|
برنامج الإصلاح الهيكلي في تونس وصناعة البؤس لشعب على صفيح ساخن
خليفة المنصوري
الحوار المتمدن-العدد: 4068 - 2013 / 4 / 20 - 01:34
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
عندما خرجت الجماهير "الغاضبة" من الأعماق المفقّرة، ضدّ سياسات الحيف الاجتماعي والتّهميش والبطالة الجماعيّة، مطالبة بإسقاط النّظام، لتكتسحَ احتجاجاتهُا كلّ المدن والأحياء الأكثر فقرًا وحرمانًا من ثمار التّنمية، ولتُجبرَ رأس النّظام على الفرار، كانت تؤكّد أنّ العدالة الاجتماعيّة مدخلٌ لكلّ الحريات، وأنّ حقّها في الدّيمقراطيّة والكرامة يَمُرُّ حتمًا عبر مراجعة خيارات منوال تنموي أثبت فشله في الانتصار لعموم الشّعب، منذ سبعينات القرن الماضي، باعتباره المنوال الذي ساهمت الدّولة في صياغته تحت ضغوط مؤسّسات المال العالميّة وتوصياتهِا، بتوقيعها على اتّفاقيات الارتهان والتّبعيّة منذ 1966 مع البنك الدّولي، فمرورا باتّفاقيّة الإصلاح الهيكلي في 1986، ثمّ اتّفاقيّة التّبادل الحرّ لسنة 1995، وانتهاءا باتّفاقيّة "الشّريك المميّز" التي يلوّحون بها الآن، وتحميل تبعات الأزمات الاقتصاديّة إلى كلّ الفئات الضّعيفة والطّبقات المتوسّطة بكلّ شرائحها. وهو النّظام الاقتصادي الذي فوّض لهذه المؤسّسات العالميّة مصير البلاد في إطار الوصاية والاملاءات. ورغم التّبعات الوخيمة لهذه الاتّفاقيات على الفئات والشّرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة وعرضة للتّضرّر، ورغم كلّ مظاهر فشل المنوال التّنموي التّونسي، فإنّ المؤسّسات الماليّة العالميّة بقيت تدعمه وتظهره فوق الأزمات وبعيدا عن العواصف الاجتماعيّة، ورهانها في ذلك القبضة الحديديّة للنّظام وقدرته على الضّبط الاجتماعي ولجم الاحتجاجات، حتّى في أقصى حالات الاحتقان الاجتماعي وانسداد الأفق أمام عموم الشّعب. ولعلّ ما يميّز سياسات صندوق النّقد الدّولي، في البلدان النّامية عموما، أنّها تُقدَّمُ في شكل إصلاحات هيكليّة مرنة تبدو، بالنّسبة إلى الرّأي العام المحلّي، ضرورةً ملحّة لتنشيط الاقتصاد وإخراجه من حالة الرّكود، وبالتّالي، "خلق مناخ من الاستقرار والثّقة المساعد على الاستثمار". ففي غانا مثلا، تدخّل صندوق النّقد الدّولي في الثّمانينات بقرض مشروط بإصلاحات هيكليّة عميقة، تتوجّه بمقتضاها الدّولة إلى إنتاج الذّهب، في إطار التّشجيع على الصّناعة المنجميّة. ورغم التّبعات المجحفة على السّكان، الذين يعيشون على المنتوجات الفلاحيّة أساسا، بتهجيرهم عن أراضيهم لاستغلالها في التّنقيب، وبالتّالي، التّفريط في المساحات المخصّصة للزّراعات، وهو ما نتج عنه نقص في الغذاء والماء الصّالح للشّراب والتّلوّث البيئي، فإنّ الدّولة تحوّلت إلى وكيل متعهّد بحماية مصالح المؤسّسات الأجنبيّة، باستخدام القوّة العسكريّة، عند اللّزوم، في قمع الاحتجاجات الاجتماعيّة على البطالة والفقر ونقص الغذاء والعجز عن مجابهة الأمراض وتلوّث الماء والهواء جرّاء التّفويت في المؤسّسات الحيويّة مثل المستشفيات والمياه. فالإصلاح الهيكلي، من هذا المنظور يعبّر عن إجراءات وتدابير اقتصاديّة عاجلة تقدّم على أنّها مسألة ملحّة لتنشيط الاقتصاد وإخراجه من حالة الاختناق والعجز، بسبب تراكم الدّين الخارجي، وعدم قدرة بلد التدخّل على تأمين خدمة ديونها، وتقلّص احتياط النّقد الأجنبي لديها وعدم كفايتها لتمويل الواردات. ولضمان السّداد، توضع ثروات البلاد على ذمّة المؤسّسات الماليّة العالميّة وتحت إشرافها، بسياسات قصيرة