|
الجحيم القرآني أو جهنم الإسلامية - تطور الإسكاتولوجيا من المعتقدات الشرقية للقرآن
الناصر لعماري
الحوار المتمدن-العدد: 4070 - 2013 / 4 / 22 - 15:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سوف لن نتعرض خلال بحثنا هذا لمشروعية العذاب الإلهي ، لكن سنكتفي هنا بدراسة صفات مقر العذاب الآخروي في الإسكاتولوجيا الإسلامية ، ونعرج على أصل وجذور وتطور هذه المعتقدات الآخروية وطيفية نشأتها .
ملاحظة : مفردة الإسكاتولوجيا تعني "السيناريوهات الآخروية " أو" المعتقدات الآخروية "
1- وصف مقتضب للإسكاتولوجيا الإسلامية
مقر العذاب الآخروي في القرآن له تسميات عديدة منها " جهنم "، " سعير " ، " النار " ،" الحطمة " ..، كلها أسماء مختلفة تدل على منطقة نارية جعلها الإله لتعذيب الكفار من البشر ، وكذالك الأشرار ، يقول القرآن : " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ " البقرة24 "وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ " البقرة39 "ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا " قرآن .
في عقائد الإسلام الأرثدوكسي ، إذا مات الإنسان غادرت روحه الجسد، لكنها ما تلبث أن تعود إليه بعد أن يودع القبر ، فيسأله ملكان، نجد إسميهما في الحديث المحمدي (منكر ونكير ) ،يقول محمد : "((إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، وأما الكافر والمنافق فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين)) ( رواه البـــــخاري ومســــلم ) . وهذه العقيدة يشترك فيها السنة و الشيعة . نقرأ في كتب الشيعة :
* روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال : «مَن أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا : المعراج ، المساءَلة في القبر ، والشفاعة» (الأمالي للشيخ الصدوق : ص 242 ،المجلس 49 ، ح 5 . / المجلسي في البحار : ج 6 ، ص 223 ) .
ويبقى الميت على هذه الحال في حياة برزخية ، في نعيم او عذاب إلى أن تأتي ساعة الحساب الجماعي ، فـيقوم الناس من الأجداث للحساب ، و تدمر الأرض و تتحرك الجبال ، وتشتعل البحار بالنار ، ; ويجتاز الناس امتحان الصراط ، وهو عبارة عن قنطرة موضوعة فوق جهنم( يجب التنويه أن فكرة الصراط ليست واضحة في القرآن ، لكنها مذكورة بشكل أوضح في صحيح البخاري ومسلم ) : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث الرؤية وصفة الصراط .... وفيه : قيل يا رسول الله : وما الجسر ؟ قال : (( دَحْضُ مَزَلَّةٌ , فِيْهِ خَطَاطِيفُ , وكَلالِيبُ , وحَسَكُ تَكُونُ بِنَجْدٍ , فِيْهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ , فَيَمُرُّ المؤمِنُونَ كَطَرْفِ العَيِن , وكَالبَرْقِ , وكالرَّيحِ , وكالطَّيْرِ , وكأجَاوِيْدِ الخَيْلِ والرِّكَابِ , فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ , ومَخَدُوشٌ مُرْسَلٌ , ومَكْدُوسٌ في نَارِ جَهَنَّمَ )) . حديث متفق عليه(بخاري ومسلم ) . وينتهي أهل الكفر إلى النار وأهل الإيمان إلى الجنة .
من صفات النار في القرآن :
1-موقعها :
غير مذكور في الكتاب ، مع أن القرآن يشير لمفردة "الهاوية "، وهي نفسها المذكورة في التوراة على أنها مكان أرضي ، مكان اللاعودة ، وهذا المفهوم مستمد من المخيال الالشرقي لأرض اللاعودة أو" كور" كما عند البابلين . ( سنعود لهذه المفاهيم بعد قليل ) 2- لها سبعة أبواب :
" وَإِنَّ جَــهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَــبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ " [الحجر:43-44]
3- طعام الجحيم الإسلامي:
"إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم" سورة الدخان "أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم" الصافات "ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالؤون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين نحن خلقناكم فلولا تصدقون" الواقعة "ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع".الغاشية "فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يكله إلا الخاطئون". الحاقة ، قال ابن عباس ("من غسلين " هو صديد أهل النار) "هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " ص "ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه". ابراهيم . قال مجاهد : "ويسقى من ماء صديد" يعني القيح والدم ، وقال قتادة "ويسقى من ماء صديد" ما يسيل من بين لحمه وجلده ! . "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " "وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" محمد
4 -ملائكة عذاب
تأخذ الكافر الذي لا يؤمن بالله و تجره بسلسلة طويلة وتلقي به في الجحيم : "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) ....... خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) " [الحاقة/25-37]
هذا ملخص سريع استعدنا فيه أهم مراحل السيناريو الآخروي الإسلامي مع وصف مقتضب للجحيم الإسلامي .
