|
عن العلمانية مرَّة أخرى
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 4077 - 2013 / 4 / 29 - 09:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من المُخجل، حقيقةً، أن نكون في مجتمعاتنا العربية، غارقين في صراعٍ فكريٍ عقيمٍ حول معنى العلمانية وتاريخها، ناهيك عن جدوى تطبيقها في أنظمة حكمنا، فهل العلمانية عصيَّةٌ على الفهم إلى هذا الحد؟ أم هي واضحةٌ وجليَّةٌ إلى الحد الذي يجعل الكثيرين يتخوفون منها؟ من الواضح بالنسبة إليّ، أنَّ مفهوم العلمانية ما يزال مشوهًا إلى حدِّ كبير جدًا في أذهان الكثيرين، وغالبًا ما يتم ربط العلمانية بالكفر والمعاداة للأديان، وهذا هو منهج الجماعات الدينية الأصولية، التي تسعى إلى استخدام سلاح التكفير كوسيلةٍ أثبتت نجاحها الكبير في مجتمعاتنا ذات التوجه الديني العاطفي، وبالتالي حسم المعركة لصالحها حتى قبل أن تبدأ المعركة بشكل فعلي. في هذا المقال سوف أشرحُ العلمانية مرَّة أخرى بنوعٍ التبسيط؛ متناولين أهم خصائص العلمانية، وأهم الانتقادات التي توجه إليها.
وقبل أن أبدأ في شرح العلمانية علينا أن نعرف الفارق الجوهري والأساسي بين (المجتمع) و (الدولة)؛ فالمجتمع والدولة ليسا شيئًا واحدًا، فالمجمتع هو مجموعة الأفراد، والدولة هو الكيان السياسي أو النظام الذي يحكم وينظم حياة هؤلاء الأفراد بما يضمن لهم الأمن والحريات الأساسية. فلو افترضنا أنَّ هنالك عشرين فردًا، ذوي اتجاهات فكرية وعقدية مختلفة على النحو التالي: 1) عمر (مُسلم سُني) طبيب جراح 2) علي (مُسلم شيعي) طيّار حربي 3) معاوية (مُسلم سُني) أستاذ جامعي 4) حسين (مُسلم شيعي) دكتوراه في العلوم السياسية 5) فاروق (مُسلم سُني) طبّاخ 6) سعيد (مسيحي) مؤلف موسيقي 7) جرجس (مسيحي) مشرف تربوي 8) فاطمة (مُسلمة سُنية) أخصائية تغذية 9) ليندا (مسيحية) طبيبة عامة 10) مروان (مُسلم إباضي) لاعب كرة قدم 11) جاسم (مُسلم إباضي) كهربائي 12) شريف (مسيحي) مستشار قانوني 13) صالح (مُسلم صوفي) صاحب محل خضروات 14) عباس (لاديني من أصول إسلامية) مهندس مدني 15) فريد (مسيحي) صيَّاد 16) مروان (مُسلم سُني) جزار 17) محمود (مُسلم سُني) نجار 18) حامد (مُسلم سُني) مهندس إلكترونيات 19) حمدان (مُسلم إباضي) دكتوراه في الاقتصاد 20) أحمد (مُسلم سُني) سائق سيارات فورملا ون
فإنَّ النتيجة الديموغرافية التي نتحصل عليها هي كالتالي: 1) عدد 14 مُسلم 2) عدد 5 مسيحيين 3) عدد 1 لاديني
من الواضح أنَّ المسلمين هم الغالبية في هذا المجتمع المكوّن من عشرين شخصًا، وبالتالي فإنَّ كلًا من المسيحيين (وعددهم 5) واللادينيين (وعددهم 1) يُشكلون أقلية في هذا المجتمع، وقد يبدو من البديهي جدًا أنَّ الأغلبية هي من يجب أن تحكم، إذا أردنا أن يكون لهذا المجتمع نظامًا ينظم شؤون حياتها، ولكن كيف يُمكن إدارة هذا المجتمع بشكل ديمقراطي دون أن يحصل أيّ تغوّل من الأغلبية على حقوق الأقلية؟ بل وماذا تعني الديمقراطية أصلًا؟ هل تعني حكم الأغلبية فعلًا؟ إذا قلنا: "نعم" فإنَّ هذا يعني أنَّ عدد 6 من أفراد هذا المجتمع سوف يكونون محكومين حكمًا ديكتاتوريًا، أو كما يُسمى: ديكتاتورية الديمقراطية، لأنَّ هؤلاء إذا لجأوا إلى الاقتراع (حسب الديانة) فسوف تكون الأصوات لصالح المُسلمين بلاشك، لأنهم هم الأكثرية العددية، وهذا أمر بديهي جدًا، فهل هذه هي الديمقراطية: الاقتراع والتصويت؟