المدى(FMI) أو بسياسات بعيدة المدى(BM). ويرتبط برنامج الإصلاح الهيكلي أساسا بإعادة جدولة الدّيون بشروط وتعليمات تستهدف "استرداد التّكلفة" La récupération des coûts، على المدى القصير، من خلال التّفويت في المؤسّسات العموميّة، والضّغط على الإنفاق العمومي في المجالات الحيويّة، ورفع الدّعم عن المواد الأساسيّة التي تمثّل قوام نفقات الاستهلاك للفقراء، وتحرير التّجارة الخارجيّة، وهي من الإجراءات التي لا تقدّم المؤسّسات الماليّة العالميّة أيّ تنازل بشأنها. وفي تونس، يعود تدخّل صندوق النّقد الدّولي إلى الأزمة الاقتصاديّة للثّمانينات من القرن المنصرم، تحت عنوان "مساعدة الاقتصاديّات الهشّة في البلدان النّامية التي تعاني من أزمات حادة". ولعلّها نفس استراتيجياته التي تدخّل بها في غانا والأرجنتين وأندونيسا، رغم ما تخلّفه دائما من آثار كارثيّة على الاقتصاد وعلى الوضع المعيشي لعموم الفئات والشّرائح الاجتماعيّة. وباعتباره المؤسّسة الماليّة العالميّة الوفيّة لسياساتها وبرامجها واملاءاتها منذ نشأتها، فإنّ صندوق النّقد الدّولي فوّض لنفسه مصير البلاد بفرض آليّات تقليص حجم الدّولة ومسؤوليّاتها في الإشراف والرّقابة الاقتصاديّة، والتّقليص من النّفقات العامة على القطاعات الأكثر حيويّة مثل التّعليم والصحّة والتّغطية الاجتماعيّة. كما فرض على الدّولة التّخلّي عن دورها في التّوظيف الحكومي وإعادة هيكلة القطاع العام في اتّجاه التّفويت في المؤسّسات الأكثر ربحا، وتحرير الأسعار، وإلغاء كافة أشكال الدّعم على المواد الأساسية، بينما تمنح الامتيازات والاعفاءات الضّريبيّة على أرباح الاستثمارات الأجنبيّة. وقد انعكست هذه الإجراءات الاقتصادية سلبا على الوضع المعيشي للمواطن تقشّفا وتدهورا في المقدرة الشّرائيّة، بفعل التّرفيع الجنوني للأسعار، وتقليصا في فرص الشّغل، وارتفاعا في نسبة البطالة، وازديادا في الفوارق الاجتماعيّة. وهو المناخ الذي ولّد التّوتّرات والاحتجاجات الاجتماعيّة منذ السّبعينات، ولاتزال شروط إنتاجها قائمة حتّى في المسارات الجديدة لاستحقاقات الانتفاضة الشّعبيّة، طالما بقيت سياسات الحكومات المتعاقبة اثر 14 جانفي وفيّة لاملاءات صندوق النقد الدولي وتوجيهاته التي عصفت بحكم بن علي. لقد كشفت آثار "الإصلاح الهيكلي" عن طبيعة النّظام الاقتصادي الاستعماري الجديد، المعبّر عن مصالح رأس المال العالمي، والمنتصر للأغنياء، ليكونوا أكثر ثراءا، مقابل تحميل الشّعوب تبعات أزماته الهيكليّة والظّرفيّة لتكون أكثر فقرا وبؤسا اجتماعيّا. فهو النّظام الاقتصادي العالمي الذي يستمدّ قوّته من حلفائه التّقليديين في فرنسا واسبانيا والبرتغال واليونان، ومن وكلائه في البلدان التّابعة أو السّائرة في فلكه، بما في ذلك الحكّام الجدد في بلدان "الثّورات العربيّة"، والتي ثارت على أنظمتها وأسقطت حكّامها، ليستهدف، بالتّالي، الشّعوب في سيادتها وفي لقمة عيشها، وهو ما يفسّر تعاطي صندوق النّقد الدّولي مع استحقاقات الشّعوب بمزيد من التّقشّف والحرمان، ووفائه لسياساته التّفقيريّة وتوجيهاته القديمة في بسط نفوذه على ثروات الشّعوب المستضعفة، والهدف من ذلك كلّه تعطيل المسار الثّوري في دول الحراك الاجتماعي، وبالتّالي، الإجهاز على المطالب الجوهريّة في الدّيمقراطيّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة. إنّ "الثّورة" التّونسيّة، التي قامت ضدّ السّياسات النّيوليبراليّة، المجحفة في حقّ الشّعب، للدّيكتاتوريّة الفاسدة وأسيادها