2- دراسة أصول وتطور الإسكاتولوجيا القرآنية
لا يخفى على أي دارس لتطور الآخراويات الشرقية أن الجحيم و السيناريو الآخروي الإسلامي ما هو إلا امتداد للإسكاتولوجيا الشرقية عامة .
الإسكاتولوجيا التوراتية غامضة نوعا ما، لهذا نجد الأستاذ فراس السواح يقول في كتابه " مغامرة العقل الأولى " فصل الجحيم التوراتي : " يمكن القول أن مسألة الموت والعالم الآخر قد عولجت في التوراة بكثير من الغموض والتناقض ، فما تعطيه النصوص المتأخرة يختلف عما قدمته النصوص السابقة " انتهى. نلمح تطور الأفكار الآخرروية عند اليهود ، في النصوص القديمة لا نكاد نرى أي مفهوم لحياة ما بعد الموت أو البعث .
يقول الأستاذ فراس السواح - ألغاز الأناجيل - قيامة يسوع :
" النظرة التوراتية لحياة ما بعد الموت لم تكن تختلف عما هو سائد في المنظومات الدينية المشرقية والكلاسيكية على حد سواء. فروح الميت تمكث مدة ثلاثة أيام إلى جانب جثمانه في القبر، ثم تهبط منه إلى هوة سفلية تدعى في التوراة شيئول (أو الهاوية وفق الترجمات العربية)، وهي تعادل العالم الأسفل كور في الديانة الرافدينية، وهاديس في الديانة اليونانية والرومانية. وهناك تستمر في وجود شبحي لا حرارة فيه ولا طعم. وعلى حد وصف سفر إشعيا فإن الموتى "يضطجعون معاً لا يقومون. قد خمدوا كفتيلة انطفأوا." (إشعيا 43: 17). ووصف سفر إرميا: "ينامون نوماً أبدياً ولا يستيقظون." (إرميا 51: 39). هذا النوم الذي لا صحوة منه يعبر عنه أبلغ تعبير هذا المقطع من سفر أيوب: "لأن للشجرة رجاءً إن قُطعت تُخلِفُ أيضاً ولا تَعدم خراعيبها. ولو قدِم في الأرض أصلُها ومات في التراب جذعها فمن رائحة الماء تُفرخ وتُنبت فروعاً كالغرس. أما الإنسان فيموت ويبلى، يُسلم الروح فأين هو؟ يضطجع ولا يقوم." (أيوب 14: 7: 12). " انتهى الإقتباس
ويضيف الأستاذ فراس السواح قائلا:
" والنبي صموئيل وهو واحد من أعظم أنبياء التوراة يهبط بعد موته إلى الهاوية. وقد عمد الملك شاؤل إلى استحضار روحه من العالم الأسفل لكي يستشيره، وذلك بواسطة وسيطة روحانية. فصعد صموئيل من عالم الموتى على هيئة شيخ مغطى بجبة، فخر شاؤل على وجهه إلى الأرض وسجد. فقال صموئيل لشاؤل: "لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟ فقال شاؤل: قد ضاق بي الأمر جداً." (صموئيل الأول 28)." انتهى .