الآن؛ إذا تغاضينا عن المعنى الحقيقي للديمقراطية، وقلنا إنَّ الديمقراطية هي حكم الأغلبية، وتم اختيار الإسلام (دين الأغلبية) كمصدر للتشريع للحكم في دولة هذا المجتمع، فإنَّ أول الاختلافات التي سوف تواجهنا هي اكتشاف أنَّ ليس كل المُسلمين على اتفاق؛ لماذا؟ لأنَّ التوزيع الديموغرافي للمسلمين في هذا المجتمع هو على النحو التالي: 1) عدد 8 سُنة 2) عدد 2 شيعة 3) عدد 3 إباضية 4) عدد 1 صوفي
وبالضرورة فإنَّ فَهْم كلٍ صنفٍ من هؤلاء للإسلام مختلف تمامًا عن فهم الآخر، وقد يرى كل منهم أنَّ الآخرين ليسوا مسلمين أصلًا، وفي هذه الحالة فإنَّ السُنيين السبعة سوف يرون أنَّهم يعيشون وسط 13 كافرًا (أو غير مُسلم) وكذلك الشيعة الثلاثة سيرون أنَّهم يعيشون وسط 17 كافرًا (أو غير مُسلم) بينما سيرى الصوفي أنَّه يعيش وسط 19 شخصًا بعيدًا عن حضرة الله ومحبته الحقة ومعرفة الإسلام الحقيقي.
لاحظوا أنَّ هذه التصنيفات لم تكن موضوعة في الاعتبار عندما كان الاقتراع والتصويت في بدايته بين أفراد المجموعة كاملة، فكان المُسلمون هم الأغلبية، ولكن عندما نرى الأمور من زاوية نظر السُنيين الآن، فإنهم سوف يصبحون 7/20 أي أقلية! فكيف للأقلية أن تحكم؟ وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة أو الصوفي؛ هذا نوع مُبسط لفهم الانتهازية الدينية في الانتخابات، فعندما يكون الغرض هو الوصول إلى السُّلطة فإنَّ الفروق بين السُّنة والشيعة تتلاشى أو تنعدم، ويكون الاتفاق على الديانة هو الأهم، وعندما يُصبح المسلمون (أو أيّ جماعة دينية أخرى) في السُّلطة يُصبح الاتفاق على المذهب والطائفة شرطًا أساسيًا. وهنا ينطبق المثل القائل: "أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"
ولكن وبصرف النظر عن كل ذلك فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن في هذه المرحلة: "كيف لسبعة أشخاص أن يُحددوا مصير ثلاثة عشر شخصًا؛ دون أن يكون ذلك حُكمًا ديكتاتوريًا؟" مع مراعاة أنَّ من بين هذه المجموعة نساء لا يحق لهن الترشح للرئاسة، وإدارة الحكم (حسب وجهة نظر البعض). إجابة السؤال السابق سوف تكون واحدة إذا عرفنا أنَّ كل شخص من هؤلاء يعتقد ويُؤمن تمامًا بأنَّ دينه وتشريعات دينه هي من الله، وبالتالي فهي الأصلح، وهكذا فإنَّ السُني سيرى أنَّ فهمه للدين هو الأصح؛ وبالتالي فإنَّ طريقة تطبيقه للشريعة هي الأصلح، وكذلك الشيعي؛ فما هو الحل عندها؟
