اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
الحوار المتمدن-العدد: 4066 - 2013 / 4 / 18 - 04:35
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في التاريخ و التراث و الدين...
نقلا عن مجلة الحقيقة عدد/2 /1992/ تصدر عن الحزب الشيوعي الاردني
لا تكف الحياة عن طرح قضايا لا حصر لها على البشرية, و لا مفر امام البشر سوى التفاعل و التعامل معها, و ايجاد الحلول لها و الاصطدام بها, بحيث يمكن القول بأن شكل و محتوى التعاطي مع هذه القضايا هو عنصر مقرر في مسيرة التطور البشري.
فالناس منذ فجر التاريخ يتجاذبون اطراف الحديث مع الطبيعة, و ينقلون خطاهم على مدى الزمان و المكان, و يتوسلون اسباب الحياة بالعمل و الاجتماع و التأمل, و يسوقهم عشق ابدي للمعرفة, و من هذا العشق الضرورة, تولد الانتاج و العمران و الفنون و المنظومات الاجتماعية و السياسية و الفلسفية.
لكل قوم تراثهم الذي يتداخل و يتقاطع مع التراث العام للبشرية و هو الذي انجزته و اورثته البشرية عبر رحلة الحياة هو ارث مشترك للانسانية جمعاء. و التراث بالنسبة لنا هو ارث تشكل و استقر فيما مضى من الحياة اما بالنسبة لأسلافنا فانه حياتهم التي عاشوها, , فالتراث على نحو ما هو الحياة التي سلفت ضمن ظروفها الموضوعية, و سياقها التاريخي.
ان التعامل العلمي مع التراث يستلزم قراءة التاريخ كما هو, و تتبعه في حركته المتصلة و رصد تطوره الفعلي بدون اسقاط ذاتي او افتعال او اغفال.
عاش العرب في الجزيرة العربية و على اطرافها ردحا طويلا من الزمن, بنوا خلالها حياتهم المميزة, و اسسوا اماراتهم و ممالكهم المتعددة. ان اقدم الشواهد التاريخية المعروفة حتى الان تشير الى قيام دول عربية قوية و زاهرة في جنوب الجزيرة, يرجع اقدمها الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد وهي الدولة المعينية. و بديهي ان الدولة لا تبرز كالفطر, و انما تنشأ تتويجا لتراكمات من التطور الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي, و قد تلت هذه الدولة مجموعة من الدول تعاقبت على جنوب الجزيرة العربية كان اخرها الدولة الحميرية التي انتهت بالاحتلال الفارسي في بداية القرن السابع الميلادي.
اما قلب الجزيرة العربية فان التاريخ لا يضيء لنا اكثر من قرن و نصف من حياتها السابقة للاسلام, و لا يسمح لنا بتقصي جذور التطور في هذا المحيط الصحراوي الشاسع, و يبدو ان سبب ذلك لا ينحصر في العازل الصحراوي فقط, بل يرجع ايضا الى العداء الأيديولوجي اللاحق لهذه الحقبة من التاريخ العربي التي عرفت ب (الجاهلية).
ان ما هو متاح يشير الى الى مجتمعات مدينية مستقرة في مكة و يثرب و الطائف شكلت مراكز للقبائل العربية المنتشرة فيما حولها من الصحراء.
كانت الطائف حاضرة لمنطقة زراعية, فيما كانت يثرب تزاوج ما بين الزراعة و التجارة, اما مكة و هي (واد غير ذي زرع) فقد كانت العاصمة الروحية للجزيرة العربية كلها حيث تحتضن (البيت العتيق) و هي الى ذلك مركز تجاري متطور يجتذب اطراف الجزيرة, و يربط الامبراطوريتين الفارسية و البيزنطية بالجنوب العربي و شرق افريقيا. و من موقع مكة المتميز تاريخيا و روحيا و اقتصاديا, اكتسبت قريش دورها المتميز بين عرب الجزيرة, و قد كان التركيب الاجتماعي لعرب الجزيرة بسيطا, حيث يقف على قمته الملأ المكي و زعماء القبائل و كبار التجار و الأثرياء, و تتشكل لحمته و قاعدته العريضة من عموم ابناء القبائل و العبيد و بعض الزراع و خدم القوافل.
