|
التاريخ الإسلامى والدولة الإسلامية
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 4065 - 2013 / 4 / 17 - 15:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أستأذن القارئ فى تقديم الكلمتين التاليتين على ما قد يكون فى أيتهما من تكرار لشىء مما فى الأخرى. فمن بضعة أيام كتبت شيئا بعنوان "التاريخ الإسلامى" لأقدمه لقراء الحوار المتمدّن، ثم اكتشفت أنى كنت قد كتبت قبل بضعة شهور شيئا بنفس العنوان ولسبب ما لم أنشره. فليسمح لى القارئ بأن أقدّم المقالين دون أن أحاول دمجهما. التاريخ الإسلامى كل شىء فى التراث الإسلامى محاط بقدسية تجعل من الصعب جدا الاقتراب منه بموضوعية وعقلانية، فى حين أن المقاربة الموضوعية العقلانية ضرورة إذا كان لنا أن نحيا حياة إنسانية يحكمها العقل. وفى اعتقادى أن التحرر من قبضة المعتقدات التى تحول دون إخضاع تراثنا لضوء التفكير العقلانى يتطلب أن نعتاد المقاربة التاريخية للموضوعات. )أقصر الحديث هنا على التراث الإسلامى لتبسيط الأمور، لكن تراثنا المسيحى، والقبطى الأورثوذوكسى على الأخص، لا يقل عن تراثنا الإسلامى جمودا وبعدا عن العقلانية.) تعالوا نجرّب أن نقوم بتجربة لإلقاء نظرة موضوعية هادئة على إسهام الإسلام فى الحضارة الإنسانية. فى القرن السابع الميلادى كان الفارق الحضارى بين قبائل شبه الجزيرة العربية وشعوب البلاد التى تحيط بهم فارقا شاسعا. كانت القبائل العربية شديدة التخلف تنظيميا وحضاريا وفكريا بالمقارنة لشعوب الشام وفارس ومصر وبيزنطة. وجاء محمد، ولا شك أنه كان شخصا فذّا، وكان قد اتصل، فى رحلات التجارة، ببعض تلك الشعوب المتقدمة واستوعب شيئا من ثقافتها. ربما يكون ما استأثر باهتمامه بادئ الأمر هو تميّز العقيدة الموسوية على عقيدة قريش وبقية القبائل العربية، فأخذ يدعو قومه إلى اتباع عقيدة أكثر نقاء. لكنه بعد أن اضطر للهجرة إلى يثرب (المدينة) رأى أنه يستطيع أن يجمع تلك القبائل ويوحدها وينظمها، وعلى هذا فإنه حين نقل نشاطه إلى يثرب تغلـّب الهم التنظيمى عنده على الهم العقائدى. ونجح محمد فى أن ينتقل بالقبائل العربية نقلة هائلة وأن يصنع منهم نواة دولة. وتطلعت الدولة الوليدة للتوسّع فى الأقاليم المحيطة بها. وكان مما ساعدها على تحقيق تطلعها أن تلك الدول ذات الحضارات العريقة كانت قد تهرّأت وأصابها وهن الشيخوخة وأنهكتها الصراعات فيما بينها، فاستطاعت القوة الفتيّة المفعمة بحماس عقيدة جديدة أن تـُخضع تلك البلاد دون عناء كبير. وليس ذلك بمستغرب ولا هو بالشىء الفريد. فكثيرا ما نجد فى تاريخ البشر جماعات متخلفة أو حتى شبه بدائية تجتاح بلادا أكثر تقدما وتقيم إمبراطوريات شامخة. ولما استقر العرب فى تلك البلدان المتقدمة لم يجيئوا معهم بنظم للحكم ولا بمؤسسات خاصة بهم، ولا هم ابتدعوا مثل هذه النظم والمؤسسات، بل حكموا بالنظم والمؤسسات التى وجدوها فى تلك البلاد، باستثناء بعض المظاهر السطحية والتسميات الشكلية التى لا تمس الجوهر. وانبعثت فى تلك البلاد بين أبنائها وعلى أساس مقوّماتها الأصيلة حيوية جديدة، وانطلقت إلى إنجازات حضارية كانت مواصلة واستمرارا لتراثها التليد. وإذا استعرضنا بضعة القرون الأولى من المد الإسلامى لوجدنا