قد أدركنا إذن أن الوصف التوراتي القديم لا يتضمن مفهوما للحياة بعد الموت أو البعث ، وهذا يوافق الوصف الشرقي القديم لأرض اللاعودة ( سنشير بعد قليل لأسطورة نزول عشتار لأرض اللاعودة ) ، لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن ، هو التالي : بما أن فكرة البعث والقيامة ليست توراتية الأصل ، من أين أتت مفاهيم العالم الآخروي و البعث والحياة بعد الموت في التقليد اليهودي المتأخر و من بعده عند المسيحين وصولا إلى القرآن ؟؟؟ نقرأ للأستاذ نبيل الفياض في مقالته - تاريخ الملائكة :
"في عام 586 ق.م.، غزت قوات الإمبراطوريّة البابليّة اليهود، فدمّروا هيكلهم وحملوا معهم جزءاً من السكّان اليهود إلى السبي. وكان المسبيون مشكلين على نحو خاص من المتعلمين ومن الطبقة العليا إضافة إلى أفراد من العائلة المالكة. استمر " السبي البابلي " خمسين عاماً تقريباً. عام 539 ق.م.، غزا الــفرس، بقيادة الملك كوروش الأخميني، بابل، وعام 538 ق.م.، أصدر الملك قراراً قال فيه إنه يسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم الأم. لم يُطلق فقط سراح المسبيين، بل قام كوروش، وإلى حد ما بعض خلفائه من الأخمينيين، بدعم إعادة بناء الهيكل أيضاً. " ويضيف الأستاذ الفياض قائلا : " أعلن ماثيو بلاك بشكل لا لبس فيه في الـ Peake’s Commentary، أن " ما نعرفه عن اليهوديّة، باعتبارها متميّزة عن ديانة إسرائيل القديمة، أنها ظاهرة ما بعد سبيية " " بل إن سي دبليو كينغ، قبل ميلز بأعوام، كتب عام 1887 قائلاً، إن اليهود أخذوا ملائكتهم، إيمانهم بخلود النفس، اعتقادهم بالحياة ما بعد الموت، الدينونة الأخيرة وفكرة الثواب والعقاب بعد الموت، " الأخيرة تتم على بحيرة مشتعلة "، مــــن " مخطط زرادشتي " . وهو ما أوصل جي ف موور إلى الاستنتاج عام 1927: " إن علماء كثر مقتنعون أن منظومة الأفكار اليهوديّة برمتها استولى عليها اليهود من الزرادشتيين ". انــــتهى الإقتباس .
ويذهب أستاذ الميثولوجيا فراس السواح إلى نفس الرأي في قوله :
فراس السواح - ألغاز الإنجيل - قيامة يسوع " ولم تكن بقية الشيع الدينية في فلسطين بدورها تؤمن بقيامة الموتى، ولم يكن القبر بالنسبة إليها إلا معبراً إلى عالم الأخيلة والظلال السفلي، شأنها في ذلك شأن بقية العبادات السورية. إلا أن التبادل الثقافي الذي حصل مع فـــــارس خلال فترة الحكم الفارسي لبلاد الشام فيما بين عام 539 ق.م وعام 332 ق.م، قد أدى إلى انتشار بعض الأفكار الدينية الزردشتية في المنطقة، وأهمها فكرة مخلّص البشرية الذي سيظهر في نهاية الأزمان، وفكرة القيامة العامة للموتى وعودة الروح إليها من أجل الحساب الأخير. " انتهى الإقتباس .
بل إن الملفت للنظر ، هو تمسك بعـــض اليهود بالخط الإسكاتولوجي التوراتي القديم ( عدم قيام الموتى) ، وذالك حتى في العصور المتأخرة جدا ، أي في القرن الأول الميلادي ويذكر الأستاذ فراس السواح بعض الشيع أو المذاهب اليهودية و معتقداتها الآخروية ( الإسكاتولوجية ) 1- فرقة الفريسيسن " ترسخت ( أي تلك المفاهيم الزرادشتية الجديدة ) تدريجياً لدى إحدى الفرق اليهودية الرئيسية في القرن الأول الميلادي، وهي فرقة الفريسيين التي آمنت بالقيامة الجسدية " للموتى في يوم الرب الأخير " انتهى الإقتباس . 2 - فرقة الصدوقيين " أما فرقة الصــدوقيين وهي الفرقة الرئيسية الثانية التي كانت مسطيرة على الهيكل وطقوسه، فقد بقيت ملتزمة بالتفسير الحرفي للتوراة وأنكـــرت البعث معتبرة أن الروح تموت مع الجسد وكلاهما لا يقوم. " انتهى الإقتباس . 3- فرقة الأسينين : " وفيما يتعلق بالفرقة اليهودية الثالثة وهي فرقة الأسينيين الأقل شأناً، فإن الشواهد من مخطوطاتها المكتشفة في موقع قمران، تكشف عن موقف ملتبس وغير واضح من هذه المسألة. ... فراس السواح- لاهوت إبليس الملاك الساقط - الأفكار التأسيسية " انتهى الإقتباس .
