|
التشكيلي زياد حيدر لـ ( الحوار المتمدّن ): اللوحة بالنسبة لي هي مملكة ومغارة أمارس بها طقوسي وأسراري
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1170 - 2005 / 4 / 17 - 14:35
المحور:
الادب والفن
يشكّل الوازع النفسي محوراً دينامياً في ميكانيزم العملية الإبداعية لدى الفنان التشكيلي زياد حيدر، فهو لا يرسم وفق المعطيات الآنية التي تلتقطها عدسة المصادفات العابرة التي تصوّر العُشر العائم من جبل الجليد، بل نراه يغوص في أعماق روحه اللائبة مُفتشاً في دهاليزها ومنعطفاتها، وباحثاً في منعرجاتها ومغاورها عن العيون السحرية المخبأة التي ترى الحقيقة والجمال، وتمتلك القدرة على كشف المستور، وإعادة العبارات المحذوفة والمغيّبة إلى سياقها الصحيح لفض الاشتباك وإزالة اللبس الذي يكتنف تساؤلات الوجود المقلقة. إن أعمال الفنان زياد حيدر في مراحله الثلاث ( الفيكرتيف والكولاج والكثافة اللونية التي تفضي إلى السطح البارز ) هي تنويعات مقصودة للتعبير عن المشاعر والهواجس الباطنية المُؤرقة التي تحاول الانفلات من أُسارها، غير أن الكوابح السياسية والفكرية والاجتماعية كانت تحُول دون ذلك، فلهذا ظل عالمه الفني مستغلقاً، ملغزاً، مُحيراً، ومليئاً بالرموز والشفرات المستعصية التي لا تمنح نفسها بسهولة حتى للمتلقي الذي يمتلك خبرة بصرية يمكن الركون إليها. نستطيع القول إن عيني زياد حيدر لا تتطلعان كثيراً إلى المحيط الخارجي الذي يطوّقه، لأنهما غالباً ما تستديران إلى الوراء لتمارسا فعل التحديق إلى أعماقه في محاولة لسبر أغوار كينونته الداخلية المكتظة بكنز كبير من العجائب والأسرار. باختصار شديد أن لوحة زياد حيدر التي بدأت تستجير بالكثافة اللونية تحتاج إلى مُشاهد يتأملها بطريقة صوفية تنتشله من الواقع اليومي وتقذف به إلى مدارج الحلول كي ينفذ رويداً رويداً إلى العناصر الأولية التي إنبنتْ عليها ملامح التكوين الأول لثيمة العمل الفني الذي سوف يفضي به من دون شك إلى مدخل المتاهة و شفرة خريطتها، أو خيط اللعبة الفنية الذي سيقوده هو الآخر إلى الفضاء الخارجي بأقل الخسائر الممكنة. وللولوج إلى عالمه السري المراوغ إلتقيناه وكان لنا معه هذا الحوار الذي لا يخلو من التلميح إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي يتبناها عدد من النقاد والفنانين العراقيين في المنافي الأوربية. * اللعبة الفنية
* هل تعتقد أن الولوج الحقيقي إلى فضاء اللوحة التجريدية الغامضة، والمجهولة إلى حد ما يحتاج إلى الإمساك بسر اللعبة الفنية الذي لا يمتلكه إلا القلة النادرة من الفنانين والمعنيين بشؤون الفن التشكيلي؟ هل لك أن تسلط لنا الضوء على هذه البقعة الملغزة في الفن التشكيلي؟ - إن الولوج الحقيقي لفضاء أية لوحة، وليس اللوحة التجريدية حسب يحتاج إلى الإمساك بخيوط اللعبة الفنية. وأعتقد أن الغموض في أي أثر إبداعي وإن لم يكُ غموضاً بالمعنى الحرفي للكلمة يتكوّن من خلال طرح التساؤل داخل العمل، التساؤل الذي يتخذ من عنصر الصدمة والمفاجأة لدى المتلقي أكثر من الأعمال التي تقدّم إجابات بسيطة أو محاكاة لتجارب سابقة، كما أعتقد أن أحد خيوط اللعبة الفنية والذي يتأتى من التجربة المختبرية للفنان، وامتلاكه لتقنية وحسية عاليتين تمكنانه من التدرّب على كيفية إثارة البحث والتقصي لدى المتلقي من خلال طرح الأشكال والإنشاءات الجديدة، أي من خلال ولوج مناطق عذراء في اللوحة، مناطق غير مأهولة بفنانين آخرين، بدليل أن هناك العديد من التجارب الفنية لم تلقَ لها صدىً عند المُشاهد أو عند المُتتبع لمسار المنجز الإبداعي بشكل عام. اعتقد أن السبب في ذلك هو أن هذه التجارب هي صدىً لتجارب أخرى صاحبة السبق في هذا المجال. مثلما هو الحال في السبق الصحفي. فما هو عنصر المفاجأة في نشر خبر نُشر من قَبلْ وأحدث صدمة لدى القارئ على سبيل المثال؟ فضلاً عن وجود عامل آخر أكثر أهمية في حياكة خيوط لعبة الإبداع، وهو أن يتدرب الفنان على أن يجعل من ظاهرة عادية مُلفتة، ظاهرة مثيرة تكون مدار بحثٍ وتقصٍ ودراسة، مثلما فعلت الانطباعية عندما انتبهت إلى ظاهرة غير ملفتة في الطبيعة وهي الظاهرة اللونية وتحليلها، ومن ثم تحويلها لى ظاهرة أثارت الكثير من الفضول لدى الفنانين والمعنيين. كذلك مثلما فعلت التكعيبية والتجريدية، والتعبيرية التجريدية . . الخ أعتقد إذا لم تتوفر في التجربة الفنية، أية تجربة فنية،كل هذه المواصفات فما هو مبرر وجودها؟ وما مبرر أن تعيد وتجتر ما أُنجز من قبلها من تجارب ومحاولات إبداعية حقيقية أضافت صرحاً جديداً إلى صروح الإنجازات الفنية في العالم؟ * أناس حالمون * في الداخل كنا نشكو جميعاً من سلطة الرقيب الذي يحصي علينا أنفاسنا. هل أجهزت على الشرطي القابع في ذاكرتك ومخيلتك؟ وما هي حدود إفادتك الآن من فضاء الحرية المتاح؟ وهل تغير في الأمر شيئاً على صعيد منجزك الفني بين تواجدك في الداخل والخارج؟
- أعتقد أن سلطة الرقيب لم تنتهِ بهذه السهولة التي نتصورها بعدما كنّا محنطين داخل بدلة الرقيب على مدى عقود. أظن أن هذه السلطة تبدأ بالانتهاء والتلاشي فقط عندما ندرّب ونؤهل أنفسنا على كيفية التعامل مع فضاء الحرية الفسيح الذي نتمتع به الآن بعد كل الذي حصل. كيف نبدأ بترميم أنفسنا من الداخل ونتهيأ لاستيعاب الحالة الجديدة؟ عندها نكون قد حكمنا على سلطة الرقيب بالنفي. نحن نعاني الآن جميعاً من آثار العدوان النفسي ومن آثار اليورانيوم السياسي والإيدلوجي والثقافي والفكري إن صح التعبير. كنا نمارس فعلنا الإبداعي والرقيب قابع يشع في دواخلنا. الآن المشكلة نَحَتْ منحىً آخر، كيف يتسنى لنا أن نبدع من دون هذا الرقيب؟ أعتقد أنها معضلة كبيرة أن يقمع إنسان لمدة طويلة من الزمن، وفجأة يُقذف به إلى العالم الفسيح، كمن يُهدي طفلاً دميةً بحجم ديناصور! ماذا يفعل بها وهو لم يُهدَ بعد دمية بحجم ذبابة؟ إن أحلامنا كبيرة من دون شك، ونحن أناس حالمون بطبيعتنا، وأحلامنا تتناسل داخل رؤوسنا. أحلامنا أخذت تكبر وتتسع كلما اتسع الفضاء الممنوح لها. أحلامنا تكبر الآن وتمتطينا كمن يمتطي نملة! أعتقد أن الحرية أداة من أدوات الإبداع، ويُفترض أن تُوظف بشكل جيد. وهناك من أساء توظيف هذه الأداة سواء على صعيد المنجز الثقافي أو على صعيد المنجز الأخلاقي. لقد استطعت أن أستفيد هنا من جزء يسير من فضاء الحرية، وهناك أجزاء كثيرة لم تطأها تجربتي الفنية بعد. وهناك مغالاة حقيقية عندما يدعي الآخر أنه استطاع التفاعل بشكل كامل مع الحرية المتاحة هنا في أوربا، إلا إذا كان هناك إساءة فهم لموضوعة الحرية، أو إساءة استخدام لها على كافة الأصعدة. *بهاء اللحظة * في كل عمل فني ثمة سر لا يمكن استجلاؤه وملامسته بسهولة. أين تكمن أسرار عملك الفني، في الثيمة أم في الشكل؟ في اللون وتدرجاته أم في العلاقة الداخلية للتكوين؟ أم في هذه الأشياء مجتمعة؟ أو بالأحرى في أي بؤرة ينصب جهدك الفني الخلاّق؟ - أعتقد أن بين ثنايا السؤال شئ من الإطراء. اللوحة بالنسبة لي هي مملكة ومغارة أمارس بها طقوسي وأسراري. وهي وثيقة أدوّن فيها انطباعاتي عن هذا العالم بشكل معاصر وحديث. اللوحة هي الفضاء الوحيد الذي تبقى من كل الفضاءات المسروقة. ما الذي يجعلنا نحكم على تجربة فنية بأنها تجربة متكاملة ومعاصرة؟ بالتأكيد هناك عوامل عديدة تدخل ضمنها الثيمة والشكل واللون، فضلاً عن العلاقة الداخلية للتكوين. أعتقد أن جهدي الفني في اللوحة ينصب على كيفية ترجمة إحساسي المتفاقم الذي يعمل في واحدة من أشد المناطق الحسية إثارة إزاء العالم المعاصر، وعلى كيفية ترجمة ذلك إلى شكل ولون ومادة وإنشاءات. كما أن سر نجاح أي عمل فني يكمن في إستغوار مناطق جديدة في الذهن الإنساني ومناطق جديدة غير مأهولة على سطح اللوحة. أي بمعنى أنني أعالج مشاكل تقنية لها علاقة بالثيمة، وصياغة أشكال لم تُصغ ولم تُعالج من قبل. أعتقد أن أحد أسرار العملية الفنية التشكيلية تحديداً، وأنا أتحدث هنا عن العملية الفنية المعاصرة التي تعبّر عن المعاصرة وعن التراث الإنساني غير المنظور هو كيفية التدرّب على إعادة تشكيل اللحظة، على إعادة تشكيل المصادفة في اللوحة. كيف أعيد المصادفة والعفوية في اللوحة. المصادفة والعفوية اللتان وُجدنا فيها مراراً، وتعلمنا كيف نتواجد في مناطق مختلفة من هذا العالم! إنني أميل إلى الارتجال في اللوحة، كما الإرتجال في الشعر. أن أرتجل في اللوحة من دون المسودات أو السكيجات التي تفسد بهاء اللحظة وتكثيفها، وتفسد تفاقم الحدث الذهني والحسي في آن. *عجينة اللون * ما هي الحاجة الأساسية التي تدفعك لاستخدام الكثافة اللونية على ملمس القماشة؟ هل تبغي الحصول على تضاريس شكلية وكأنك تقدم للمتلقي حفراً بارزاً، أم أن هناك مقاربة أسلوبية حبيسة في ذات الفنان؟ - أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين الكثافة اللونية، أي بين عجينة اللون وبين السطح البارز و الملمس البارز في اللوحة. واستخدام كل طريقة على حدة يتطلب بالتأكيد جهداً حسياً عالياً، إلا أن الأكثر مشقة حسياً وتقنياً هو المزاوجة والتوليف بين الكثافة اللونية وعجينة السطح البارز. بمعنى أن الكثافة اللونية لها منطقة حسية مستقلة، وناتجة عن تفاقم حسي وذهني لدى الفنان، وعن إحساس بكثافة الأشياء. في حين أن الملمس البارز له منطقة أخرى مغايرة. لقد مرّت تجربتي الفنية بمراحل عديدة كبقية التجارب الأخرى، مراحل أملتها طبيعة