|
نشوء الدول القديمة والحديثة
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1171 - 2005 / 4 / 18 - 10:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هناك آراء عديدة ومتباينة حول مسببات ودوافع نشوء الدول وتكونها في العصور القديمة والحديثة، حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة طوائف: الطائفة الأولى، تجد أن نشوء الدولة يعود إلى التقسيمات في التشكيلة الاجتماعية، حيث استقرت قسماً من عشائر البدو الرحل وأخذت تمتهن العمل الزراعي بدلاً من مهنة الرعي. وبهذا فأنها توفر لديها فائضاً من الإنتاج الزراعي عن حاجتها الفعلية، وتلك المنتجات الفائضة فرضت علاقات جديدة من تبادل المنفعة بينها وبين المجموعات المزارعة الأخرى من خلال اعتماد نظام المقايضة للمنتجات. وأصبح فائض الإنتاج المتراكم، يشكل مركز للقوة والنفوذ بين المجموعات الزراعية في المنطقة الواحدة، مما أدى إلى زيادة الفوارق المعيشية وبروز سمة التنافس بينها لضم مساحات جديدة من الأراضي الزراعية لنفوذها. هذا التوسع الجغرافي، فرض سمة الهيمنة لإخضاع الآخرين واستغلال الفائض من نتاجهم لصالح المجموعات الأقوى. وهكذا أخذت المجموعات الزراعية الأقوى تفرض وجودها على الأرض، مما أسفر عن بروز نظام الاستغلال والتبعية كممارسة يومية للمجموعات القوية وتعتاش عليه عبر استخدام القوة والعنف لإخضاع الآخرين. وفيما بعد أصبح استخدام القوة، السمة الأبرز لنشوء الدولة. الطائفة الثانية: تتفق مع وجهة نظر الطائفة الأولى القائلة: بأن نواة الدولة برزت بعد التقسيمات في التشكيلة الاجتماعية (البدو والمزارعين) لكنها تجد أن الصراع القائم بين المجموعات البشرية من اجل الاستغلال والتبعية لايعود إلى مجموعات المزارعة ذاتها، لأنها تمتلك نفس مقومات الإنتاج المحدود ولم يحدث صراعاً بينهم على الأرض وفائض الإنتاج لأنها مجموعات متباعدة في السكن بعضها عن بعض. إن الصراع الحقيقي حصل بين مجموعات البدو الرحل ومجموعات المزارعين المستقرين على الأرض، لأن المجموعة الأولى تحتقر مهنة الزراعة والاستقرار وتمتهن الترحال والرعي والسلب والنهب والغزو بغرض الاستحواذ على ممتلكات الآخرين باعتبارها جزء من تقاليدها وسلوكها المتوارث. والتحول الأبرز في سلوك مجموعات البدو في النهب والسلب والغزو، لم يعد يقتصر على المجموعات المماثلة لها من البدو في البادية، وإنما طال المجموعات المزارعة والمستقرة على الأرض كونها أقل بأساً وقوة وتمتلك فائضاً من الإنتاج مما يشجع على غزوها وسلبها. وبذات الوقت فأن الغنيمة تكون أكبراً والخسائر البشرية، نتيجة الغزو أقل. ومع الزمن أخذت مجموعات البدو تفرض سطوتها على المجموعات المستقرة من المزارعين دون الحاجة للقيام بغزوات للسلب والنهب، وأنما حصل نوع من (الاتفاق) بموجبه تسدد مجموعات المزارعين سنوياً نوع من الإتاوات لتلك المجموعات البدوية مقابل عدم غزوها. إن مجموعات البدو الغازية لأراضي المزارعين لم يجول في خاطرها الاحتفاظ بالأرض واستعباد الآخرين، فالعملية برمتها لاتعدو سوى غزو من أجل الاستحواذ على الممتلكات. يرى ((أوبنهايمر))" أن النزاع الذي كان يحدث بين الجماعات البشرية قبل اكتشاف الزراعة، لم يكن يؤدي إلى نشوء الدولة. إذ أن الجماعة الغالبة آنذاك لاترى فائدة من السيطرة على الجماعات المغلوبة ولهذا كانت تكتفي بنهبها ثم ترجع إلى مقرها. إما بعد اكتشاف الزراعة وبروز فضلة الإنتاج، فقد أصبحت الغالبة (وهي بدوية في الأغلب) تحاول إحكام قبضتها على الجماعة المغلوبة لكي تحصل منها على فضلة