قــــبل أن نواصل في تبيان تطور الإسكاتولوجيا اليهودية ومرورها من البنية الشرقية القديمة إلى المنظومة الزرادشتية ، نوضح أولا أهم المعتقدات الآخروية الزرادشتية الفارسية ، يقول الأستاذ فراس السواح في مقالته ، " الديانة الزرادشتية " : " يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية. فبعد أن يودَع الميت في القبر، تمكث روحه عند رأسه ثلاثة أيام تتأمل في حسناتها وسيئاتها. وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة ويواسونها إذا كانت من الأرواح الصالحة، أو ملائكة العذاب الذين يذيقونها عذاب القبر إذا كانت من الأرواح الشريرة. وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب، فتمثُل أمام ميترا قاضي العالم الآخر الذي يقف خلف ميزان الحساب، وعن يمينه وشماله مساعداه اللذان يقومان بوزن أعمال الميت، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الكفة الأخرى، ليتوجه بعد ذلك إلى الفردوس أو إلى الجحيم عبر طريق يدعى بصراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير عليه الهوينى إلى الجهة الأخرى حيث بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الشريرة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار الجحيم. يتألف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، وكل طبقة تستقبل أهلها حسب فداحة ذنوبهم وتقدم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاثة درجات تنتهي بالسماء العليا المدعوة نمارو ديمانا، أي مسكن الغناء، وهناك تقيم الروح في بَرَكة وسلام إلى يوم القيامة.مع ظهور المخلص تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اُتخمت به من عظام الموتى، ويُفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم، حيث يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حياً إلى يوم الدينونة. عند ذلك يسلط الملائكة ناراً على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهراً من السائل الناري يرده الجميع، فأما الأحياء فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافيء، وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفنيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم. وفي ذلك الوقت يكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ الشيطان أنجرا ماينيو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعاً ويتم التخلص من آخر بقايا الشر. كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليماً من أقاليم الأرض الزاهرة، التي تحولت إلى جنة يسكنها الصالحون خالدين فيها أبداً. " انـــــــتهى الإقتباس .
ويوضح انتقال هذه الأفكار الزرادشية للفكر اليهودي بعد السبيي ، في مقالته " لاهوت إبليس " ، فيقول :
"...لكن الأسفار التي تم استبعادها من المجموعة الرسمية، وأسفار أخرى تم تدوينها لاحقاً وصولاً إلى نهاية القرن الثاني الميلادي، وجميعها اعتبرت منحولة، أي معزوة إلى أسماء شخصيات توراتية لم يكونوا مؤلفيها الحقيقيين، مارست تأثيراً على الفكر الديني اليهودي لا يقل عن تأثير الأسفار الرسمية، ومدت الفكر الرباني والتلمودي اللاحق بكثير من عناصره المؤسِسة. وبتأثير من الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية، فقد قدمت هذه الأسفار غير الرسمية أفكاراً جديدة على الإيديولوجيا الدينية التوراتية، أهمها فكرة الشيطان الكوني، وصراع الخير والشر الذي يقود حركة التاريخ، والقيامة العامة للموتى في اليوم الأخير. والثواب والعقاب، ومسيح آخر الزمن، والجنة والنار." انتهى الإقتباس