و في الجانب الثقافي كان الشعر هو الفن الأكثر تقدما في الجزيرةو يمثل تراث ثقافي كبير تجلت به القيم الروحية و انعكست فيه انماط الحياة عند العرب.
و من حيث العقائد الدينية فقد دانت بعض العرب باليهودية و المسيحية و الحنيفية قبل الاسلام, و لكن كان اكثرهم على الوثنية.
و بالاجمال فان انعدام السلطة المركزية, و ضعف وتيرة التطور الاقتصادي و الاجتماعي و انهيار الممالك العربية في الجنوب قد ال الى هيمنة الطابع القبلي و اشاعة الفقر و الاقتتال, و الصعلكة و ذلك جنبا الى جنب مع تركز الثراء و النفوذ في بعض المدن و بعض القبائل.
و بالمقابل فان جملة من الظروف الموضوعية كانت تعمل في اتجاه توحيد الجزيرة العربية في ذلك العهد, و من اهمها وحدة الأصل و اللغة, و التمحور العربي حول مكة باعتبارها عاصمة روحية و مركز تجاري.
كان توحيد الجزيرة العربية هو الانجاز الأكبر للاسلام, فقد كانت الدعوة الاسلامية منسجمة تماما مع اتجاه التطور العام في الجزيرة, فعجلت بانضاج شروطه الموضوعية و دفعته الى نهايته المنطقية,
توفي النبي محمد في السنة العاشرة للهجرة /632م, و الوضع في الجزيرة مستقر, فواجه العرب و المسلمون مشكلتين كبيرتين, الفراغ السياسي, و ارتداد اكثر العرب عن الاسلام او عن الدولة الجنينية الجديدة, فحلت الاولى بتولية ابوبكر الصديق, و حلت الثانية بعدد من المعارك التي اعادت اخضاع القبائل العربية المتمردة.
و بعد ان استقر الوضع في الجزيرة ثانية, انطلقت جيوش العرب نحو بلاد الشام و العراق و مصر, و قد بدأت الفتوحات في عهد ابوبكر و لكنها بلغت ذروتها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب 13-23هجري.
كانت الامبراطوريتين البيزنطية و الفارسية تربضان على تخوم الجزيرة العربية, و كانتا تترنحان بفعل الحروب الطويلة التي اتصلت بينهما ردحا طويلا من الزمن, و بفعل الخراب الاقتصادي و الأزمات الداخلية العميقة التي تعانيان منها.
خاضت جيوش الفتح معركتين حاسمتين قررتا مجمل الاتجاه اللاحق للأعمال العربية و هما معركة القادسية 637م, و انتهت بهزيمة الفرس و استيلاء العرب على العراق ثم فارس ثم ما ورائهما, و معركة اليرموك635م, و انتهت بهزيمة الروم سيطر العرب بعدها على بلاد الشام, و بعد هاتين المعركتين باتت الطرق مفتوحة في كل الاتجاهات, اذ لم تمضي بضع سنين حتى انهارت الامبراطورية الساسانية, و ارتدت الامبراطورية البيزنطية الى هضاب الأناضول و شرق اوروبا, و توطدت امبراطورية عربية من المغرب الى حدود الهند.
لم يحدث الحكم العربي الجديد تبديلا في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية في البلدان المفتوحة, و منع عمر بن الخطاب العرب الفاتحين من تملك الأرض و الاقامة في المناطق المأهولة من البلاد الجديدة, فابتنوا لهم معسكرات على تخومها, و تحولت هذه المعسكرات فيما بعد الى مدن كبيرة و زاهرة مثل البصرة و الكوفة و الفسطاط (القاهرة) و القيروان.
اغتيل عمر في السنة 644م, فتولى الخلافة عثمان بن عفان, و قد كان امويا من سادة قريش و اثريائها قبل الاسلام, و من اوائل المسلمين و المقربين للرسول, و حين ولي الخلافة كان شيخا جاوز السبعين من عمره و قد كانت مدة خلافته هي الأطول بين الخلفاء.
