موريس عايق
الحوار المتمدن-العدد: 1166 - 2005 / 4 / 13 - 11:21
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ما أود الحديث عنه ليس تأريخا , انما محاولة لاكتشاف تناقضا أساسيا عاشته الشيوعية العربية هو التناقض بين الذاتي والموضوعي, او بعبارة اخرى التناقض بين واقع متخلف وبين وعي هذا الواقع والرغبة الذاتية في تجاوزه عبر الفعل الانساني الواعي, طبعا هذه الصيغة شديدة التبسيط ولذلك هي مفيدة الآن.
يقول لينين أن للثورة شرطان , ذاتي متمثل بالحزب الثوري, وموضوعي متمثل بالظرف الثوري, والاشكالية العربية كانت دوما متعلقة بالمطابقة بين الشرطين, فكل الثورات العربية كانت عبر الجيش واما الحركات الشعبية فاما ضعيفة, او تحت قيادة تقليدية (دينية بشكل خاص, او عائلات )
تمهيد
لقد نشأ الوعي بالتأخر العربي بشكل واضح منذ الحملة الفرنسية على مصر, فللمرة الأولى يحصل التلاقي مع الغرب الصناعي بشكل صارخ وصدامي وهذا الوعي بالتأخر كان أحد أهم الأسباب الداعية للاصلاح والتغيير, والسؤال الذي عبر عن الجميع هو, لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟
كانت جميع المحاولات تحيا تحد مزدوج, امام الاوربي وامام الواقع المتأخر وسدنته.
محاولة الامام كانت الأبرز في هذا السياق, محاولة تجديدية قامت على فكرة محورية وهي الفصل بين التخلف والاسلام , ومن جهة اخرى الفصل بين المسيحية والتقدم.
تحدي مزدوج من أجل صيانة الذات وايضا من أجل تغييرها, توفيقية حكمت محاولات النهضة.
لكن الهام ان النهضة العربية الأولى انتهت الى الفشل, فالامام انتهى الى ان يكون محمي الانكليز, اما الطهطاوي الذي سبقه فقد انتهى الى النفي والأفغاني الى الاقامة الجبرية(وربما الاغتيال). كان الواقع شديد الصلف وانتهت النهضة الى لا شيء.
مع الاحتلال الأوربي ظهرت حركة تحرر وطنية تسعى الى الاستقلال ومعها ظهرت الشيوعية العربية.
من البداية حتى الثورات الوطنية(52 مصر, 58 العراق, 63 سوريا)
كان الدور الاشعاعي للثورة الروسية حاسما في نشوء الأحزاب الشيوعية, ولهذا فقد ظهرت هذه الحركة وكأنها اضافة على واقع لا يناسبها ولا علاقة لها به, واحتاجت الى فترة زمنية لاثبات وجودها وتأثيرها وكان دورها في الاستقلال الوطني عاملا هاما في اكتسابها الشرعية على الرغم من الثغرات التي تخللت هذه العمية.
المشكلة التي كابدتها هذه الحركة هي طبيعة المجتمع الذي تتحرك فيه, فالمهمة الحالية هي الاستقلال , لكن كيف يتم تحقيقه؟
ومن هي القوى الطبقية المتناقضة مع الاستعمار والمستفيدة منه, وبالتالي التحالفات التي يجب صوغها, هذه المسائل لن تكون شديدة الأهمية الا مع الاستقلال الذي طرح قضية تغيير الواقع العربي وليس فقط تحريره من الاستعمار المباشر.
طبعا هذا الشكل لا ينطبق على كل الدول العربية فبعضها ارتبطت لديه قضية التحرر وتغيير النظام القائم بشكل تام مثل مصر والعراق.
وعليه يمكن القول ان المشاكل التي طرحت كانت على الشكل التالي, ما هي طبيعة الثورة القادمة, هل هي اشتراكية ام برجوازية؟
هل هناك طبقة عاملة, وما هو دورها ؟ موقع وطبيعة البرجوازية الوطنية؟
طبعا لم تكن الأسئلة جديدة تماما, فقد سبق وطرحتها الماركسية الروسية على نفسها واعطت اجابات منشفية وبلشفية وتروتسكية, وايضا طرحتها الثورة الصينية, ولكن عندنا واجهنا أزمة, هي غياب الاهتمام بالريف والفلاحين تحديدا, وتشكيك دائم بثوريتهم, وهذا ما يتعارض مع الواقع المباشر لحركات التحرر الوطني ذات القاعدة الفلاحية أساسا.
