|
محمد جابر الصباح: الوطنيةُ الباقيةُ
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4059 - 2013 / 4 / 11 - 09:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان في رحلته السياسية النضالية مميزاً. فتمازج مع مدينة المحرق التي كانت مركزاً للحركة القومية المتوهجة، وقائدة في الخمسينيات بشكل وطني، وأفاضت حراكها على البلد ككل في الستينيات، لكن هذا الوعي بدأ يخفت بعد ذلك وتطورُ العمل السياسي تطلب أدوات فكرية جديدة وعمقاً مختلفاً. ومحمد جابر الصباح كان في كل هذا الوهج على مدى هذه العقود التي كانت فقيرة في ظروفها مريرة في عيشها. لقد كانت مدينة الحماس الوطني، لكن الظروف المتحولة احتاجت قراءة مختلفة، وبين القومية المنفعلة والفكر التحديثي مسافة كبيرة لابد من قياداتٍ تردمها. لهذا كان الانتقال من هذه القومية المنفعلة للمذهبية المحافظة شيئاً عادياً فيما بعد، وخاصة مع تبدل الحياة الوظيفية للعامة. لكن المذهبية السياسية لم تكن بمستوى الدعوتين الوطنية والقومية التوحيديتين اللتين لمتا صفوف المواطنين وتصدتا للاستعمار. وكانتا أساس مرحلة التحرر والنهوض المستقل. وكان على محمد جابر أن يساهم في هذا التحول الفكري السياسي الهام داخل مدينته وبلده. إن تطور وعي الشخصيات السياسية القيادية مسألة هامة فهي علامة للحياة وبث الفعل في الأفكار الجديدة، ونقد القديمة ولهذا كانت ثمة قلةٌ أدركت أهمية هذه الخيوط الدقيقة في المواقف، فالجمع بين القومية والوطنية والجذور الإسلامية والتوجهات التقدمية هو أمرٌ ممكن، ومضيءٌ ومحول للحياة السياسية، فيما التمحور حول المذهبية وتحويلها لموقف سياسي ملتهب، هو ذاته ما ناضل ضده محمد جابر في تأثره بحركة هيئة الاتحاد الوطني التي فتح عينيه عليها والتي أسست الحركة السياسية الحديثة الوطنية التوحيدية في البحرين. محمد جابر الصباح عمل في ميادين النضال والسياسة والعلوم والفكر القومي معاً، وأشترك في أنشطة القوميين العرب الذين لعبوا الدور الأوسع في الحلول مكان حركة هيئة الاتحاد الوطني وخاصة في المحرق، فيما بقية البلد تتجه أكثر لليسار. وكي يحصل اليسار على عقول هذه القلة من المثقفين في المدينة احتاج الأمر فترة ولعب محمد جابر هنا دوراً محورياً في هذا الانتقال. الوعي الدقيق هو الذي يجمع شعيرات الضوء في الحياة ويؤلف بينها ويحيلها لأفكار سياسية توجه الناسَ للخطوات الصحيحة، والتي وحدها تغير حياتهم فيما الأفكار الخاطئة تؤدي لارباكها وإحداث الفوضى فيها والفشل لنتائجها، أن لم تؤد بها للكوارث! القومية المجردة التي ترفض تحليل الطبقات وتعتبرها خيانة تغدو صراخاً، وهؤلاء البسطاء الذين ظللتهم بساطة الغوص وشظف البحر ما كان لهم أن يفهموا الأفكار الحديثة الكاشفة للفقر والبطالة والاستغلال، لكن هذا التجاوز لابد أن يقوم به أناسٌ، ويبذلون جهوداً مضنية لتحويل العقول، وأن يُعلموا أن السياسة لم تعد هتافاً فقط بل برامج وتحليلات وعلوماً، حيث لم تكن ثمة مقرات أو صحافة حرة. هذه السيرة كاوية ومكلفة لأنها تضحية وكتابة بين عروق البشر والزنزانات ودموع الأمهات وعذاب الزوجات، والغربة عن الأولاد والبنات، على مدى عقود يكبرُ الأطفال فيها ويغدون شباباً وربما غرباء عن آبائهم المناضلين. الوطنيةُ البحرينيةُ لم تتشكل من الهواء، وتصادمت الشعاراتُ المجردة والخيالية وحقائق الحياة، واحتاج الجمهور لجهود وتضحيات لفهم الأفكار الجديدة المعبرة عن الطبقات الشعبية وكانت الأفكارُ التقدمية في بيئة بسيطة الوعي حفرا في الصخور، حيث يختلف ذراعٌ عن ذراع في نفس الجسد السياسي، ويتحول الرفيقُ لخط مضاد للتطور، والتوحيد، وحين يجثمُ القحطُ السياسي في أعقاب الهزائم لا تجد مستمعاً، والناس تهرب من السياسة