إذن ، تأسست وعلى هامش التوراة ، أفكار جديدة أتـــت بها الرياح الزرادشتية ، وتبلورت تدريجيا وتجسدت في كتب الهاجاداه والتلمود والشروحات الريبينية أو الربانية (rabbinique) . ويبين الأستاذ فراس السواح في مقاله - لاهوت إبليس- تبلور فكرة العذاب الآخروي والجحيم اليهودي في الهاجاداه والتلمود وغيره من الأفكار التي تطورت : " نشأت على هامش التلمود، وهو المصدر الثاني للشريعة بعد التوراة، خلال القرون الأولى للميلاد، مجموعة النصوص المعروفة بالهاجادة، أي رواية القصص. وهذه التسمية جاءت من استخدام المؤلفين أسلوب القص الميثولوجي لتقريب تعاليم التلمود إلى عامة الناس. " يُفصِّل النص أعمال الخالق البدئية في تكوين العالم خلال ستة أيام وفق ترتيبها في سفر التكوين التوراتي ولكن مع توسع وإسهاب وإدخال عناصر جديدة على القصة الأصلية. فقد خلق الرب السماوات سبعاً طباقاً والأرضين مثلهن سبعاً طباقاً أيضاً. ثم جعل الرب الجحيم في الجهة الشمالية من الأرض وقسمه إلى سبع درجات لكل درجة منها حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم، وقسم الدرجة إلى سبعة أجنحة والجناح إلى سبعة آلاف كهف، والكهف إلى سبعة آلاف حجرة وفي كل حجرة سبعة آلاف عقرب لكل عقرب منها ثلاثمئة شوكة. وهناك أنهار من حمم تجري في كل مكان وأنهار من قطران وإسفلت تغلي وتضطرم، وهناك خمسة أنواع من النيران وقودها قطع فحم بحجم الجبال، وهناك ملائكة العذاب موزعون في كل مكان." انـــــتهى الإقتباس .
أضع بين أيديكم نصا للعالم اليهودي لويس جينزبرغ من كتابه اساطير اليهود- الجزء الثالث - زيارة موسى لجهنم وللجنة ، ص 222 ، يتكلم هذا النص عن صعود موسى للسموات السبع ووصفه لجهنم وللجنة ، ويعطينا صورة هاجادية رائعة لجهنم ، و هذا النص الهاجادي قديم وقبل إسلامي ، و الأرجح أنه كان منتشر في الجزيرة العربية و ذالك لورود القصة شبه كاملة في تفسير الطبري منقولة عن حــبر يهودي ، (سنوضح هذه المسألة في مقال آخر )
ترجمتي للنص من الفرنسية للعربية : "وعندما قارب موسى على مغادرة السموات ، سمع صوتا يقول : " موسى ، قد أتيت إلى هنا وقد رأيت عرش مجدي . الآن يجب أن أن تزور الجنة والنار " ، وبعث الله جبرائيل ليريه النار . عندما رأى موسى هول النار عند أبوابها ، خاف أن يسير نحوها ، لكن الملاك (جبرائيل) شجعه على المضي للأمام قائلا :" يوجد نار تحميك هناك وإن مشيت عليها فلن تحترق " ، لما دخل موسى جهنم ، تراجعت النار بمسيرة 500 سنة ، وقال خازن جهنم " نزارجئيل" : " من أنت ؟ " ، فقال : " أنا موسى إبن إبراهيم " ، فقال خازن جهنم " نزارجئيل " : " هذا ليس المكان الذي يناسبك ، أنت تنتمي للجنة " ، فقال موسى :" أتيت هنا لأرى قوة الله " ، وعندها ، قال الله لخازن جهنم " إذهب ، و اجعل موسى يرى النار و كيف يعذب الله الأشرار " . فدخل الخازن و موسى لجهنم ، ورأى موسى رجال يعذبهم ملائكة العذاب ، بعضهم تم تعليقه من الأجفان ، وبعضهم معلق من الآذان ، والبعض الآخر معلق من اللسان ، يبكون بشدة ، النساء كن معلقات من الأثــداء أو من الشعر ، وكلهن معلقات بأغلال من النار ، ثم قال خازن جهنم "نـزارجئيل " : أما أولائك المعلقين من جفونهم فلأنهم كانوا ينظرون لنساء الجيران ويصيبون أملاك الغير بالعين الحاسدة ، أما أولائك المعلقين من الآذان فلأنهم كانوا ينصتون لكلام اللغو و يصدون آذانهم عن التوراة ، أما أولائك المعلقين من اللسان فلأنهم خاضوا في حديث اللغو والنميمية و القذف ، أما المعلقين من الأرجل فلأنهم لم يذهبوا لبيت العبادة لتقديم صلوات لربهم ، أما المعلقين من الأيدي فلأنهم سرقوا أموال غيرهم ، والنساء معلقات من الأثداء و الشعر لأنهن أثرن شهوات الشباب لدرجة أنهم رغبوا بممارسة الخطيئة ، وسمع موسى النار تبكي وتتوسل خازن النار ن قائلة " أنا جائعة أعطيني شيئا آكله " فيقول الخازن : ماذا أعطيك ؟ ، تقول النار : أعطيني أرواح الأخيار ، فيقول الخازن :" اله سبحانه لم يجعل أرواح الأخيار لك " " انتـــــــهت الترجمة .
