|
الاهوار ذاكرة البط والميثولوجيا ..الحرب
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 1171 - 2005 / 4 / 18 - 10:20
المحور:
الادب والفن
الأهوار ذاكرة البط والميثولوجيا { الحرب }
نعيم عبد مهلهل الى المياه والقصب ستذهب يابني لتحارب وهناك ..ستلبسك الآلهة رحمتها وستأكل السمك .. وتطلب من الماء أن يمنحك رحمته وستصنع من القصب مزمارا تنادي فيه كل من يحبك كي يأتي إليك ..
لوح لأب سومري يودع ولده المسافر الى الأهوار
تندرج الأهوار في خانة الطبيعة التي يصنعها فيضان الأنهر . وهي مساحات مائية تجلس على غرين منخفض تتوسطها جزر صغيرة متناثرة هنا وهناك فيما يكون القصب النبات الطبيعي الوحيد الذي ينبت من بين أمواج المياه التي تمتاز بقلة عمقها ، ويحاول الأهالي أن يستفيدوا من الجزر أو المساحات اليابسة داخل الهور أو على ضفافه لزراعة الرز وبعض المحاصيل اليومية كالخضراوات فيما تكون الثروة السمكية هي المنجم أو الثروة الطبيعية التي تنام في القاع الممتد بمساحات شاسعة وتأتي بعد الثروة السمكية الطيور بشتى أنواعها والأقاليم القادمة منها ومنها طائر البط بأنواعه الكثيرة كالبط الصيني والخضيري والحذاف وهو ما يطلق عليه في هذه المناطق الطيور الحرة . هذه الطبيعة التي صنعها الأزل الرافديني امتلكت خصائص جيولوجية تختلف عن التكوينات الأخرى لطبقات الأرض . فنتيجة لانغمارها البعيد بالمياه ملكت في ذاكرة العلم اعتقادات عدة منها أن ما ترسب في قيعانها وتحجر منذ الأمد البعيد من حيوانات فكون طبقات عديدة من معادن وفوسفات نتيجة لتحلل هذه الكائنات وتفسخها ومنها البترول وخرافة الزئبق الأحمر . وقد ظهرت ظاهرة التبخر في هذه الأمكنة من خلال ظهور دخان وبخار كثيف من المناطق التي كانت أصلا منطقة أهوار وجففت بعد التسعينيات وحرب الخليج الأولى مما زاد الاعتقاد بان المناطق تحوي معادن وان وجود المياه كان عاملا طبيعيا لتبريد وتخفيف حدة التفاعلات التي تحصل جراء تفاعل غازات هذه المعادن داخل الأرض وساد الاعتقاد حتى عند بعض الأوساط العلمية ان التجفيف لو أستمر لعقود أخرى لتعرضت المنطقة الى تغيرات جيولوجية حادة كالزلزال مثلا ..لاسيما أنها في امتداد لمنطقة زلزالية تقع شرق أيران في المناطق المحصورة بين إقليمي إيلام الأحواز .. تمتد الأهوار الواقعة على مساحة تتوزع بين أضلاع مثلث لثلاثة محافظات هي لبصرة والعمارة والناصرية ويكاد أن يبدأ هذا المثلث من شمالي مدينة سوق الشيوخ ليصعد الى الأعلى متعدد الأمكنة والمناطق حتى الالتقاء بهور الحويزة الذي تصل سفوحه الى مدينة الأحواز وأشهرها هور الحمار الجبايش والصحين وأهوار الكحلاء والغموكه والشويعرية وأهوار حقول مجنون وتلك التي تقع يسار الكتف الأيمن لنهر دجلة على طول الطريق الممتد من قلعة صالح في العمارة وحتى شمال مدينة القرنة التابعة لمحافظة البصرة . وعلى هذا الأديم الممتد بأزل الماء والقصب والسمك نزلت الحرب بكل هوجها وكانت هذه المناطق مسرحا