كما تهرب من الوباء. لكن المحرق انضمت بقوة لموجة صوت العاملين. وبعد تدهور اليسار شرقياً فإن الكثيرين يبدلون جلودهم ويركبون تيارات جديدة، وتغدو المذهبية السياسية تحدياً خاصة في البيئات التي لم تتكرس فيها التيارات والطبقات الحديثة، ولهذا فإن هذا الكهل في زمنية الجدب السياسي وتدفق الشباب على المذاهب الدينية السياسية يغدو مع ثلة صغيرة، لكنه يحول منزله لخلية وعي، تتدفق أسبوعياً بالجدل والبحث وتبادل المنشورات، من أجل أن تترسخ كلمة، وتتراكم معرفة ومواقف صائبة! لهذا يغدو الموقف من المذهبيين السياسيين في تلك الثلة الصغيرة مواجهاً بطوفان وتجيء نفس القومية الحماسية الصاخبة السابقة، بقفزها على التحليل وكشف المحتوى الاجتماعي والجذور التي خرجت منها، لترفد الجماعات الدينية الضائعة في بحر السياسة والتي تتصور إنها الانقاذ والبديل للأفكار الغريبة عن جسم الأمة فيما هي بحاجة لعون البحث والاكتشاف والقراءة! لنتصور قامة منذ الخمسينيات في معارك الشوارع والكلمة مثلت الخطوط الأولى من التحديث بقسمات الوطنية والديمقراطية والعلمانية، ويظل تراكمها صعباً مخيفاً، لكنه لا يُقبل تفتيتها، حيث يحول التفتيت الجماعات لكيانات متجوهرة حول ذواتها متعادية وكل جوهر مطلق يمثل مذهباً، والتمزق يشرخُ خريطةَ البلد كل يوم! حين كنا نرى ذلك المجلس ممتلئاً حافلاً في سنوات الوطنية ثم نراه ناضباً مغلقاً في زمن الطائفية، نقول أين صرنا؟! وصاحبه الذي أعطى رحل، تاركاً الحب والحزن في قلوب رفاقه. مصير الحركة الوطنية ليس ميئوساً منه فقد مثلت الانعطافات الفكرية والسياسية الأخيرة وذوبان المشروعات الطائفية وتناحرها المريع في المنطقة تأكيداً لصوابية الأفكار الوطنية والقومية والإنسانية التوحيدية، ودلت جنازة محمد جابر الصباح والحشد الذي جاء في أول يوم لوفاته مظهرين يعبران عن استمرارية متأصلة في الأرض وضاربة بجذورها في الحياة.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليست معارضةً بل مشاكسةً!
-
المستقبلية في العمل السياسي
-
أمةٌ تتأرجحُ على حبالِ التاريخ!
-
البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية
-
شعاراتُ الرأسمالياتِ البيروقراطية
-
الربيعُ العربي اضطراباتٌ ضد أسلوبِ إنتاجٍ متخلف
-
حركةُ الهيئةِ بين التغيير السلمي أو الانفجار (3-3)
-
حركةُ الهيئةِ بين التغييرِ السلمي أو الانفجار! ( 2)
-
حركةُ الهيئةِ بين التغيير السلمي أو الانفجار (1)
-
ثقافةُ الرادودِ
-
الاستهلاكيون وخفوت الوعي
-
تفككُ العراق نموذجا
-
أسبابُ تدهورِ العلمانية
-
الصدامُ التاريخي بين كتلتين
-
تحللُ النقدِ الثقافي الاجتماعي
-
الصراع الإيراني العربي
-
بلزاك.. الروايةُ والثورةُ (10-10)
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (9)
-
المراحلُ التاريخيةُ والموقفُ المغامرُ
-
صراعٌ قومي وشكلهُ ديني
المزيد.....
-
بعد تحرره من السجون الإسرائيلية زكريا الزبيدي يوجه رسالة إلى
...
-
أحمد الشرع رئيساً انتقاليا لسوريا...ما التغييرات الجذرية الت
...
-
المغرب: أمواج عاتية تضرب السواحل الأطلسية وتتسبب في خسائر ما
...
-
الشرع يتعهد بتشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبر عن تنوع سوريا
-
ترامب: الاتصالات مع قادة روسيا والصين تسير بشكل جيد
-
رئيس بنما: لن نتفاوض مع واشنطن حول ملكية القناة
-
ظاهرة طبيعية مريبة.. نهر يغلي في قلب الأمازون -يسلق ضحاياه أ
...
-
لافروف: الغرب لم يحترم أبدا مبدأ المساواة السيادية بين الدول
...
-
الشرع للسوريين: نصبت رئيسا بعد مشاورات قانونية مكثفة
-
مشاهد لاغتيال نائب قائد هيئة أركان -القسام- مروان عيسى
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|