|
السلطة التنفيذية هى السلطة الحقيقية الوحيدة فى مصر
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4077 - 2013 / 4 / 29 - 09:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
1: توازُن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة من الناحية النظرية الخالصة: تتألف الدولة من الناحية النظرية البحتة من ثلاث سلطات مستقلة ومتوازنة هى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فالسلطة التشريعية وظيفتها إصدار القوانين، والسلطة التنفيذية وظيفتها تنفيذ هذه القوانين عن طريق إدارة البلاد وفقا لها (تحت رقابة السلطة التشريعية على التزام السلطة التنفيذية بتنفيذ هذه القوانين والخطط والبرامج الموضوعة والموازنات بما يتفق معها)، والسلطة القضائية وظيفتها تطبيق هذه القوانين للفصل فى الدعاوى القضائية المرفوعة أمامها، وللسلطة القضائية هيئة دستورية عليا (محكمة، مجلس، إلخ.) للفصل فى دستورية القوانين وتفسيرها والرقابة على تطبيقها فى التشريعات والقوانين بما يتفق مع الدستور، الذى تضعه جمعية أو هيئة أو لجنة تأسيسية للدستور ملتزمة بدورها بالقوانين أو المبادئ أو القواعد الملزمة jus cogens، باعتبارها، رغم كل خلاف حول تحديد هذه القواعد أو المبادئ مثل حظر الإبادة الجماعية، القرصنة البحرية، الاستعباد بصورة عامة (ليشمل العبودية وتجارة العبيد)، التعذيب، الحروب العدوانية والتوسع الإقليمى، فهذه القواعد والمبادئ هى المرجعية العليا لدستورية الدساتير ذاتها. ومن المنطقى تماما أن يرفض أنصار المرجعية العليا المتمثلة فى الشريعة الإسلامية، كل مرجعية أخرى، مكتفين بمرجعيتهم المقدسة لأنها "إلهية وربانية وسماوية"، ولأن "الحاكمية للَّه"، ولأن "القرآن دستورنا". 2: التشريع للسلطة التنفيذية وليس لملحقها التشريعى المسمَّى بالپرلمان: هذا من الناحية النظرية الخالصة، أىْ من ناحية الأوهام القانونية والدستورية للأيديولوچيا الليبرالية، أما الواقع الفعلى فشيء آخر مختلف تماما، ويمكن أن نتبيَّنه من الوصف البسيط المبسط التالى: بافتراض تقيُّد الدستور بالقوانين أو المبادئ أو القواعد الملزمة المشار إليها أعلاه، وبالتالى بافتراض دستورية الدستور، نجد السلطة التشريعية تبحث مشاريع القوانين التى ترسلها السلطة التنفيذية كلَّها أو معظمَها إلى السلطة التشريعية ولأن الأغلبية الپرلمانية الحزبية أو الائتلافية هى التى تحكم وتتشكل الحكومة منها فإنها تقوم بإقرار هذه المشاريع التى تصير قوانين من السلطة التشريعية، من الپرلمان، من حيث الإصدار مع أنها قوانين من السلطة التنفيذية، من الحكومة ووزاراتها وأجهزتها، من الدولة، من حيث الإعداد والإنتاج الحقيقيَّيْن، ومن حيث قدرة السلطة التنفيذية على إلزام الپرلمان بإصدارها؛ ولهذا فإنها فى حقيقتها قوانين حكومية وليست قوانين پرلمانية. والاستنتاج البسيط هو أن السلطة التشريعية إنما هى فى حقيقتها فرع من السلطة التنفيذية، وفى هذه الحالة لا يعدو الپرلمان أن يكون مكتبا تشريعيا للسلطة التنفيذية، ووظيفة من وظائفها. ولهذا لم تشهد مصر مذابح للپرلمان مثلما شهدت مذابح للقضاء، حيث لا يتم حلّ الپرلمان إلا لأسباب قانونية إجرائية وليست سياسية. وهنا استنتاج بالغ الخطورة وهو أن السلطة التنفيذية ليست مدعوَّة، من الناحية الفعلية، إلى تنفيذ قوانين وتشريعات تأتى من سلطة أخرى خارجها تتمثل فى سلطة تشريعية حقيقية، أىْ فى پرلمان حقيقى، بل هى مدعوَّة إلى تنفيذ قوانين وتشريعات تأتى من داخلها، من داخل الدولة والحكومة ووزاراتها وأجهزتها، من داخل السلطة التنفيذية ذاتها. كما تغدو الرقابة الپرلمانية إذن رقابة من السلطة التنفيذية على السلطة التنفيذية عَبْرَ مكتبها التشريعى المسمَّى بالپرلمان! والحقيقة أن الپرلمان المصرى الآن ليس فقط غير مستقلّ وليس فقط غير حقيقى وليس فقط مكتبا تشريعيا ملحقا بالسلطة التنفيذية وليس فقط خاضعا خضوعًا تامًّا لهذه السلطة بل هو "تلفيق" مباشر لپرلمان. وكان مجلس الشورى منذ البداية كيانا غريبا عجيبا، من اختراع السادات، ليست له أىّ وظيفة تشريعية أو پرلمانية حقيقية أو حتى وظيفة تشريعية شكلية كتلك التى تمتَّعَ بها مجلس الشعب. وفى الانتخابات الپرلمانية الأخيرة 2011-2012 تمَّ انتخاب مجلس الشورى بأقل من سبعة ملايين صوت، كما أنه تمَّ انتخابه بنفس قانون الانتخاب الذى أدَّى "عُوارُه" إلى قيام المحكمة الدستورية بحلّ مجلس الشعب، ويعنى هذا فقدانه للشرعية مع مجلس الشعب وهو ما لم يتحول إلى قرار من المحكمة الدستورية العليا التى حاصرها حكم الإخوان تفاديا لحلّ كلٍّ من مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، من خلال عربدة إخوانية سلفية "فاجرة". وليس هذا كل ما فى الأمر. ذلك أن العربدة "الفاجرة" لرئاسة الجمهورية على قمة حكم الإخوان المسلمين قامت بصورة خارجة على كل دستور وعلى كل قانون وعلى كل عُرْف بإسناد سلطة التشريع إلى مجلس الشورى، ولم تكتف بتلفيق وظيفة التشريع لمجلس الشورى وبإقحام هذا التلفيق فى صُلْب الدستور الإخوانى السلفى، بل تجاوزت كل الحدود بمحاولة إضفاء قيمة زائفة على مجلس الشورى بتوسيعها عدديا بتعيين تسعين عضوا بقرار رئاسى مباشر. 3: السلطة القضائية تطبِّق قوانين مصدرها السلطة التنفيذية: ومن ناحية أخرى فإن هذه القوانين هى التى تلتزم بها وتتقيد بها السلطة القضائية (القضاء الطبيعى والقضاء الإدارى والنيابة والمحاكم الاستثنائية والعسكرية وكذلك القضاء الواقف) عند الفصل فى الدعاوى والمنازعات. وقد يبدو على السطح للوهلة الأولى أن السلطة القضائية ملتزمة بالقوانين التى أصدرتها السلطة التشريعية فى سياق الاستقلال المتبادل فيما بينهما. غير أن العِلْم، أىّ عِلْم، لا يقف عند ما يبدو على السطح بل يذهب باحثا عن الحقيقة الفعلية تحت السطح، عاملا على قطع المسافة بين ما يبدو على السطح وما يختفى تحته. وتتمثل الحقيقة المختفية هنا فى أن السلطة القضائية تطبِّق فى الحقيقة قوانين السلطة التنفيذية وليس قوانين سلطة تشريعية مستقلة، كما رأينا. وعلى هذا فإن ما يسمى ب "تغوُّل" السلطة التنفيذية ليس أمرا عارضا يخصُّ رئيسا أو حكومة بل يتمثل فى صميم تكوين البنيان القانونى للدولة التى لا تتألف من سلطات، تنفيذية وتشريعية وقضائية، متوازنة ومستقلة، رغم وحدةٍ عليا تجمعها جميعا، فهى دولة تقوم على "خضوع السلطتين التشريعية والقضائية" بصورة لا جدال فيها للسلطة التنفيذية. وبدلا مما يبدو على السطح من أن السلطة التشريعية هى التى تقف على رأس الدولة مُلْزِمَةً السلطتين التنفيذية والقضائية بتطبيق قوانينها، يتضح أن السلطة التنفيذية هى التى تجلس على العرش وتوظِّف السلطتين التشريعية والقضائية فى القيام بمهام بعينها لصالحها هى. 4: عجز القضاء عن الحكم العادل لأن القوانين تأتى من السلطة التنفيذية ولأن الأوراق والأدلة تقدِّمها أجهزتها: فكيف يحقق القضاء العدل؟ وبافتراضٍ لا مناص منه وهو أن الدولة تمثل فى المحل الأول مصالح الطبقة المالكة أو الحاكمة، وبافتراض أن السلطة التنفيذية هى صانعة القوانين التى تلتزم هى ذاتها بها وتلتزم بها كذلك السلطة القضائية، نكون أمام قوانين فرضتها مصالح طبقية، هى فى بلادنا مصالح الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية، ولن يكون من المنطقى بالتالى أن تكون هذه القوانين عادلة بحيث تقف إزاء كل طبقات المجتمع "على مسافة واحدة"، حسب التعبير المنافق الشائع المبتذل بعد الثورة عندنا. ومن شروط عدالة القضاء بطبيعة الحال أن يكون القانون عادلا ولكن هذا الشرط الذى يكفى غيابُه لنسف العدل من أساسه ليس الشرط الوحيد لعدل القضاء. ويقال إن القضاء يحكم حسب الأوراق المقدمة إليه؛ فَمَنْ الذى يقدم للقضاء تلك الأوراق؟ هناك الأجهزة الأمنية والمخابراتية التى تقدِّم أو تُخفى أو تفرم الأدلة وفقا لمصالح مسيطرة على السلطة والاقتصاد. وتعتمد النيابة العامة على الأدلة التى تقدمها تلك الأجهزة للنفى أو الإثبات. ومن ناحية أخرى فإن القضاء لا يتصدى إلا للفصل فى الدعاوى القضائية التى تُقام أمامه. وبالطبع فإن النيابة التى ليس أمامها إلا التسليم بما تقدمه أو تمنعه الأجهزة الأمنية والإدارية من أدلة إثبات أو نفى قد تعجز تماما عن رفع قضايا واضحة المعالم. وهناك إذن "مشاريع" دعاوى قضائية لا ترى نور القضاء أو تراه بعد تشويهها وطمس أدلتها. وبين سندان قانون غير عادل ومطرقة أجهزة تتلاعب بالأدلة، ب "الأوراق"، يغدو من العبث أن نتوقع خيرا من القضاء. على أن عدل القضاء قد يتحقق عندما يفصل القضاء بين الفقير والفقير أو بين الغنىّ والغنىّ لأن القانون لن يفرِّق بين فقير وفقير ولن يفرِّق بين غنىّ وغنىّ كما أن الأجهزة الأمنية لن تُفرِّق على الأغلب بين فقير وفقير أو بين غنىّ وغنىّ فى تقديم الأدلة. 5: ومع هذا فإن خضوع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية أقلّ نسبيا من خضوع السلطة التشريعية: غير أن خضوع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية لا يمكن إلا أن يكون أقلّ. والناحية العددية مهمة؛ وهنا تجرى مقارنة لصالح السلطة القضائية بالآلاف أو عشرات الآلاف من رجالها من قضاة ورجال نيابة وقضاء واقف يتمثل فى المحامين، بينها وبين السلطة التشريعية بالمئات من أعضائها. وفى مقابل طابع البحث عن المغانم عند مئات ممَّنْ يسمَّوْن ب "نواب الشعب"؛ نجد عشرات الآلاف ممَّنْ تربَّوْا تربية قانونية وصاروا البشر الحاملين لروح القوانين ومقتضيات الضمير، العاملين على تمحيص القوانين والأدلة وشهادات الشهود ليخرجوا، رغم القانون ورغم الأدلة المشوهة أو المطموسة أو الملفقة أو الغائبة عن طريق الحرق والتمزيق والفرم، بما يتفق مع ما تتوصل إليه اجتهاداتهم وتطمئن إليه ضمائرهم، مع التقيُّد الصارم بطبيعة الحال بالقانون من ناحية و"الأوراق" من ناحية أخرى. ولهذا فإننا إزاء مستوييْن من الخضوع من جانب السلطتين التشريعية والقضائية للسلطة التنفيذية، خضوعٍ مباشر صاغر من جانب "نواب الشعب" ممثلين للسلطة التشريعية، هذه الزائدة من زوائد السلطة التنفيذية، وخضوعٍ يقاومه الاجتهاد والضمير من جانب السلطة القضائية. وفى سياق حالة عامة من الفساد فى كل المجالات فى الدولة والمجتمع لا يمكن أن تنجو السلطة القضائية من نصيبها المقدور من هذا الفساد. وتغدو بعيدة تماما عن كل منطق تلك المقولة الشائعة التى تحظر على الناس ممارسة حقهم الطبيعى فى نقد أحكام القضاء فى كل مراحل التقاضى وحقهم الطبيعى فى مناقشة القضايا المنظورة أمام القضاء. وإذا كان القانون قابلا للنقاش والتجريح والتعديل والإلغاء، وكذلك الدستور ذاته، فكيف نقدِّس تقاضيا يجرى على أساس الدستور والقانون أو حكما قضائيا صدر على أساسهما، مع أن التقاضى والحكم القضائى قد يحدثان فى سياق عُوار الدستور والقانون، مضافا إليهما ظلم وطغيان وجبروت وفساد أجهزة السلطة التنفيذية والتى تتلاعب بالأدلة والأوراق بلا وازع من ضمير؟! 6: دور السلطة التنفيذية فى تأسيس الدستور وتعديله: ولأن جمعيةً تأسيسية للدستور هى التى وضعت الدستور الذى أقرَّه استفتاء شعبى فقد يبدو على السطح أن سلطة عليا تقف فوق السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، هى التى وضعت الدستور، القانون الأساسى، قانون القوانين، قدس الأقداس، مُلْزِمَةً كل سلطات الدولة بهذا القانون الذى يعلو على كل قانون، أىْ الدستور بحكم طبيعة السلطة "التأسيسية" التى وضعته (أىْ الجمعية التأسيسية للدستور)، وتم استفتاء الشعب عليه، بافتراض تقيُّد هذه الجمعية التأسيسية بالمبادئ القانونية المُلزمة التى تمنح الدستور دستوريته، وبافتراض تقيُّد الشعب المستفتى عليه بهذه المبادئ ذاتها لكى يتمتع الاستفتاء ذاته بقيمة شعبية حقيقية بعيدا عن تزييف إرادة الشعب. غير أننا نعرف كيف تمَّ ويتمُّ اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور، كما نعرف حالة عدم التسيُّس والافتقار إلى الوعى السياسى والدستورى والقانونى لدى الناخبين الذين يمثلون الشعب فى الاستفتاء. كذلك فإن طريقة تعديل الدستور تقوم على الدور المباشر للسلطة التنفيذية فى السيطرة على تطور الدستور. ويقتضى تعديل الدستور طلبا من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب وكذلك استفتاء الشعب، وفقا لدستور 1971، ويخفِّف الدستور الحالى شروط التعديل قليلا باشتراط خُمْس أعضاء مجلس النواب بدلا من الثلث إذا صدر طلب التعديل من مجلس النواب. وقد تمَّ إجراء التعديلات الدستورية اللاحقة لدستور 1971 فى عهود السادات فى 1980 و مبارك فى 2007 وما بعد مبارك فى 19 مارس 2011، وبعد ذلك أيضا، وفقا لطلب رئيس الجمهورية أو مَنْ يقوم مقامه. والحقيقة أن هذه العلاقة الأساسية المتصلة بدور السلطة التنفيذية قائمة فى كل مكان. وحتى الدستور الفرنسى يجعل طلب تعديل الدستور يأتى من "رئيس الجمهورية بناءً على اقتراح رئيس الوزراء"، ويلغى الاستفتاء "متى قرر رئيس الجمهورية عرضه على الپرلمان المنعقد فى مؤتمر"، على أن يكون التعديل ب "أغلبية ثلاثة أخماس". 7: الناخبون يمثلون ديمقراطية مباشرة شكلية: ومقابل التفوق العددى لرجال السلطة القضائية على رجال السلطة التشريعية، وسِمَتِهم المتمثلة فى الاجتهاد القانونى العلمى وفى ضمائرهم مقابل الطابع الارتزاقى لأغلب "نواب الشعب"، نجد أن ل "نواب الشعب" بدورهم قاعدة انتخابية جماهيرية أوسع كثيرا جاءت بهم إلى "الپرلمان". ويمكن القول إننا هنا إزاء ما يمكن أن نسميه بالديمقراطية المباشرة المتمثلة، عندنا، كما فى كل بلد آخر باستثناء البلدان التى ما تزال خارج لعبة الديمقراطية الپرلمانية، فى أن كل مَنْ بلغ ثمانية عشر عاما فى مصر يصير بصورة تلقائية، بحكم العمر وحده، عضوا فى القاعدة الپرلمانية التى يصل عددها إلى حوالى خمسين مليونا فى مصر فى الوقت الحالى. وهذا الپرلمان الكبير هو الذى يشارك جانب نشيط سياسيا منه فى الاستفتاءات وفى انتخاب الپرلمان الصغير المتمثل فى مجلس "نواب الشعب". فلماذا يأتى پرلمان "نواب الشعب" دائما ممثلا ليس لمصلحة الشعب بل للمصلحة العليا للرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية العالمية حتى مع تسرُّب أعداد من الممثلين الحقيقيِّين لقطاعات من الشعب إلى الپرلمان؟ غير أن هذه القاعدة الجماهيرية الواسعة من الناخبين تموج بكل ما يخترق صفوفها من سياسات وأيديولوچيات طبقات على رأسها أيديولوچيا الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة، كما تلعب القوى الكبرى للصحافة والإعلام والمال بعقولها وأهوائها وتعمل بصورة منهجية على تضليلها ورشوتها وإبعادها عن مصالحها الحقيقية كجماهير شعبية. 8: لماذا تتشبَّث مختلف القوى السياسية حتى فى زمن الثورة بالمشاركة فى انتخابات للوصول إلى پرلمان لا قيمة حقيقية له: فلماذا تُصِرّ مختلف القوى السياسية من إسلاميِّين وليبراليِّين وقوميِّين ويسار وما يسمَّى ب "الفلول"، على المشاركة فى الاستفتاءات على الدستور أو على غيره والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، خاصةً وأن السلطة التشريعية تفتقر، كما سبق القول، إلى أىّ أهمية حقيقية، بالإضافة إلى حقيقة أن هذه الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية إنما هى إستراتيچية الثورة المضادة لإبعاد الثوار والثوريِّين عن الفعل الثورى الإضرابى فى سياق عمليات وآليات وإستراتيچيات التصفية التدريجية للثورة؛ لتفادى الحرب الأهلية إدراكا من الثورة المضادة لحقيقة أن الحرب الأهلية تدمِّر الحكام قبل المحكومين، وتدمِّر الطبقة الرأسمالية ودولتها وسلطتها ونظامها قبل الطبقات الشعبية؟ ولأن هذه القوى السياسية والثورية تدرك جيدا، بالغريزة أو بالعلم السياسى، أن السلطة الحقيقية هى السلطة التنفيذية، فلا مناص من افتراض أن الوصول إلى هذه السلطة التنفيذية هو دون غيره الهدف الحقيقى للقوى السياسية والثورية من وراء المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات. 9: الانتخابات الپرلمانية والرئاسية طريق وهمى للوصول إلى السلطة التنفيذية للدولة: ومن المنطقى والتاريخى أن تكون الانتخابات الپرلمانية والرئاسية طريقا إلى الوصول إلى سلطة الدولة (وهو ليس الطريق الوحيد على كل حال بل هناك طريق الانقلابات العسكرية وطريق القيادة التى تأتى بها الشرعية الثورية دون انتخابات فورية أو مبكرة أو مبتسرة). ومن الطبيعى أن تكون القوة السياسية الأكثر شعبية ونفوذا ومالًا وتنظيما ودعاية هى المؤهلة دون غيرها لانتزاع السلطة التنفيذية وتحقيق الأغلبية الپرلمانية التى تشكل الحكومة وهى التى تبصم على مشاريع القوانين الآتية من السلطة التنفيذية التى تعمل على أساس قوانين وضعتها بنفسها من خلال مكتبها التشريعى المسمى بالپرلمان وهى القوانين التى تفرضها السلطة التنفيذية عَبْرَ هذا الپرلمان على السلطة القضائية أيضا. فالقوى السياسية والثورية التى تعتمد سياسة المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية إنما تهدف من وراء هذه المشاركة إلى الوصول إلى السلطة التنفيذية فهى قدس أقداس الدولة وهى السلطة الحقيقية التى يقتضى الوصول إليها المرور عَبْرَ "مَطْهَر" سلطة ثانوية أو حتى تافهة أو وهمية من سلطات الدولة هى تلك المسماة بالسلطة التشريعية. ولأن هذه السلطة التنفيذية هى سلطة دولة الطبقة الرأسمالية التابعة، سلطة دولة الثورة المضادة، فإن من المنطقى تماما أن تسعى قوى الثورة المضادة التى تمثل قطاعات مختلفة من الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية إلى المشاركة فى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية. وتدور المعركة الانتخابية بين مختلف القوى السياسية المتعارضة التى تتصدى لمحاولة التمثيل السياسى لهذه الطبقة. فالمشاركون إذن من يمين إسلامى أو ليبرالى أو قومى أو يسار إنما يسعون إلى السلطة: وسعْى بعض هذه القوى إلى السلطة قد يقوم على حسابات وتقديرات جيدة وقد يقوم على أوهام عريضة لا تبررها الحسابات والتقديرات الدقيقة. وهذه الأوهام هى على وجه الخصوص قسمة اليسار الذى يقوم سعيه إلى الوصول إلى السلطة على الأوهام فلا يصل إليها بل لا يكون سعيه الخائب إلى الوصول إليها، من الناحية الفعلية، سوى الإضفاء، دون مقابل، للشرعية على الانتخابات وبالتالى على السلطة وبالتالى تمكين السلطة الجديدة من "غزو" سلطة الدولة ممثلةً فى السلطة التنفيذية، المركز الحقيقى والوحيد للحكم الطبقى. غير أن اليسار بالذات كثيرا ما يحرِّكه إلى المشاركة فى الانتخابات دافع نبيل يدل على النزاهة وإنكار الذات ويتمثل فى الرغبة من وراء المشاركة ليس فى سلطة أو مغانم بل فى المساهمة فى توعية وتسييس الجماهير الشعبية وإيقاظها على قضاياها الأساسية. غير أن هذا يكون موقفا عاما سليما تماما فى الأوقات العادية وليس فى زمن الثورة حيث تنصُبُ الثورة المضادة مصيدتها الانتخابية لجذب الجماهير الشعبية بعيدا تماما عن الفعل الثورى، كما سبق القول. وبطبيعة الحال فإن المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات موقف مشروع وسليم فى غير زمن الثورة: للدعاية، لانتخاب أشخاص وإنْ قليلين إلى ما يسمَّى بالسلطة التشريعية ولكنها فى سياق استخدامها من جانب الثورة المضادة كآلية إستراتيچية لتصفية الثورة ليست سوى مشاركة فى الثورة المضادة. غير أن هناك قوى أو عناصر أو زعامات قومية تقدِّم نفسها على أنها تنتمى إلى اليسار لا تريد من وراء الانتخابات سوى الوصول إلى السلطة لتمثيل نفس الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية متسلِّحةً دون شك بأوهام ذاتية عريضة بأنها ستُقيل مصر من عثرتها وتنهض بالبلاد وتقيم دولة ومجتمع "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية". والحقيقة أن سراب أوهام تحقيق الديمقراطية المندمجة فى صميم بنيان الدولة من الناحية "النظرية"، ونجاح الثورة فى غضون فترة قياسية من إسقاط رئيس الدولة من الناحية العملية، ظلَّا يغذِّيان سير الثورة فى طريق تحقيق نظام ديمقراطى داخل صميم بنيان الدولة ذاتها، وظلّ كل هذا يغذِّى أفكار المشاركة فى الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الرئاسية والپرلمانية، وأوقع كل هذا قوى مهمة فى الثورة فى مصيدة المشاركة فى إعداد الدستور والانتخابات الرئاسية والپرلمانية، تلك المصيدة التى نصبتْها الثورة المضادة لتصفية الثورة عن طريق الانحراف بها عن طريق الفعل الثورى وتوجيهها إلى طريق النضال الپرلمانى، طريق الشرعية الدستورية، وهو، بامتياز، طريق مواصلة السير على نفس طريق أسس الشرعية التى كانت ضرورة الثورة ذاتها تتمثل فى إسقاطها! وهكذا عجزت قوى الثورة بحكم عفويتها ولكنْ أيضا بحكم عدم النضج الكافى عند معظم قياداتها، وحتى القيادات الأكثر وعيا بينها، عن اكتشاف حقيقة أن الديمقراطية فى ظل رأسمالية استعمارية أو تابعة لا تكون فى أحسن الأحوال أكثر من ديمقراطية فوقية من أعلى فيما بين مجموعات الطبقة الحاكمة وضد الشعب، من ناحية، وديمقراطية شعبية من أسفل تقاومها وتصارعها، من ناحية أخرى. وبدلا من التركيز على خلق وتطوير نضالات وأدوات وأسلحة بناء الديمقراطية الشعبية من أسفل جرى التركيز من جانب الثورة على الركض العبثى وراء وهْم تحقيق الديمقراطية فى الدولة والمجتمع من خلال طريق النضال الپرلمانى بالمشاركة التى اعتقد الثوار أنها الموقف الثورى الإيجابى ضد المقاطعة السلبية العدمية فيما ظلُّوا يزعمون! وبدلا من أوهام تحويل الثورة إلى دولة "ديمقراطية"، كان ينبغى إدراك أن استمرار الثورة يعنى الاستمرار بها كثورة وبالأخص عدم تحويلها إلى دولة: والدولة والثورة نقيضان لا سبيل إلى الجمع بينهما. 