|
عبدة الشياطين
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 4076 - 2013 / 4 / 28 - 16:55
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أهم ما يميز الإنسان عن بقية الحيوانات الأخرى أن هو حيوان ذكي وصانع- صانع ماهر. منذ البدايات الأولى، تعلم الإنسان تدريجياً كيف يصنع من المواد الأولية الخام المختلفة المحيطة به في كل مكان أدوات ووسائل ومنتجات ومصنعات تقيه من مخاطر الطبيعة، وتساعده في إشباع احتياجاته البدنية من طعام وشراب وملبس ومسكن. ثم بمرور الزمن ازدادت وتراكمت وتشعبت وتعقدت احتياجات الإنسان أكثر فأكثر لتتخطى حدود حاجات البدن والبقاء الأولية؛ عندئذ بدأت تظهر إلى الوجود الإنساني مصنعات جديدة أكثر إتقاناً ومهارة وصقلاً تلبي احتياجات نفسية واجتماعية ناشئة ومتطورة. كما اصطنع الإنسان أدوات الشجر والحجر والنار والمعدن في كفاحه الطويل من أجل البقاء فوق كوكب مليء بالأخطار، اصطنع الإنسان أيضاً- في مراحل أكثر تقدماً خلال نفس الرحلة الشاقة- مصطنعات تجريدية متخيلة كي تمده بزاد السلوى والصبر والأمل. اللغة كانت هي المادة الخام الأساسية المستخدمة في هذه الصناعة الجديدة.
بواسطة اللغة، شق الإنسان لأول مرة طريقه في التفكير المنظم؛ بدأ يفكر ويتصور قوى خير وشر عليا تعينه على عيشه وتتحكم في مصيره وتملي عليه قدره، أحياناً يتخيلها في شجرة أو ريح أو رعد أو برق، أو شمس أو قمر، أو ضريح جد عزيز، أو حتى قد تجيئه في رؤيا في المنام؛ هي، في جميع الأحوال، أصحبت ملازمة له في كل تفاصيل حياته كظله، حية ويقظة تخاطبه وتهمس في أذنه طوال الوقت من داخل دماغه، حتى وهو نائم. هكذا تعلم الإنسان أخيراً أن يفكر في المجرد المنعكس من واقعه المادي ليرتد إليه ثانية، في عالم متخيل بعيد وموازي فيما وراء عالمه الطبيعي الفائر بالمعاناة والمكابدة وأحزان فقدان الأحباب للموت. ثم بمرور الزمن أخذ الإنسان يصطنع ويطور ويضيف ويراكم ويبتكر المزيد والمزيد من الأدوات والوسائل والمفاهيم والنظريات المادية والتجريدية، إلى أن بلغ العصر الحاضر حيث تسود أدوات ووسائل ثورة صناعية واتصالية عملاقة، ومفاهيم متعددة حول الأخلاق والأديان والاجتماع والسياسة والإدارة والاقتصاد، أو نظريات كبرى مثل الاشتراكية والرأسمالية والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وحماية البيئة...الخ.
كل هذا قد صنعه الإنسان بنفسه من مواد خام أولية لإشباع حاجاته الأساسية نفسه، مستعيناً في البداية بقدرته العضلية والذهنية المحدودة، التي أمكنه أن يطورها تدريجياً بمرور الزمن حتى أصبح يمتلك فعلياً قوة نووية وهيدروجينية جبارة تستطيع، في استخداماتها الشريرة، أن تزيل من الوجود في دقائق عدة أضعاف حجم كوكبنا بكل ما فيه وعليه. رغم هذا، لم يغفل الإنسان لحظة عن أن مبدأ وأساس ومفجر مثل هذه القوة العملاقة يكمن في مادة خام أولية بسيطة ومتناهية الصغر للغاية-نواة الذرة. من دون مثل هذه المواد الخام البدائية الأولية، ما كانت أي صناعة بشرية على الإطلاق-لا فيزيقية ولا ميتافيزيقية، لا مادية ولا روحانية، لا تكنولوجية ولا أخلاقية، ولا تقدم علمي ولا ثقافي.
من بطن مثل عمليات التفكيك وإعادة التجميع هذه قد نشأ الباحث والمفكر- هذا الذي يمتلك من القدرة الذهنية والأدوات والمنهجيات العلمية ما يكفي لكي يستطيع أن يفكك الشيء أو التصور، أي وكل شيء وتصور، إلى مكوناته البسيطة الخام الأولية، ثم يرصد بنفسه من جديد ومن الصفر، تحت معطيات الواقع الجديد أو داخل المختبر أو الدماغ، كيفية تلاقي وتفاعل هذه المكونات وطبيعة العلاقات المتغيرة فيما بينها وبينها وبين محيطها الخارجي المتغير دائماً. فوق هذا الأساس الاستقصائي المنهجي تبنى المعرفة، التي بعد ذلك يمكن تسخير حلولها ومنتجاتها ومصنعاتها التطبيقية لخدمة أغراض ومقاصد، وحل مشكلات إنسانية متجددة لكن على مستويات أرقى باطراد. بهذا أصبح التطور الحضاري عملية إنسانية يمكن أن يكون لها بداية معلومة، لكن لا يمكن أن يكون لها نهاية إلا بنهاية الكون ذاته.
