أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد الكحل - ارتباط السياسة بالدين أصل الفتنة وعلّة دوامها















المزيد.....


ارتباط السياسة بالدين أصل الفتنة وعلّة دوامها


سعيد الكحل

الحوار المتمدن-العدد: 1171 - 2005 / 4 / 18 - 10:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(1)
دين الأمة أم دين الدولة ؟ يتفق الفقهاء والمؤرخون على أن العرب لم تكن لهم دولة قبل مجيء الدين الإسلامي . كانوا يعيشون في قبائل لا تعرف الاستقرار ولا تميل إلى السلم إلا لماما . وكانت القبيلة هي الإطار المشرف على تحقيق حاجة أفرادها إلى الأمن والغذاء عبر التجارة والغنيمة . ومن ثم صار الشعور بالانتماء إلى القبيلة العنصر الأساسي الذي يوحد بين أفراد القبيلة الواحدة ، ويمنحهم فخر الدفاع عنها (= العصبية القبلية ) . لكن مع مجيء الدين الإسلامي توارى قليلا العنصر القبلي لصالح الانتماء الديني . وغدا المسلمون إخوة في الدين ، بدل القبيلة أو العرق . إن الشعور بالانتماء إلى هذا الدين الجديد كان أساس التمازج العاطفي والتواشج الأخوي بين المسلمين ، عمل الرسول (ص) على تعميقهما من خلال مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين . وكانت تلك هي النشأة الأولى ل"الأمة" ، أمة المسلمين . وعلى هذا الأساس خاطبهم الله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) . ويتخذ مفهوم " أمة" معنى الجماعة البشرية التي هي على دين معين . يقول الله تعالى ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يُدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) الشورى :8 ، وقوله تعالى ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) الزخرف : 22 ، أي على طريقة ومذهب . وقال قتادة وعطية : "على أمة" على دين . قال الجوهري : الأمة الطريقة والدين . يقال : فلان لا أمة له ، أي لا دين له ولا نحلة . قال الشاعر : "وهل يستوي ذو أمة وكفور " . ويرسم القرآن وضع الأمم يوم القيامة ( وترى كل أمة جاثية . كل أمة تُدعى إلى كتابها اليوم تُجزون ما كنتم تعملون ) الجاثية : 28 . والأمة هنا أهل كل ملة . وقوله تعالى ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) الأنبياء : 29 . قال الحسن البصري في هذه الآية " أي سنتكم سنَّة واحدة ) . أما الانتماء العرقي وما سواه فقد عبر عنه القرآن الكريم كالتالي ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) . بهذا المعنى تكون "الأمة" أوسع من القبيلة أو الشعب . فالإسلام كدين أسس لإطار الأمة ، أي الانتماء إلى العقيدة والملة دون اعتبار للعناصر المادية أو العرقية ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، كما جعل التحابب في الله مقياس الإيمان الصادق القوي ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ..) حديث شريف . لكن الظروف التي أحاطت بنشأة الأمة الجديدة ، أمة المسلمين ، والمتمثلة في حصار الدعوة والانتقام من المنتمين إليها ، اضطرت الرسول (ص) وأصحابه إلى الهجرة . هناك في المدينة ستنشأ فكرة إيجاد إطار سياسي وليس دينيا يتعالى على الانتماء العقائدي . أي إطار تحالفي يضم أمما تجمع بينها المصلحة السياسية وليس العقيدة . فكانت معاهدة "الصحيفة" بين المسلمين وبين أهل الديانات الأخرى الذين يقدّرون أن مصلحتهم تقتضي التحالف مع المسلمين للدفاع عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي . هنا كانت الحاجة إلى هذا الإطار السياسي الذي تعزز بالقدرات القتالية التي تملكها أطراف التحالف ، فصارت "دولة" جنينية تتوفر على قيادة ومقاتلين . لذا يمكن القول إن إطار الدولة كما مفهومها ، لم يكونا من صميم التعاليم الإسلامية التي اهتمت ببناء الأمة وتوحيد عقيدتها دون الانشغال بالدولة . إي أن الإسلام جاء دينا موحّدا الناس في أمة ، ولم يأت إطارا سياسيا . وتحقق ذلك من حيث كان الرسول محمد (ص) يدعو الملوك إلى اعتناق الإسلام دون التخلي عن ملكهم . في هذا السياق قال ابن اسحق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شِمْر الغساني صاحب دمشق . قال الواقدي: وكتب معه: (( سلام على من اتبع الهدى وآمن به ،وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك)) (ص506 السيرة النبوية لابن كثير ج3 ) . ونفس الأمر فعله الرسول(ص) مع النجاشي