10: فى أفضل الأحوال ... ديمقراطية من أعلى للرأسماليِّين فقط وديمقراطية من أسفل تتمتع بثمارها الجماهير الشعبية: وهناك دائما ديمقراطيتان ممكنتان فى ظل الرأسمالية: ديمقراطية طبقية فوقية من أعلى تتمتع بها مجموعات وأفراد الطبقة الحاكمة، وديمقراطية شعبية جماهيرية من أسفل يتمتع بثمارها الشعب. غير أن هاتين الديمقراطيتين الفوقية والتحتية تتعرضان كثيرا للإضعاف تحت ضربات قاصمة: ظهور حكم الديكتاتور أو الشخص يؤثر فى مستويات الديمقراطية داخل الطبقة الحاكمة كما يتجه مباشرة بالطبع إلى إضعاف وسحق وتصفية الديمقراطية الشعبية من أسفل بصورة جذرية أشد وطأة من الديكتاتورية الفوقية العادية للطبقة. وبالمقابل فإن الديمقراطية الشعبية من أسفل قد تَضْعُف فى ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتحت الضربات الپوليسية القمعية، الأمر الذى يسمح بشراسة القمع والاضطهاد من جانب الديكتاتورية الفوقية العادية للطبقة أو لحكم الديكتاتور أو الشخص أو الزعيم القائد "الفوهرر" أو "الدوتشى" أو بالألقاب الأخرى المتنوعة لنفس المعنى. 11: متى ولماذا يحدث نوع من التوازنٍ فيما بين سلطاتٍ تنفيذية وتشريعية وقضائية مستقلة نسبيا رغم وحدتها: وبالطبع فإننا نشهد نوعا من توازنٍ ما بين سلطاتٍ تنفيذية وتشريعية وقضائية مستقلة نسبيا رغم وحدتها يتحقق فى كثير من الأحوال، فى كثير من بلدان العالم، فلا تكون السلطة التنفيذية رغم تفوقها السيد المطلق. ويوجد پرلمان مستقل نسبيا عن السلطة التنفيذية فى هذا البلد أو ذاك عندما تكون هناك قوتان سياسيتان متوازنتان كما يحدث فى البلدان الصناعية المتقدمة باستثناءات واسعة جدا بصورة عامة أو فى فترات خاصة فحيث لا يوجد حزبان قويان أو تحالفان حزبيان أحدهما فى الحكم والآخر فى المعارضة لا يوجد پرلمان حقيقى: الفاشية فى ألمانيا وإيطاليا والياپان وبلدان أخرى، روسيا السوڤييتية وما بعد السوڤييتية وبلدان نفس النموذج مثل الصين الشعبية، وفيها جميعا تكون للسلطة التنفيذية السيادة المطلقة وتكون الكل فى الكل. ورغم وجود پرلمان مستقل نسبيا وقضاء مستقل نسبيا، فى ظل ما يسمَّى بالديمقراطية البورچوازية، فإن وحدة سلطات الدولة تكمن فى واقع أنها جميعا أداة فى يد الطبقة الحاكمة، كما أن تزييفها جميعا لإرادة الشعب يرتبط فى الحقيقة بواقع أن آلية ديمقراطية الطبقة الرأسمالية الكبيرة فيما بينها تقوم على استغلال فقر الناخبين وعدم تسييسهم وتزييف وعيهم وسعيهم التنافسى مع أحزابهم إلى الوصول إلى المغانم الاقتصادية والنفوذ السياسى والسيطرة الفكرية والتلاعب بعقول الجماهير. أما وجود پرلمان "حقيقى" فى بعض بلدان العالم الثالث فيرجع إلى وجود حزبين متوازنين أو قبيلتين متوازنتين أحد الحزبين أو إحدى القبيلتين فى الحكم بينما الحزب القوى الآخر أو القبيلة القوية الأخرى فى المعارضة. أىْ أنه لا يمكن تفعيل المبادئ النظرية المنمَّقة للدستور إلا عند وجود علاقات قوة متوازنة بين الحكم والمعارضة على أرض الواقع الاجتماعى الطبقى المادى، الواقع الاقتصادى والسياسى والثقافى القائم بصورة فعلية. وعلى هذا فإنه يمكن الحديث عن أن ديكتاتورية الطبقة الحاكمة، الرأسمالية الإمپريالية أو الرأسمالية التابعة، لها شكلان: شكل الديمقراطية الفوقية، من أعلى، فيما بين قطاعات وقوى وأحزاب الطبقة الرأسمالية الكبيرة، وشكل ديكتاتورية القائد الملهم على طبقته وعلى الشعب جميعا، والشكلان يمثلان الديكتاتورية الطبقية الفوقية للرأسمالية التى تقاومها وتصارعها الديمقراطية الشعبية من أسفل. 12: شرط ظهور الپرلمان المستقل نسبيا والقضاء المستقل نسبيا: وهناك بالطبع أوضاع خاصة استثنائية ... على سبيل المثال نجد الصراع يحتدم الآن فى مصر بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية بعيدا عن خضوع الأولى للثانية، وتصدر بصورة متواصلة أحكام قضائية تتحدى رغبة رئاسة الجمهورية، ومكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين. ويرجع هذا إلى نفس أسباب مذابح القضاء إزاء هجوم سلطة غاشمة لإخضاع القضاء بطرق غير مقبولة، كما يحدث الآن حيث تتناقض حرب "التمكين الإخوانى" الخاطفة مع مصلحة القضاء والقضاة فى سياق حرب على خلفية تصفية الثورة بين الثورة المضادة والثورة المضادة! بين معسكريْن لنفس الثورة المضادة، لنفس الطبقة الرأسمالية الكبيرة! أما القسمة العامة للعالم الثالث فهى وجود قوة اجتماعية بالغة الجبروت والنفوذ فى السلطة دون أن تُوازِنَها قوة متكافئة معها، ودون أن يقوم إلى جانب حزبها السياسى الكلى الجبروت حزب حقيقى أو تحالف كبير يوازنه بين أحزاب حقيقية ذات شأن. أما الاستثناء الهندى (حزبان متنافسان قويان) أو الاستثناءات الأفريقية (قبيلتان متنافستان قويتان أو قبيلة قوية توازنها مجموعة من القبائل الأقلّ عددا وقوة وتماسُكا كما فى كينيا وزيمبابوى وغيرهما) فيحكمها نفس القانون: توازن القوى الاجتماعية والسياسية المتكافئة على الأرض. ويؤدى الصراع المتكافئ بين قوتين كبيرتين فى الانتخابات والممارسات الپرلمانية إلى وجود پرلمان غير خاضع للسلطة التنفيذية بل تتغذى هذه التوازنات والصراعات على توازن بين معسكريْن داخل الطبقة الحاكمة. على أن هذا لا يعنى وجود ديمقراطية فى هذه البلدان فالديكتاتورية الطبقية فى كل الأحوال ديمقراطية فوقية من أعلى أىْ فيما بين قطاعات وأقسام ومجموعات وحيتان الطبقة الحاكمة، وهى ديكتاتورية فى مواجهة الشعب والديمقراطية الشعبية من أسفل فى أوضاع الثورة كما فى الأوضاع العادية. 