معظم علماء ومفكرى وحتى فقهاء تلك الحقبة من أبناء تلك الحضارات العريقة، وإن كان من الطبيعى أن يلحق بعض النابهين من العرب بالركب. هذا إطار تخطيطى لانطلاقة الدولة الإسلامية، أقدمه دون أن أدعى أى تبحّر فى دراسة التاريخ عامة أو التاريخ الإسلامى خاصة. إنما غرضى من عرض هذا الإطار هو أن أقول إننا أحوج ما نكون إلى النظرة التاريخية الموضوعية، فتلك النظرة التاريخية الموضوعية لنشأة الإسلام وللتاريخ الإسلامى هى وحدها الكفيلة بأن تحررنا من الأوهام والأكاذيب التى تستعبد وتكبّل عقولنا. ومن المؤسف أن تلك الأوهام والأكاذيب رسخت واستقرت وأصبحت مسَلـّمات لا تـُساءل ولا تناقش، بل أصبحت مجرّد محاولة الاقتراب منها تـُعَدّ جريمة تترتب عليها تبعات خطيرة لمن يجرؤ على القيام بالمحاولة. وأطفالنا يلـَقـّنون تلك الأوهام والأكاذيب منذ نعومة أظفارهم فتصبح قيدا على عقولهم يسلبهم حرية التفكير حتى إن لم تقيَّد تلك الحرية بقيود ظاهرة. كلمة أخيرة لأولئك الذين يحاولون العمل على تحرير العقول بكشف ما فى تراثنا الدينى والثقافى من أشياء تجافى العقل وينفر منها الحس السليم. إن العمل فى هذا الاتجاه لا يأتى بثمرة، فالذين صاغ ذلك التراث عقولهم وشكـّلها يرفضون هذه المعالجة ولا يفتحون لها عقولهم. فإذا أردنا أن نكسبهم للعقلانية علينا أن نروّض عقولهم على التفكير العقلانى الموضوعى دون أن نصدمهم مباشرة فى معتقداتهم التى رضعوها مع لبن أمهاتهم. ولنذكر أن التحرّر من سطوة العقيدة الدينية فى الغرب الأوروپى بدأ بما يسمّى النقد الأعلى للكتاب المقدّس، وهو نقد يقوم على دراسة تاريخية علمية وثائقية هادئة رصينة فعلت أكثر مما فعلته حتى أعمال ڤولتير وغيره من فلاسفة التنوير. القاهرة، 19 أغسطس 2012
الدولة الإسلامية من بين أخطر معوّقات تحرّر الفكر العربى أن التصوّر الشائع للتاريخ الإسلامى عند عامة العرب والمسلمين هو خليط من أوهام وأكاذيب، وأن أى محاولة جادة لمقاربة موضوعية للتاريخ الإسلامى تقابَل على الفور بهجوم شرس وباتهام من يجرؤ على القيام بمثل هذه المحاولة بالنيل من الإسلام. أنا لست دارسا للتاريخ وأعترف صراحة بأن معلوماتى فى التاريخ عامة وفى التاريخ الإسلامى على وجه الخصوص شديدة الضحالة. ومع ذلك أغامر بأن أقتحم عش الدبابير هذا عسى أن تستحث كلماتى مؤرّخا مؤهّلا أمينا على أن يقدّم لنا دراسة موضوعية عقلانية نحن فى حاجة ماسّة إليها. أكثر من يتكلمون عن الدولة الإسلامية، سواء كانوا يشيرون إلى ما كان أو إلى ما يحلمون بأن يكون، ليست لديهم فكرة واضحة عما يعنون بهذا المصطلح، فالواقع أنه لم يكن هناك أبدا نظام يمكن أن نطلق عليه وصف "الدولة الإسلامية". فى أواخر حياة نبى الإسلام كان محمد زعيما وقائدا لما يمكن أن نسميه "أمة"، وكان قد أسّس شرائع وقواعد تنظم حياة تلك الأمة، لكن لم يكن هناك نظام لدولة ذات مؤسّسات وقواعد يمكن أن تورّث لمن يخلفه. فلما رحل النبى وآل الأمر إلى الخليفة الأول، حلّ أبو بكر محلّ محمد كزعيم وقائد للأمة، لكنه لم يكن حاكما لدولة إذ أنه لم تكن هناك دولة ليحكمها. ومع أن خلافة أبى بكر لم تدم غير سنتين، إلا أن تلك الفترة القصيرة لم تخلُ من النزاع والصراع ولم يكن هناك