا ، متى ستطوى صفحة المرجعيات الغير موجهة للتأقلم والعيش كأخوة ؟
الجواب :
الدولة العراقية لم تتكون بعد, وفي إتجاهاتها الحالية وعقيدة رجالاتها الحاليين ليس في مقدورها أن تتكون على الإطلاق, وأقصد بشكل وأسس تقترب من خواص الدولة العراقية السابقة, التي تأسست في بداية العشرينات وسقطت مع الإحتلال الأمريكي, فالناس الذين يحكمون الآن, يعيشون الحالة ونقيضها في ذات اللحظة, فهم قياديون لهذه الدولة وهم أعداءها في نفس الوقت. هم إذن تركيبة تسقط على الدولة الحالة ونقيضها في نفس الوقت, وهذا الأمر ينطبق على جميع الدول العربية التي تهيأ للإسلام السياسي فيها فرصة الإستيلاء على السلطة, لأنها تشترك في فكر دينوسياسي وإن اختلفت المشارب الطائفية.
خذ مصر على سبيل المثال وسوريا على الطريق نفسه, أما في العراق فلا يمكن تفسير التخلف والسرقة والفساد والتزوير بمعزل عن حالة عدم الإنتماء للدولة التي يقودها السياسي الفاسد, حتى كأني أراه, فيما يعمله, وكأنه يحاول الإنتقام من عدو له,ولا يحاول بناء الدولة والوطن من جديد.. إن فهما حقيقيا لمعنى الصراع الذي يدور والفساد الذي ينتشر لا يجب أن يعبر على حقيقة أن السبب الرئيسي إنما يكمن في التضاد بين فقه الدولة الوطنية وفقه الدولة الدينوطائفية, ولذلك فإن إستقرار الأمور, بأي إتجاه وعلى أي مستوى, إنما يبدأ من خلال فك الإشتباك ما بين الفقه الديني وفقه الدولة, أو إنتصار أحدهما على الآخر, وإلى أن يحدث ذلك فإن الفوضى التخريبية ستظل ضاربة أطنابها, وهي مرشحة للتصعيد في حالة إنتصار الفكر الدينوسياسي..
*
*
*
6. كثيرة هي الأشياء التي أربكت مفاصل الوطن ،ونالت العتمة من حيواته ، فالى متى يصمت الأخبار على الخراب والظلم والفساد وسرقة المال العام ، هل هناك من انفراجة ضمير؟
الجواب
الضمير حتى على صعيد القواعد والنحو هو نوعان, غائب وحاضر, ويبدو أن حظنا من النوعين بات هو الأول. لكن الإقتراب إلى هذا المشهد العراقي الحافل بكل مفاصل التخريب الأخلاقي لا يمكن تفسيره تفسيرا ذا خصوصيات شخصية فردية أو حتى إجتماعية عامة. إن العراق بعد الإحتلال- ولا أبرئ صدام حسين من ذنب وضْعه على هذا الطريق, بل إنني أعتبره المسؤول الأول عما يحدث لنا- العراق هذا صار أقرب لأن يكون جثة محتضرة, أو هكذا أرادتها مختلف القوى, بالرغم من تضادها إلى حدود التصادم. ولعلي أرى أن إخراج العراق كقوة مؤثرة من ساحة الصراع الإقليمي كان هّم الطرفين, الإقليمي والدولي, ومسألة النزاع المختلط بالنقائض يمكن تفسيرها على أساس تشاركية الهموم, أي إجتماع عدوين على عدو ثالث, ولذا ترى أن الهم الإسرائيلي يشتغل سويا مع الهم الإيراني في مساحة معرفة الحدود, ليس بالضرورة بمعنى التنسيق المشترك, فأنا ضد اللجوء إلى حسم مواضيع كهذه على طريقة نظرية المؤامرة, وإنما بمعنى تشاركية الهم من عدو ثالث. صدام إفتخر بأنه قاتل ضد ثلاثة وثلاثين دولة, وفي السياسة نتعلم ضرورة أن نقوم بتحييد الخصوم على الأقل, إن لم ننجح في تحييزهم. القائد الذي يفتخر بأنه وضع بلده في مواجهة ثلاثة وثلاثين دولة لا بد وأن يكون مصابا بلوثة في عقله وفي أخلاقه في نفس اللحظة. حتى حافظ أسد كان قد أرسل جيشه ليحارب مع الأمريكان ضد العراق. صدام كان فنانا في صنع اللحظات التاريخية السيئة, والنتيجة التي آل إليها العراق واضحة, لقد سقط كجسد متهالك لرجل محتضر, وكما في الطبيعة كذلك في السياسة, عادة ما يكون الدود جاهزا لإلتهام الجثة, وهذا ما حدث مع الإحتلال وبعده, صدام سهل كثيرا مهمة تحويل العراق إلى جسد متهالك, وتكفل الدود الذي جاء بمعية الإحتلال, أو ذلك الذي أنجبه بعد ذلك, بمهمة إلتهام الجثة. إذن نحن لا نتحدث عن ضمير هنا بالمعنى الأخلاقي المجرد, ولا يمكن أن نراهن عليه, إذ نحن في المركز من ساحة إقليمية ودولية ملتهبة, والتغيير سوف لن يحدث في العراق بمعزل عن تغيير إقليمي يجدد هو أيضا التغير على الساحات المختلفة.