استقر الكثير من العرب على عهد عثمان في البلاد المفتوحة, و مع تدفق الأموال الضخمة من ايرادات الجزية و الخراج, فان ظواهر جديدة بدأت تخرج و تستقر, و منها اقطاع اراضي واسعة للولاة و القادة و الامراء, و اشتغال قسم من هؤلاء في التجارة و حيازة الارض و استئثار اقارب الخليفة من بني امية بكثير من الولايات, و تساهل الخليفة معهم و التخفيف من محاسبتهم.
و في هذا الوضع الجديد, راحت الاحتجاجات على الولاة بوجه عام, و الامويين بوجه خاص تتوالى من مختلف الأمصار, و راح الجدل يشتد في المدينة حول محاباة الخليفة لأقاربه و حول التصرف بعائدات بيت المال, و انتهى الأمر الى زحف المحتجين الى المدينة و قتل الخليفة الثالث عثمان عام 35هجري 656م.
كان مقتل الخليفة الثالث منعطفا حادا في حياة الناس و الدولة, فقد انقسم المسلمون اثره الى عدة فرق, ففريق منهم بايع علي بن ابي طالب بالخلافة, و خالفهم فريق اخر, و ظهر حلف عائشة, الزبير, مصعب في الحجاز, و برز معاوية بن ابي سفيان في امارته بالشام خصما عنيدا للخليفة الجديد.
دارت بين علي و حلف (عائشة, الزبير, مصعب) معركة طاحنة قرب البصرة عام 36ه, سميت بمعركة الجمل, انتصر فيها علي ووقفت الحجاز و العراق خلفه, فيما وقفت الشام خلف معاوية, و نشبت بين جيش علي و جيش معاوية معركة صفين عام 37 هجري, انتهت بعد جولات ضارية من القتال الى مسألة التحكيم المشهور, فخرج فريق من انصار علي يحتجون على التحكيم ويطالبون بمواصلة القتال ضد معاوية و سجلهم التاريخ باسم الخوارج, استقر علي بن ابي طالب في الكوفة, و قتل عام 40 هجري و لم يحسم الامر بينه و بين حزب الشام.
بويع الحسن بن علي خليفة في الكوفة, و بويع معاوية خليفة في الشام, ثم عقد بين الخليفتين صلحا تنازل الحسن بموجبه عن الخلافة بشرط ان يخلف معاوية فيها بعد موته, غير ان معاوية اخذ من الناس البيعة لابنه يزيد خليفة للمسلمين من بعده و بذا تأسست الدولة الاموية و أصبحت الخلافة ملكا وراثيا في بني امية.
استقر حكم معاوية عشرون عام 40-60 هجري/660-680ميلادي, تمكن من خلالها من توطيد اركان الحكم الاموي بالسيف و المال و العصبية و القبلية و الدهاء.
عندما ولى الخلافة ابنه يزيد, ثار الحسين بن علي يطالب بالخلافة, فأيدته الحجاز و شيعة بيت ال النبي في العراق, فتصدى لهم الجيش الاموي, و سحقهم في موقعة كربلاء 61هجري, حيث قتل فيها الحسين و معظم اهله و أصحابه, و تحول الشيعة بعد كربلاء الى حركة سرية في الفكر و التنظيم و نشطوا لدعوتهم في شمال افريقيا و اليمن و بلاد فارس بعيدا عن مركز الامويين في بلاد الشام.
بعد ذلك ثار عبدالله بن الزبير في مكة و دعا لنفسه بالخلافة, فبايعته الحجاز و اليمن و أكثر العراق, فاجتاح الامويين العراق و أخضعوها بعد عدة معارك, ثم انحدر الجيش الاموي الى الحجاز فأخضع المدينة و استباحها, و حاصر مكة , و ضرب الكعبة بالمنجنيق, و قتل عبدالله بن الزبير و صلب على ابواب الكعبة سنة 73هجري, 693ميلادي, وواصل الخوارج قتال الامويين و خاضوا معهم معارك متعددة في اليمن و العراق و أطراف فارس استنزفتهم و باتوا قوة ضعيفة في اواخر الدولة الاموية.