هل تدخلت الدوغما في هذا الرفض؟ هذا الافتراض صعب لأن لينين نفسه لم يعط اجابة دائمة ضد الفلاحين, وقد قدر دورهم تقديرا عاليا وتحدث عن ديكتاتورية العمال والفلاحين, صحيح أكد على قيادة الطبقة العاملة لكنه في النهاية لم يهمل الفلاحين وأكد ان انتصار أكتوبر بفضل التحاف معهم
هل السبب كون شيوعيينا كانوا من أبناء المدن ومنحدرين من الطبقات الوسطى؟
المهم أن الشيوعيين أبدوا دورا هاما ولكنهم بقوا على هامش حركة التحرير وهم أسرى لرفض دور فلاحي من ناحية وبرنامج تحالف مع برجوازية وطنية تقف ضد الاستعمار
بعد استقلال عدد من الأقطار العربية (سورية ولبنان) والذي اتى تحت اشراف البرجوازية الكبيرة, او استمرار الوضع بهيمنة استعمارية لكن مع دور للقصر وحاشيته كما في مصر والعراق, كان على البرامج ان تكون أكثر وضوحا وتحديدا وخاصة تجاه البرجوازية الكبيرة والاقطاع, لكن لم يتغير الكثير, فالبرجوازية الوطنية لا تزال ذات دور ثوري والثورتان متعاقبتان زمنيا, وابعاد الفلاحين عن اي دور ثوري او مستقل, ومسألة الضعف البنيوي للطبقة العاملة, قضايا مستمرة عانتها كل برامج و نضالات هذه الأحزاب.
قضية الأرض شكلت عقبة كبيرة امام رؤية العلاقات الاجتماعية حتى ذلك الوقت.
نحن امام مجتمع اقطاعي وبالتالي كبار ملاك الأراضي هم اقطاعيون وان تحطيم الملكية العقارية الاقطاعية هو أساسا مهمة برجوازية وعلى جدول أعمالها, هذه القراءة هي التي شكلت العمود الفقري لقراءة الأحزاب الشيوعية للوضع العربي آنذاك, لكن هل الفكرة الأساسية, اي اننا امام مجتمع اقطاعي, صحيحة؟
الوقائع السياسية نفسها وجهت ضربة قاضية الى مثل هذا التصور متمثلة بتحالف البرجوازية الوطنية مع كبار الملاك العقاريين بعد الاستقلال في سوريا وبنان, والتحالف القديم بل التقاطعات الكثيرة بينهم في مصر.
ان الجهل بتشكل الملكية العقارية الكبيرة كان أساسا كارثيا فهي لم تكن قديمة جدا, وهي نتاج الدخول في السوق العالمي وليست سابقة عليه, فأساسها في مصر بعد محمد علي وفي المشرق مع قانون الأراضي العثماني الذي ألغى أشكال الحيازات القديمة والمشاعيات لصالح الملكيات الخاصة (والكبيرة) وهذه الفئات لم تستثمر أراضيها على أسس اقطاعية, وانما رأسمالية, وظهر هذا واضحا في مصر عبرالتخصص بانتاج محصول نقدي وهو القطن.
ان اهم ما يميز تفكير الشيوعية العربية آنذاك لا واقعيته فهو لم يستطع حتى أن يكتشف الواقع الحقيقي لرأسمالية عصره وآليات الاندماج بالسوق العالمي, بل حافظ على تصوره الميكاتيكي للنظام الرأسمالي كوحدات دولية منفصلة والامبريالية ضمن الجانب البسيط للاستغلال التجاري والنهب الاستعماري,هذا الطلاق بين الوعي والواقع هو الذي سيتكرر كثيرا فيما بعد,
اذا بقيت المسألة الأكثر الحاحا, الأرض, خارج التفكير وهي المسألة التي ستحلها البرجوازية, لكن السؤال اصبح اي برجوازية؟ لم يطل الانتظار فقد ظهرت على الساحة البرجوازية الصغيرة لتحسم الأمر, اكنت ثورة 1952 هي الأولى في اطار مسلسل الثورات العربية. ومعها ثارت اشكالية حقيقية امام الحركة الشيوعية في تعريف هذه الحركات هل هي انقلابات ام ثورات؟ ما هي طبيعتها, فاشية, شعبوية, تقدمية؟ اسئلة كثيرة طرحت في ماهية ثورة يوليو ولكن مع الزمن كشفت هذه الثورة عن عدة امور:
1- انها كانت تقدمية على المستوى الاقتصادي فقد حسمت مسألة الأرض بتحطيم الملكية العقارية الكبيرة ووزعت الأرض على الفلاحين , اي حققت الحل البرجوازي لرض كما هو مفترض.