نعود سريعا لإحدى الآيات القرآنية التي تصف جهنم : " وَإِنَّ جَــهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَــبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ " [الحجر:43-44] يجب أن ننوه أن فكرة سبعة أبواب ، فكرة هاجادية كما وضحنا أعلاه نقلا عن فراس السواح ، لكن جذورها تمتد لفترة السبي البابلي .
نقرأ للأستاذ الكبير فراس السواح في كتابه " مغامرة العقل الأولى -فصل الجحيم السومري - ص277" اسطورة نزول عشتار لعالم اللاعودة ( عالم الموت ) :
" في هذه الأسطورة تترك " إنانا" إلهة السماء والحب والنور كرسيها السماوي لتنزل إلى عالم الموتى , حيث مملكة أختها الكبرى "أريشكيجال" إلهة الظلام والموت , في زيارة مؤقتة تعود بعدها للحياة ثانية . ورحلة إنانا هذه تعطينا معلومات تفصيلية عن عالم اللاعودة , فهو عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة , عليها حراص غلاظ شداد , ما إن يقترب القادم من البوابة الأولى , حتى يعلن البواب إسمه لتسمعه أريشكيجال , ثم يقاد عبر البوابات السبع , وعند كل بوابة يتخلى عن شىء من متاعه وملبسه وزينته وفق القوانين الموضوعة لذالك العالم . إلى أن يمثل عاريا أمام أريشكيجال و بطانتها السبع , وهم كبار آلهة عالم الآلهة الأسفل لتقرير مصيره ومكانته ووضعه العام في عالم الأموات " انتهى .
تعود هذه الأسطورة لمنتصف الألفية الثانية ق.م , هناك نسخة أكادية ونسخة سومرية وتسخة بابلية . عالم الموتى أو الجحيم السومري إذن مكون من سبعة دركات و سبعة أبواب , سنذكر مقتطفات صغيرة من أسطورة نزول إنانا إلهة النور والسماء للجحيم في زيارة مؤقتة : " هجرت سيدتي السماء والأرض وإلى العالم السفلي هبطت إنانا هجرت السماء والأرض وإلى العالم السفلي هبطت نبذت السيادة ونبذت السلطان وإلى العالم السفلي هبط إلى جانبها ربطت النواميس الإلهية السبعة جمعت كُلَّ النواميس الإلهية، وضعتها في يدها " وعندما سمعت أريشكجال بالخبر قالت للبواب " اِرفع أقفال بوابات العالم السفلي الســــبعة واِفتح أبوابَ قصر جنزير وجه العالم السفلي وعند دخولها أحضرها أمامي عاريةً تحني رأسها" ......... المصدر : المثولوجيا السورية ـ أساطير آرام ـ للدكتور وديع بشور. الطبعة الثانية صفحة 235 ـ 243
قراءة نص الأسطورة كاملة على النت على الموقع التالي : http://www.aly-abbar...po...sumer.html
ونلاحظ أن فكرة أبواب الجحيم السبعة ( علما أن الرقم سبعة رقم فلكي مقدس قديم ) التي كانت سائدة في كل منطقة الهلال الخصيب والمناطق السورية والكنعانية قد أثرت في الثقافة اليهودية ، و نجد لهذا الفكر المحلي الكنعاني أثرا في القرآن : " وَإِنَّ جَــهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَــبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ " [الحجر:43-44
عــــذاب الــــــقبر
ونعرج سريعا كذالك على الموسوعة اليهودية تحت عنوان HIBBUT HA-KEBER :