ترك الصراع الذي انفجر في عهد عثمان بن عفان اثار عميقة في كل مناحي الحياة, فكل تلك الصراعات التي ذكرناها كانت بين اصحاب الرسول و تلاميذه في العدل و الأخاء, انتهى بهم الأمر الى حال مختلف تماما, دولة عظمى مترامية الأطراف, غنائم و ايرادات الجزية و ثروة لا حصر لها و صراع دموي على الحكم, و فرع من سادة قريش يستأثرون بالحكم, فكان من كل هذا كله ان فجر جملة من القضايا , اولها وضع على بساط البحث الفكري و الجدل السياسي مسألة الخلافة.
رأى شيعة ال البيت ان الخلافة لا تصح الا في ال البيت حصرا, و ذهب الخوارج الى ان الخلافة تصح لأي مسلم تجمعت فيه شروط الكفاية, و قالت المرجئة بارجاء الحكم في (شرعية) الخلفاء الى الله يوم القيامة, فاعتزل بعضهم الحياة العامة و مال البعض منهم الى مبايعة الخليفة (القائم) صونا لوحدة المسلمين.
أما بنو امية فقد حسموا المسألة لصالحهم بالسيف و المال و العصبية, و تركوا لأنصارهم من الفقهاء مهمة البحث عن تأصيل شرعي لذلك.
و تمثلت القضية الثانية الكبرى في السؤال الذي تلجلج في الأجواء حول مسلسل المعارك و الدماء ان كانت من قضاء الله و قدره ام من فعل الناس و اختيارهم, و انقسم الناس حول هذه المسألة حسب الواقع السياسي القائم, فالمعارضين لبنو امية قالوا ان الانسان لديه القدرة في اختيار افعاله و أقواله و بالتالي فهو مسؤول عنها و يحاسب عليها و هم (القدرية), و ذهب انصار بنو امية الى القول بأن الانسان مسير و ليس مخير, و كل هذا يكون بقضاء الله و قدره و هم (الجبرية)
انحاز المعتزلة الى جانب العقل, فقد برزوا في خضم الصراع هذا كله, فقد جعلوا من العقل سبيلا في المعرفة في العقائد الدينية و المعارف الطبيعية.
و فيما كانت هذه المعارك الفكرية تحتدم في مساجد البصرة و الكوفة و دمشق و الحجاز و مصر و اليمن محفزة معها طائفة من العلوم (النحو, اللغة , الفقه, الشعر و الأناسب)كانت الحركة الشيعية التي مالت الى العمل السري موجودة في أطراف الامبراورية العربية , و ما ان اطل القرن الهجري الثاني حتى تحولت الى قوة جماهيرية كبرى و خصوصا في العراق و بلاد فارس معتمدة الراية السوداء حدادا على شهداء ال البيت, و عندما انست في نفسها القوة راحت تنقض على الحكم الاموي حتى اسقطته نهائيا في معركة (الزاب الكبير) على ضفاف دجلة سنة 132هجري, و بطشوا بالامويين فلم يسلم منهم غير نفر قليل تسلل الى الشمال الافريقي فالأندلس, حيث استمر قسم من مواليهم و قادتهم على الولاء لهم, فأقاموا هناك الدولة الاموية الثانية متحاشين الصدام مع الدولة العباسية الجديدة.
نقل العباسيين عاصمتهم نحو الشرق مبتعدين جغرافيا عن عاصمة الامويين و كانت هذه النقلة , نقلة سياسية و حضارية ايضا, فالشرق هو موطن الامبراطورية الساسانية التي اجتاحها جيوش الفتح العربي, و الانتقال نحو الشرق يعني التوطن في قلب الشعوب القديمة التي تختزن تراثا فكريا و تقاليد سياسية و اجتماعية عريقة, و هذه الشعوب هي التي احتضنت الحركة الشيعية و أمدت العباسيين بالقوة الضاربة التي مكنتهم من انتزاع الخلافة, فما ان استقرت الخلافة الجديدة حتى راحت هذه الشعوب تأخذ مكانها الطبيعي في الامبراطورية التي خفت قبضة الارستقراطية العربية القبلية و العسكرية عليها, و ضعف طابعها العربي, و بدأت تتحول الى امبراطورية عربية اسلامية.