لمعارك شرسة وعنيفة بين الجيشين العراقي والإيراني في حرب السنوات الثمان وعلى مياه الأهوار طافت مئات الألوف من شباب البلدين جراء الاقتتال العنيف وصل الى حد استخدام الغازات السامة فكان السمك يطفوا على الماء نافقا فكيف بحال البشر ويتذكر العراقيون معارك شرق دجلة التي حدثت في منطقة لسان عجيردة والرشيده وجسر الواوية قرب منطقة العزير وهو مقام مقدس لليهود لاعتقادهم ان هذا هو قبر العزير أحد قديسيهم الذي غادر بابل حيث سكناه بعد السبي وذهب ليتفقد يهود أيران ولكنه توفي في الطريق مابين فارس والعراق وقرب الضفة اليمنى لنهر دجلة حيث مدفنه الآن وشرق الكحلاء ومعارك مجنون الشهيرة وهي منطقة موحلة مليئة بالأهوار لكنها تحوي خزيناً هائلاً من النفط وفيها حقل مجنون المستغل … تذكرني حرب الأهوار بشكل عجيب لمشهدية الحرب حيث لا توجد موانع لتعبئة متينة كالملاجئ والسواتر الحصينة المصفحة بأقواس الأرامكو ..المانع الوحيد هو قصب البردي وقدرك الذي ربما يبلل جبينه بلزوجة دم فراق الأم من خلال رصاصة قناص تأتي من دون موعد ربما لمجرد ان الجندي في الجانب الأخر يريد أن يفحص بندقيته .. رمى طلقة وجاءت لتخترق جبهتك .. ليل الحرب الأهوارية هو ليل الأصوات المبهمة حتى تحس أن السمك هو من يتكلم . لهذا ظل الحذر والخوف من القادم من داخل الماء يمتزج برؤى الحكايات الخرافية التي كنت اسمعها من الأهالي الذين لم تخيفهم الحرب ولم تجبرهم على هجر موطنهم الأزلي فظلوا يدقون أوتدة الحياة لبقاء متحد حتى في لجة المعارك والقصف . وأتذكر أن في واحدة من فورانات الهجوم الإيراني في معارك شرق دجلة وصل الإيرانيون الى قرية السودة والبيضة القريبتان من الشارع العام الواصل بين البصرة والعمارة وأنهم أسروا مدنيين ومنهم معلمات المدرسة الابتدائية ..هكذا سمعت في الأخبار وحين جئت مع وحدتي الى هذا المكان كان الجيش العراقي قد أعاد المناطق التي احتلها الإيرانيون وصار جرف الهور من الجهة العراقية ساترا متقدما فيما بقي لسان عجيرة والرشيده أرضا حراما .. وعلى الساتر النحيف أقام الجيشان مراصدهم المعلقة والتي تشبه تماما في الشكل برج أيفل في باريس وأتتذكر أني وأنا معلق فوقها طوال ساعات النهار والليل كتبت مقالا بعنوان : { ترى هل أرى باريس ؟} وكنت اكلم فيه الشاعر الفرنسي جاك بريف ير وأدعوه لزيارة المكان والتمتع بقرص{ الحرمس } وهي حشرة لاترى ربما في العين المجردة لكن لسعتها من فمها المجهري المدبب مثل لسع الزنابير واتذكر انني ابتدأت تلك المقالة بقصيدة لبريفير حفظتها وأنا طالب في المتوسطة تقول : الكل يموت .. الملك والحمار وأنا .. الملك من السأم ..