|
مَراكش؛ جبل توبقال
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4071 - 2013 / 4 / 23 - 16:36
المحور:
الادب والفن
1 ـ إمليل: زيارتي الأولى لمدينة " مراكش "، الموافقة لصيف 2008، أعادتني عشرين عاماً إلى الوراء؛ إلى حرّ المشرق اللاهب، الذي يصهرُ في بوتقته الكائنات والموجودات. درجات الحرارة في شهر تموز/ يوليو، كانت تتجاوز الخمسين، مما لم آلفه من قبل قط. حقّ لدهشتي أن تتفاقم آنذاك، عند ملاحظتي كروت بوستال في مداخل بعض المحلات، المصوّرة مناظر رائعة لمناطق جبلية تتبع " مراكش "، تنحدرُ من أعاليها الشلالات، فيما القمم الأكثر علواً تهمي عليها الثلوج. كانت أسماءٌ غريبة ( علمتُ لاحقاً أنها أمازيغيّة )، منطبعة ثمّة على تلك الكروت؛ مثل " اوريكة "، " اوزوت " و" إمليل ". هذه الأخيرة، تسنى لي حظ رؤيتها خلال زيارتي الخامسة لمدينة الحمراء، المصاقبة لربيع عام 2010. يجدر هنا التنويه، بأنني قبل حظوتي بتلك الزيارة، كنتُ ألحظ عياناً مشهدَ " جبل توبقال "، المكلل بالثلج معظم العام، والذي يتجلّى محدقاً بالمدينة من جهة " باب اغمات "؛ ثمّة، أين كنت أقيم في منزل حمويّ. قريبٌ لامرأتي، كان قد تعهّد مرافقتنا إلى تلك الأنحاء العصيّة، الساحرة، المشكّلة جزءاً من سلسلة " الأطلس " الجنوبيّ؛ هوَ من امتلك سيارة حديثة تتسع لثمانية ركاب، منذورة لإيصال السيّاح الأجانب إلى النزهات البعيدة. وإذن، انطلق ركبنا في صباح جميل، مشرق، ميمّماً شطره أولاً إلى جهة الجبل عن طريق يحاذي أسوار المدينة. وعلى الرغم من السرعة الفائقة للسيارة، والاتوستراد العريض الذي تخترقه، فإن ما يزيد عن النصف ساعة قد مضت وكانت قمم تلك الجبال ما تفتأ تبدو لأعيننا كغيمات ناصعة تسبح في السماء الزرقاء. رويداً، أخذ المنظر ذاك بالتشكّل على هيئة أخرى، أكثر وضوحاً. إذ بدت الجبال برواء لونها الأحمر، النبيذيّ، الذي منه استمدّت المدينة أحدَ اسمائها: " الحمراء ". ولكنه اللون القدسيّ، الأخضر، هوَ من كان عليه عندئذٍ أن يطغى على مشاهد الطريق؛ لون الأشجار المحدقة بجانبيه، وخصوصاً الأوكاليبتوس، إلى الغابات الصنوبرية المتسلقة قمم الصخور والناشرة عطرها طوال الطريق. كروم الزيتون والتين والصبّار، كانت هيَ الأخرى تترى قدّام أعيننا، لتضافر من روعة المنظر الربيعيّ، المونق. " هذا هو النهر، الآتي من ناحية شلالات إمليل " قال أحد رفاق الرحلة، مشيراً إلى المنحدر الخطر، المنتهي بذلك النهر الدافق. منذئذٍ، ستغادر مركبتنا الاوتستراد الفاره، لتستهلّ مغامرة التوقل في الطريق الجبليّة، الضيّقة، والمحفوفة بالوديان السحيقة الغور. في بعض الأحيان، كان على السيارات الصغيرة أن تتوقف إلى جانب الدرب، كي تفسح المجال لحافلة سياحيّة كبيرة، قادمة من الاتجاه المعاكس. مضى نحو الساعة، ومركبتنا متوغلة في الطريق الجبلية، إلى أن أخذت بالانحدار فجأة مع انبثاق مشهدٍ جديد. اسمُ " إمليل "، ردّدته أصوات من حولي، ما أن انفتح الوادي على مكان مأهول بمنازل ريفية كانت متناثرة هنا وهناك، جمعاً وفرادى. ترجلنا إذن من السيارة، فيما سائقها مضى بها نحو مطعمٍ رياضٍ، كان قد حجز لنا فيه