يجدر بالذكر, ان عملية انخراط شعوب غير عربية في الحياة السياسية و الفكرية لم تأخذ طابع انقلابي بمجرد انتقال الخلافة الى بغداد, و لكنها اكتسبت طابع تطوري تصاعدي بحكم الظروف الموضوعية التي مرت بها.
ظهر الفرس في بلاط الدولة العباسية كقادة عسكريين ووزراء و اداريين, و برز المسلمون الجدد في بغداد و من الامبراطورية الاخرى في السماجد و المدارس و الأسواق و المعسكرات و تجار و صناع و عبيد ممتزجين في بنية الدولة الجديدة من القمة الى القاعدة .
ازدهرت علوم النحو, اللغة و انتشرت الكتابة, و انتعشت الترجمة, و تم نقل كتب الفلسفة و العلوم من الفارسية و الهندية, و ظهرت المكتبات الضخمة و ازدهر الفلك و الرياضيات و الطب و الهندسة و الفلسفة.في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني كانت الدولة العباسية قوية جدا, فقد بلغ النشاط التجاري أوجه حيث كانت طرق التجارة في العالم القديم تمر من اراضيها, و تجذرت ظاهرة الاقطاعيات التي يمتلكها الامراء و القادة العسكريون و الولاة و التجار فازدهر النشاط الزراعي الذي ارتكز في نموه على مرافق الري التي رعتها و طورتها الدولة, و على الاستخدام المكثف للعبيد, و الى جانب هذا كانت المدن تعج بالحرفيين و الصناع و الأفاقين و الباحثين عن الفرص.
كان الحكم يكتسح كل ملامح الحكم المطلق, و بلاط الخلافة يغرق في العظمة و الثراء و يغص بالعلماء و الادباء و القادة العسكريين و الاداريين و كتائب الحرس و المنجمين و البهلوانيين و الراقصات و الغلمان و الخدم و الجواري.
و هذا البلاط الامبراطوري اضافة الى الجيوش الضخمة, و أجهزة الدولة المترامية الأطراف و نفقات الولايات و الحروب الداخلية و الخارجية, كل ذلك كان يمول بما يجبى من الجزية و الخراج و الزكاة و الاعشار و شتى انواع الاقتطاعات و الضرائب التي تجبى من الرعية, و لهذا ترافق ازدهار الامبراطورية العربية الاسلامية بأعنف و اوسع الثورات الاجتماعية و أكثرها وضوحا في قسماتها الطبقية و ملامحها الفكرية و السياسية.
كانت الحياة الفكرية متشابكة مع الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية, فبلاط الخليفة و الامراء و أصحاب النفوذ في الدولة يسعون الى تثبيت سلطانهم و تأمين خضوع (الرعية) و كانوا يستعينون على ذلك باضفاء الطابع الديني على الخليفة و الخلافة, و رمي كل من يثور او يعارض بتهمة الزندقة, غير أن الحياة الفكرية و الثقافية كانت من الازدهار بحيث يصعب اخضاعها و تقييدها بسهولة.
فالعلوم الطبيعية و الفلسفة اغنت افكار المعتزلة , و شقت الفلسفة طريقها , فوقف بعض العلماء يرفضون علم الفلسفة, فظهر الأشاعرة, و كان الاشاعرة و المعتزلة ينطلقون من نفس العقيدة الاسلامية و لكنهم كانوا يختلفون في قيمة العقل و موقعه, فهم معا يؤمنون بالقران, و لكنهم يختلفون في فهمه و تحديد العلاقة بينه و بين العقل, و هكذا انشقت الفلسفة العربية الى تيارين, و احد علمي اجتهادي, و الثاني نصي اتباعي, و كانت الثانية هي الستار الكبير للهجوم على العلوم و الفلسفة.
في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي, كانت الأزمة اخذة في التفاقم, فضعف الاهتمام بمنشات الري و المرافق العامة, و اشتدت و طأة الجباية من الفلاحين و الصناع, و تقوت نزعة الاستقلال عند الولاة, و بدأوا يقلصون نصيب الخلافة من الجباية, فانتشرت الانتفاضات الاجتماعية, و طفت على السطع العصابات, و قطاع الطرق و الشطار, و راحت تبرز في العاصمة مراكز قوى الى جانب الخليفة, و احتدم الصراع حولها بين الفرس و الأتراك.