" واحدة من سبع انواع من الدينونة او العقاب الالهى للانسان الذى يعانيه بعد الموت كما وصف فى رسالة بعنوان HIBBUT HA-KEBER و تعرف كذلك بمدراش الربى yizhak. Parnak اسحاق بن بارناك طبقا للوصف الذى اعطاه الربى اليعازر R.Kliezer فى القرن الاول الميلادى لتلاميذه فأن ملاك الموت يجسم على قبر الشخص بعد دفنه , و يضربه على يده , سائلا اياه عن اسمه , فأن لم يستطع اخباره بأسمه يعيد الملاك الروح الى الجسد , لتكون حاضرة للدينونة ,و لثلاث ايام متتالية , يقوم ملاك الموت بأستعمال سلسلة مصنوع نفسها من الحديد و نفسها من النار بضرب الميت على كل اعضاءه بما يجعلها تنتزع , بينما يعيدها الجند المعاونون له الى اماكنهم لكى يتلقى المزيد من الضربات , كل اعضاء الجسم , خاصة العينين و الاذنين و الشفتين و اللسان , يتلقون هكذا عقابهم على الخطايا التى ارتكبوها.قال الربى ميير R.meir عن الربى اليعازر R.Kliezer : عقاب القبر هو اعظم حتى من عقاب الجحيم , لا السن و لا النفاق يحمى من عقاب القبر , فقط عمل اعمال الاحسان كأبداء حسن الضيافة , ترتيل الصلاة بورع حقيقى, و قبول التوبيخ بتواضع و حسن نية , هم وقاية منه." ا.هـ
نلاحظ هنا أن فكرة عذاب القبر فكرة هاجادية قديمة لها جذور زرادشتية كما وضحنا أعلاه .
خـــــــــــلاصة :
الجحيم القرآني ما هو إلا امتداد للجحيم الـــهاجادي و التلمودي والريبنيي ، و الذي بدوره نشأ عبر مرحلتين أثناء تطوره ، مرحلة أولى توراتية قبل السبي واثناء السبي البابلي أين نجد فكرة الجحيم التوراتي تـُمَـثل وتــُعـَـبِّرعن أرض اللاعودة البابلية والسومرية التي كانت تحتضن مجرد ظلال و أرواحلا يــُبْعـثون ولا يقومون ، وهي أرض مقسمة لسبع درجات لها سبع أبواب ، ومرحلة ثانية هاجادية تلمودية زرداشتية الأصل، تحولت فيها أرض اللاعودة التوراتية المستمدة من الثقافة البابلية لأرض القيامة النارية الزرادشتية والتي صارت بدورها هاجادية ، و نشأت هنا فكرة البعث والحساب و الملائكة والصراع الكوني ، و انتهل القرآن أخيرا من نبع الهاجادة كل مفاهيمه الإسكاتولوجية منها فكرة القيامة والبعث و مقر العذاب الناري ، ولنا أن نتساءل : هل القرآن يصدق التوراة التي ما بين يديه والتي تعود بجذورها للأساطير البابلية أم الهاجداه الزرادشتية الأصل ؟ .
#الناصر_لعماري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشكلة الله
-
فلسفة الأديان
-
سقوط ألإله عن عرشه
-
خمسة عشر سببًا رائعًا لأن تكون ملحدًا
-
إثبات فلسفي لاستحالة وجود الله اللانهائي
-
مالذي يميزنا عن بقية أقراننا من الحيوانات ؟
-
ليلة الاسراء و المعراج
-
لماذا يستغل الله عصور التخلف لتمرير المعجزات؟
-
فضيلة الوعي
-
معنى الحرية
-
الإله ظاهرة لغوية
-
-العنف ضد النساء-
-
الله , الدين و غباء البرهان
-
أوجه التشابه بين ولادة المسيح و ولادة كريشنا
-
الله والفيزياء الحديثة
-
الإنسانوية : فلسفة الإرتقاء بالإنسان
-
الدين وما أدراك ما الدين
-
كلمة أقتلوهم التى جاءت فى القرآن ......!
-
الاصل التاريخي لمفهوم جهنم
-
قصةُ المرأة في الإسلام
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|