الإنتاج عن طريق فرض الضرائب عليها، أي أنها تريد أن تنهب الجماعة المغلوبة عاماً بعد عام بدلاً من نهبها مرة واحدة". يعتقد ((أبن خلدون)) أن نشوء الدولة يعتمد بالأساس على العصبية (البداوة) فكلما كانت المجموعة الغالبة قوية الشكيمة وكثيرة العدد والعدة، كلما سنحت لها الفرصة لفرض نفسها على الآخرين. والدولة القوية، هي الدولة التي تستند إلى العصبية كأساس في توجهاتها وسلوكها ويتعاظم شأنها بتعاظم نفوذها من خلال فرض نهجها بالقوة والاستبداد لإخضاع الآخرين لسلطانها. في حين أن نشوء الدول الحديثة، يختلف من حيث الأهداف عن نشوء الدول القديمة، لأن هدف الأولى يكمن في فرض نفسها على المجتمع بقوة القانون واستحصال الضرائب من أجل البناء الحضاري، وبالعكس فأن توجه الثانية يهدف لفرض نهجها بالعنف على المجتمع بغرض قيام الدولة دون أن يكون لديها هدفاً محدداً في البناء الحضاري. يعتقد ((علي الوردي))" تختلف وجهة نظر أبن خلدون عن محاسن نشوء الدولة ومساوئها عن علماء الاجتماع المعاصرين، فهم يرون أن الأصل في طبيعة الدولة هي الغلبة والاستغلال ثم يأتي الإنتاج الحضاري كنتيجة عرضية غير مقصودة لذاتها. ويذهب أبن خلدون بعكس ذلك، حيث يرى أن التعاون في سبيل الإنتاج الحضاري هو الأصل في طبيعة الدولة ثم تأتي المظالم من بعد ذلك عرضاً". الطائفة الثالثة: تجد أن نشوء الدول الحديثة، يعود إلى نوع من الاتفاق بين أفراد المجتمع لتنصيب أحدهم حاكماً. وهذا ما يسمى بـ (العقد الاجتماعي) حيث يتوجب على الحاكم بأن يكون عادلاً في إدارة شؤون الدولة وإلا فمن حق المجتمع عزله إن لم يؤدِ واجباته المفترضة تجاهه، أي يتوجب على الحاكم عدم الإخلال بالعقد الاجتماعي بينه وبين المجتمع. وبهذا التوجه يرى ((لوك))" أن الدولة نشأت من جراء عقد اجتماعي، حيث اتفق الناس من خلاله على تولية أحدهم حاكماً واشترطوا عليه أن يكون عادلاً في حكمه. فإذا أخل بهذا الشرط، جاز لهم عزله واختيار شخصاً أخر مكانه". وهناك من يرفض هذه النظرة المثالية لنشوء الدولة، بكونها نتاج لعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم. ويجد أن نشوء الدولة، يستند إلى سمة الغلبة فهناك مجموعة من السياسيين يفرضون أنفسهم بفعل القوة على المجتمع. ويفرضون عليه توجهاتهم، ومن يخالفهم يتعرض للعقوبة وفيما بعد يأتي مبدأ تحقيق المصالح بين السياسيين والمجتمع كنوع من (العقد الاجتماعي) الإجباري!. بمعنى أخر هناك أحزاب سياسية (مدفوعة بهاجس العصبية أو الإيديولوجية) تسعى لتحقيق مصالحها بالدرجة الأولى مقابل تعهدها بتحقيق مصالح المجتمع عند فوزها بالسلطة السياسية من خلال الانتخابات. حيث يصوت أفراد المجتمع على برامج الأحزاب المعلنة والداعية لتحقيق مصالح المجتمع كـ (تخفيض الضرائب، وزيادة الأجور، والضمان الاجتماعي، والضمان الصحي.....وغيرها). وإن مبدأ تحقيق المصالح المتبادلة بين السلطة والمجتمع، ليس له علاقة إطلاقاً بما يسمى بـ (العقد الاجتماعي) الاختياري وإنه مجرد عقد تحقيق للمصالح بين المجتمع والسلطة الحاكمة. وبهذا الإطار يعتقد ((جومبلوتز))" أن النزاع صفة أصيلة من صفات البشر، وهو يحدث دائماً بصور شتى. فإذا تغلبت به جماعة على أخرى، حاولت السيطرة عليها واستغلال أفرادها عن طريق الاستعباد والاستغلال والضريبة. وبهذا تنشأ الدولة التي هي ليست إلا نظام اجتماعي قائم على أساس الغلبة والاستغلال الاقتصادي". إن تشكيلة الأحزاب السياسية في دول العالم النامي، ترتكز في نشوءها على أساس العصبية القومية أو العصبية الإيديولوجية (الممثلة لمصالح طبقة