كما اتبعت سياسة تصنيعية مستلهمة من السياسة السوفياتية, من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن القوى الامبريالية.
2- اتبعت سياسة الحياد الايجابي وأقامت صلات مميزة مع الدول الاشتراكية وخاضت نضالا ضد السياسات الاستعمارية في المنطقة واتجهت الى تشكيل حركة عدم الانحياز , واعتبرت هدفها الأول هو تصفية الاستعمار.
3- لكنها فيما يتعلق بالشق الداخلي اتبعت سياسة قمعية لم ترض بالديمقراطية, وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات المستقلة وحرية الصحافة, اذا كانت رجعية على مستوى السياسة, بل حتى قبل برجوازية, فلا برلمان ولا انتخابات (كأنهم سيفعلونها)
اذا ما هو التقييم المفترض وما هي المهمات التى ستواجهها , وما هو الدور المفترض للحركة الشيوعية, كانت الناصرية تحد حقيقي أدى الى أزمة , تجلت بالصراعات والانشقاقات, فقد فتحت الناصرية نافذة لم تكن موجودة سابقا في الوعي الشيوعي وهي القضية القومية.
كان الموقف الأكمثر انتشارا هو دعم المحتوى الاجتماعي مع الرفض والصراع ضد المحتوى السياسي غير الديمقراطي وهذا ما فعلته الشيوعية المصرية قبل الاتفاق على حل تنظيماتهم والدخول الى الاتحاد الاشتراكي والاعتراف به على انه الطليعة الثورية, وهذا ما كان انقلابا حقيقيا بأن يعترف الشيوعيون بأنهم ليسوا الطليعة وطبعا الدور السوفياتي كان حاسما على قرار المصريين. لكن الموقف ذاته كان لأغلب الحركات, دعم ورفض في آن, وهو ليس سيئا بحد ذاته لكن لهذا الطرح مشكلة, شكل العمل السياسي, وهذا ما سيعانيه الشيوعيون السوريون الذين رفضوا حل حزبهم, فهم مع التأميمات ومع الاصلاح الزراعي ولكنهم ضد الممارسة السياسية لعبد الناصر, وكانوا معزولين بسبب موقفهم من الوحدة وضعفاء لدرجة ان عبد الناصر لا يحتاجهم حتى كحلفاء, ففرض عليهم القمع, وبصراعهم ضد عبد الناصر وما له من هالة شعبية وبسبب موقفهم من الوحدة وأخطائهم في هذا (برنامج بكداش), كل هذا جعلهم بلا دعم أو تعاطف شعبي رغم القمع, هل يتحالفون مع كبار البرجوزيين (الكومبرادور), لم يكن موقفا لطيفا, لكن هذا ما ظهر انهم فعلوه عندما خرجوا في مظاهرات تأييد لسقوط دولة الوحدة وليتحدثوا عن استقلال سورية وصد هجمة البرجوازية المصرية, على المرء أن يتسأل في أي عالم كانوا يعيشون حتى رأوا هذه البرجوازية المصرية؟
وفي العراق عانى الشيوعيون ذات الأزمة مع حكم عبد الكريم قاسم ثم مع حكم عبد السلام عارف وأخيرا وبطريقة ساخرة (والتاريخ دائما ساخر) مع صدام حسين, اذا البرجوازية الصغيرة طرحت أزمة عامة على الحركة الشيوعية, هل هناك ضرورة تاريخية لقيادة البرجوازية الصغيرة للثورة البرجوازية المنتظرة؟ وخاصة ان هذه البرجوازية الصغيرة لم تأتي عبر ثورة شعبية, انما عبر حركة الجيش, هذا التناقض بين المضمون الرجعي للسياسي وامضمون التقدمي الاجتماعي أضفى تعقيدا على الرؤية, لكن ثمة أمر آخر هو الافتراض ان الحركة الثورية هي ذاتها في كل مكان, برجوازية ثم بروليتارية, أي نظام رأسمالي (كلاسيكي) يتبعه صراع طبقي وثورة بروليتارية, واحيانا كان يؤخذ بتصور لينين في (خطتا الاشتراكية الديمقراطية) الأكثر ديناميكية, ثورة ديمقراطية بمهمات برجوازية لكن بقيادة البروليتاريا والتي حاول البعض الاستعاضة عنها بالبرجوازية الصغيرة, أو بدور ما للبرجوازية الصغيرة حتى اسقاطها وعودة هذا الدور الى الطبقة