وجبة الغداء. الجبال المهيبة، الحالقة، تطوّق هذه البلدة من جميع الجهات، وبعضها مصبوغة القمم بنصاعة الثلج. النهر، ينحدر من القمم العالية، ليشكل جداول متعددة، هيّنة العمق بمعظمها. هناك، أخذنا العديد من الصوَر التذكاريّة، والتي ستبهرُ فيما بعد أصدقاءنا في موطن إقامتنا، الأوروبيّ الشماليّ؛ الذي لمّا يفق بعدُ من سباته الشتويّ، الطويل. المطعمُ الرياضُ، آنف الذكر، ظهرَ لعينيّ من الخارج كما لو أنه قلعة حصينة. ارتقينا الدرجات الحجرية، الضيّقة، صعوداً نحو سطح الدار. ثمّة، شدهتُ بالمناظر الخلابة، الممتدّة بجلاء أينما ذهبَ البصرُ. الهواءُ كان لاسعاً هنا، مما جعل أكثرنا يشدّ معطفه الربيعيّ على جسده. بيْدَ أن الشاي الأخضرَ، المنعنع، عليه كان أن يسري بدفئه في أعضائنا. البنات، كن جالسات على طرف السور الواطيء، يحتسين الشاي ويتبادلن الحديث. عندما مضيت إلى جهتهن، راعني منظرُ الهوة السحيقة، التي يشرف السور عليها. إذاك، أبديتُ أمام الآخرين استغرابي من اهمال شأن السلامة في هكذا موضع، شديد الخطورة. إلا أن المغاربة، كما سألاحظه دوماً، يبدون وكأنهم قد اعتادوا على معايشة الأخطار المختلفة. على ذلك، فإن ملاحظتي تلك لم تجلب سوى ابتسامات الحضور. حتى أشارَ أحدهم إلى ناحية الجبل، المواجه لموقفنا: " انظر إلى هذا الرياض، المتربّع فوق تلك الصخرة العظيمة. إنه من أغلى النزل هنا، لأنّ السيّاح يفضلونه بسبب موقعه ". عندما أرسلت نظري نحو ذلك الرياض، المعنيّ، فإنني استهولتُ فكرة الاقامة فيه. فما أن افصحتُ عن فكرتي، حتى قهقه الآخرُ: " إنّ شلال إمليل، الذي سنصعد إليه بعد قليل، هو في أعلى الجبل نفسه "، قالها مشيراً هذه المرة إلى القمم الصخرية، الخضراء. 2 ـ أوريكة: الطريق إلى " أوريكة "، الذي سلكته سيارتنا في كانون الثاني / يناير 2013، يشبه إلى حدّ بعيد ذاكَ المَوْصوف، المؤدي إلى " إمليل ". في رحلتنا الجديدة، المتناهية إلى أعالي " جبل توبقال "، استخدمنا هذه المرّة سيارة أجرة، عتيقة الطراز، انطلقت بنا من محطة خاصّة بتلك الأنحاء. السائق، وكان بالكاد يبلغ العشرين من العمر، هو أصلاً من " أوريكة " ـ كما علمنا منه. وإذ أظهرَ الشابّ براعة في اجتياز الممرات الجبلية، الضيقة والخطرة، إلا أنه سبّبَ لي القلق خلال النصف الأول من الطريق، حينما راح يُسابق أحدث السيارات ويتجاوزها بسرعة متهوّرة. قبل الوصول إلى غايتها، مرّت المركبة بإحدى القرى الأمازيغية، وتدعى " ستي فاطمة "، منازلها حجرية وطينية، حيث تتهدل على جدرانها خصلات البوغنفيا ( المجنونة )، فيما أشجار الأكيدنيا والتين والزيتون تتجاور على جانبيّ الطريق. فما أن اجتزنا القرية، حتى انفتح وادٍ مراح أمام أعيننا، يقع النهر في جهته اليسرى، فيما العمران يتدرّج في جهته اليمنى فيتصل بسفح الجبل: هذه هي " أوريكة "؛ درّة مصايف المدينة الحمراء وأكثرها شعبية. النهر، الشحيح المياه في هذا الفصل من السنة، يشكّل ما يشبه السواقي الكثيرة العدد، المتسرّبة بين كتل الصخور، الناصعة البياض، وقد تبدى لي الحصى، ثمّة تحت أشعة الشمس، كحبيبات من الماس. على حافة النهر، أين تطلّ المقاهي بروائح