والحمار من الجوع .. وأنا من الحب ! . لم تكن هذه الأبراج الحديدية الشاخصة على حافة الهور وهو تنظر الى البعيد الذي لايرى متينة الصنع فقد كانت تتمايل مع أي ريح قوية لهذا كان الصعود فوقها كمن يتمرجح في أرجوحة هوائية صنعت من قضبان حديدية مضلعة . فوقها كتبت القصص والقصائد وكان الليل المفعم بالأصوات المبهمة ينقل إليك أحاسيس الماء المدثرة بمشي السنين الى الوراء حين كانت هذه الأرض محطة لخيارات سلالات لا تحصى وخاصة في الأهوار الواقعة في منطقة ذي قار حيث أثبتت التنقيبات الأخيرة في الخميسية واهوار الأرطاوي وغيرها وجود مدن وسلالات لم تكشف بعد تعود للعهود السومرية الأولى . ارتبطت الأهوار بذاكرة الحرب . عشت أراقبها في مناخات مثل تلك لعام كامل وشاركت في دوريات الذهاب عميقا في مياه الهور بحثاً عن سراب أو صيد تائه كي يثبت الآمر انه فعل شيئا مع هذا الغموض الطبيعي الذي نراه في الخرائط التي معنا من دون مثابات أو دكات أو شواخص معلومة . الماء هو الموجود دائما وكان الزورق الذي يحمل رجال الدورية يحمل معه الصمت الذي يمزقه صوت السمك والقصب وتقافز الضفادع التي تخيفنا بنطاتها السريعة وهي تهرب من مشي الزورق المذعور الذي حمل جنودا ينام النعاس على أجفانهم مثلما تنام القبرات في عشها الأرضي . يترفع القصب الأخضر أمتارا فوق سطح الماء بسبب أن الإنسان في زمن الحرب لم يعد يستثمر هذه الثروة النباتية ، والى عمر وطول معين يصيب القصب اليبوسة ويتحول لونه من أخضر جميل مبرقع بشيء من الصفرة الى أصفر كاملا يستغله بعض الجنود ذو ي الأصول البدوية لصناعة نوع من أنواع النايات يسمى شعبيا { الفيفرة } ولا أعرف أصل هذه الكلمة لكنهم يأخذون قصبتين رفيعتين ويصفونها مع بعضهما بواسطة القير ويثقبون نهاياتها بشكل متقن ومحسوب ثم يبدأون العزف بصوت مزدوج عذب كنا نرى فيه الأسماك ناطة من قاع الماء وترقص بمرح كولنيالي لهذا العزف .. ولماذا أصف المرح بالكولنيالية ..ربما لأن أعذب عازف على هذه الآلة هو أمر وحدتي من أهالي الحويجة وهي واحدة من نواحي مدينة كركوك وهو على ما أتذكر من عشيرة العبيد ، إذ كان يعزف على هذه الآلة في ركن منعزل فوق الساتر . ومع النغم الصحراوي تعلن أطراف القصب الضخم بدء حركات لاشعورية وكنا سعداء حين نرى السمك يتقافز والقصب يهز تسريحات شعره مثل النساء غجريات . اللافت للنظر أنني حين سألت أهل المنطقة من بقوا ليعيشوا قرب ساتر الحرب . : هل كان الطير كثير هنا ؟ قالوا : كثير حتى أنه يملئ سماء المنطقة في مواسم الدفء. قلت : ولكنه قل في هذه الأيام رغم الربيع ؟ أجابني أحدهم : لقد ذعر من صوت تراشق المدافع ولم يعد يأت الى هناك . أذهب الى أهوار الناصرية وستراه كم كثير . قلت : أنا من الناصرية . قال : مبروك عليك أكل الخضيري والحذاف والبط الصيني ، أما نحن فلنا الصبر وما تحمله سيارات الحانوت من خضار وما يمنحه لنا عرفاء الإعاشة من صمون ، حتى صيد السمك حرمنا منه . لقد حولت الحرب ودوي مدافعها منطقة الأهوار الى مقبرة جماعية هائلة للأسماك . فمع كل فصل للقصف المتبادل كانت تطفو نافقة فوق سطح الماء أعدادا هائلة من الأسماك وبقائها تطوف هكذا ظل يحول المكان الى فضاء من الروائح النتنة كنا أيام الريح الشرقية نعاني منها أي معاناة وفي أيام الرياح الشمال حتما سيعاني منها