يُصبح السؤال التالي في الأهمية: إذا توافق المُسلمون بين أنفسهم بطريقةٍ ما، فكيف يُمكن تطبيق الشريعة الإسلامية (بصرف النظر عن كونها سُنية أم شيعية أم صوفية) على غير المُسلمين؟ ما هو موقف اللاديني مثلًا في مجتمع كهذا؟ وإذا عقد البرلمان الإسلامي اجتماعًا ليُقرر قتل اللاديني لأنَّه مُرتد ومُجاهر بالكفر مثلًا، فإنَّ الأغلبية سوف توافق على ذلك: 8 سُنة في مقابل 6 ما بين شيعة وإباضية بالإضافة إلى الصوفي، وما هو موقف بقية الفرق الموجودة في هذا المجتمع من قضية قتل المرتد؟ سنجد في النهاية أنَّ 8 فقط من أصل 11 شخص هم من يقولون بضرورة قتل المرتد، فهل هذا الحكم يُمكن أن يعتبر ديمقراطيًا؟ وربما في ظل مجتمع كهذا يُصبح السؤال الأساسي والمُلح: أليس حق الحياة أعظم وأهم من حق التدين أو الاعتقاد؟
تأتي العلمانية لتقول بكل بساطة: إذا كانت المُشكلة هي في فهمنا للدين أو حتى في تطبيقنا له، وإذا كان هذا الفهم يختلف من شخص لآخر ومن طائفة لأخرى، ومن مذهب لآخر، وبالتالي فإنَّ تطبيقه لن يكون سليمًا للبقية بالضرورة؛ فإنَّ الأفضل أن نترك هذه الأفهام المختلف حولها، ونطبّق قوانين (ائتلافية) أو (توافقية)، بإمكانها أن تسري على الجميع؛ بحيث تصب هذه القوانين في خدمة وحماية أفراد المجتمع بصرف النظر عن ديانتهم، لأنَّ المهم هنا هو الوطن والمواطن وليس الديانة. بمعنى أنَّ كونك مسلمًا أو مسيحيًا أو لادينيًا ليس هو ما يُحدد ما إذا كنتَ مواطنًا أم غير مواطن، أو ما إذا كنتَ صالحًا أم غير صالح، وإنما سلوكك الذي يرتبط بالآخرين سلبًا أو إيجابًا، فالمسلم إذا سرق أصبح مواطنًا غير صالح، واللاديني إذا بنى مدرسةً أصبح مواطنًا صالحًا، والعكس صحيح كذلك. فما هو القانون الذي يُمكن أن تتوفر فيه هذه الشروط، ويُمكن له أن يُحقق هذه المعادلة: القوانين الدينية أم القوانين الوضعية؟ الرد سوف يكون على حسب التوجهات الدينية، ولكننا لن نتمكن من الخروج من هذه الدائرة المعلونة: أيَّ دين؟ وأيَّ طائفة دينية؟ وأيَّ فهم ديني؟
يجتمع هؤلاء الأفراد العشرون ليبحثوا هذا الأمر، ويقرروا أن يُدير شؤونهم ستة أشخاص منهم، بشرط أن يتمتع هؤلاء الخمسة بالحكمة في إدارة الصراعات والمعرفة السياسية، والخبةر والتخصص؛ كلٌ في مجاله، فهم بحاجة إلى من يُدير: (1) الأمور المالية لهم، وآخر يُدير (2) الأمور الصحية، وآخر يُدير (3) الأمور التعليمية، وآخر يُدير (4) السياسة الخارجية، وآخر يُدير (5) الشؤون الثقافية والفنية، وآخر يُدير (6) التخطيط العمراني في البلدة. فسوف يجدون أنَّ: حمدان المُسلم الإباضي أنسب شخص لتولي إدارة الشؤون المالية بحكم تخصصه (دكتوراه في الاقتصاد)، بينما سيكون عمر المسلم السُني أنسبهم لتولي الشؤون الطبيَّة بحكم تخصصه كطبيب جراح، وهو في ذلك سيكون أنسب من ليندا المسيحية التي لا تمتلك خبرة طبيَّة؛ حيث أنها ما تزال طبيب عام. وسيكون جرجس المسيحي مُناسبًا لتولي المسؤولية التعليمية بحكم تخصصه كمشرف تربوي، وسيكون حسين المسلم الشيعي أكثرهم لتولي منصب وزارة الخارجية بحكم تخصصه (دكتوراه في العلوم السياسية) وأخيرًا لن يكون هنالك أنسب من سعيد المسيحي ليتولى إدارة الشؤون الثقافية لأنَّه مؤلف موسيقي وقريب من هذا المجال، في حين سيكون عباس اللاديني أنسبهم لتولي مسؤولية التخطيط العمراني لأنَّه مهندس مدني، فهو الأنسب.