لما كتب إليه الرسول يدعوه إلى الإسلام فأسلم ( وكتب إلى رسول الله (ص) بإسلامه على يدي جعفر بن أبي طالب فقال رسول الله (ص) لما بلغه ذلك : ثَبت ملككم )(ص65 السيرة النبوية) . ( وأرسل (ص) مع عمر بن العاص سنة ( 8 هـ) كتابه إلى جَيْفَر وعبد ابنَيْ الجلندي في عُمان باليمن : باسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابنيْ الجلندي سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام ، أسلِما تسْلما إني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولَّيْتُكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيْلي تحل بساحتكما وتظهر نُبُوَّتي على ملككما )( ص66 السيرة النبوية ) . فالرسول كان صاحب دعوة وهداية ، ولم يُبعث ملكا أو زعيما سياسيا . ولعل قصة سليمان مع ملكة سبأ فيها من العبر والدلالات ما يجعلنا ندرك أن مهمة الأنبياء والرسل هي الدعوة والهداية وليس الدولة والسيادة . فملكة سبأ حافظت على ملكها بعد أن أسلمت ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) النمل : 44 . غير أن الظروف المادية التي أحاطت بهذه الدولة الفتية جعلت العنصر المادي / الاقتصادي العنصر الموحّد بامتياز . يقول هشام جعيط موضحا الوضعية التي كانت عليها الدولة الإسلامية الفتية ( إن اختلال نظام التجارة الكبرى ، واستحالة تقديم آفاق غنائم في جزيرة عربية متأسلمة ، وضرورة استناد هذه السلطة إلى نجاحات مادية ملموسة ، كل هذا لعب دورا كبيرا في جعل الدولة الإسلامية دولة موجَّهة نحو الفتح . . والحقيقة ، نظرا لأن الأمر يتعلق بدولة محاربة ، منذ ولادتها في فترة الهجرة ، فإن الفتح لم يعد عَرَضا بالنسبة إليها . إنه ملازم جوهريا لوجودها . فقد كانت الطريقة الوحيدة لجمع القبائل في اتحاد ، تكمن في تقديم هدف مألوف لديها ، هدف البحث عن الغنائم ، المتكرر دائما وأبدا ) (ص 33 الفتنة ) . لقد ارتبطت الدعوة بالفتح / الغزو وبالغنيمة ، حتى كادت الغنيمة أن تشغل المسلمين عن الدين والدعوة ، كما يحكي القرآن الكريم عن غزوة أحد ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون . منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) آل عمران : 152. ويصف ابن هشام هذه الواقعة ، في سيرته كالتالي ( وتعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ، وهو في سبعمائة رجل ، وأمَّرَ على الرُّماة عبدَ الله بن جبير أخا بن عوف ، وهو مُعْلم يومئذ بثياب بيض ، والرُّماةُ خمسون رجلا ، فقال : " انْضَح الخيلَ عنَّا بالنبل لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نُؤتينَّ من قِبلك " وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بن عبد الدار ) لكن الرماة سرعان ما عصوا أمر الرسول طمعا في الغنائم . ويروي ابن هشام على لسان ابن إسحاق ( قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير أنه قال : والله لقد رأيتُني أنظر خَدَم (= الخلخال ) هند بنت عتبة وصواحبها مشمِّراتٍ هَوَارِب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه وخلَّوا ظهورنا للخيل ، فأُتينا من خلفنا وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قُتل ، فانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى يدنو من أحد من القوم ) . فأثخن الكفار في المسلمين ، ووصلوا إلى الرسول فأصابه منهم ما يرويه ابن إسحاق : ( وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو ، وكان يوم بلاءٍ وتمحيصٍ ، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة ، حتى خلَصَ العدوُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشقِّه (= رُمي بالحجارة حتى وقع لجنبه ) ، فأصيبت رَبَاعيته وشُجَّ (= شُقَّ ) في وجهه ، وكُلِمت ( جُرحت ) شفته ، وكان الذي أصابه عُتبة بن أبي وقاص ) . ولم تكن هذه هي الواقعة الأولى التي تطرق إليها القرآن الكريم في موضوع هيمنة الغنيمة على سلوك المسلمين . ففي سورة النساء نقرأ قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عَرَض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ، كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ) 94 . قال ابن عباس في موضوع هذه الآية ( كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا ) . قال ابن عباس عرض الدنيا تلك الغنيمة .
