الناصر لعماري
الحوار المتمدن-العدد: 4057 - 2013 / 4 / 9 - 19:32
المحور:
حقوق الانسان
وريست البطل يعود إلي مسقط رأسه “آرجوس” بعد أن شب و ترعرع بعيدا عنها, فيطلع على الوضع المحزن السائد فيها. لقد خانت أمه الملكة كليتمنستر زوجها و والده أجاممنون, و ساهمت مع عشيقها ايجيست في اغتياله و بعد ذلك اغتصب ايجيست الملك لنفسه. و اذ شاء أن يثبت سلطته اقنع شعب آرجوس بأنهم يحملون معه وزر هذا الإغتيال و أن عليهم إذا ان يعيشوا في حزن و تكفير دائمين و شعور مستمر ساحق بآثامهم. اما ملك الآلهة جوبيتر فقد ساند ايجيست في مسعاه لأنه يساند كل حكم و لو كان ظالما, فتسلط الملوك صورة لتسلطه. أوريست يرفض مباركة جوبيتر لإيجيست و حمايته لعرشه فيكفر بربوبية جوبيتر لأنه يحكم عليه بالذل و الهوان, يرفضه لأنه ينتظر منه خنوعا شبيها بخنوع أهل آرجوس. جوبيتر يحاول تذكير اوريست بسلطته الإلهية على الكائنات و لكن اوريست يجيبه بان لا سلطة له على البشر طالما خلق البشر احرارا.
أوريست : انك ملك الآلهة يا جوبيتر, ملك الحجارة و النجوم, ملك امواج البحر .. و لكنك لست ملكا على البشر.
جوبيتر : ألست ملكك أيتها الدودة الحقيرة الوقحة ؟ من خلقك إذا ؟
أوريست : انت و لكن كان ينبغي ألا تخلقني حرا.
جوبيتر : لقد وهبتك الحرية لتخدمني.
أوريست : ربما, و لكنها انقلبت عليك و لا نستطيع بعد ذلك شيئا, لا انت و لا انا .. منذ ان خلقتني لم أعد ملكا لك.
جوبيتر : و أخيرا فهذا هو عذرك ؟
أوريست : انني لا أعتذر.
جوبيتر : حقا, الا تعلم ان هذة الحرية التي أصبحت لها عبدا تشبه كثيرا ان تكون عذرا ؟
أوريست : أنني لست عبدا و لست سيدا لأحد بل لنفسي, إنما هي حريتي و حالما خلقتني اصبحت لا أنتسب إليك في شيء. ما الذي بينك و بيني ؟ إننا سنتقابل و لكن دون أن نتماس, كسفينتين تمران بالقرب من بعضهما في ليلة ليلاء. إنك إله و انا حر, و كلانا يحيا في وحدة, و كلانا يحس نفس القلق.
أوريست يسعى للحرية, يريد أن يحيا وجوده هو الآخر, و وجوده الكامل لا يتربط بوجود ما هو خارج نفسه, فالوجود الكامل هو الوجود المكتفي, هو الوجود في ذاته. و لكي يعيش الإنسان وجوده لابد ان يعيش حريته, الحرية الكاملة. لابد ان يثور على الآلهة, لابد ان يلقي عن ظهره الندم و يلفظ الخوف .. لابد ان يكون حريته. لابد ان يتحمل تبعات تصرفاته كاملة و ان يحمل مسئولياته كلها. و هذة الحرية و تلك المسئولية هما ما لا تطلبه الآلهة للإنسان. او أن الإنسان عندما لا يريد ان يعيش حريته و يتحمل المسئولية ينسحب و يخترع له إلها يحمله كافة المسئولية, و ينصاع لأوامره هو, بحيث لا يعذبه إختياره أو يقلقه. و لكن أوريست لا ينصاع و لا يخضع, إنه لا يدخل قوالب, إنه يفكر و يعيش و يجرب, لنفسه و بنفسه, إنه حر و هو يختار, و هو مسئول عن ذلك.