13: علاقات القوة الاجتماعية والسياسية الفعلية على الأرض والوجود المادى الفعلى لقوتين متكافئتين للطبقة الرأسمالية ذاتها، وليس الدساتير، هى أساس وجود نوع من التوازن بين سلطات الدولة: نستنتج مما سبق أن علاقات القوة الاجتماعية والسياسية الفعلية على الأرض: انفراد قوة واحدة للرأسمالية الكبيرة بالسلطة أو توزيعها على قوتين متكافئتين لهذه الطبقة ذاتها، من أعلى، من ناحية، ووجود أو عدم وجود ديمقراطية شعبية من أسفل، من ناحية أخرى هى التى تحسم التوازن أو عدم التوازن بين سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية. وتختلف حالة العلاقات النسبية بين هذه السلطات للدولة بين البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان التابعة. ففى البلدان الأولى ديمقراطية من أعلى بين مجموعات الطبقة العليا وديمقراطية شعبية من أسفل جرى انتزاعها وتحقيقها فى سياق ثورات سياسية شعبية ثم جرى بعد ذلك تطويرها وصونها وحمايتها بنضالات طبقية تاريخية متواصلة بعيدة المدى وطويلة الأمد. وبالطبع فإن وجود ديمقراطية داخلية بين الطبقة الحاكمة حتى مع وجود مستوًى ما من الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الجنوب أو الشرق لا يعنى أن هذه الحالة تتساوى مع حالة "الديمقراطية" فى الشمال أو الغرب. ذلك أنه عندما يَعُمُّ بؤس الجماهير وحرمانها من أسفل فإن هذه الجماهير تكون بعيدة عن التمتُّع بديمقراطية من أسفل خاصةً وأن الرأسمالية التابعة المتخلفة لا تقوى بحكم تخلفها وتدنِّى إنتاجها وإنتاجية العمل فيها على الوفاء بضرورات تغذية الديمقراطية الشعبية من أسفل حتى بمستويات معيشة تليق بالبشر؛ وناهيك بالحقوق والحريات الفردية والجماعية واستقلال القضاء وحرية الصحافة. وفى هذا العالم الثالث نجد أنفسنا فى معظم الأحيان إنْ لم يكن فيها جميعا حتى فى أحسن الأحوال إزاء سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية غير متكافئة مع تفوُّقٍ ساحق للسلطة التنفيذية. 14: إذا كان الشرط العام لوجود أو غياب حزبين قويين متنافسين أو قوتين كبيرتين متنافستين للطبقة الرأسمالية الكبيرة وراء وجود أو عدم سلطة تشريعية وسلطة قضائية مستقلتين نسبيا عن السلطة التنفيذية؛ فمتى يوجد أو يغيب فى بلد من البلدان هذا الشرط العام لوجود سلطة تشريعية وسلطة قضائية مستقلتين نسبيا عن السلطة التنفيذية؟: وهناك مسألة مهمة سأكتفى هنا بفقرة وإنْ طويلة عنها مع أنها تستحق البحث المتأنى الطويل المتعمق. متى يوجد أو يغيب فى بلد من البلدان هذا الشرط العام لوجود سلطة تشريعية وسلطة قضائية مستقلتين نسبيا عن السلطة التنفيذية؟ أىْ بكلمات أخرى: ما الشرط العام لوجود أو غياب حزبين قويين متنافسين أو قوتين كبيرتين متنافستين للطبقة الرأسمالية الكبيرة؟ والنقطة السهلة جدا هنا هى الحالة الأفريقية، حيث توجد فى دولة ما، كما خلقهما الله منذ آلاف السنين، قبيلتان قويتان متنافستان بالضرورة أو تحالفات قبلية تنقسم إلى معسكرين متنافسين. وكما هو معروف فإنه يتم إجراء الانتخابات فى كينيا أو زيمبابوى مثلا فى سياق رقابة صارمة من جانب القبيلتين المتصارعتين فيمتنع التزوير المباشر، وتظهر نتائج متقاربة للانتخابات فيعلن كل من المرشحيْن للرئاسة فوزه وتبدأ التوترات ثم يبدأ الاقتتال، وتحدث تدخلات فى سبيل المصالحة تنتهى فى العادة إلى تقاسُم السلطة، وإلا تدور رحى الحرب الأهلية حتى النهاية بالانتصار الساحق لأحد المعسكرين. ويحدث الشيء ذاته فى الانتخابات الپرلمانية. أما البلدان الصناعية فى الشمال أو الغرب فإنها تقوم على تحوُّل رأسمالى طويل سبق الثورة السياسية وانطلق بعد ذلك بفضل آليات التحوُّل الرأسمالى وبفضل دور هذه الثورة السياسية فى إزالة العراقيل من طريقه. وقبل وبعد الثورة السياسية (وحتى بدونها فى حالة النموذج الپروسى اليونكرى كما تحقق فى الياپان) تنشأ آلية رشيدة عن تحرُّر الطبقة الرأسمالية الصاعدة من الاستبداد والحكم المطلق التقليديين لملوك وأمراء وعواهل أوروپا، وعن الاختلاف الطبيعى بين مجموعات وقطاعات وأفراد وأحزاب الطبقة الرأسمالية الكبيرة الواحدة حول طريقة حل القضايا والمشكلات الكبرى التى تواجه هذه الطبقة، وتواصل هذه الآلية تطورها وينشأ بفضلها بصورة تاريخية تراكمية حزبان رأسماليان كبيران متنافسان وتنشأ إلى جانبهما أحزاب أقل جماهيرية أو ذات جماهيرية كبيرة ولكنْ غير متكافئة مع تحالف الحزبين الرأسماليين الكبيرين معا ضدها، كما كان الحال مع أحزاب شيوعية أوروپية كبرى. كما تنشأ على طريق الثورات الرأسمالية وبالأخص من خلال الثورات نفسها ديمقراطية شعبية من أسفل تتطور فى مواجهة الرأسمالية الكبيرة بصورة تاريخية وتعمل دائما دفاعًا وهجومًا على حماية وتوسيع وتطوير نفسها. وهنا نجد فى هذه البلدان ثالوثا سياسيا من القوى يتألف من حزبين متنافسين للرأسمالية الكبيرة يتداولان سلطة الدولة بالإضافة إلى القوة الدفاعية والهجومية للديمقراطية الشعبية من أسفل فى مواجهتهما. ويغيب هذا الشرط العام للديمقراطية البرچوازية فى أحوال بالغة التنوع فتقوم ديكتاتورية فاشية أو إدماجية (كورپوراتية) أو مطلقة مثل أمثلة سبقت الإشارة إلى كثير منها. وهنا يسود الحكم الديكتاتورى المطلق للحزب الواحد المباشر أو المموَّه بالتزيُّن بأحزاب هزيلة وخاضعة حوله. على أن الحزب الواحد لا يكون حزبا سياسيا حقيقيا لأن شرط الحزب الحقيقى هو أن يوجد ضمن الإطار العام لحياة سياسية تعددية راسخة. وإنما يكون ما يسمَّى بالحزب الواحد مثل الحزبين الشيوعيين السوڤييتى أو الصينى، أو الحزب الاشتراكى القومى النازى الهتلرى، جهازا ملحقا بأجهزة الدولة وخاضعا لها بعيدا عن أن يكون حزبا حقيقيا. وهنا تكون الممارسة السياسية "الحزبية" والانتخابية مهزلة تقوم على أقصى التزييف لإرادة الشعوب. وبالطبع فإن هذه الأشكال القصوى للديكتاتورية الرأسمالية هى التى توجِّه أقسى وأقصى الضربات للديمقراطية الشعبية من أسفل. ولكنْ كيف ينشأ "غياب" الانقسام السياسى للطبقة الرأسمالية الحاكمة إلى قوتين كبيرتين متنافستين أو حزبين سياسيين كبيرين، أو كيف يجرى فقدان انقسام كان قائما بين حزبين أو قوتين فى دولة ومجتمع؟ أما الفقدان فيحدث نتيجة نجاح انقلاب سياسى شامل من خلال انقلاب عسكرى أو انتخابات أو نجاح ثورة كالثورة البلشڤية أو الصينية، وقد يقتصر هذا الفقدان على فترة قصيرة كما كان الأمر فى حالة ألمانيا النازية، أو على فترة أطول كما كان الأمر فى حالة إيطاليا الفاشية، وقد يتواصل على مدى عقود طويلة كما كان الحال فى روسيا والصين. أما الغياب الأصلى المتأصل فيرجع إلى غياب التحول الرأسمالى الحقيقى، وإلى غياب الانقسام بين قبيلتين أو قوتين كبيرتين متكافئتين متنافستين فى دولة من الدول، وإلى ماضٍ استعمارى اعتمد على قبيلة كبيرة أو قوة اجتماعية كبيرة فحقق لها السيادة والتفوق، وإلى عدم رشادة الطبقة الحاكمة التابعة وتشبُّثها بالاحتفاظ المحافظ على الأساليب الفوقية العتيقة فى الحكم، وهذه هى الحالة التى تسود فى أفريقيا وفى البلدان التابعة فى العالم الثالث. أما الانقسام فى الطبقة الحاكمة إلى قطاعين كبيرين أو حزبين كبيرين، كما هو الحال فى الهند، وفى بعض المستعمرات أو أشباه المستعمرات السابقة التى يقف فيها تحوُّلٌ رأسمالىٌّ فى منتصف الطريق كما هو الحال فى البرازيل، فإنه الاستثناء العالم الثالثى الذى يعتمد من الناحية الجوهرية على أوضاع التبعية الاقتصادية فلا يمثل قطيعة مع نظام الحكم السائد فى العالم الثالث لأنه يقف على أرض من البؤس والحرمان والفقر والجهل والمرض حتى مع مستوياتٍ من تطور الديمقراطية الشعبية من أسفل. 15: أهمية النظر إلى السلطة التنفيذية من داخلها من حيث علاقات القوة بين مختلف مؤسسات وقطاعات وأجهزة السلطة التنفيذية؛ وبتعبير آخر: الغلبة داخل السلطة التنفيذية للمؤسسة العسكرية أم لمؤسسات أخرى؟ غير أن من الضرورى ألَّا نكتفى بالنظر إلى علاقات القوة المختلة فيما بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لصالح السلطة التنفيذية، بل من المهم جدا أن ننظر إلى السلطة التنفيذية ذاتها من داخلها من حيث علاقات القوة بين مختلف مؤسساتها وقطاعاتها. والسلطة التنفيذية سلطة من سلطات الدولة، ولهذه الأخيرة، أعنى الدولة، معنيان فهناك الدولة بمعنى الإقليم الجغرافى داخل حدود دولية ومتبادلة الاعتراف مع مختلف دول العالم بنفس المعنى وهذا هو مفهوم القانون الدولى للدولة، غير أن الدولة بالمفهوم الاجتماعى السوسيولوچى الطبقى، بوصفه المجتمع السياسى المتميِّز عن المجتمع المدنى، هى مجموع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية من إدارة حكومية وجيش وشرطة ودستور وقانون وپرلمان وقضاء، والدولة بهذا المعنى هى أداة حكم الطبقة وأداة استغلالها، على أن هذه الدولة لا تغادر التاريخ إلا مع قيام مجتمع خالٍ من الطبقات الاجتماعية، وإلى جانب وظيفتها الإدارية والقمعية والاستغلالية فإن لها وظيفة صُنْع الاستقرار الضرورى للاستغلال وهى وظيفة تخفيف وتلطيف الصراعات الطبقية لكىْ لا تستفحل وتتفاقم، وبدون الدولة ينقلب المجتمع الطبقى إلى غابة وحشية ليس فى جوهره كما هو حاله دائما بل فى معطيات ومظاهر حياته المباشرة. والسلطة التنفيذية للدولة بمعناها السوسيولوچى ليست كتلة جرانيتية صماء مصمتة بل تشتمل على مؤسسات وأجهزة وقطاعات مختلفة الوظائف ومتفاوتة القوة. وهنا يظهر دور الجيش والقوات المسلحة والأجهزة المخابراتية والأمنية. وليس عندنا فقط بل فى العالم كله دور أساسى للجيوش فى الحكم والسيطرة الطبقية ويخفف من وطأة هذا دون أن يلغيه وجود پرلمان مستقل وقضاء مستقل فى البلدان الصناعية المتقدمة. ولم تتطور القوة الاقتصادية والإدارية للجيش المصرى فى عهد عبد الناصر، رغم عسكريته وشعبيته معًا، وفى عهد السادات، رغم عسكريته وفلسفة "يا طابت يا اتنين عُورْ" التى كان يتبناها، وعهد مبارك، رغم عسكريته ورغبته التى لا تشبع ولا ترتوى فى وضع يده على كل ثروة لم تقع بعدُ فى يده. ذلك أن كل هذه العهود وكذلك عهد الرئيس المخلوع اللاحق محمد مرسى، اعتمدت فى حكمها على القوة العسكرية والسيطرة الإدارية للجيش، فكان عليها جميعا أن تسترضيه وترضيه بالمزيد والمزيد من المكاسب. والاستنتاج من المعطيات الوصفية لقوة ودور الجيوش فى كل بلدان العالم بلا استثناء هو أن التوازن مفقود أيضا داخل مؤسسات وقطاعات السلطة التنفيذية حيث يبرز دور المؤسسة العسكرية وأجهزتها المخابراتية والأمنية فى الحكم حتى فى البلدان الصناعية المتقدمة رغم وجود استقلال نسبى للپرلمان والقضاء بكل ما ينتج عن هذا من تحسُّن نسبى فى حالة القوانين والحريات والحقوق ومختلف جوانب الديمقراطية الشعبية من أسفل. أما الاستنتاج السياسى الأساسى فهو أنه ما دامت السيطرة الفعلية داخل السلطة التنفيذية وبالتالى فى الحكم تكون للجيش سواء أكان الحكم العسكرى مباشرا أو غير مباشر من خلال حكومة "مدنية" ما بمستويات متنوعة من الخضوع والامتثال أو التوترات والصراعات، فإن الجيش يظل الحاكم الحقيقى فى سلطة الرأسمالية المتقدمة وبالأخص التابعة، وهو لا يخرج من الحكم إلا عندما يحلّ محله جيش شعبى عبْر ازدواج السلطة فى الطريق مثلا إلى نظام رأسمالية الدولة باسم الاشتراكية. أما الخلاص من الحكم العسكرى فلا يكون إلا فى مجتمع لا طبقى تذهب فيه الدولة بسلطتها التنفيذية بما فى ذلك جيشها جنبا إلى جنب مع الپرلمان والقضاء إلى متحف ما قبل التاريخ. ومع أن نضالنا ضد كل سلطات الدولة، التنفيذية (بما فيها العسكرية) والتشريعية والقضائية، وضد الحكم العسكرى المباشر وغير المباشر إلا أن من الواجب أن ننطلق دائما من إدراكٍ واضحٍ بكل أبعاد قضايا الدولة والثورة. وقد شهدنا فى مجرى ثورتنا أن نقل السلطة من الحكم العسكرى إلى الحكم "المدنى" فى منتصف 2012 كان بمثابة مسرحية هزلية حيث بقيت السيطرة الفعلية فى أيدى الجيش رغم الحكم الإخوانى، والتمكين الإخوانى، والأخونة الشاملة فى سياق حرب خاطفة؛ وسرعان ما تكشف وسوف تكشف التطورات الحالية واللاحقة عن هذه الحقيقة عما قريب. 16: على خلفية التصفية التدريجية لثورة 25 يناير 2011 الشعبية .. حربٌ بين الثورة المضادة والثورة المضادة: فماذا نستنتج من كل هذا فيما يتعلق بالصراع الراهن المحتدم على خلفية الثورة السياسية الشعبية الجماهيرية فى مصر بين قطاعين عريضين من قطاعات الثورة المضادة، بين حزبين متنافسين للرأسمالية الكبيرة، يتصارعان على الانفراد بسلطة الدولة فى سياق إستراتچيات وتاكتيكات القوة الدفاعية والهجومية لقوى الثورة وسعيها العنيد إلى إقامة الديمقراطية الشعبية الوليدة من أسفل على طريق التصفية التدريجية للثورة؟ وينتج الانقسام الحاد هنا بين هذين القطاعين للرأسمالية الكبيرة والثورة المضادة ليس عن الأسباب التقليدية التى أتينا على ذكر بعضها أعلاه لانقسام الطبقة الرأسمالية المتقدمة ببداهة أننا إزاء رأسمالية تابعة، ولا على أرضية انقسام ديموجرافى طبيعى إلى قبائل كما هو الحال فى عدد من بلدان أفريقيا. والحقيقة أن الانقسام إلى قوتين كبيرتين للرأسمالية الكبيرة التابعة عندنا كانت له نشأته الخاصة. ذلك أن ما برز كأساس للانقسام على قمة الهيراركية الطبقية فى عدد من البلدان من أبرزها مصر قد تمثَّل فى النشوء التدريجى لقطاع من الرأسمالية الكبيرة يتألف من رأسماليِّين جدد يتبنون أيديولوچيا دينية سياسية حيث تبلور قطاع رأسمالى إخوانى سلفى. وقد أدى تطور هذه الظاهرة إلى نشأة الإسلام السياسى فى ارتباط وثيق مع أساسه المادى المتمثل فى الملكية الرأسمالية كقسم من الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية لعدد كبير من كبار الرأسماليِّين الكومپرادوريِّين فى المحل الأول. وهنا برزت وتطورت شعارات "الإسلام هو الحلّ" و"الحاكمية لله" و"مرجعية الشريعة الإسلامية" للدستور على أساس الشعار الإخوانى التقليدى التاريخى "القرآن دستورنا". "الإسلام هو الحلّ"؛ لأىّ مشكلة أو لأىّ قضية؟ ظلت الفكرة عند هذا التيار الدينى السياسى هى أنه لا حلَّ لكل قضايانا وأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية إلا الحكم بالشريعة الإسلامية. وفى مجال الدعاية الموجَّهة لاستمالة الطبقات الفقيرة إلى الإسلام السياسى جرى تقديم هذا الإسلام على أنه الحل الذى سيضع حدًّا لفقر الفقراء وبؤس البؤساء والظلم الواقع على المظلومين ويقيم دولة العدالة الاجتماعية. لقد حدث إذن انقسام أساسى داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة بين رأسماليِّين قوميِّين أو وطنيِّين ورأسماليِّين إسلاميِّين بقيادة الإخوان المسلمين. غير أن القوة الساحقة اقتصاديا وأمنيا للنظام فى عهود الرئاسات السابقة وبالأخص فى عهد مبارك، عندما صارت الرأسمالية الإخوانية السلفية ظاهرة فعلية، لم تسمح لهذه الظاهرة بالحصول على أكثر مما منحته لهم أو حرمتهم منه صفقات متنوعة انتخابية وغير انتخابية دون أن تشكل ظاهرة الرأسمالية الإسلامية قوة كبيرة منافسة ومناطحة لقطاع الحزب الوطنى داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة وفى الدولة والمجتمع. أىْ أن الأيديولوچيا الدينية السياسية هى التى أوجدت هذا الانقسام وليس الآليات التاريخية للتبلور الفكرى والسياسى التى ظلت تُغذِّى الخلاف والانقسام أمام القضايا الكبرى التى أدت بالتالى إلى ظهور ورسوخ قوتين اقتصاديتين اجتماعيتين سياسيتين كبيرتين داخل الطبقة الرأسمالية المتقدمة فى سياق التقدم التاريخى فى أوروپا وفى مناطق انتشارها فى باقى العالم. وكان لا مناص من صدام عندما يأتى أوانه بين الرأسماليين القوميِّين (التابعين للإمپريالية دون شك) والرأسماليِّين الإسلاميِّين (التابعين بدورهم للإمپريالية دون شك)، غير أن أجل هذه الاستحقاقات كان يمكن أن يكون طويلا لولا ثورة يناير 2011. ويمكن القول، قبل كل شيء، إنه حالما تفجرت الثورة الشعبية، تحولتْ الطبقة الحاكمة أو المالكة بالأحرى، لأنها ظلت تحكم ليس بالذات بل بالواسطة، إلى ثورة مضادة، ولأن هذه الطبقة الحاكمة أو المالكة، هذه الطبقة الرأسمالية التابعة، أىْ الثورة المضادة، رغم "توافقها" بكل قطاعاتهاعلى إستراتيچيا التصفية التدريجية التى خططها وطبَّقها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وجدتْ نفسها أمام فقدان أىِّ توافُقٍ أيديولوچى، وتركَّز الشِّقاق بالأخص حول طريقين للحكم: طريق الأيديولوچيا القومية الپراجماتية التابعة للإمپريالية التى سيطرت طوال عقود، وطريق الأيديولوچيا الدينية الإسلامية، الإخوانية السلفية، التابعة للإمپريالية بدورها، والپراجماتية أيضا، وكان وَضْع الناخبين فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية أمام خيار بالغ الاستقطاب بين هذين الطريقين أو الاتجاهين، بين الإخوانى محمد مرسى والعسكرى أحمد شفيق، كاشفًا للغاية. واحتدم الصراع قبل وبعد الحكم الإخوانى بين الطريقين أو الاتجاهين أو الفكرين، رغم التحالف الكبير بينهما لتصفية الثورة. وبفوز محمد مرسى، بدأت عملية كبرى تتمثل فى أخونة الدولة والمجتمع: السيطرة الإخوانية بلا منازع على الرئاسة والحكومة والپرلمان والمحافظات وكل منصب حكومى رفيع، ويتواصل كل هذا على قدم وساق بطريقة الحرب الخاطفة (بليتسكريج). وصارت المعادلة المادية الفعلية للحكم على الأرض تتمثل فى السيطرة الفعلية للجيش والحكم المباشر للإخوان المسلمين. ورغم المظاهر؛ فإن الإطاحة بالقيادة العليا للجيش (طنطاوى و عنان وغيرهما) كانت حركة نابعة من داخل الجيش لتجديد القيادة وإبراء ساحة الجيش من فشل المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارة البلاد ولإنقاذ سمعة الجيش ومصالحه الواسعة، الأمر الذى استوجب العمل على استعادة "ثقة الشعب العفوية" بالجيش. ومنذ ذلك الحين، ظل ازدواج السلطة على القمة قائما بين جيش لا يمكن، من ناحية، الخلاص من حكمه المباشر وغير المباشر، إلا عندما يتحقق بالفعل على الأرض مجتمعٌ خالٍ من الطبقات الاجتماعية، وبين أيديولوچيا دينية سياسية، من ناحية أخرى، قامت بتوظيف مشاركتها المتأخرة فى مظاهرات واعتصامات الثورة، فى التفاوض مع مبارك ثم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أجل التحالف مع مبارك أو خلفائه لجعل هذا "التحالف" من أجل تصفية الثورة أداة القفز إلى السلطة. ومن هنا فإنه لم يكن من شأن تحالف الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يكون خالصا صافيا خاليا من المنغصات الصغيرة والكبيرة بحكم الصراع على النفوذ وعلى السلطة لانتزاع مساحات أوسع للحركة والتمكُّن والتمكين. وفى هذا السياق العام من التحالف والصراع المتواصلين منذ أواخر 2011، منذ انتخابات 2011-2012 الپرلمانية بوجه خاص، وإلى الآن، بين قوتين كبيرتين تعمل إحداهما على استعادة السلطة وتعمل الأخرى على الاحتفاظ بسلطتها الجديدة وتوسيعها وتمكينها، وتعملان كلاهما على تصفية الثورة الشعبية. وصار النظام القديم الذى يتألف من الأقسام الحاسمة من الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية، والمؤسسة العسكرية والشرطة والأجهزة الأمنية "العميقة"، والقضاء، والفضائيات والصحف الخاصة، والأحزاب الليبرالية اليمينية والقومية بقدر سعيها إلى تولِّى التمثيل السياسى للرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية، معسكرا للثورة المضادة، بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة والمخابرات و"قيادات" القوى السياسية الليبرالية والقومية المشاركة وغير المشاركة فى جبهة الإنقاذ. وصار الإسلام السياسى الرأسمالى الكبير التابع للإمپريالية من إخوان مسلمين وسلفيِّين وجهاديِّين بكل أنواعهم ومعهم بصورة مطلقة الإعلام الدينى الإخوانى والسلفى وإلى حد كبير الإعلام الرسمى: الإذاعة الرسمية، والتليڤزيون الرسمى بأرضياته وفضائياته، والصحافة، بفضل الأخونة الحثيثة للصحافة والإعلام، معسكرا للثورة المضادة بقيادة مكتب الإرشاد ورئاسة الجمهورية والحكومة الإخوانية وكبار موظفيها من محافظين وغيرهم فى سياق أخونة الدولة. ويدور الصراع الحالى بين هذين القطاعين الرأسمالى القومى التابع والرأسمالى الإسلامى التابع، بين هاتين الثورتين المضادتين اللتين تتصارعان على السلطة رغم كل ما هو مشترك بينهما كطبقة واحدة ورغم الهدف الكبير المشترك بينهما والمتمثل فى إلحاق الهزيمة بثورة يناير 2011 السياسية الشعبية وتصفيتها وحفر هوة سحيقة لدفنها نهائيا. 17: ينبغى أن تكون الديمقراطية الشعبية من أسفل الهدف الواعى للثورة: وثورتنا ليست ثورة اشتراكية، كما أنها ليست ثورة اجتماعية. ويتفق الجميع تقريبا على أننا لسنا أمام ثورة اشتراكية، غير أن الكثيرين يعتقدون أنها ثورة اجتماعية (قاصدين مع ذلك نوعا من الثورة الاشتراكية)، والحقيقة أن ما لا يختلف عليه إلا قليلون هو أن ثورتنا ثورة سياسية شعبية كبرى. غير أن سياقها التاريخى هو الذى يكشف بوضوح حقيقة طبيعتها. ولا شك فى أنها ثورة سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية؛ لماذا؟ لأن الثورة تفجرت فى بلد تسوده رأسمالية تابعة للإمپريالية، فى بلد تابع تسوده التبعية الاقتصادية وكل مُتلازمتها من التبعيات الأخرى السياسية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها. فهى إذن ثورة فى غير سياق الثورة الاجتماعية التى نسيء فهمها فنظن أن الإصلاحات الاجتماعية مثل تحسين مستويات المعيشة أو الإصلاح الزراعى هى الثورة الاجتماعية. وهذه الأخيرة هى الثورة التى تنقل مجتمعا من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر؛ من المشاعة البدائية إلى العبودية، أو من العبودية إلى الإقطاع، أو من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وفى سياق هذه الثورات الاجتماعية وبعد أن تنضج تماما وتتجذر تحوُّلاتها على الأرض تأتى الثورة السياسية التى تزيل عقبات من طريق هذه التحولات. والثورة الاجتماعية هى الثورة الحقيقية والشيء المهم، ولم تكن الثورة الاجتماعية فى الياپان بحاجة إلى ثورة سياسية. والثورة الاجتماعية ليست عاصفة مفاجئة تنقضّ على مجتمع كما تفعل الثورة السياسية. إنها بالأحرى ثورة تدريجية بطيئة ممتدة على قرون أو عقود فى أماكن أخرى بفضل منجزات تلك القرون من التقدم. ولأن ثورتنا السياسية لم تأتِ فى سياق ثورة تنقل من الرأسمالية التابعة إلى رأسمالية متقدمة لأن الثورة الاجتماعية التدريجية البطيئة الممتدة لم تحدث عندنا حيث حلت محل احتمالها معادلة "الثورة السكانية بدون ثورة صناعية"، ولم تحدث عندنا ثورة صناعية بأىِّ معنى من المعانى على حين أن الثورة السكانية هى الواقع الذى نعيشه ونعانيه. ولأن السياق التاريخى هو العدوُّ الأول لثورتنا، وكذلك للثورات السياسية فى العالم الثالث، فإن من الأهمية بمكان أن ندرك ما يمكن أن نخرج به كنتيجة إيجابية أساسية أولى لهذه الثورة وأعنى: الديمقراطية الشعبية من أسفل فهذه الثمرة فقط هى ما تخرج به الشعوب من ثوراتها (غير الاشتراكية بالطبع). فهذه الشعوب لا تصل إلى الحكم بل تصل فقط إلى الديمقراطية الشعبية من أسفل ولم تخرج الشعوب الأوروپية إلا بها من ثوراتها البرچوازية. ومشكلة ثورات عالمنا الثالث أكبر بما لا يقاس لأنه حتى المكاسب المتمثلة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل تتبخر بسرعة بالغة إلى حدّ أن بحثنا فى الأنحاء الشاسعة للعالم الثالث، حاملين ميكروسكوپات، عن آثار وبقايا كبيرة للديمقراطية الشعبية من أسفل فى بلدان العالم الثالث سيكون بلا جدوى. وبدون النجاح فى تحويل مصر من خلال تصنيعها وتحديثها بسرعة وحسم إلى بلد رأسمالى حقيقى ومستقل ومتحرر من التبعية الاقتصادية فإنه لا أمل بطبيعة الحال فى قدرة الاقتصاد على أن يوفَّر مستويات معيشة آدمية للمصريَّين، بفضل إضافة ثروة جديدة وليس بتوزيع الفقر الأزلى والبؤس الأبدى القائمين بالفعل بمتلازمة الفقر والجهل والمرض. وبدون التحرر من التبعية الاقتصادية فإن مصر لن تكون بلدا مستقلا، فالاستقلال الذى نتباهى به الآن ليس سوى الاستقلال الدستورى فى إطار القانون الدولى بعيدا تماما عن الاستقلال الحقيقى. وبالطبع فإن غياب سياق الثورة الاجتماعية، أىْ غياب الثورة التى لا تعنى سوى تحقُّقها على الأرض قبل تفجُّر الثورة السياسية، عامل كئيب للغاية فى ثورتنا، كما فى مختلف ثورات العالم الثالث، وسيكون علينا للوصول إلى بلد صناعى مستقل أن نسير على درب الاستثناء على النموذج الغربى كما كان الحال فى النمور الآسيوية بكل أنواعها؛ أىْ مثل النمور الآسيوية الأصلية الأربعة (بدون التعاون مع أمريكا) أو مثل الصين (بالطبع بدون التعاون مع الاتحاد السوڤييتى الذى صار سابقا منذ أكثر من عقديْن من الزمان). وعندما يتحقق التصنيع والتحديث المستقلان على الأرض فى مصر سيكون الباب مفتوحا أمام السير إلى الأمام، على أن علينا أن ندرك جيدا ضخامة العقبات التى تقف حجر عثرة فى طريقنا: السيطرة الاستعمارية الأمريكية على العالم، أزمة الرأسمالية حتى فى مركزها العالمى، التراجع التاريخى للعالم الثالث بنتائج كارثية نخشى مجرد الإشارة إليها. 18: احتمالات الحرب التى تتجمَّع نُذُرُها الآن فى مصر بين الثورة المضادة "القومية" والثورة المضادة "الإسلامية": لا يدرك الإخوان المسلمون والسلفيون أن سفينتهم غارقة على حين أن مَنْ يدركون هذا منهم ومن حولهم يهرولون إلى مغادرة هذه السفينة الغارقة. وقد نجح مكتب الإرشاد ومسئوله فى الرئاسة تحويل العلاقات بين الإخوان المسلمين وحلفائهم إلى الخصومة ثم فى تحويل الخصومة إلى عداء مستحكم لم تَعُدْ تُجدِى محاولة حلحلته. ويتواجه فى الحرب الأهلية المحتملة، كما تقدَّم، معسكران قومى وإسلامى. وقد قاد الجهل بحقائق السياسة والاقتصاد والإدارة الإخوان المسلمين، ضد مصالحهم، إلى حالة يمكن أن تؤدى إلى القضاء على وجودهم فى مصر كجماعة وليس فقط كحكم. وكانوا يقولون فى البداية إنهم سيُرشحون إلى الپرلمان للحصول على ما لا يزيد على ثلاثين فقط فى المائة من عدد أعضاء الپرلمان، وإنهم لن يُرشحوا أحدا من بينهم لرئاسة الجمهورية، وكان من شأن هذا أن يجعلهم يتفادون الأزمة التى تواجههم الآن وتهدِّد بقاءهم. ولأن التكافؤ مفقود بين المعسكرين لصالح المعسكر "القومى" فإن من المتوقع ألَّا تكون الحرب ممتدة كما حدث فى بلدان عربية أخرى، وكما يحدث الآن فى سوريا، بل يمكن أن تكون أقرب إلى الحرب الخاطفة. وصار من المستحيل تفادى هذه الحرب إلا بفضل تراجُع إخوانى شامل على كل الجبهات التى تأتى رئاسة الجمهورية على رأسها، وعلى مستوى استثنائى من ضبط النفس من جانب المعسكر "القومى". ولا شك فى أن من مصلحة الثورة أن تتحرَّر مصر من الحكم الدينى الإسلامى، الإخوانى السلفى، ولا شك فى أن الثورة تواصل نضالاتها ضد الحكم الدينى. غير أن على الثورة أن تتفادى تماما أىّ نوع من التنسيق أو التحالف مع المعسكر الآخر. وفور التحرُّر من الحكم الدينى، من الإخوان المسلميين برئاستهم، وجماعتهم، ومكتب إرشادهم، وپرلمانهم الملفَّق، وحلفائهم، والفِتَن التى يُشعلونها فى مصر، ستكون الثورة أمام تحدياتها الأصلية من جديد، حيث سيقوم المعسكر "القومى" التابع والمعادى للثورة بمواصلة العمل على قدم وساق لتصفية الثورة،وسيحلّ محل الإخوان المسلمين كغطاء سياسى جديد القوى السياسية غير الإسلامية التى تبدو الآن، تبدو فقط، كأنها جزء لا يتجزأ من الثورة. وما لم تنتبه الثورة إلى مصلحتها فى تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل وحمايتها وتطويرها من خلال النضالات الطبقية، كشرط مسبَّق لتحقيق الأهداف الكبرى اللاحقة الكامنة والمتأصلة فى ديناميات الثورة، فإن الثورة ستضيع وستضيع معها ثمارُها وبشارتُها بمستقبل آخر مختلف. وعلينا قبل كل شيء، فى سبيل تفادى ضياع الثورة، أن نستمرّ بالثورة كثورة، وليس بتحويلها إلى دولة! 29 أپريل 2013 بقلم: خليل كلفت
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توبة قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
قصة قاسية قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
جميل جميل قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
طائر السنونو قصيدة للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
جَذَرَ جَذْرا وجذَّر تجذيرا وتجذَّر تجذُّرا (مناقشة على هامش
...
-
نجمة الصباح
-
النجمة
-
الحيوان
-
عريان
-
السندباد (من أحلام النوم واليقظة)
-
تعويذة
-
تخفيف الحكم
-
هل التظاهر أمام مكتب الإرشاد فى المقطم كُفْر؟!
-
ببليوجرافيا خليل كلفت حسب دار النشر
-
النظام القديم والثورة الفرنسية
-
إلى كارولينا قصيدة (سوناتا): ماشادو ده أسيس، مهداة إلى زوجته
...
-
فراو ڤيلكه قصة: روبرت ڤالزر ترجمة: خليل كلفت
-
كلايست فى تُونْ - قصة: روبرت ڤالزر
-
ماكس هوركهايمر والنظرية النقدية*
-
الحوار مع مرسى خط أحمر
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|