لكن بعد وفاة الرسول محمد (ص) وجد المسلمون أنفسهم أمام تجدبات متباينة : قبلية ، عقائدية ، شخصية ، بل كان الانتماء للقبيلة أقوى من الانتماء للعقيدة . إذ كان الانتماء للقبيلة فاصلا في حسم النزاع على الخلافة لصالح قريش . يقول الأستاذ الجابري في مقال نشرته جريدة "الاتحاد الإماراتية" يوم 19 أكتوبر 2004 : ( أن النقاش الذي جرى بين الصحابة، أنصاراً ومهاجرين، في سقيفة بني ساعدة، مباشرة بعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، والذي أسفر في النهاية عن مبايعة أبي بكر خليفة للرسول ( يخلفه: بمعنى يتولى "أمر" المسلمين بعده) كان نقاشاً سياسياً محضاً، وقد حسمه ميزان القوى، إذ كان القول الفصل فيه للتصريح الذي أدلى به أبو بكر قائلا:"لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش". وهذا حكم موضوعي يقرر أمراً واقعاً، وقد سلم الأنصار بذلك عندما تحرك فيهم مفعول "القبيلة" الضيق (التنافس بين الأوس والخزرج) وأيضاً عندما رأوا أن منطق المهاجرين هو الراجح في ميزان اعتبار المصلحة العامة المشتركة ) . لكن فيما بعد سينفجر هذا الخلاف السياسي صراعا داميا لم تنفع معه الشورى ولا صحبة الرسول (ص ) على حد تعبير الدكتور حسن الترابي في حوار ضمن برنامج "الشريعة والحياة" بثته قناة "الجزيرة" الفضائية يوم 10 شتنبر 2000 ، إذ قال : (بالطبع تدخل مع الاجتهاد أهواء السلطة وشهواتها ،لأن الناس في ديوان العلم قد يفرغون للتأملات وحسب.. لكن إذا دخلوا إلى السلطة يدخل عليهم مرض السلطة .. حتى الصحابة رضوان الله عليهم لم يسلموا من ذلك بالطبع ،أحيانا كان الكتاب يتنزل عليهم مباشرة ، والسنة يعيشون فيها ولم تُرْوَ لهم ضعيفا ومتواترا وحسنا ، ولم يفسر لهم القرآن ،وإنما تنـزَّل عليهم في أحداث . لكن سقطت الشورى فيهم ، وسقط الإجماع ، وسقطت وحدة المسلمين ، وأصبحوا لا إخوانا ولكن اقتتلوا فيها ). وهذا ما جعل الشهرستاني يصفه بأعظم خلاف بين المسلمين ( أعظم خلاف بين الأمة ، خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان )(ص 22 الملل والنحل) .