المناخ الفكري والذهني السائد. لقد بدأتُ بمرحلة ( الفيكورتيف ) التي تتخذ من ( الفِكَرْ ) وحدة تشكيلية أساسية، ويتم التصرف بها كتعبير عن فترة كانت قد أملتها طبيعة المناخ السائد آنذاك، ثم تحولت إلى مرحلة ( الكولاج ) والتي تبحث عن تطور أو تغيّر في طبيعة موقفي الحسي إزاء العالم المبني أساساً على فكرة الكولاج. الآن أشتغل بموضوع الكثافة اللونية والسطح البارز، وهو بالتأكيد ناتج عن مؤثرات حسية جديدة أملتها طبيعة المكان وتغيره، طبيعة الثقافة وتغيرها. الإحساس بالمقتربات والمرجعيات الثقافية والحضارية. هنا في أوربا بدأنا نشعر أن لنا مقتربات مغايرة عن مقتربات الفنان الأوربي. وبالتالي لابد أن نبدأ بمرحلة جديدة. فنحن سليلو أول حضارة طينية بارزة حُفرت على الطين قبل أن تحفر الحضارة المعاصرة الآن على أجسادنا وذاكرتنا ومخيلتنا وطريقتنا في التعبير. * بيئة مفجوعة · الأحمر والبرتقالي وتدرجاتهما يشكلان اللونين الطاغيين في الكثير من أعمالك الفنية. ما سبب ميلك إلى هذين اللونين تحديداً، مع الأخذ بعين الاعتبار تعلقك بالأسود وتدرجاته والذي لا يعد لوناً بعينه؟ - أولاً لا أظن أن اللون الأسود وتدرجاته لا يُعد لوناً بعينه. أعتقد أن هناك إشكالاً في الطرح. خذ مثلاً أكثر لوحات بيكاسو شهرة وهي لوحة ( الجورنيكا ) نُفذت بالأسود والأبيض وتدرجاتهما. يقول جون بيرجر في كتابه ( نجاحات واخفاقات بيكاسو ) أن مجزرة قرية ( الجورنيكا ) رُسمت مرتين الأولى رسمها هتلر بالدم، والثاني رسمها بيكاسو بالزيت، أي بالأسود والأبيض. من هنا بالتحديد أستطيع أن أدخل إلى الشق الأول من السؤال. لماذا الأحمر والبرتقالي؟ ولماذا الأسود؟ أقول نحن نشأنا في بيئة اشتهرت بفجائعها، فجائع على شاكلة فجيعة الجورنيكا، حيث الإنفجارات والحروب والدماء والأجواء الملبدة بالرصاص والأمطار السوداء والإنتهاكات. فليس اعتباطاً أن يلجأ رسام قادم من هذه البيئة إلى استخدام هذه الفصيلة من الألوان التي ميزت بيئتنا عن بقية البيئات في العالم المعاصر. أعتقد أن العملية فيها شئ من الانطباعية! الإنطباعيون في أوربا لجأوا إلى تحليل اللون من الطبيعة. ونحن نلجأ إلى تحليل اللون من الفجائع والحروب والبيئة المدَمّرة. أنا لست ضد عملية التلوين هنا، بل ضد التزويقية في الفن. يُفترض أن تحمل اللوحة القادمة من العراق نكهة خاصة تميزها عن بقية اللوحات، وإلا فأنه ليس من المعقول أن يخرج إنسان من بيئة مدَمرة مفجوعة ملوثة باليورانيوم ويرسم هنا بما يمليه المزاج الأوربي، أو يرسم فولكلوراً تزويقياً، أو يرسم فناَ بدائياً ساذجاً، أو يستنسخ أعمالاً من الحضارة الرافدينية، ويقدم كل ذلك على أساس أنه ينتمي إلى حضارة مختلفة، ومقتربات مغايرة. أعتقد أن هناك شيئاً من المراعاة للذائقة الأوربية من أجل العرض والطلب ودخول مطحنة السوق ليس إلاّ. *فن الصرعة واللاقانون * تقيم في هولندا منذ أربع سنوات، وقد اطلعت دونما شك على جزء من المنجز الفني الهولندي. ما هي أبرز التجارب الفنية التي لفتت اهتمامك، وهل هناك مجال للمقارنة بين المنجز الفني العراقي وبين المنجز الفني الهولندي؟ - أعتقد لا تزال أسماء هولندية كبيرة أمثال رمبرانت، فان كوخ وموندريان ماثلة حتى الآن وتمارس سطوتها على بعض أجزاء من المنجز الفني الهولندي، إلا أن الأكثر حضوراً وتأثيراً هي أعمال الفنانين الهولنديين الذين ينتمون إلى جماعة ( كوبرا ) أمثال كارل أبل وكورنيه وغيرهما من المحدثين. أو بشكل أكثر شمولية هو تأثير جماعة ( كوبرا ) على مجمل المنجز الفني المعاصر في كل من هولندا وبلجيكا والدانمارك حيث نشأت هذه الجماعة واشتّقت اسمها من الأحرف الأولى لعواصم الدول الثلاث، ولم تشتق اسمها من أفعى الكوبرا كما كتب أحد نُقادنا! حيث تبقى أعمال فناني هذه الجماعة أكثر ما يلفت الانتباه من خلال ما يقدمه متحف جماعة كوبرا من أعمال متواصلة لفنانيها. وإضافة لما ذكرت فأن مجمل المنجز الهولندي المعاصر حاله حال أي منجز أوربي معاصر ينصّب في إطار الفن الغرائبي وفن الصرعات اللذين يوظفان خامات وتقنيات وأفكار جديدة أخرى. المنجز الفني يتحرك بسرعة ويتغير بشكل أسرع حيث تحكمه الصرعة واللاقانون. بالنسبة للمقارنة بين المنجزين الهولندي والعراقي أستطيع أن أقول إن هناك أوجهاً تجوز فيها المقارنة، وأخرى لا تجوز. بمعنى أننا نستطيع أن نقارن بين التقنيات حيث أن المنجز الفني العراقي يمتلك تقنية عالية وقادر على ترويض مختلف الخامات بشكل يضاهي تقنية وحرفية المنجز الهولندي. وأنا هنا أتحدث بشكل عام من دون تحديد تجارب بعينها. المنجز الهولندي قطع أشواطاً بعيدة كأي منجز أوربي في سبر مناطق جديدة غير مأهولة من قبل، كما أن المقتربات الحضارية مختلفة بالتأكيد، فلكل منجز مقترباته ومرجعياته،لكن على ذكر موضوعة المقارنة هذه أحب أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية مفادها أن معظم تجارب المنجز التشكيلي العراقي وخاصة تجربة الستينيين هي تجارب اكتملت أدواتها وتقنياتها تحت معطف المنجز الأوربي بشكل عام. هذه التجارب احتلت مساحة واسعة زمكانياً في خارطة المنجز الفني العراقي على الرغم من عدم امتلاكها السبق الفني في المنطقة الفنية التي تعمل فيها إزاء تجارب الأوربيين أصحاب السبق في ذلك. لذا تجد أن معظم هذه التجارب الستينية هي تجارب مهمة وريادية على المستوى المحلي العراقي والعربي، لكنها سوف تتقزم بالمقارنة مع التجارب الأم صاحبة السبق في المنجز الأوربي. وهذا ما يفسر بالتحديد توجه تجارب الستينات صوب البينالات المحلية والعربية والأسيوية وحصول البعض منها على جوائز باستثناء تجارب غرافيكية تكاد لا تذكر في بينالات أوربية. وهذا ما يفسر أيضاً وجود تجارب ستينية تعمل وتعرض في أوربا منذ عقد أو عقدين أو أكثر، ولم تحقق انجازاً واضحاً مثلما حققته داخل العراق أو على المستوى العربي إبان عقد السبعينات. * صعوبة التمثل والتقييم * عندما تدخل إلى متحف الفن الحديث في أمستردام. ما هي الانطباعات التي تجتاحك عند رؤية الأعمال التي تمثل آخر الصرعات الفنية في هولندا. ما موقفك من هذه التطورات المتسارعة التي لا تمنح الباحث أو الناقد فرصة للتمثل والمتابعة والتقييم؟ - لقد ذكرت في إجابتي على السؤال السابق أن المنجز الفني هنا في هولندا وأوربا عموماً يتحرك بسرعة ويتغير بشكل أسرع طالما تحكمه الصرعة والغرائبية واللاقانون، كل هذا يؤدي إلى انطباعات تجتاح أي متلقٍ وخاصة من بيئتنا نحن، انطباعات يشوبها شئ من الإرباك والتشويش وصعوبة المتابعة. فمعروضات متحف الفن الحديث تتوفر على قدر كبير من الفنطازيا، وتغير المعروضات باستمرار حيث أن نظام العرض في هذا المتحف يختلف عن نظام العرض في المتاحف الكلاسيكية التي تعرض للجمهور أعمالاً دائمية تمثل فترات مختلفة من تاريخ الحركة الفنية الهولندية، لذا ترى هنا أعمالاً جديدة في كل موسم. أعمال أوربية وهولندية ومن بلدان العالم الثالث واليابان والصين وأمريكا الجنوبية، بحيث يصعب على الباحث والمتتبع الحصول على فرصة كافية للتمثل والتقييم كما ذكرت. هناك فردانية طاغية على مجمل المنجز الفني الهولندي والأوربي. وهناك إعلان واضح لنهاية عصر المدارس والأساليب والتجمعات، وهناك أبواب كبيرة مشرعة نحو فضاءات المجهول، وتسارع في السبق لولوج هذه الفضاءات. * وسائل إيضاح · عرضتَ في العديد من المدن والعواصم الأوربية. كيف تستطيع أن تقيّم تجربتك الفنية من خلال العيون الأوربية، لا العربية؟ - بصدد تقييم التجربة من خلال العيون الأوربية دعني أسوق مداخلة قصيرة. أعتقد أن كل فنان يستطيع أن يحدد ويقيّم موقع تجربته إزاء التجارب الأخرى، تجارب مجايليه، وتجارب الحركة الفنية التي ينتمي إليها، وتجارب المنجز الفني في البلد الذي يقيم فيه، لكن يبقى هذا التقييم ذاتياً ونرجسياً وغير قابل للنشر، لأن تقييم أية تجربة يأتي من الآخرين نقاداً ومتلقين ومتابعين، لكن هذا لا يلغي وجود ضوابط أساسية لفهم أية تجربة. بمعنى آخر أن نجاح أية تجربة، وأنا أتكلم هنا بالتحديد عن أوربا، لا يستند بأي شكل من الأشكال على كمية العروض والبيع، لأنك بكل بساطة تستطيع أن تعرض هنا أي شئ، حتى لو عرضت فراغاً. المهم هو كيف تستطيع أن تسوّق نفسك وتسوّق عملك، وهذا مطب كبير يحوّل الفنان ومنجزه إلى سلعة في السوق تخضع لقوانين العرض والطلب. لقد عرضتُ أنا هنا في العديد من المدن الهولندية، وعرضتُ في بلجيكا، كما عُرضتْ أعمالي في فنلندا والدانمارك وسويسرا وألمانيا وبولندا وأمريكا، لكن هذا لا يعني أن تجربتي بخير، أو هكذا أفهم الأمر. ولكي نعرف طبيعة العين الأوربية في تقييمها لأية تجربة قادمة من الشرق، أعتقد أنه من المعيب أن يتاجر أحد بحضارته هنا في أوربا، هذه الحضارة التي نسجت خيوطها على مدى آلاف السنين بعيداً عن قوانين السوق التي تحوّل الفنان هنا إلى دمية تقدّم وسائل إيضاح مبتذلة عن حضارتها ضمن منطق ماذا تريد كي تعرض لي وأبيع لك؟ أتريد فولكلوراً هذا بساط؟ أتريد لوناً شرقياً هذا شذري؟ أتريد فناً بدائياً هذا جدار حروفي من بيئتي؟ أتريد عملاً رافدينياً هذا فخار سومري مستنسخ؟ ماذا تريد كي تعرض لي لكي أبيع؟ أعتقد أن العيون الأوربية عندما تريد أن تقيّم أية تجربة قادمة من الشرق، أو تشاهد أية تجربة قادمة من الشرق، هذه العيون تريد أن تستمتع بفحولتها الحضارية من خلال الاستمتاع بمشاهدة الخذلان الحضاري الذي يمثله ما يُطرح من تسويق مبتذل لحضارة الشرق. العين الأوربية لا تنبهر أمام اللوحة الشرقية. هذه كذبة كبيرة. العين الأوربية تستمتع بذكورتها أمام لوحة الفرجة! هناك فرق كبير بين الانبهار الحقيقي وبين الفرجة والاستمتاع. أنا على يقين من خلال التجربة أن المنجز الشرقي، وبالتحديد المنجز الفني من وجهة نظر العيون الأوربية محكوم عليه بالبدائية والفطرة وطفولية الحضارة. ومنجز يستعرض كل هذه المفردات، باستثناء المنجز الأوربي المحكوم بالتقنية العالية والجمالية العالية والمعاصرة والحداثة، وما عدا ذلك هو فن لا أوربي وينتمي إلى حضارات أخرى،لكن كل هذا لا يعني أن هناك جانباً مشرقاً في الموضوع. هناك تجارب عراقية شقّت طريقها بنجاح، وطرحتْ بدائل أخرى لهذا الإشكال، وقدمت أعمالاً فيها موازنة حقيقية بين ما هو محلي بيئي وبين ما هو معاصر وحداثوي كانت مثار إعجاب واحترام المتتبعين للمنجز الفني العراقي. هناك فنانون عراقيون عرضوا في غاليريهات مهمة وينتمون إلى تجمعات هولندية. كما لاقت تجربتي استحساناً من قبل المتابعين، وعرضتُ مع أحد الفنانين الهولنديين المخضرمين بدعوة من أحد الغاليريهات عن موضوعة الحرب وتشظيها في ذاكرة الفنان، لكن كل ذلك لا يعني ألاّ تكون هناك هواجس إنسانية كبيرة كنّا وما نزال نتحسسها من خلال تجربتنا في أوربا على مدى السنوات الماضية.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حفل لسيّدة المقام العراقي فريدة في دار الأوبرا في مدينة نايم
...
-
أكرم سليمان في فيلمه الجديد - هلو هولندا -: دقّة المخرج في إ
...
-
المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: شعوب الشرق الأوسط هم
...
-
المخرج جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: الفيلم التسجيلي هو ع
...
-
جمال أمين لـ - الحوار المتمدن -: لو لم اكن مخرجاً وممثلاً، ل
...
-
مهرجان السينما العراقية الثاني في لاهاي: ملامح جديدة لأفلام
...
-
حدوس ثاوية
-
المخرج العراقي ماجد جابر: الحيادية والتلقائية هما من مقومات
...
-
المخرج هادي ماهود: علينا أن نستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام و
...
-
المخرج هادي ماهود: الإنسان البسيط يتحدث على سجيته، ولا يتصنّ
...
-
المخرج هادي ماهود: لم أكن سعيداً بفيلم - جنون - الذي فاز بجا
...
-
الفنان ستار كاووش لـ - الحوار المتمدن -: أحب الموضوعات التي
...
-
الشاعرة التونسية زهرة العبيدي لـ - الحوار المتمدن -: القصيدة
...
-
موفَّق السواد في (أسرَّة الفتنة): مُخيّلة مشتعلة تستقطر عسل
...
-
هادي ماهود في فيلمه التسجيلي الجديد - العراق وطني -: كوميديا
...
-
مدخل إلى نصب الحرية - لعدي رشيد: تفتيت الحبكة، وتشتيت الأحدا
...
-
الفنان الهولندي خيرت يان يانسن: أكبر مزوِّر في القرن العشرين
...
-
فيلم - فيزا - لإبراهيم اللطيف الحاصل على التانيت الذهبي لعام
...
-
المخرج عدي رشيد في فيلمه الجديد - غير صالح للعرض -: بنية الت
...
-
- الرحلة الكبرى - للمخرج المغربي إسماعيل فروخي: عدسة مُحايدة
...
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|