العاملة كون انه من طبيعة هذه البرجوازية الصغيرة التي استلمت السلطة ان تنتقل الى مواقع البرجوازية الكبيرة السابقة,ومتخلية عن أصولها الطبقية بالذات, اذا الحفاظ على ثورية الحركة مهمة ستنتقل الى الطبقة العاملة, والتي أسهمت البرجوازية الصغيرة بتوسيعها وتركيزها عبر فترة حكمها من خلال سياسة التصنيع , وهذا التحليل لمهدي عامل, لكن التطور التاريخي كذب جزءا هاما من هذا التحليل, وهو انتقال القيادة الى الطبقة العاملة, فالحركة الثورية ذاتها قد انتهت, واما ما صادق عليه التاريخ فهو انتقال البرجوازية الصغيرة الحاكمة الى مواقع الكتل المهيمنة سابقا, طبعا أحد أسباب فشل هذا التحليل الفريد(وهو أيضا خطة عمل) هو بقاؤه تحليلا ولم يتبناه اي حزب شيوعي بشكل رسمي وحقيقي ليشكل على أساسه منهاج عمل, وهذا بدوره يعيدنا الى الهوة التي تفصل بين الواقع- الموضوع وبين الوعي- الفعل الانساني, فحتى عند طرح نظرية ثورية متسقة قدر الامكان ومتجهة الى واقع لتغييرة, عبر وعيه, نراها تنتهي الى بطون الكتب كتحليل اكاديمي, مع استمرار الحركات الثورية في فصام حقيقي مع واقع لا تستطيع ضبطه بأدواتها ومفاهيمها, هذه الهوة استمرت.
بعد 1967
أتت النكسة لتكنس مرحلة من تاريخ العرب وتعلن على الملأ فشل التجربة النهضوية الثانية (والمنبعثة أيضا من مصر) ولتبدأ معها حركة نقد ذاتي متواصل في صفوف الحركة الثورية العربية هي الأشد والأقسى في تاريخها, وليعلن بشكل لا لبس فيه أن هناك أزمة, لكن ليست أزمة الرأسمالية هذه المرة بل أزمة الحركة الثورية ذاتها, والسؤال هل هي أزمة القيادة الطبقية أم أكثر بكثير انها تعبير عن أزمة مجتمع بأسره؟
طبعا البعض , ومنهنم الحزب الشيوعي السوري- بكداش, رفضوا الاعتراف بالأزمة .
الطرح الذي لاقى أكبر قدر من القبول , هوالذي يعتبرها أزمة قيادة طبقية متمثلة بقيادة البرجوازية الصغيرة, والتي ستتحول فيما بعد الى مشجب يعلق عليها كل كوارث الوطن, من عدم تمثل الماركسية وفشل الثورة حتى الهزيمة, والسبب هو ترددها وعدم راديكايتها ووسطيتها, فهي تخشى العمال, وتخشى ايضا البرجوازية الكبيرة.
نرى أن المشكة السابقة تعود للظهور وهي ان لا تحليل حقيقي للظاهرة الاجتماعية, فالطرح السابق يفسر كل شيء, وعمليا لا يفسر شيء, ولا يفسر حتى التاريخ فالثورة الفرنسية لم تصنعها البروليتاريا, انما البرجوازية الصغيرة في فترتي الجيروند واليعاقبة, وهؤلاء برجوازيون صغار, اذا لماذا كانواهناك غير ما كانوا هنا, قد يقول أحدهم ان فرنسا التي تصنع رأسماليتها المركزية, تختلف عن مجتمع طرفي ومخترق ومجزأ, هذا هو صلب الموضوع, التحليل التاريخي العيني لهذا المجتمع ولطبقاته وعلاقات انتاجه وتاريخه, لقد اكتفوا بالبرجوازية الصغيرة تفسيرا لا يفسر شيء , بل لا يفسر لماذا هي التي تربعت على سدة القيادة دون غيرها, ولماذا لم يحاربوها من قبل, بل لماذا تطورت في كوبا التي تشبهنا الى طليعة تتبنى فكر الطبقة العاملة, والسؤال الأكثر أهمية هو ماهية البرجوازية الصغيرة والتي تضم الضابط والمهندس وهما نتاج البنى الحديثة في المجتمع الى جانب الحرفي وهو استمرار لبنى تعود الى المجتمع التقليدي, فهل سلوكهما متماثل وهل تصح عليهما ذات التسمية والتحليل ذاته, برجوازية صغيرة, الواقع انه بدون تحليل عيني للبرجوازية الصغيرة سيبقى هكذا طرح للدجل, لتفسير كل شيء وعدم تفسير اي شيء.