سعيد الكحل
ارتباط الدين بالسياسة والدولة أصل الفتنة وعلة دوامها (2)
"الخلافة" مفهوم يكرس توظيف السياسي للديني : رغم ما انتهى إليه النزاع بين المسلمين على خلافة الرسول (ص) في إدارة الدولة ، من حل قيصري ، فإن الصراع سيأخذ بعدا أخطر يمس ، في جزء منه كيان الدولة وهيبتها ، وفي الجزء الآخر يمس الدين الإسلامي من حيث هو دين . ويهمنا ، في هذا المقام ، الصراع الذي استهدف الدولة دون الدين ، من خلال امتناع قبائل عدة عن دفع الزكاة للخليفة ، عنوانا على رفض الخضوع للحكم المركزي الذي صار بيد قبيلة قريش . في هذه الواقعة ستوظف الدولة عنصر الدين لحسم النزاع ومواجهة التمرد ، رغم ما تثيره المسألة من خلاف فقهي بين المسلمين حول اعتبار مانعي الزكاة كفارا فتكون مقاتلتهم على هذا الأساس ، أم عصاة لا ينبغي مقاتلهم ككفار . والفرق بين الحكمين جوهري يبيح في الحالة الأولى السبي والغنيمة ، أما في الحالة الثانية فيحرّمهما . وعدّ الشهرستاني هذا الأمر ( الخلاف السابع في قتال مانعي الزكاة ، فقال قوم : لا نقاتلهم قتال الكفرة . وقال قوم : بل نقاتلهم ، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه : لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، ومضى بنفسه إلى قتالهم ، ووافقه جماعة الصحابة بأسرهم . وقد أدى اجتهاد عمر رضي الله عنه في أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم ، وإطلاق المحبوسين منهم ، والإفراج عن أسراهم )( ص 23 الملل والنحل ) . كانت إذن خطورة الأمر تكمن في جعل الخضوع للدولة وللخلافة خضوعا للدين ، والخروج على الدولة وعلى الخلافة خروجا بالضرورة على الدين . علما أن التمرد كان على الصدقة والزكاة وليس على الصلاة . يقول د. هشام جعيط ( عند وفاة النبي تجلت الرّدة كظاهرة شبه عامة بين القبائل . لقد كانت نقضا لتواصل الدولة بالذات لأن الرابطة التي كانت تربط القبائل بالنبي كانت تُدرك كرابطة شخصية قابلة للنقض ، وقد جرى نقضها عند وفاته . وبما أن الدولة والدين لا يشكلان إلا شيئا واحدا ، كان تصدع الولاء للدولة يُعبَّر عنه بارتداد عن الإسلام . لكن من الصحيح أن تلك الرّدة كانت ترتدي شكل تمرد على صعيد الصدقة أو الزكاة . فكانت القبائل ترفض دفع الصدقة أو الزكاة ، الدينية حقا ، لكنها كانت تبرز ظاهرا كمظهر لطاعتهم وانقيادهم . ولذا كانت القبائل مستعدة لمواصلة ممارسة الصلاة . وبالتالي لم يكن العنصر الديني في صفائه هو الذي يضايقهم تماما ، بل كان يضايقهم البُعْدُ الدولي بشكل أشد ، بُعْد دفع غرامة . حول هذه النقطة كان أبو بكر لا يقبل التفاوض والجدل )( ص 38 الفتنة ) . لهذا صارت الثورة على الدولة تُفهم على أنها ثورة على الدين . كما صارت الدولة قوة سياسية وعسكرية الغاية منها إخضاع العالم لله وجعل الهيمنة للإسلام حتى ( تكون يد الله هي العليا ) . وظل هذا التوجه سائدا لدى المسلمين حتى اليوم ، بل ازداد تركزا وتكريسا لدى الحركات الإسلامية ، بحيث صار الخضوع للدولة الإسلامية عنوان الخضوع للإسلام ، ورفض الأولى أو التمرد عليها رفضا للإسلام كدين إلهي . وسيأخذ التماهي بين الدولة والدين بُعدا أخطر في تاريخ المسلمين ، بحيث سيتجسد الدين والدولة معا في شخص الخليفة . ومن ثم أصبحت لهذا الأخير قدسية يستمدها من تمثيل الله على الأرض وتجسيد إرادة الله في مملكته . وبذلك غدا الخليفة "ظل الله في الأرض" ، تكون إطاعته مقدمة لإطاعة الله . بهذه الصفة ستغدو "الخلافة" سلطة سياسية ودينية تجعل من الخليفة منفذا ومشرعا في نفس الوقت . فهو يمثل إرادة الأمة وإرادة الله معا . وليس عبثا أو صدفة أن يجعل عثمان بن عفان الخلافة "قميصا" ألبسه الله إياه فلا يحق لأحد أن ينزعه عنه .