في دوائر المال العالميّة لتسقط الطّاغية، تجد نفسها اليوم فريسة قوى الالتفاف على المسار الثّوري، بتعهّدات سلطة جديدة تجتهد في مواصلة تحقيق أهداف سابقاتها، التزاما منها بالتّوصيّات والاملاءات. وهي أيضا السّلطة التي تتعاطى مع مصير البلاد بنفس الآليات القديمة، وكأنّ الشّروط الموضوعية للمسار الجديد لم تتغيّر. فقد أثبتت حكومة النهضة وشركاءها أنّها لم تخرج عن سياق وضع ثروة تونس وسيادتها على طاولة أصحاب القرار ومصلحة النظام الاستعماري الجديد، لتبرهن على قدرتها في تجديد أسطول العملاء المحلّيين واستعدادها لحماية مصالح أسيادها، حتّى وإن هدّد ذلك السّيادة الوطنية والطبقات الضّعيفة المتضرّرة من اقتصاد الاملاءات والتوصيات. فالشّعب التّونسي الذي انتفض ضدّ اقتصاديّات الوصاية والارتهان لمؤسّسات المال العالميّة، وثار على النّظام الاجتماعي المنتج للبؤس وتفقير عموم الفئات والشّرائح الاجتماعيّة، يجد نفسه اليوم، بعد سنتين من رحيل رأس النّظام، أمام خيار المواجهة من جديد، باعتبار ما تسعى إليه مؤسّسات الإقراض العالميّة، عن طريق وكلائها الجدد، من التفاف وانقلاب على استحقاقات دفعت الجماهير، في مسارها الثّوري، التّضحيات الجسام من أجلها. فحكومة "النّهضة" أثبتت، كغيرها من الحكومات السّابقة، انخراطها كقوّة تعطيل، قد تزيد إلى بؤس عموم الشّعب بؤسًا، بتبنّيها اللاّمشروط لتوصيّات صندوق النّقد الدّولي الأخيرة، والتي تبدو مجحفة في حقّ الفئات الضّعيفة. فقد عمدت حكومة "النّهضة" في "رسالة النّوايا" التي وجّهتها إلى رئيسة صندوق النّقد الدّولي، في شهر فيفري 2013، إلى الإقرار بإصلاحات هيكليّة على سنتين، يتمّ بمقتضاها التّرفيع في أسعار المحروقات والمصادقة على صيغة جديدة تجعلها تحدّد بشكل آلي، وتحرير الأسعار، ورفع الدّعم عن المواد الأساسيّة، وإقرار إصلاح على قانون الضّرائب يسمح بتخفيض نسبة الضّرائب على الشّركات الاستثماريّة، وإلغاء كلّ القيود المسلّطة على التّوريد، مع ما يرافق ذلك من ضغط على الأجور واستنزاف للمقدرة الشّرائيّة، وبالتّالي مزيد التّقشّف. مقابل ذلك لا تجد الحكومة حرجا في الانتصار للأغنياء الجدد على حساب الوضعيّة الاقتصاديّة الصّعبة التي تمرّ بها البلاد، بالتّشجيع على توريد المواد الكماليّة والتّجهيزات الثّمينة من سيّارات فخمة وعطورات، تصل قيمتها عشرات المليارات من الدينارات، رغم الصّعوبات في مخزون النّقد الأجنبيّ. لذلك فإنّ ما تُقْدِمُ عليه حكومة "النّهضة"، في اتّفاقياتها مع صندوق النّقد الدّولي، ليس إلاّ خيانةً للمسار الثّوري وانقلابًا على إرادة الشّعب في التّغيير الحقيقي من أجل العدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانية.
#خليفة_المنصوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بمناسبة يوم الأرض العالمي: النّضال الفلسطيني جزء من النّضال
...
-
من السّياسيّ إلى الثّقافيّ في خطابات شكري بلعيد أو غرامشي ال
...
-
في ذكرى 26 جانفي 1978: لا تزال شروط إنتاج الاحتجاجات الاجتما
...
-
الفعل الثّقافي بين التّأسيس لقيم الحداثة وتهديدات ذهنيّة الإ
...
-
خطاب -النّهضة- بين الجليّ والخفيّ قراءة في مدلول وثيقة داخلي
...
-
احتجاجات العالم وتشكيل الوعي السّياسي الجديد
-
ماذا تحقّق للشّعب من ثورته عشيّة انتخابات التّأسيسي؟
-
المشهد السّياسي التّونسي: من أجل ديمقراطيّة جديدة
-
قراءة سوسيولوجية لواقع -الثورة- التونسية
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|