و اكتشاف الحرية شيء لا يسر و لا يبهج, على العكس إنه يلهب الإنسان بإحساس الوحدة, يقضه بإحساس الإنعزال. فعندما أحس بحريتي يرتجف قلبي و تنخلع مفاصلي و أحس بعصب امعائي يكاد يعجزني عن الحركة. إن القلق يرهبني و يكاد يقتلني, ماذا اختار ؟ و ماذا سيكون مصير إختياري ؟ و ما هو الإختيار الحقيقي الذي يمنحني مزيدا من الحرية لي و للآخرين ؟ نعم, فالآخرين أيضا لهم حساب لأن الوجود مع الناس يستلزم ان تخضع الذات إلي قيم الناس, ان تسقط في هوة وجودهم. و سقوطها حتمي لأنها لا يمكن ان تلغي الناس, مع إن وجود الذات مع الناس وجود زائف و هي تلجأ إلي هذا الوجود لانها تخاف الحرية و تخاف أحوالها الوجودية.
الحرية و الدين
إن مسرحية “الذباب” للفيلسوف و الأديب الوجودي الرائع “جان بول سارتر” يمكن اعتبارها ملحمة و أيقونة و صوت صارخ للحرية و أبلغ تعبير عنها. فالحوارات بين البطل “اوريست” و ملك الآلهة “جوبيتر” هي حوارات كاشفة للكثير من المفاهيم. و عموما هناك الكثير من الملحدين الذين خرجوا من حظيرة الإيمان من باب الحرية, لم يرفضوا الأديان و الآلهة في الأساس بسبب أي زيف أو تخريف او تعارض مع العلم و المنطق أو مع الإنسانية .. بل دفاعا عن حريتهم و كرامتهم قبل أي شيء آخر. و الاديان نفسها حاولت إرهاب و تخويف المؤمنين من الحرية و من تبعات الحرية المؤلمة, فنفرتهم من الإعتماد على الذات و التفكير المستقل و البحث عن الهوية و صعوبة الإختيار ثم تحمل مسئولية الإختيار .. ألخ. و قصص مثل الإبن الضال و الخروف الضال كانا من أقوى الامثلة التي استخدمها المسيح لتخويف الناس من الحرية و من مخاطر الإعتماد على الذات, فالحرية جميلة و محبوبة و لكن لها تبعات و مخاطر و مسئوليات بكل تاكيد, و هذة التبعات و المسئوليات هي التي كانت تستغل ضد الحرية.
و بالإضافة للتخويف من الحرية و محاولات منع الناس من تقرير مصيرهم, المنطق الديني يبدو متعارضا مع الحرية بشكل اساسي و جوهري. فكثير من الناس فكروا بالتأكيد في السبب الذي يجعل شخص مؤمن و آخر كافر, او شخص تقي و آخر زنديق. ما الشيء الذي يحاسب عليه الإله في الآخرة بالتحديد ؟! يعني إذا كان الإله هو من خلقني بشكلي و طبيعتي الجسدية و خلق أهلي الذين ربوني و أثروا علي و خلق البيئة التي اعيش فيها و خلق كل ما فيا و ليا .. فعلى ماذا يحاسبني ؟ انا لم اختار هذة الحياة و لم احدد الساعة التي ولدت فيها و لا أستطيع ان اختار اللحظة التي ساموت فيها (غير مسموح بهذا, و إلا لإستطعت ان اتوب و اعمل خيرا كثيرا ثم انتحر و أذهب إلي الجنة) و لم اختار المكان الذي ولدت فيه أو بلدي أو مستوايا الإجتماعي, فكيف يحق له أن يحاسبني ؟!!
هل أي انسان حر فعلا بالمنطق الديني ؟ هل لو تم تبديل بابا الفاتيكان و الشيخ القرضاوي و هم أطفال رضع, فتم تبديل اجسادهم و بيئاتهم و كل ما لهم, ألن يكون القرضاوي بابا الفاتيكان و بابا الفاتيكان هو القرضاوي ؟ فإذا كانت الظروف و الملابسات هي التي تصنع الإنسان, فكيف يمكن لله أن يحاسبه ؟ و إذا كان الله هو من يخلق للإنسان روحا طيبة أو روحا شريرة, فكيف يمكن أن يحاسبه ؟ ما هو الشيء الذي يخلقه الإنسان لنفسه حتى تتم محاسبته عليه ؟ و إذا كان يخلق أشياء فعلا, فمن أين اتى بالادوات او بالذات التي خلق بها منذ البداية ؟
يعني لو استخدم شخص ما مقادير معينة لصنع طعام (كيكة مثلا), و إختار المقادير كلها و اختار الظروف كلها و لم يجبر على أي شيء (هل كان الله مجبرا على خلق الأشرار ام ان ماكينة الخلق كانت معطلة حين خلقتهم ؟) فهل لو فسد ما يطبخه او لم يخرج بالطريقة التي يريدها يكون الدقيق و السكر و البيض و خلافه هم الملومين و المخطئين ؟!!! ام يكون الصانع هو الملوم ؟ يعني الإله يدعي أنه مسئول عن كل شيء في الكون و في الخلق لا ينازعه فيه احد (واخد الدنيا كلها مقاولة, فحت و ردم), لا يتنصل حتى من المسئولية مدعيا أن الشيطان يصارعه او مساوي له في القوة او يفسد ما يخلقه (هل كبرياؤه يمنعه من قول ذلك ؟), فكيف يحاسب ايا من مخلوقاته على أشياء لا يد له فيها ؟!! لكن يبدو ان الإله في الأديان هو عامل فاشل يعمل على خط انتاج فاسد بماكينات قديمة متهالكة فلا تنطبق عليه اي معايير للجودة, حتى انه يحتاج لخلق ألف كوكب او مليون كوكب حتى يخرج لنا كوكب واحد يصلح للحياة بنسبة نجاح 0.001% أو أقل.