اقتران السياسة بالدين شرعنة للاستبداد : اعتاد المسلمون ، بما يكنونه من حب لصحابة رسول الله (ص) ، أن يصفوا عهد الخلفاء الأربعة ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، بالحكم الراشدي أو الخلافة الراشدة . وهذه المثلنة للعهد الراشدي أخرجته من مجال التجربة البشرية المحفوفة بالمخاطر والمشوبة بالأخطاء ، إلى مجال التقديس والعصمة . ومن ثم صارت تلك الفترة مرجعية تقاس عليها التجارب اللاحقة فيُحكم عليها بـ "العض" أو "الجبر" تبعا لمدى اقترابها أو ابتعادها عن التجربة " الراشدة" . وغدت ، من ثم ، تمثل المستقبل المنشود خاصة لدى الحركات الإسلامية . والجدير بالملاحظة والتنبيه ، أن ما يشد هذه الحركات الإسلامية إلى "الخلافة الراشدة" ، ليس رشدها وعدلها ، بل فقط تجسيدها لتجربة تجمع بين السياسي والديني ، على مستوى الدولة وعلى مستوى الحاكم . فحينما تصبح الممارسة السياسية ملتبسة بالدين يكون الاختلاف مرفوضا والخلاف محرما . وبالتالي تغدو آراء الخليفة في السياسة ، آراءً فقهية تستمد مشروعيتها من قدسية الدين وليس من قوة الحجة . فيقحم كل مخالف لها ضمن دائرة الفسوق أو الكفر . هذا التلبيس ساد على مر التاريخ الإسلامي حيث نصب الحكام أنفسهم نواب الله وحاكمين بأمره ، وحملوا ألقابا ترفعهم إلى مراتب النبوة ( المعتصم بالله ، المنتصر بالله ، الناصر لدين الله ..) . ومن تكون تلك صفاته تسامى عن جميع خلق الله ، وصار مُهاب الجانب سديد الرأي لا يُعصى له أمر ولا يُرد له طلب . أي أن إطاعته واجبة ولو جار ما أقام الصلاة . إن طاعة أولي الأمر في المجال السياسي الذي هو مجال الاختلاف والصراع ، تُلغي كل دور للرأي وتُعطل كل سلطة للأمة ، وتشل كل حركة معارضة للحاكم "بأمر الله" ، الذي جعله تَلَـبُّس السياسة بالدين ، يستمد النصرة من الله وليس من أفراد الأمة . في حين أن الإسلام لم يأت لتشريع الممارسة السياسية أو لشرعنتها ، وإنما وضع قواعد عامة تنهى عن الظلم والقهر والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل ، وإكراه الناس على ما لا طاقة لهم به . بل جعل الإسلامُ العدلَ والإخلاص عبادة ، بينما ترك للناس سلطة التشريع لما يحقق هذه المقاصد . ومسألة التشريع هذه التي ينفيها الإسلاميون بإصرار خاطئ ومقصود ، عن الإنسان ويقصرونها على الله تعالى ورسوله الكريم ، أقرها الإسلام إذ أشرك اللهُ تعالى عبادَه في التشريع للدين ، وليس فقط للدنيا بما فيها المجال السياسي . وذلك واضح في الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتلَهُ منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتَلَ من النَّعَم يحكُمُ به ذوا عدل منكم ) المائدة : 95 . في هذه الآية يُنيط الله تعالى بعباده مهمة الحكم والتشريع في أمر ديني يخص علاقة العبد بخالقه . أما مجال التشريع البشري للقضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها ، فقد جعله الإسلام شاسعا طالما يحقق المصلحة العامة التي حيثما وُجدت فتم شرع الله . والمصلحة العامة لا يحددها الحاكم ، بل الأمة . من هنا لا يمكن للأمة أن تمارس سيادتها إلا إذا تمتع أفرادها بحقوقهم ومارسوا حرياتهم بعيدا عن كل إكراه أو اضطهاد . وهذا لن يتم إلا في إطار الدولة الديمقراطية التي تحكمها قوانين واضحة ومضبوطة تواضع عليها أفراد الأمة ، ومؤسسات حرة تعبر عن اختيار الناس وإرادتهم . وهذه الدولة ليست معطى جاهزا يُستمد من النصوص الدينية