|
خرائب الوعي .. 22 - الصدى
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4062 - 2013 / 4 / 14 - 14:55
المحور:
الادب والفن
وحيدا في وجه الرياح، أسس قضيته على اللاشيء. على العدم الذي لا يحتمل المساومة، اللاشيء المطلق. فالأمور كلها تبدو متساوية، متعادلة ومتماثلة، ولا مجال للإختيار العقلي المبني على الحسابات والموازنات المعقدة، كل الكائنات من البشر والحيوان والنبات والجماد والأماكن والأوطان والتواريخ والحوادث والأفكار، تتركز في نقطة وحيدة معتمة في نهاية الجملة. غير انه في لحظات معينة - الآن مستلقيا على السرير محدقا في السقف، ذلك أنه فتح عينيه منذ دقيقتين قبل نهاية الصفحة السابقة - يحس بتلك الرغبة الانسانية البدائية في معرفة هدوء البيوت الدافئة، والحصول على مكان ثابت فوق سطح الأرض يدس فيه رأسه، مكان دافئ يحتضن جسده المقرور، وعنوان يستقبل فيه رسائل الناس الذين غابوا، أو غاب هو عنهم ونسي وجوههم المتعبة ونسي آلامهم وأحلامهم، وأختلطت عليه اسماءهم في ذهنه . تمنى ذلك في يوم من الأيام، لكنه لم يكتب أبدا أية رسالة. صوت مطرب شرقي ميت ينوح من بعيد، يلتف حوله مرة، ومرتين، يكاد يخنقه، ثم يعاود النواح، ويرجعه إلى الشارع حيث الزحمة والصخب والقذارة والتعب والموت خلف الأبواب. ويقفل النافذه ليتنفس. رغوة البيرة وطعمها المميز يحمله بعيدا، لا شك في أنه طعم البيرة، هذا الطعم الخاص الذي لا يشابهه أي طعم آخرهو الذي جعله يتذكر البحرالذي لم يره منذ أعوام وأعوام. سأعود حتما إلى البحر، يقول ذلك ملوحا بيده، إلى أساطيره وأمواجه وزبده وشواطئه الرملية، سأجري على الشاطئ وأجمع الأحجار اللامعة وأدفن جسدي في الرمال الساخنة، سأعود إليه قريبا وأغطس في مياهه المالحة، هكذا أخبرته العرافة ذات يوم، قبل بداية الرحلة.. ستجتازالمياه ياولدي، مرة ومرتين وثلاث. ويشعل لفافة أخرى، ليخفي إحساسه بالخجل، فهو لم ير البحر في حياته، سوى في المجلات المصورة وبعض الأفلام الشعبية، كما أنه لم يبتعد عن شارعه أكثر من بضعة كيلومترات، ولكنه سيكتب لكم من عرض البحر، ستعرفون أخباره، وسيحدثكم عن أحزانه وعن رحلاته الطويلة وهو يصارع عناصر الطبيعة من الرياح والعواصف والأمواج العالية، وستعرفون معاناته بعيدا عنكم وحيدا في قاربه الضائع وسط المحيطات تتربص به الأقراش الجائعة. ويواصل رحلته اليومية، يراقب سقف الحجرة الصغيرة ويتنقل ببصره من زاوية لأخرى يتتبع النتوءات والشقوق والبقع وخيوط العنكبوت وآثار الدباب على الجدران البيضاء. ومن حين لآخر يردد في نفسه "مفتاح" قضيته الأولى والأخيرة، "نحن نوجد في هذا العالم .. وهذا لا علاج له". وتتناهى إلى سمعه أصوات بعيدة، صوت خطوات تزداد اقترابا، خطى ثقيلة متباطئة ممزوجة بصوت لهاث حيواني منتظم، يقترب ويقترب، كتلة من الظلمة الداكنة تتحرك في اتجاهه، يميز جسده الضخم في أشعة الضوء الخفيفة المتسربة من نوافذ البيوت الواطئة، يواجهه، يتوقف أمامه، تفصله مرآة رقيقة عن أنفاسه الساخنة ولهاثه الرتيب، وتشده إليه عيناه المشعتان ببريق متوهج. من أنت؟ يسأله ببراءة ممزوجة بقليل من الخوف، ربما لا إسم لك، أو ربما ..لا أستطيع أن أسميك، ومع ذلك أعرفك وتوقعت مرورك من هذا المكان، لا بد أنك تمر من هنا كل يوم. وحاول أن يضحك ليخفي قلقه المتزايد، وبدلا من ذلك وضع يده في جيب معطفه وأخرج سيجارة ثانية، وعلى ضوء عود الكبريت المرتجف ترائى له الوجه المعذب تعربد فيه أصوات الغابات الكثيفة ورائحة المستنقعات وغياب البحر، وأسنانه تتلألأ في الظلمة. وحش خرافي ام مخلوق وهمي من الهواء والدخان والضوء الكابي، يصدر عدة أصوات متوحشة غامضة، أم مجرد صورة ترسمها كلمات ضيعت معانيها وأخطأت الطريق؟ ويزيحه بيده الغليظة جانبا، ويواصل سيره مترنحا. يحدق في ظهره المنحني وهو يبتعد متثاقلا، أي هم يحمل في قلبه هذا الحيوان التائه ليلا، أي هم ينخر جسده وروحه، وأي ألم يسمم وجوده، وأية أحلام يراها في نومه ؟ تنغرز الأسئلة في لحمه كالإبر الساخنة، ويشعر بالرغبة مرة أخرى في غسل أمعائه بالعرق الرديء. فللعرق خاصية عجيبة، يمتص الأسئلة، ويذوب إشارات الاستفهام، ينشر اللهب في العروق، ويحيل كل شيء إلى رماد. وها هو يتحرك بثقل مثل تمثال من الملح، يرفع قدمه الأولى عن الأرض قليلا، ثم يضعها.. ثم يرفع قدمه الثانية ويعاود وضعها هي الأخرى على الأرض بنفس الرتابة، ثم يعاود رفع القدم الأولى .. وهكذا منذ الأزل وبرتابة قاتلة إلى ما لا نهاية، مستمعا إلى صوت وقع خطواته على الطريق، صوت الحصى والبرك القذرة والعلب الفارغة وأصوات أخرى تتناهي إليه في بعض الأحيان قادمة من تلك المغارات المحفورة تحت جلده والمسكونة بالرعب والأشباح. ولكن ها هو صوت آخر، صوت يعرفه ويسميه في أحلامه بالصدى، صدى صوت ليليث، يخترق هذا الكابوس ويلاشيه في لحظة. يأتيه الصوت خفيفا شفافا مثل أشعة القمر، مثل أغنية قديمة لا يتذكر كلماتها، يقول له الصوت الخافت شيئا ما، كأنه يناديه من بعيد. ويدرك النبرة الكاذبة في صوته، ونداء ليليث يبتعد حيث تدرك أنها لن تراه قبل أن تتكون وعيا وذاتا. ولكنها مع الوقت ستنسى، بل ستنسى كل شيء بعد لحظات من وضع سماعة الهاتف في مكانها، وستعود إلى عالمها الطفولي المليء بالشمس والشفافية والحياة .. يمكنه هو أيضا أن ينسى هذا النسيان، ان ينسى هذا الصوت، ولكن هل يريد أن ينسى؟ ويمكنه أيضا انتزاعه من داخل أعصاب دماغه وإخراجه من حلمه وقذفعه بعيدا خارج الصفحة، كما فعل مع إبليس ذاته منذ لحظات قبل ظهور ليليث. لنتوقف إذا لحظة واحدة، لنراجع الأمور ولا داعي للعجلة، فرشفات قليلة من العرق، ربما ستركز حواسه كلها على هذا الطعم اللاذع، طعم الفقر والأرض المحروقة، هذا هو الحل الوحيد الذي تفتق عليه ذهنه بعد التفكير الطويل، والليلة أيضا تبدو طويلة، سوداء ومعتمة، والوحدة باردة، والشوارع الخالية تبعث على القلق، وهذا الخوف المتركز في عيون القطط، والتي ما أن تحس بتواجد بشري حتى تختفي تحت السيرات وخلف علب القمامة، وتنتظر. وهذه الجدران .. هذه الجدران العالية التي لا تنتهي على مد البصر.. والبشر المختبئون وراء الجدران .. يجترون الهم الملتصق بجلودهم، ويحلمون، وربما يحلمون أيضا بليليث وبإعادة خلق البشرية، بدون جدران هذه المرة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفقراء وبؤس الثورة
-
العصيان والعقاب .. 3 - ثورة إبليس
-
العصيان والعقاب .. 2 - سارق النار
-
العصيان والعقاب
-
السلطة .. وسرير بروكست
-
خرائب الوعي .. 21 - مربع ماليفيتش
-
خرائب الوعي .. 20 - المصدر
-
خرائب الوعي .. 19 - الأسطورة
-
خرائب الوعي .. 18 - إختفاء البحر
-
إغتصاب المرأة .. من مظاهر الرجولة
-
حكاية الضجر .. 3 - وقود الثورة
-
حكاية الضجر .. 2 - العجلة
-
القاتل والقتلة والجوع
-
حكاية الضجر .. 1- القناص
-
مسرحية -الديموقراطية هي الحل-
-
ورعب السلطة
-
رعب الحرية
-
خرائب الوعي .. 17 - شيزوفرينيا
-
خرائب الوعي .. 16 - الريح والكلمات
-
خرائب الوعي .. 15 - إستراحة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|