*
*
*
7. ما الذي حدا بإعلامنا الذي تحركه عجلات المرجعيات ، و يأخذه مد وجزر الآليات الدينية والفكرية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجيا، سلبا على مستوى التخاطب ، فلم يك حياديا ، غدى آلة فتك وتفككك عاطفي يحمي ركام من يدفع أكثر ، هل أضحى مسيرا ؟
الجواب :
الإعلام والثقافة لن يكونا بمثابة جزيرة معزولة تعيش خصوصياتها المطلقة بمعزل عن كونهما وليدين شرعيين لحالة الدولة والمجتمع, وإذا إفترضنا أن هذين الوليدين يمتلكان مشاهد خصومة مع الواقع السيئ فإن ما نشاهده حقا أن هذه الخصومة غالبا ما تبقى في مساحتها ولا تعبر إلى مساحة التمرد. العراق ليس وحده يسير في هذا الإتجاه, ولا هو عاش المثلبة في هذه المرحلة وحدها, فطالما كان للسيف والدينار سطوة فإن المقاومة الأخلاقية لمجابهة الفساد تقل كثيرا. وأنا لا أصدق بقصة وجود إعلام مستقل, لأن الإستقلالية هنا لها تفسيرات متعددة, وحتى في الغرب, وخاصة في أمريكا, ما دامت الدولة هي دولة شركات بالمقام الأول, وما دامت هذه الشركات بمختلف أوجه نشاطاتها التجارية هي التي تملك هذه الصحافة, فإن إمكانية أن يكون الإعلام مستقلا هو أمر خيالي.
أنا ضد المراهنة على دور الإعلام في إحداث تغيير حقيقي وذلك للإمكانيات المفتوحة للسيطرة عليه. ومع ذلك فإن هناك "إنفلاتا" حقيقيا ومؤثرا عن هذه القاعدة السياقية, فعلى صعيد الإنترنيت حدث تغيير بإتجاه المشاركات الفردية أو الجمعية المتمردة على إعلام الدولة, ولقد كان لذلك أثرا واضحا على صعيد أحداث ما يسمى بالربيع العربي أو ما يسميه البعض بالصقيع العربي. أما على الصعيد العراقي فثمة اصوات وكتاب إعلاميين يلعبون أدوارا حقيقية في منع التدهور وإيقافه ، تراهم ينشرون في صحف ورقية كالمدى والعالم, وفي صحف إلكترونية كالحوار المتمدن وكتابات. خذي مثلا سرمد الطائي, ومعه على سبيل المثال الدكتور سعيد حيدر وعلي حسين وأحمد عبدالحسين وصالح الحمداني , فهم يؤدون دورا وطنيا وإعلاميا رائعا, وكلما أقرأ لهم كلما أعجب بهم وكلما أخاف عليهم.
وأقول لك لا تراهني على دور إعلامي بارز على صعيد التغيير, فأكثرهم للحق كارهون, والإعلام كما نفهمه ليس وسيلة تغيير إلا بما يريدها الحاكم, وأكثرية الإعلاميين ستبقى جزء من حريم السلطان, حتى إني أكاد أشتق قانونا يقول:" كيف تكون الحكومة يكون الإعلام".
تطالبين بحرية وإستقلالية الإعلام أو تحلمين بإعلام كهذا.. كيف ؟! الإعلام في أغلب حالاته هو أَعلام, أي بمعنى الراية التي تتبع من بيده السيف والدينار, وأفضل ما قرأته أخيرا في وصف الإعلام كان قولا لجمال المظفر الذي قال على صفحته في الفيسبوك: لا تقل إعلامي بل قل إعلاني.
على صعيد إحداث التغيير تحدثي عن مفكر يعمل في صحافة, ولا تتحدثي عن إعلامي يعمل في مجال الفكر, إذ غالبا ما يكون الأخير أَعلامي, بفتح الهمزة, وليس إِعلامي بكسر تلك الهمزة, وكل قاعدة ولها إستثناءاتها.
__________________
إسلاموفوبيا استحدثت منها إسلاموتوبيا بدلا من إسلاموي
انتظرونا مع المظفر حين يقول :"من قال أن حكومة المالكي ما زالت حية ترزق" ، في الجزء الثاني من الحوار .. يتبـــــــــــــــــــــــــعـ
فاطمة الفلاحي
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