أو تجربة الخلفاء الراشدين ، بل هي ممارسة وعمل متواصل ينخرط فيه كل أفراد الشعب / الأمة ، مستفيدين من تجارب الشعوب والأمم . فالذين يدعون إلى إحياء دولة الخلافة يسعون إلى تنصيب الوصاية على الأمة باسم الدين ، متمثلة في الخلفية / الحاكم أو في طبقة الفقهاء والمعمَّمين . إن هؤلاء هم جزء من الشعب وليسوا كل الشعب . لهذا ما يرونه شرعا لا يكون بالضرورة كذلك . ولنا في موقف التيار الإسلامي بدول الخليج العربي مثالا على مخالفة أحكام الشريعة باسم الشريعة تارة ، وباسم التقاليد والأعراف تارة أخرى . ويتعلق الأمر بتحريم المشاركة النسائية في الانتخابات وفي الحياة السياسية عموما . فهل من الشريعة في شيء أن يُحرَّم على المرأة أن تكون مواطنة ؟ بل هل من الشريعة أن تُصادَر الحريات العامة ، وتُقهر المرأة ، ويُمنع على المواطنين الاستفادة من العلوم والتكنولوجيا ؟ كان من أفظع ما قرأته ، ولم أكن أبدا أتصور أن الغلو في الدين يصل حد الكارثة . ففي الحلقة 19 من الترجمة العربية لكتاب " العربية السعودية موضع تساؤل " والتي نشرتها جريدة "الأحداث المغربية" خلال شهر رمضان الأخير نقرأ المأساة التالية ( ففي منتصف شهر مارس من سنة 2002 ، تسبب الحريق الذي تعرضت له مدرسة البنات في مكة في موت 15 فتاة ، فيما تعرضت خمسون أخريات للاختناق ، وكان المطاوعة قد منعوا السيئات الحظ من الخروج من المدرسة التي كانت تحترق بدعوى أنهن لا يلبسن العباءة ، وأنه لا يوجد مَحْرَم من أجل استلامهن ، لأنهم منعوا الإطفائيين من الدخول إلى المدرسة لمحاربة النيران خوفا من أن ينظروا للفتيات في غياب أوليائهن . وكانت الفتيات قد تمكنّ من تسلق شباك المدرسة ، إلا أن الميلشيات الدينية أعادتهن للداخل وبقيت صماء أمام احتجاجات الإطفائيين ورجال الإنقاذ ) . إن مثل هذه الممارسات منشأها استغلال السياسي للديني لأغراض الهيمنة والوصاية . وحتى لا تتكرر المآسي باسم الدين ، وحتى يكون الدين بعيدا عن كل استغلال أو توظيف سياسوي ، لا بد من تحرير الدين من السياسة والتأمين عليه جهة تحظى بالحياد والاحترام وتتسامى عن كل صراع سياسي ، أي جهة تجعل نفسها في خدمة الأمة وفوق الأحزاب والتيارات . وباعتبار الدستور المغربي ينص على إمارة المؤمنين وينيطها بمهمة حماية الدين ، فإن الأجدر بالمغرب أن ينهج الفصل بين السياسي كتدبير يومي للشأن العام تتنافس حوله الأحزاب بما تقدمه من برامج تروم خدمة الصالح العام وقابلة للمحاسبة والنقد ، وبين الديني كتدبير للوقف والإفتاء وحماية الدين من كل تلاعب أو استغلال . لأجل ذلك لا بد من تحديد الاختصاصات والفصل بين السلطات . في هذه الحالة سيكون الحزب أو الائتلاف الحزبي هو المسئول عن التدبير اليومي للشأن العام من خلال التشكيلة الحكومية برئاسة الوزير الأول المنتمي للأغلبية البرلمانية . وسيكون من مصلحة المَلكية ، بل عنصر دعم لها أن تفسح المجال للتنافس السياسي الحر بين الأحزاب حتى يكون للمحاسبة الشعبية مجالها . أما المراقبة وضمان الأمن الروحي ووحدة الشعب ، فمهمات أجدر بالاضطلاع بها شخص الملك الذي ، بحكم الدستور المغربي ،يكون هو المؤتمن على حماية الدين ووحدة المذهب .



#سعيد_الكحل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنف ضد النساء ثقافة قبل أن يكون ممارسة


المزيد.....




- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد الكحل - ارتباط السياسة بالدين أصل الفتنة وعلّة دوامها