في مجتمعاتنا المعاصرة، نحن نعيش وسط منتجات ومصطنعات كثيرة من صنع أيدينا وأدمغتنا أنفسنا نحن البشر لكن تمت صناعتها في أزمان سحيقة بما قد يجعل الأغلبية الساحقة منا لا تقدر على أن تردها إلى مكوناتها الخام البسيطة الأولية، بل تعتقد وتؤمن في أنها قد خلقت أو أنزلت هكذا ناضجة ومكتملة، بديهة ومسلمة. مثل هؤلاء لا يساءلون أبداً قناعات راسخة متوارثة حول، مثلاً، خلق الله الكون في سبعة أيام، أو خلق الإنسان من صلصال من طين، ومن ذرية آدم وحواء، وأنزل إلى الأرض يتكلم، وربما يقرأ ويكتب أيضاً، بعد أن علمه الله الأسماء كلها. إنما الذين ساءلوا مثل هذه القناعات التقليدية السائدة وتتبعوا أثرها عودة إلى جذورها البدائية البسيطة استطاعوا في النهاية أن يدحضوها ويفندوها ويصطنعوا حقائق وقناعات جديدة مبنية على قواعد ومناهج مغايرة تماماً، مثل النظريات الحديثة حول الجاذبية والنسبية والانفجار الكوني العظيم وتطور الإنسان وارتقائه عن إحدى فصائل القرود، التي بدورها تولدت عنها تطبيقات ومبتكرات عملية عظيمة الأثر يستفيد بها الجميع بشكل يومي، سواء الذين أنكروها أو اتفقوا معها، وسواء كانت مثل هذه النظريات في حد ذاتها صائبة أو خاطئة.
المفكر الباحث عن الحقيقة لا يتلقف ببساطة أي شيء أو فكرة مكتملة وجاهزة كما هي موجودة، ويأخذها بديهية ومسلمة ليشيد منها وفوقها أساطير وخرافات جديدة غير محققة؛ هو حينئذ يكون مجرد بوق دعائي حافظ أو ناقل، مجرد مفسر أو شارح أو مؤول أو مؤلف لمعرفة وعلوم جاهزة من صنع غيره. المفكر الحقيقي لا يميز مسبقاً آلهة من شياطين، مقدسات من محرمات، أعداء من حلفاء، صهاينة من فلسطينيين؛ الكل لديه سواء- مواد خام أولية بلا لون ولا طعم ولا رائحة، في رحلة بحث عن أكبر قدر ممكن من الحقيقة الموضوعية التي فيما بعد قد يستفيد بها آخرون إذا استطاعوا تحويلها إلى تطبيقات عملية.
للمفكر الأصيل عين خاصة ينظر بها للأمور والأشياء نظرة مختلفة عن كل الآخرين؛ ولا يمكن أن يقنع أبداً بمسايرة وترويج النظرة السائدة في عصره مهما كان مدى انتشارها وتوغلها من دون أن يساءلها ويعود النظر في أصولها الأولى الخام من حين لآخر؛ وفي أغلب الأحيان قد تنتهي به رحلته الاستقصائية المعرفية إلى أن يعبد الشياطين، بينما يخرج لسانه ساخراً لآلهة راسخة يعبدها ويسبح بحمدها أغلب من حوله.
وهكذا لا يمكن أن ينشأ أو يثمر فكر أو مفكرون في غير بيئة حرية الرأي والتعبير المطلقة.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في البحث عن صهيوني عربي
-
أنا بكره إسرائيل وبحب الدولة الوطنية
-
في حب إسرائيل
-
إيران القنبلة النووية
-
مصر تحت الاحتلال
-
للزوجة نصف ثروة الرجل
-
الإسلام السياسي في ميزان السياسة الدولية (4- تركيا)
-
بين القانون والقرآن والسلطان
-
الإسلام السياسي في ميزان السياسة الدولية (3- قطر)
-
الإسلام السياسي في ميزان السياسة الدولية (2- طائر النار)
-
الإسلام السياسي في ميزان السياسة الدولية
-
الدولة العربية في خطر
-
أفاعي إسلامية تبكي الدولة!
-
السياسة بين الطائفية والعلمانية
-
بين العري والنقاب
-
لصوص لكن إسلاميين
-
اتركوا الرئاسة قبل أن تضيعوا كل شيء
-
عودة الجيش المصري إلى الحكم
-
تحرش جنسي بميدان التحرير!
-
استمرار استعباد المرأة بسلطة التطليق والتوريث
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|