بعد 1967 حصل تطور هام وهو انتقال قسم كبير من الحركة القومية (وبشكل خاص حركة القوميين العرب) الى اليسار, وهو ما أنتج ظاهرة اليسار الجديد, ممثلا بالعمل الشيوعي في سورية ولبنان, والجبهات الفلسطينية والجبهة القومية في اليمن وحركات مختلفة في شبه الجزيرة العربية, وهذا اليسار الجديد ربط بين المسألة القومية والطبقية وقام باعطاء القضية القومية بعدا طبقيا, ولكن المفاهيم الطبقية للثورة كانت قد أتته من أماكن متباينة وخضعت لتأثيرات مختلفة, وأهمها الماوية والغيفارية ولحد ما التروتسكية, من أهم ما ميز هذا اليسار الجديد هو تطرفه ورفضه الشامل, فهو لم يكتف برفض البنية الطبقية ولكنه رفض المجتمع بشكل مطلق بأخلاقه وقيمه وهاجم الأحزاب بشدة الأحزاب الشيوعية التحريفية والأحزاب القومية البرجوازيةالصغيرة اليمينية, طبعا طرحه الراديكالي جدا لم يكن يعكس أفرادا ثوريين بقدر ما عكس متمردين اجتماعيا, وهذا ما أدى الى نهاية سريعة له ودون تأثيرات هامة (باستثناء منظماته في شبه الجزيرة مثل اليمن وعمان, والتي خاضت حرب ثورية ماوية) , وهو ايضا حمل بشكل حاسم كافة الهزائم الى البرجوازية الصغيرة ولكنه لم يستطع ان يقدم بديلا عنها وربما لأنه هو الآخر ينحدر منها.
على هامش الانتقال الى اليسار الذي نفذته فصائل متنوعة حصل انتقال باتجاه معاكس عبر عنه انشقاق الحزب الشيوعي السوري وظهور تيار المكتب السياسي, وانتهت تجربة الأخير بسرعة أيضا والتي انجزت قراءة أقرب الى التجميع منها الى اعادة القراءة الحقيقية.
من السادات حتى الانهيار الكبير
بعد الهزيمة ووفاة عبد الناصر وفورة النفط والبترودولار حدث انتقال عام في السياسة العربية الرسمية نحو اليمين, وقد عبر عنه التحالف الذي قام بين السادات والدول النفطية والاخوان المسلمين, ضد ميراث عبد الناصر والقوى التقدمية القومية واليسارية , وهي المعركة التي خسرهما الأخيرون, ولكنهم أظهروا قوة هائلة في البداية وعبر عنهم حزب التجمع الذي عد 150 ألف وقت تأسيسه ليصل اى 8000 عضو عام 1993.
من الآن لم يعد الوضع أزمة في الحركة الثورية انما نزع الرمق الأخير, فهي تتراجع في كل مكان والاسلام السياسي أظهر قوة كبيرة في اكتساب الأرض بشكل لا مثيل له ليتحول الى أقوى قوة سياسية خارج الأنظمة العربية, وأصبح السؤال هو ما العمل؟ وكيف نفسر هذا المد الأصولي ونواجهه؟
السؤال الأول م يجد له اي اجابة, فلم نر أية محاولة لاحداث شيء, فالضعف البنيوي لم يعد يسمح لأحد بفعل أي شيء حتى لو رغب بهذا, أنها فترة العجز التي دخلتها هذه الأحزاب, فهو عجز الذات عن احاث اي تأثير في الموضوع, وهنا انتهت جميع الطموحات والآمال المتعلقة بالذات الثورية, بالحزب الذي سيغير, بالشعب الذي يثور على قدره, كلها انتهت ليحل مكانها جحيم الواقع.
السؤا الثاني شغل هذه الحركات أكثر وخاصة مع التصاعد الأصولي وعجز الأجزاب اليسارية عن المواجهة, لكن التحليلات اختلفت كثيرا, ولن نتدخل في التحليل الأكاديمي الا بما يهم, بل سنهتم بالموقف الذي اتخذته الحركة اليسارية من هذه الظاهرة, والمفترض انه اعتمادا على التحليل العلمي.