الجانب الأخر وكنت أشاهد الحجم الهائل للأسماك النافقة وأعلق لو كان هذا { البز } وهو نوع من أنواع { الكطان } لبعته بثمن يعادل راتبي لقد كان يشبه حوتا صغيرة عندما يتجاوز طوله أكثر من متر .. في حرب الأهوار فاق عدد الأسماك الميتة عدد الضحايا من الجنود . في حين في حروب المياه الأخرى كالتي تحدث في البحار مثلا لا يعطي السمك هكذا خسائر . السبب ان قاع البحر العميق يكاد يكون ملاذا آمناً للسمك . فيما يكون القاع الضحل لمياه الهور قريبا من الأرض فيفجر الدوي الهائل الغدد الدهنية للسمك في منطقة الرأس والخياشيم وتموت وأتذكر قصيدة لأحد الجنود ممن عرفتهم في الحرب وهو يرثي سمكة ظلت تطفوا أمام ملجأه لأيام حتى أكلتها السلاحف وكانت كبيرة جدا : { مرثية موت سمكة } لقد حسمت الأمر أيتها الفتاة الزعنفية وغادرت الماء بإرادة منك لا بإرادة من الحرب .. عندما اخترت هذه المياه القذرة .. الخوذ تطفوا .. زمزميات الماء .. هويات الجنود وأنت طافية أيضاً .. الفرق .. أن الهويات والخوذ ستترك يتامى ينوحون أما أنت فلن تتركي شيئا سوى سنسولك الضخم .. وأعتقد أن{ السنسول } هو المصطلح الشعبي الذي يطلق على الهيكل العظمي الفقري للسمكة الذي يبدأ من رقبتها حتى الذيل .. تلك مشاهد مرئية لعالم الهور في مناخات الحرب .. مزجتها مع بدء وصفي لمنطقة الأهوار ثم عرجت مباشرة الى ذاكرة الحرب أيام كانت منطقة الأهوار لها مسرحاً وبيتاً وعلى أديمها المتوقف برتابة الجنود وهم يبلغون بانقطاع الإجازات الدورية بسبب الحيطة والترقب من قرب هجوم جديد . وفي محطات أخرى تذهب الرؤى الى مشاهدات ووعي جديد لما يطرحه المكان على ذاكرتي وخواطري وقدرتي القصصية على وصف المكان من شتى الزوايا ..
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غاليلو يتأرجح من بندول ويتصل بالهاتف المحمول
-
السابح في العطر
-
ماتخيله ماكس مالوان في مقبرة أور المقدسة..محاكاة لعودة الأنك
...
-
يوم تولد الشمس علينا أن نفطم القمر
-
لتفاصيل السرية للحظة موت أبي
-
تصور بنزرتي لموت روائية وأميرة
-
أناشيد مندائية ..عندك يتوقف رقاص الساعة وينسى العالم أوجاعه
-
المندائية ..(الماء والطهارة والأيحاء )..المدونات أتموذجا
-
رسالة انترنيت الى القديس البابا يوحنا الثاني
-
.. بابا من الورد ..بابا من الآس ..بابا من خبز العباس
-
كيف تولد الأعنية .. الطور الصبي أنموذجاً
-
أغنية البرتقالة ومدينتنا العزيزة دبي
-
مكاشفة الروح الكبيرة للروح الصغيرة..ايها الولد للآمام الغزال
...
-
!تضاريس وجه المونليزا ..( مقاربة حسية مع وجه الوردة )..ا
-
.. بعد فيلم آلام المسيح لبيل جيبسن..من أصلح لعمر الشريف ..دو
...
-
الفنان أحمد زكي ذاكرة مصر السمراء وفرعونيتها المدهشة
-
الشعر يرثي مشهد قتل وردة ..
-
ذكريات رواقم حوض بنجوين
-
أور المدينة التي ولد فيها إبراهيم الخليل ع
-
المقهى السومرية والخوذة الأيطالية
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|