الفهم الديني للحياة يبدو فاسدا و متناقضا بهذة الطريقة, بحيث أن الإلحاد و الإقتناع بان العالم عشوائي و فوضوي و لا يعبأ بأحد هو أمر أكثر بديهية و معقولية من إله عابث يخلق كائنات ليرمي نصفها في النار و يربي النصف الآخر في زريبة إلهية. لكن بغض النظر عن النظام الذي يوحي به الدين فمفهوم الحرية هي أساس أي فهم اخلاقي ايضا. الأخلاق تتطلب ارادة حرة بحيث يكون المرء أخلاقيا حين لا يكون خاضعا لإغراء أو ارهاب أو اضطرار و الدين يهدد الناس بجهنم و يغريهم بالجنة فيقومون بالأعمال التي يكسبون بها الجنة و يتقون بها النار من أجل فوزهم الفردي بالجنة و اتقاءهم الفردي للنار و ليس سعيا حرا من أجل الخير او حبا في الناس, و هذا كله ضد الحرية كما أنه ضد المسئولية الاخلاقية.
و من المنصف أيضا أن نتساءل : هل الله حر ؟ يعني الفهم البسيط لمعنى الحرية يعرفنا بها انها قدرات و إمكانيات, فحرية العقيدة هي الإمكانية و القدرة على ان اعتقد ما أشاء .. و محاصرة حرية العقيدة تعني محاصرة أي إمكانية أو قدرة على الإعتقاد بما لا يسمح به الحصار. و بالتالي فمن يستطيع الجري هو حر ان يجري و من لا يستطيع الجري ليس حرا ان يجري, و من يستطيع الطيران هو حر ان يطير و من لا يستطيع ليس حرا, و من يستطيع ان يتخفى هو حر في ذلك .. و هكذا. و بهذا المقياس فالله هو الحر الاوحد لانه قادر على كل شيء و لديه إمكانية لفعل أي شيء و لذلك فهو حر حرية مطلقة, و مع ان الحرية المطلقة هي حرية لااخلاقية لأنها غير مقيدة او محدودة باي التزام اخلاقي, إلا أن الله قادر على كل شيء و له الحرية لفعل كل شيء و متسلط على جميع الكائنات الحية و على أقدارهم و أرزاقهم و حتى إرادتهم الحرة, غير عابئ بإلتزام أو أخلاق. فالله لا يمتنع عن فعل أي شيء بسبب التزام أخلاقي, ألا يقتل الله ؟ ألا يصيب الناس بكوارث ؟ ألا يوزع الله الأرزاق بين الناس بدون حسيب و لا رقيب و لا جهاز مركزي للمحاسبات, و انما بمزاجه الشخصي ؟ هل يمتنع الله عن أي شيء يريده إحتراما لإلتزام أخلاقي يضعه لنفسه و يلزم به نفسه ؟ أبدا ولا واحد .. لكن لو كان الله شخصا خيرا و ملتزم بفعل الخير فهو ليس حرا, و بالتالي فالله إما أن يكون حرا او يكون اخلاقيا و لا يمكن للإثنان ان يجتمعا معا.