من سبيل لإنهاء النزاع والصراع غير اللجوء للقوة لأنه لم تكن هناك دولة ذات مؤسّسات كفيلة بمعالجة الأمر. وكان هذا هو الحال فى خلافة عمر. وما أن نصل إلى الخليفة الثالث، عثمان، حتى يكون تفسّخ الأمة قد بلغ مداه حتى انتهى إلى اغتيال الخليفة. لكن اغتيال عثمان وأيلولة الخلافة إلى على لم يضع حدّا للشقاق، بل على العكس أدّى إلى حرب "أهلية" لم تتطاحن فيها الأمة فحسب بل قاتل فيها أهل بيت النبى بعضهم بعضا. فهل يمكن القول بأن الخلفاء الراشدين أسسوا دولة؟ يرى عامة المسلمين أن اتساع الرقعة التى سيطر عليها المسلمون الأوائل فى وقت قصير معجزة، لكن هذا الامتداد السريع لسيطرة المسلمين على أراضى الممالك المحيطة بهم ليس بغير مثيل فى التاريخ وليس بغير أسباب موضوعية. كانت دولة الفرس قد شاخت ووهنت والدولة البيزنطية قد تفسّخت واهترأت فلم يكن مستغربا أن تسقط أراضيهما للغزاة العرب كما سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية لقبائل الشمال البربرية. وحين سيطر العرب على تلك الممالك العريقة وجدوا فى كل من تلك الممالك مؤسّسات للدولة ونـُظما للحكم وإدارة شؤون البلاد. لم يؤسّس العرب هناك دولة أو دولا بل ورثوا ما وجدوه من نـُظم واستعانوا برجال الحكم والإدارة وطبّقوا ما كان فى تلك البلاد من نـُظم تتواءم مع ظروفها وأوضاعها. فهل استتبّ لهم الأمر؟ الدولة الأموية على امتداد تاريخها كانت مسرحا للصراع والتناحر والاقتتال، وكم من الفظائع ارتـُكِبت وكم من المظالم اقتـُرِفت فى ذلك العهد. بعد ذلك جاءت صفحة الدولة العباسية المشرقة التى يتباهى بها العرب والمسلمون. بأى معنى من المعانى يمكن القول بأن الحكم فى الدولة العباسية كان إسلاميا؟ ليس بأكثر مما كان الحكم فى أوروپا عصر النهضة مسيحيا. وازدهار الفلسفة والعلوم فى العصر العباسى، بكم كان يدين للحضارات السالفة وبكم كان يدين للإسلام؟ أترك الإجابة على هذه الأسئلة للمؤرخين والباحثين، لكن الإجابات الموضوعية الجادّة لن تكون أبدا أحادية اللون أو ذات بعد واحد كما نصوّرها فى أحاديثنا ودعاوانا وكما نلقـّنها لأبنائنا فى مدارسنا. إننى حين تصدّيت لهذا الموضوع مع اعترافى بأنى غير مؤهّل لمعالجته لم يكن قصدى أبدا أن أنكر ما فى التاريخ الإسلامى من إيجابيّات، إنما أردت القول بأننا إن أردنا أن نتـّخذ التاريخ نبراسا يضىء لنا طريق المستقبل، فيجب أن يكون تناولنا للتاريخ موضوعيا عقلانيا، لا أن نستسلم للأوهام والأكاذيب والأضاليل. القاهرة، 15 أبريل 2013
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرجعية الأزهر
-
الإخوان والثقافة دونت ميكس!
-
وحى الشعراء ووحى الأنبياء
-
سورة الفتوى
-
حكايتى مع الدين
-
حدود احترام أحكام القضاء
-
هل بقى أمل؟
-
فى الدين (8) الإسلام
-
فى الدين (7) المسيحية
-
فى الدين (6) اليهودية
-
فى الدين (5) البوذية
-
فى الدين (4) الهندوكية
-
فى الدين (3) زرادشت
-
فى الدين (2) نشأة الدين
-
فى الدين (1) كلمة تمهيدية
-
الهزل والجد فى أمر تعريب التعليم والعلوم
-
عبثية التفاهم مع الإسلام السياسى
-
ما العمل؟
-
حين نتنازل عن عقولنا
-
خطر خلط المفاهيم
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|