لاحظوا أنَّ اختيار الناس لهذه المناصب مبنية فقط على الخبرة العملية والأكاديمية، وليست مبنية على أسباب دينية أو طائفية، ولكن هذا لا يعني أبدًا أنَّ أيّ شخص من هؤلاء سوف يُضطر للتخلي عن معتقداته أو أفكاره، فالفكرة ليست خدمة المُعتقدات وإنما خدمة المجتمع، ولن يستطيع أحد خدمة المجتمع في مجالٍ ما إن لم يكن مُناسبًا في ذلك المجال وعلى علاقة به، وبنظرةٍ سريعةٍ على هذه الحكومة التي تشكلت سوف نلاحظ أنَّ تشكيلة الحكومة هي على النحو التالي: 1) حمدان (مُسلم إباضي) دكتوراه في الاقتصاد (وزير مالية) 2) عمر (مسلم سُني) طبيب جراح (وزير الصحة) 3) جرجس (مسيحي) مشرف تربوي (وزير التربية والتعليم) 4) حسين (مسلم شيعي) دكتوراه في العلوم السياسية (وزير خارجية) 5) سعيد (مسيحي) مؤلف موسيقي (وزير الثقافة) 6) عباس (لاديني) مهندس مدني (وزير التخطيط العمراني)
فالحكومة مُشكلة من مسلم سُني وشيعي وإباضي، بالإضافة إلى مسيحي ولاديني، وكلهم في النهاية يخدمون مصلحةً واحدةً؛ وهي (الوطن)، مع احتفاظ كلٍ منهم بمُعتقده وفكره ودينه، وفي نفس الوقت فإنَّ أيًا منهم لا يستطيع أن يفرض آراءه الدينية ومعتقداته على الآخرين، على أنَّه ليس هنالك ما يمنعه من نشرها، ولهذا فإنَّ المجتمع قد يكون له دين؛ فنقول مثلًا: "المجتمع السوداني مُتدين بطبعه، أو بفطرته." كما هو مُتداول، ولكن الدولة ليس لها دين، فالعبارة التي نقرؤها في بعض دساتير الدول الإسلامية أو العربية: "يُعتبر الإسلام الديانة الرسمية للدولة." تُعتبر عبارة خاطئةً وغريبة، لأنَّ الدولة ليس لها دين، فالدولة لا تمارس شعائر دينية ولا تؤدي طقوس تعبديه كما قال الراحل الدكتور جون قرنق، ولكن أفراد المجتمع هم من يُمكن أن يُطلق عليهم توصيف (ديني) أو (لاديني)، وعلى هذا كذلك، فلا يُمكن أن تكون هنالك (دولة لادينية) أو (دولة إلحادية) هذا غير صحيح، كما نسمع البعض يقولون: "السويد دولة مُلحدة" هذه عبارة خاطئة، والصحيح: "الشعب السويدي شعب مُلحد" هذا إن كان التعميم جائزًا في الأساس.
هنالك (دولة دينية) أو (دولة علمانية) والدولة الدينية هي التي تفرض تشريعات طائفةٍ دينيةٍ معيّنةٍ على أفراد ذات الطائفة، وعلى أفراد طائفةٍ أخرى من ذات الديانة، أو حتى على أفراد من ديانة مختلفة؛ هذا إضافة إلى الأفراد الذين لا يدينون بأيّة ديانة إطلاقًا. هذه هي العلمانية ببساطة شديدة، وليس للعلمانية أي علاقة بالكفر والإلحاد، فالعلمانية موقف سياسي، بمعنى أنَّها (رأيي الشخص حول طريقة إدارة الدولة)، وأيِّ شخصٍ من أيِّ ديانةٍ أو من أيِّ خلفيةٍ فكريةٍ يُمكن أن يكون لديه رأي في طريقة إدارة الدولة، وعلى ذلك فإنَّه قد يكون هنالك مُسلم علماني، أو مسيحي علماني، أو مُلحد علماني، في أيَّ شخص بإمكانه أن يتبنى وجهة النظر العلمانية أو أن يُخالفها. نأتي الآن للسؤال الأهم، والأكثر حساسية: هل العلمانية ضد الأديان؟
الإجابة الواقعية على هذا السؤال هي: "لا" بل وعلى العكس تمامًا من هذه التهمة، فإنَّ العلمانية يُمكن اعتبارها الحارس الأمين على الأديان. كيف؟ ألم نقل قبل قليل إنَّ نظام الدولة أو الدولة نفسها لا دين لها، فكيف تكون العلمانية حارسة للأديان؟ الحقيقة إنَّ الدولة العلمانية تتعامل مع أفراد المجتمع من واقع أنَّهم مواطنون، وأنَّ لهم حقوقًا، وهي في ذلك تستند على منظومة طويلة جدًا من القوانين الوضعية والمواثيق والمعاهدات الدولية، ومن بينها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك اتفاقية حقوق المرأة وحقوق الطفل ومعاهدة إلغاء ومحاربة التمييز ضد المرأة، وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية؛ هذا إضافة إلى أيّ اتفاقيات ومعاهدات سوف تأتي لاحقًا.