ان العداء المطلق هو الذي حكم العلاقة المتبادلة بين الأحزاب الشيوعية والاسلامية, فالأولى وصمت الأخيرة بكل ما هو رجعي وظلامي, وفي بعض الأحيان كان يتم التفريق بين اسلامي متطرف وآخر معتدل وغالبا ضمن سياقات سياسية, لكن دائما ما ينتهون الى توحيدهم في هوية رجعية واحدة, وهذا العداء أنتج مسألة شديدة التعقيد على مستوى الممارسة وهو الموقف من الأنظمة العربية اليمينية في مجملها والتي لا تتوقف عن الاعتداء على كل مكتسبات المراحل السابقة وتسير خانعة في ركاب المشروع الامبريالي, ولكنها في حالة صدام مع الحركات الأصولية, فمن الأسوأ, النظام أم الاسلاميون, هذا السؤال بذاته دليل على العجز فهم لم يعودوا يملكون زمام المبادرة ولا يملكون أي بديل, فبقدار ما كان الصراع السياسي بين النظام والاسلاميين هادئا, فانهم يكتفون بادانة الطرفين ولكن عندما يتحول الى صراع مكشوف, فالادانة لا تنفع من لا يملك القوة, فهذا ينتهي الى نهاية مفجعة, وان انتقل الى أحد الطرفين فالنهاية على الصعيد السياسي ستكون أيضا مفجعة, فلن لن يكون الا ذيلا لأحدهما, هكذا كان الأمر مطروحا وما يزال.
اعتقد ان الموقف الذي يرى انقسام الحركة الاسلامية الى متطرف ومعتدل خاطئ, انما الانقسام هو الى قاعدة وقيادة, فقاعدة الحركة الاسلامية مختلفة عن قيادتها طبقيا, فهي مكونة من الفقراء والمهمشين والعاطين وسكان أحزمة البؤس حول المدن , وهؤلاء لا يمكن مماثلتهم بالقرضاوي والشعراوي وحتى بمستمعي ومحبي عمرو خالد, وهؤلاء هم مخزن الأجنحة الأكثر راديكالية في رفضهم للمجتمع القائم ورغبة في تدميره, وطبعا اخوتنا اليساريون لم يروا في هذا الرفض الشامل الا الحجاب والحدود, اي قاموا باختزال المجتمع كما يفعل الاسلاميون أنفسهم , اي حولوا صراعهم الى صراع على المستوى الرمزي مع نسيان الواقع , الذي كان بسببه هذا الصراع , فالسادة الماركسيون جدا تبنوا وعيا زائفا (ومثاليا جدا) عن الصراع القائم, كصراع على مستوى الأوهام والتخييلات وليس لاكتشافه في حقيقته المادية, بكونه تعبير عن رفض لظلم شديد واقع على شريحة كبرى من البشر والتي عبرت عن رفضها لهذا المجتمع, ولكن عبر الوعي المزيف الذي يشيعه هذا المجتمع عن نفسه , فالماركسيون في النهاية قرأوا الفاعين الاجتماعيين عبر وعي هؤلاء وليس في ارتباطه بالبنى الاجتماعية التي يعكسه ومصالحهم المادية, اي تصرفوا كايديولوجيين بالعرف الماركسي.
فالبيروقراطيات العربية الطائفية والكومبرادور العربي (القطط السمان) المتماهون استهلاكيا مع الغرب في كل شيء, هؤلاء هم موضوع الرفض والذي يبدو كأنه رفض للانحراف الأخلاقي والانحلال الغربي, طبعا يجب التفربق بين البوطي الذي يرفضهم والطالبة الجامعية التي ترفضهم كونها لاتستطيع أن تكون مثلهم, فهؤلاء يتمنون في أعماقهم كل ما يروه ,وهم لا يكرهون الحياة, ولكنهم لا يستطيعون الحصول عليه, فهذا الرفض ليس نتاجا لرفض الآخر انما نتاج التمايزات الاجتماعية الحادة, والتي تظهر على أرضية سلوكيات اجتماعية متباينة وتحديدا ثقافة استهلاكية غربية للأقلية المترفة, تظهر مباينة للأعراف, ان هكذا وعي متمرد يقوم في مجتمع تغيب فيه فكرة الاستغلال, غياب الاستغلال بشكل واضح عن النظام الانتاجي الذي يتم فيه استغلال العمال.