أو فئة اجتماعية) أو عشائرية. فنجد هناك العديد من الأحزاب القومية (العنصرية) يتركز نشوئها على أساس قومي، وعملياً فأنها تسعى لتحقيق مشروعها القومي وعلى حساب مصالح القوميات الأخرى. وهناك حكومات عديدة في العالم النامي، تتخذ من العصبية (العشائرية) قوام أجهزتها القمعية من أجل إحكام قبضتها على المجتمع وإخضاع الآخرين لمشيئتها. إضافة إلى ذلك فان ظاهرة التعصب الإيديولوجي، شق مساره في دول عديدة من العالم، وهذا النمط من التعصب يدعو إلى فرض مصالح طبقة أو فئة اجتماعية محددة على بقية طبقات وفئات المجتمع، بل تسخير قدرات المجتمع لصالح تلك الطبقة. والأحزاب السياسية (القومية والإيديولوجية) في العالم النامي، تسببت في تمزيق عرى المجتمع كونها سعت لتحقيق مصالحها القومية أو الطبقية وعلى حساب بقية قوميات وفئات المجتمع. وأية مطالبة لها بالاحتكام لمعيار المواطنة في عملها الحزبي ونبذ العصبيات تعده تهديداً لكياناتها السياسية، لأن قياداتها تعتاش على التناحر الاجتماعي ومعيار المواطنة يخفف من حدة التناحر الاجتماعي. وبالتالي فإنه يعريها ويكشف عن نواياها الحقيقية المتعارضة مع التطلعات الوطنية، القاضية بتحقيق العدالة الاجتماعية. في حين أن تشكيلة الأحزاب السياسية في المجتمعات المتحضرة، ترتكز إلى معيار المواطنة وتحقيق المصالح (بالرغم من أن بعضها تغلب عليه العصبية الإيديولوجية) فالمنافسة بين الأحزاب لكسب أصوات الناخبين لايحددها الأساس الإيديولوجي وأنما برنامج الحزب السياسي لخوض الانتخابات. فكلما كانت الوعود الانتخابية تلبي مصالح المواطن، كلما حصدت الأحزاب المزيد من الأصوات وبغض النظر عن توجهاتها الإيديولوجية. يعتقد ((علي الوردي))" تهدف الدولة الحديثة إلى الجمع بين زيادة إنتاج الحضارة وإشاعة العدالة الاجتماعية بنفس الوقت". لذا يمكن الاستنتاج بأن الأحزاب السياسية في الدول المتحضرة، تعتمد معيارين أساسيين لوصولها للسلطة هما: معيار المواطنة ومعيار تحقيق المصالح. وهناك تلازم بين المعيارين، حيث تسعى الأحزاب لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح (تخفيض الضرائب، وزيادة الأجور، وزيادة الضمان الصحي، والضمان الاجتماعي...وغيرها) للمواطن وبغض النظر عن قوميته أو انتماءه الإيديولوجي. وهذا (العقد الاجتماعي) الجديد بين المواطنين والأحزاب السياسية الساعية للسلطة، أثبت نجاعته في إدارة شؤون الدولة وتعزيز مقوماتها. ويحقق المصالح المتبادلة للطرفين، وبعيداً عن العصبية القومية والإيديولوجية لنشوء الدولة وديمومتها.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صلاحية الحاكم والمحكوم
-
صراع العاطفة والجمال بين المرأة والطبيعة
-
التأثيرات السلبية للفقر والجهل على المجتمع
-
استحقاقات الرئاسة القادمة
-
مَلكة الإبداع بين العبقرية والالهام والفطرة
-
قيم الراعي والقطيع السائدة في الكيانات الحزبية
-
الحكمة والحقيقة في الفلسفة
-
مراتب المعرفة عند الفلاسفة
-
ماهية الإحساس والمعرفة في الفلسفة
-
صراع القيم والمبادئ بين الفلاسفة والملوك
-
تأثير الاستبداد والعنف على اختلال أنماط السلوك الاجتماعي
-
دور علماء الاجتماع في تقويم المجتمع
-
موقف الفلاسفة من الحاكم والحكومة
-
العلم والجهل في المجتمع
-
تحرير الثقافة من الهيمنة والتسلط
-
الحكومة والشعب
-
التصورات اللاعلمية في الفكر الماركسي
-
مجالس الفلاسفة والعلماء مع السلاطين
-
الملوك والفلاسفة وتهمة الإلحاد
-
النظام الديمقراطي والسلطة السياسية
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|