الدولة تضمن لكل مواطن حقه وتمتعه بالحريات المنصوص عليها في هذه المواثيق والمعاهدات الدولية، من واقع نص المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص على الآتي: " Everyone is entitled to all the rights and freedoms set forth in this Declaration, without distinction of any kind, such as race, colour, sex, language, religion, political or other opinion, national or social origin, property, birth or other status. Furthermore, no distinction shall be made on the basis of the political, jurisdictional or international status of the country or territory to which a person belongs, whether it be independent, trust, non-self-governing or under any other limitation of sovereignty "(المصدر1) وترجمة هذا الكلام باختصار: "يحق لكل شخص التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بصرف النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه أو لغته أو توجهه السياسي .... إلخ" فالحقوق مكفولة للجميع وبالتساوي، وهذه المساواة ليست مبنية على حسب الديانة أو العرق أو التوجه السياسي كما في بعض التيارات الأصولية، وإنما هي مساواة دنيوية للجميع، وهذا هو ما نصت عليه المادة 7 من حقوق الإنسان: " All are equal before the law and are entitled without any discrimination to equal protection of the law. All are entitled to equal protection against any discrimination in violation of this Declaration and against any incitement to such discrimination. "(المصدر2) وترجمة ذلك باختصار: "الناس سواسية أمام القانون بدون أيَّ تمييز."
ومن ضمن هذه الحريات والحقوق المكفولة للإنسان، حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهذا ما تنص عليه المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: " Everyone has the right to freedom of thought, conscience and religion; this right includes freedom to change his religion or belief, and freedom, either alone or in community with others and in public or private, to manifest his religion or belief in teaching, practice, worship and observance. "(المصدر3) وترجمة ذلك باختصار شديد: "لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك تغيير الديانة أو المعتقد، والحق في الممارسة العامة أو الفردية للشعائر الدينية." وبالضرورة فإنَّ هذه الحرية (حرية الفكر) تستتبع حرية أخرى مرتبطة بها تمامًا وهي (حرية التعبير)، وهو يشمل حرية التبشير بالديانة أو الدعوة، وهذا نجده واضحًا في البند 19 من الإعلان: " Everyone has the right to freedom of opinion and expression; this right includes freedom to hold opinions without interference and to seek, receive and impart information and ideas through any media and regardless of frontiers. "(المصدر4) وترجمة ذلك باختصار شديد: "حرية الرأي والتعبير متاحة للجميع بما في ذلك حرية اعتناق أي فكرة أو رأي دون مضايقة." وبالضرورة فإنَّ ذلك يستتبع حرية التبشير بالديانة؛ فهي داخلة ضمن حرية التعبير والرأي المنصوص عليهما في هذه المادة.
إذن؛ فالأديان مُصانة في الدولة أو النظام العلماني، ولا توجد مخاوف من إغلاق المساجد أو الكنائس أو تقييد حرية التعبَّد، فسيكون بإمكان المسيحي أن يجد كنيسة يُؤدي فيها تراتيله وصلواته آيام الآحاد، وبإمكان المُسلم السُني أن يُمارس شعائر صلاة الجمعة كما يحلو له، وكذلك المُسلم الشيعي أن يُمارس حسنياته كما يشاء، وللصوفي أن يُشعل النار وأن يهيم في ذكر الإله كما يُريد. فمن أين جاءت هذه المخاوف المزعومة؟ ولماذا يقول البعض إنَّ العلمانية ضد الدين وتحارب الدين؟
الحقيقة إنَّ هذا الكلام لا يقوله إلا أصحاب التوجهات الأُحادية، الذين لا يُراعون لحقوق الآخرين الذين يُشاركونهم الوطن؛ لاسيما التيارات الإسلامية الأصولية، فهم يرون في التبشير بالمسيحية، ونشر الكتاب المُقدس حربًا على الإسلام، في حين أنَّهم لا يرون الدعوة إلى الإسلام أو في توزيع المصاحف والكُتيبات الإسلامية حربًا على المسيحية أو أيّ ديانة أخرى. هم يُصلون في الشوارع ويرفعون أصوات المساجد بالأذان وفي خطب الجمعة، ويرون أنَّ أصوات الموسيقى في المحلات وافتتاح الحانات حربًا على الإسلام ونشرًا للرذيلة. هم يظهرون في القنوات الفضائية يعرضون برامج للفتاوى ويُمارسون الدجل والشعوذة باسم الرُقى الشرعية واستخراج الجن والشياطين من الأجساد، ولكنه لا يقبلون أن تُعرض على شاشات القنوات الفضائية برامج سباقات الأغاني أو ملكات الجمال أو عروض الأزياء. هم يرون العالم من زاوية نظرهم هم، من زاوية نظر فهمهم للدين، ولكنهم لا يُراعون لأنَّ في هذا العالم وجهات نظر أخرى مختلفة، بل ومتضاربة معهم. هم لا يحترمون التنوّع والتعدد، والتعدد هو أصل من أصول الديمقراطية.