ان هذا التباين الظاهر على مستوى الحياة والمشكل عبر نظام التوزيع شديد السوء, يحفز لوعي الظلم, وهي الفكرة التي تستخدم عوضا عن فكرة الاستغلال, فهذا المجتمع الذي تعب فيه الدولة دور المعيل الأول, ويظهر فيه الأغنياء الجدد ليس كمستثمرين (او منظمين) انما كأصحاب وكالات ومضاربين وذوي علاقات متداخلة وشخصية مع أهل السلطة, أنهم القطط السمان كما يسميهم المصريون, وان اكثر الفئات تضررا ليست الطبقة العاملة التي تعيش واقع الاستغلال الطبقي, انما المهمشين والفقراء والعاطلين عن العمل, وبشكل خاص من خريجي المعاهد والجامعات, هؤلاء يعيشون واقع الظلم الواقع عليهم وليس واقع الاستغلال الطبقي, هؤلاء هم من يشكلون سواد الحركة الأصولية, والذين يعبرون عن اعتراض ضد هذا التفاوت الاجتماعي الحاد والحاصل عبر توزيع جائر*, اما من الناحية الأخرى فان أنظمة القمع لم تترك للمرء من مكان يلجأ اليه الا الجامع, وهو المكان الوحيد الباقي الذي يشعر فيه المرء بالمساواة المتخيلة أمام الله, ليصبح من الضروري اعادة انتاجها واقعيا, كونها تمثل الواقعة الدينية الأصلية لديه, والاسلام تحديدا يملك الكثير لفعله كقوة ثورية, مع جانب مساواتي شديد الوضوح في بنيته الأصلية, وقوة دافعة باتجاه التغيير عبر الجهاد, فالمساواة والجهاد الفكرتان الاسلاميتان هما محوريتنا في هذا الصدد**, ان هذا التمييز المطلوب بين القيادة والقاعدة انتهى عند الحركة الشيوعية واليسارية عموما الى تمييز مصطنع بين معتدل ومتطرف لا يلبث ان ينتهي الى مماهاة جوهرية بينهما, وكل ذلك دون رؤية البشر الواقعيين خلف هذه القيادة, وهكذا كان الماركسيون الأكثر استهتارا بالشعب والفئات الدنيا لصالح مفهوم نخبوي عن السياسة لا يستطيع رؤية هؤلاء الا كرعاع.
ما بعد الانهيار, الى اليمين در
اتى انهيار الاتحاد السوفياتي لينهي نزع الرمق الأخير ويدفن الحركة الشيوعية نهائيا (دون ان تعترف هي بذلك) ويعلن انتصار الولايات المتحدة والانتقال الى عصر هيمنة القطب الواحد, وهنا انفجرت الأزمة بشكل كامل داخل هذه الأحزاب وليتم تتويجها بحركة عامة نحو اليمين, فقسم كبير من الأشخاص غادر هذه الأحزاب او الأفكار الى مواقع ليبرالية, والتى أصبحت ظاهرة متفشية في صفوف اليسار العربي, اما الأحزاب التي عانت الكثير فأغلبها تحول الى اليمين, ومنها من بقي مكانه رافضا الاعتراف بما حصل وكأنه كابوس مزعج ولن يلبث وأن ينتهي باستيقاظه, وآخرون يبحثون عن هوية جديدة وما زالوا وان لم يعثروا عليها حتى الآن (الله يعلم اين مختفية), وهكذا انتهى عصر الاشتراكية ليبدأ عصر الديمقراطية والمجتمع المدني, وان كانت هاتان الفكرتان خارج موضوعنا فلا بأس من القاء نظرة سريعة لنرى كيف ان لا جديد تحت الشمس.
تم تبني فكرة المجتمع المدني تحت باب الاستيراد الثقافي للعرب, وهي التي عاودت الظهور وبقوة بتأثير التجربة البولونية, التي لم يسع احد العرب الى قرائتها واكتشافها, فالمجتمع المدني , وان اختلفت تعاريفهم حوله, فالأغلب يتفقون بأنه مجموع الهيئات والتجمعات المستقلة والتي تشكل فاصلا بين الدولة والفرد لحماية الأخير من سطوة الدولة, وعليه فقد اكتشفوا ان هذه الهيئات موجودة ولا تحتاج الى احياء ولكنها برمتها تقليدية, ولهذا دعوها بالمجتمع الأهلي تمييزا, وقرروا احياء المجتمع المدني من موته (والله وحده الذي يحي العظام وهي رميم) عبر الجمعيات والمنتديات والمؤسسات, والمشترك بينها جميعا كونها مؤسسات مثقفين لا اكثر, يتم تمويلهم من جهات مختلفة ضمن شروط تلك الجهات طبعا, ليشكلوا في النهاية اقتصدا سياسي لمؤسسات المجتمع المدني الذي لايمكنه الاستمرار الا مع استمرار التمويل.