و في أطراف الامبراطورية العربية الاسلامية, كان يشتد ساعد قوتين رئيسيتين, في الشرق قوة الأتراك الاخذة في التصاعد و التغلب, و في الغرب و في الشمال الافريقي الحركة الشيعية التي انشقت عن العباسيين منذ الأعوام الاولى لسلطة العباسيين في بغداد, وراحت تنادي باعادة الخلافة من نسل العباس بن عبد المطلب (عم الرسول) و هم العباسيون, الى نسل الحسين بن علي بن ابي طالب, ووجد هؤلاء لهم ارضية خصبة في الشمال الافريقي و ظلوا يزحفون من اقصى المغرب حتى استولوا على القاهرة (الفسطاط) في العام 358 هجري, و أقاموا الخلافة الفاطمية و شقوا الامبراطورية الى دولتين و خلافتين.
كانت الدولة العباسية تتمزق منذ النصف الثاني من القرن الهجري الثالث, حيث قامت شرقا الدولة السامانية في بلاد فارس 261-868ميلادي, و غربا قامت الدولة الطولونية في مصر و بلاد الشام 254-868ميلادي, ثم الدولة الأخشدية في مصر و الشام و الحجاز 323-945 ميلادي, و استقل الحمدانيون في الموصل و حلب 317 هجري, و في البحرين و جنوب العراق و بلاد شالام و شمال الجزيرة اقام القرامطة دولتهم منذ اواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.
و في مناخ كهذا لم تعد الخلافة و بلاطها تحتمل الجدل الفكري و حرية الرأي و كل اعباء الازدهار الثقافي و الفكري و العلمي, فقد اصبحت بحاجة الى اخفاء عيوبها و مواطن ضعفها, و بحاجة ماسة الى ايديولوجية دينية تحميها و تعينها في مواجهة اخصامها.
كان هناك هجوم شديد على علم الكلام و اخذ طابع متواتر و قاسي في القرن الثالث الهجري, و أدار دفة الهجوم الأشاعرة, و بدأت تظهر الفتاوى التي تحرم الاشتغال بالفلسفة و المنطق و حتى الرياضيات, و قد طالت الحملة الصوفيين الميالين للفسلفة, فاحرق (الحلاج) حيا في وسط بغداد, و اعلن ان علوم الدين قد اكتملت و اغلقت الأبواب عن الاجتهادات و حصر الافتاء و القضاء بالمذاهب الفقهية السنية الأربعة (الحنفية الشافعية المالكية الحنبلية), و في ثنايا هذا الوضع و بالتشابك معه كانت الحقبة التركية قد اخذت بالنضوج, و كان الأتراك يزحفون نحو بغداد من الشرق و الشمال, و ما ان دخلوها في منتصف القرن الخامس الهجري حتى اعلنوا انفسهم حماة للمذهب السني, و اعداء للتشيع و الزندقة, و من المدرسة النظامية (الموفقة بين السنة و الصوفية)التي تحققت في عهدهم, برز الامام ابوحامد الغزالي مؤلف تهافت الفلاسفة, و احياء علوم الدين, المنقذ من الضلال, حيث شن هجوم شرس على الفلسفة و الفلاسفة, انهارت بعده الفلسفة في الشرق و لم تنهض الا بعد قرن من الزمن على يد الفيلسوف الاندلسي المشهور ابن رشد, مؤلف (تهافت التهافت).
اجتاحت الشرق موجة عارمة من الارهاب الفكري فتهاوى الاجتهاد و العلم و الفلسفة و اختفى الكثير من المؤلفات و الكتب, و لم يسلم من هذه الموجة حتى الغزالي نفسه, اذ احرقت كتبه فيما بعد لاعتماده على المنطق في الرد على الفلاسفة,و ما استقرت الحقبة التركية حتلى ران على الشرق جمود فكري و ثقافي شامل.
(بالتصرف )
#اللجنة_الاعلامية_للحزب_الشيوعي_الاردني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