إنَّ علمانية الدول الأوربية كانت هي السبب الأول في انتشار الإسلام في أوربا، في حين كانت أنانية وأُحادية الفكر الإسلامي الأصولي، سببًا في تمدد زحف الأفكار الأخرى في بلادهم، هنالك بلاد إسلامية كثيرة تستقدم أيدٍ عاملة من دول غير إسلامية: سيخ وهندوس وبوذيين، ولكنهم لا يسمحون لهم ببمارسة طقوسهم أو شعائرهم الدينية، بل وقد يُمزقون أيّ كتاب مقدس قد يجدونه في حوزتهم؛ وإن كان مكتوبًا بلغتهم. إنَّ العلمانية هي ضد هذه الأحادية، لأنَّها لا تريد الحياة لفئة واحدة فقط، بل تريد الحياة للجميع، للمسلم والمسيحي والبوذي والمُلحد ولعبدة الشيطان. للأسوياء وللشواذ جنسيًا، للمتحجبات وللعاهرات، للجميع طالما كان الجميع لا يتجاوزون حدود حرياتهم فيتعدون على حريات الآخرين، ويؤذونهم. شارعٌ واحد طويل، ترى في بدايته كنيسة شامخة، وفي نهايته مسجدًا بديع التصميم، وفي منتصف الشارع ملهى ليلي، وصالة قمار، ومكتبة للكتب الإسلامية، ودار عرض سينمائي، ومسرح للسمينارات العلمية أو الفلسفية أو لحوار الأديان، على الرصيف الأيمن تمشي سيّدة منتقبة بكل احترام، وعلى الرصيف المقابل، سيّدة محترمة أخرى ترتدي بنطال جينز معتدة بنفسها، دون أن تخاف من التحرّش، لأنَّ الدولة بها قانون يحميها من التحرّش، ويقتص لها من المُعتدي إن تمَّ ذلك. إنَّ الدولة العلمانية هي دولة الجميع؛ فإن كنتَ تريد أن يعيش الجميع معك فإنك سوف لن ترى في العلمانية ذلك الوحش المخيف، وإن لم تستطع أن تتنازل عن صورة العلمانية البشعة تلك؛ فاعلم أنَّك شخص أناني ولا تحب لغيرك أن يعيش كما تعيش أنت.
---------------- (1) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: un.org/en/documents/udhr/ (2) المصدر نفسه (3) المصدر نفسه (4) المصدر نفسه
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحواس التوأمية للإنسان
-
انفجار .. فجأة .. صدفة .. تطوّر
-
السَّببية مقبرةُ الإله
-
فنتازيا التطوُّر
-
دردشه فقهية: تعدد الزوجات
-
خرافة التكليف الإلهي للإنسان
-
كوانتم الشفاء
-
شرح وتبسيط لنظرية التطوّر
-
لا تناظروا المسلمين حتى ...
-
العلم من وجهة النظر الدينية
-
في الرد على د. عدنان إبراهيم - 3
-
في الرد على د. عدنان إبراهيم - 2
-
في الرد على د. عدنان إبراهيم - 1
-
بين موت المسيح وقيامته
-
تفسيرٌ غير مُقدَّس لنصٍ مُقدَّس
-
تأملات في العقيدة المسيحية
-
عن المسيحية والبالتوك - 6
-
عن المسيحية والبالتوك - 5
-
عن المسيحية والبالتوك - 4
-
عن المسيحية والبالتوك - 3
المزيد.....
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|