اما الديمقراطية المكتشفة حديثا فهي ليست الا تنويعة على تراث طويل قائم على ديكتاتورية الأقية, فهؤلاء الديمقراطيون الجدد قسموا الشعب الى رعاع وهم الغالبية الساحقة, وشعب نستطيع طبعا تصور من يكون.
ان شروط الديمقراطية التي يعلنوها هي العلمانية والتعددية وتداول السلطة السياسية وحرية الرأي الآخر كلها أمور أساسية لا يمكن التنازل فيها, ولكنها لاتعني المواطن العادي تحديدا في شيء, فهو لا يملك اصلا وقتا للتفكير في ظروف قاهرة لتأمين الحد الأدنى لحياة أسرته,اي لا يملك الوقت لعملية التفكير ذاتها, وخاصة أن هؤلاء السادة يرفضون أي حديث عن سياسة اقتصادية تنموية تحت شبهة الاعتداء على الفرد والعودة الى الشمولية, اما حرية الآخر فيمكن الاطلاع على اعمالهم المتوافرة لنرى الكم الهائل من الرأي والرأي الآخر , الذي ينتهي عادة الى كونه شموليا, وموقفهم من الديمقراطية وتصورهم الفعلي عنها فيمكن معرفته من مواقفهم بصدد التجربة الجزائرية, ان الديمقراطية والمجتمع المدني هي مشاريع مثقفين يملكون على الأغلب دخلا ثابتا وتنقصهم الحرية الفكرية ولهذا يخشون الرعاع أكثر بكثير من خشيتهم من الدول, وهكذا لا يمكن لهؤلاء أن يكونوا دعاة ديمقراطية ان كانت تعني الشعب مصدرا للسلطات السياسية, والمجتمع المدني والديمقراطية ,كما تقدما, تبرهنان على انهما ليستا سوى تنويعة على تاريخ نخبوي (وبالتالي قمعي واقصائي) للسياسة, تاريخا يعيش مفارقا للواقع الذي يدعي تمثيه.
ان ما دفعني الى كتابة هذا الهامش هو اقتراح الأستاذ سلامة كيلة لحركة ماركسية جديدة ورد الأستاذ قوجمان عليه, وأعتقد اننا لسنا بحاجة الى اضافة فصل جديد الى التاريخ السابق انما المطلوب هو القطع معه, ان ما نحتاجه هو قراءة جديدة وثورية وحقيقية قدر الامكان للواقع العربي, دون الاهتمام بكونها ماركسية او لا, فماركسية أمر ما هي قضية غير ذات معنى, ولا تعني سوى اضاعة الوقت في معرفة ان كنا ماركسيين ام لا, دون الاهتمام بالواقع الذي يفترض ان يكون مرجعنا الأول
• * طبعا لا يمكن فصل بنى التوزيع عن بنى الانتاج والتي تشكل اساس تبنى عليه بنى التوزيع والاستهلاك, لكن في مجتمعات العالم الثالث حيث يشكل المنتجون أقلية ويشكل احتياطي العمالة نسبة هائلة تصل الى 50-70% , كما يشكل عاملو القطاع الثالث الخدمي نسب كبيرة في هيكل توزع الطبقة العاملة, وهؤلاء ليسوا كنظرائهم في الدول المتقدمة يعكسون بنى انتاج شديدة التطور انما الأصح يعكسون حقيقة التوسع الهائل لجهاز الدولة البيروقراطي كجهاز اعاشة, كما تكثر نسبة العاملون بالريف وفيهم نسبة هائلة ممن يعملون بدون أجر ضمن علاقات القرابة, كما يظهر الدور الحاسم للموقع في الدولة, اي السطة في تحقيق الثروة وتوزيعها, مما يعطي أهمية خاصة لآليات التوزيع في تبلور الوعي الاجتماعي
• ** ان هذه الأسباب للحركات الاسلامية ليست الوحيدة ولكنها هي التي تعنينا في السياق الذي نتحدث فيه
#موريس_عايق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