أطعمتها التقليدية، الشهية، كانت هررة صغيرة تطاردُ دجاجات مشاكسة تزاحمها على الفتات، المتساقط من أيدي الرواد. هناك، حيث تزاحمت جماعتنا حول طاولة كبيرة، ركنت هرة بيضاء بحجم الكف، مسترخية فوق قماش منمنم، تتمتع بالدفء والهدوء. كنت أتسلى بمنظر هذا الحيوان الأليف، الضئيل الحجم، عندما لاحَ الجبلُ لعينيّ ببريق غريب، غير مألوف. فما أن دققت نظري بتلك الأعالي، حتى هالني أن أعلم بأنّ مصدرَ البريق ليسَ سوى ألواح الصبّار: إنها المرة الأولى، ولا مَراء، التي يصادفني فيها منظر كرم هائل من الصبّار وهو يغطي جبلاً من قاعدته حتى قمّته. قبل ذلك، كنتُ قد دهشتُ خلال اجتيازنا الطريق الجبلية، الوعرة، لوجود جدعات الصبّار بين شقوق الصخور؛ أنا من اعتقدت دوماً أن السهوب هيَ المكان الطبيعيّ، المناسب، لهذا النوع من النبات. وكأنما تشبّهاً بالمدينة الكبرى، " مراكش "، فإن لهذه البلدة أيضاً منارتها، المربعة الشكل، المزهوّة بلونها النبيذيّ، والمنبثقة خلل المباني الحجرية، التي يغلب عليها نوعاً طراز العمارة الحديثة. وكما سبق وأشرتُ، فإن النهرَ يجري في الجهة المقابلة للبلدة المأهولة؛ ثمة، أين تمتد عشرات الجسور الخشبية، أو المصنعة من الحبال، الموصلة إلى الجهة الأخرى من الوادي. أحد هذه الجسور، وكان من الضيق أنه لا يكاد يتسع لمرور شخص واحد، يبتدأ من على مبعدة أمتار من شرفة المقهى، الذي اخترنا الجلوس فيه. هذه الشرفة، كانت ترتفع بمقدار مترين عن أرض الوادي، المنسابة عبره جداولُ النهر المتساقط من الأعالي؛ من الشلالات الغزيرة المياه، والتي علمتُ أن عددها تسعُ. ولكن الماء هنا، في مسيل الوادي، كان هيّن الغور في أماكن عديدة حولنا حدّ أن الأهلين والزائرين لم يكونوا على خشيةٍ من مضيّ أطفالهم إليها بغية اللهو. كذلك يمكن رؤية كراس وطاولات في المقهى المجاور، وقد انزلقت أرجلها في ماء تلك الجداول الجميلة، المتلألئة بالحصى الملوّن. وإذ عمدَ بعض الصبيَة إلى مطاردة القطط والدجاج، فإنّ رجالاً مهندمين بملبس البداوة كانوا قد حضروا مع جمالهم وخيولهم بهدف تأجيرها للراغبين في جولة خِلل الوادي وطرقات البلدة. لحظتُ أن أحد الجمال قد أخذ بالاقتراب من مجلسنا، غير آبهٍ لصيحات صاحبه، المنذرة. سرجُ الجمل، كان من الوبر الأصفر، المائل إلى البنيّ، وقد فكّرتُ لحظتئذٍ أنه ربما يكون مصنوعاً من جلد أحد أبناء جنسه، المذبوحين..! للرحلة صلة..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشار ابن أبيه
-
موت ممثل صغير
-
الغرب يسلّم سورية للملالي
-
حادثة قديمة
-
مَراكش؛ بواكٍ، أبوابٌ، بئرُ
-
توم و جيري: اوباما و بشار
-
مَراكش؛ أسواقٌ، أعشابٌ، بذرُ
-
العودة إلى المربّع الأول
-
القدم اليتيمة
-
مَراكش؛ أصباحٌ، هاجراتٌ، بَدْرُ
-
مَراكش؛ أذواقٌ، أصواتٌ، بَصَرُ
-
مَراكش؛ زوايا، أماكنٌ، بؤرُ
-
مَراكش؛ أشجارٌ، عرائشٌ، بشرُ
-
شبّيحة علويّة، شبّيحة كرديّة
-
حكاية شبّيح
-
لأجل من قامت الثورة..؟
-
ماردين؛ مِحَن الأسلاف
-
مازيداغ؛ مسالك الأسلاف
-
حلب؛ حلول الأسلاف
-
الحسكة؛ معسكر الأسلاف
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|