و مع ذلك فالله ليس حرا : الله (او أي إله) له طبيعة إلهية, و هو ما يجعله خاضع لطبيعته. و أيا كانت هذة الطبيعة الإلهية إلا انها تحكم الله و تحده و توجهه, تماما مثلما تتحكم فينا طبيعتنا المادية فتجعلنا خاضعين لقوانين الجاذبية و قوانين المادة و خلافه .. الله أيضا خاضع لطبيعته حتى لو كانت مختلفة أو ارقى من الطبيعة الإنسانية. يعني إذا كان الله خالد لا يموت فهو إذن خاضع لطبيعته الإلهية التي تمنعه من الإنتحار او التخلص من حياته, بخصوص الحياة الله لا يملك خيارات .. هو حكم مؤبد بالحياة للأبد, شاء الله أم أبى. و إذا كان الله قادر على كل شيء فهو أيضا خاضع لذلك, بمعنى انه لن يعرف أبدا معنى العجز او الضعف و لن يعرف أبدا أهمية العمل و المثابرة لتحقيق شيء. الإله هنا خاضع لطبيعته الإلهية و مقيد بها بنفس الطريقة التي يخضع بها كل كائن لطبيعته.
الله أيضا, يقول عنه المؤمنين به ان له طبيعة خيرة .. فهل هو خاضع لطبيعته الإلهية الخيرة كما يخضع الأسد لطبيعته الحيوانية الإفتراسية ؟ هل يستطيع الله أن يقوم بشيء شرير دنيء ام هو مجبر على الألوهية و الرقي ؟ بالطبع تذكر الكتب المقدسة أشياء كثيرة دنيئة و حقيرة دعا إليها و قام بها كل الآلهة .. لكن المؤمنين عادة ما ينكرون دناءة الآلهة بحجة تسامي و رقي الآلهة و هو ما يجعل الآلهة أشبه بماكينات آلية لفعل الخير, لا تملك من أمرها شيئا و لا تعرف حرية اكثر من أي بشري او حيوان. يعني لا يمكن انكار ان كل ما له طبيعة هو خاضع لطبيعته و تحت رحمتها, فمن له طبيعة غاضبه خاضع لغضبه و من له طبيعة عقلانية خاضع لعقلانيته و من له طبيعة إلهية خاضع لألوهيته و من له طبيعة بشرية خاضع لبشريته و من له طبيعة حيوانية خاضع لحيوانيته .. ألخ.
الحيوانات مثلا, حين يجري الأسد خلف الغزال ليفترسه, هل هو حر ؟ هل هو مسئول عن تصرفاته ؟ و هل يمكن محاسبته أخلاقيا ؟ أم انه معفي من الحساب الاخلاقي لانه غير واعي و خاضع تماما لغرائزه الطبيعية ؟ لكن اليس للإنسان طبيعة أيضا و غرائز طبيعية ؟ هل يمكن محاسبة فقير لم يأكل ليومان لانه سرق رغيف عيش ؟ هل يمكن محاسبة كل من يسعى لكسب المال لإنفاقه على الطعام و السكن و الملبس و ظروف معيشته, و نتهمهم بانهم ماديين يسعون لإشباع متطلبات مادية ؟ السنا جميعا خاضعين للظروف المادية لأننا كائنات مادية ؟
و بغض النظر عن أصل الحرية للإله او الإنسان, فالإنسان لديه إمكانيات محدودة و هو حتى مطالب من الله ان يتنازل عن الحرية التي اعطاها له الله و يطيع ربه و يخضع له, و في سبيل ذلك عليه ان يكافح ضد كل المغريات و الشهوات التي خلقها الله للإنسان. فهل الإنسان حر من المنظور الديني ؟ و هل لديه شيء مستقل عن الله و لم يخلقه الله أو خارج سيطرة الله بحيث أن الإنسان يستطيع ان يقدمه هدية لله في مقابل رضاه و عطفه ؟ هل فعلا يملك الإنسان حرية يستطيع أن يقدمها لله أم ان الله متحكم و مسيطر على كل شيء ؟ و هل الله هو المتحكم أم ان طبيعته الإلهية تقوده و تسير به كالحيوان الاعجم ؟
يبدو الأمر معقدا, و يبدو الدين عاجز عن حل هذة المعضلة فلا يبدو هناك مفر من هذة الإشكالية سوى الإقتناع الجازم بان الإنسان ليس حرا و ان اثابته/عقابه على شيء لا يد له فيه بثواب/عقاب أبدي في جنة/جهنم, هو شيء ظالم و لا يمكن ان يمت للعدل بصلة. و بالتالي يكون هذا الفهم محرضا على نبذ الإله عدو الحرية و عدو العدل و الذي يريد ان يحرمنا من إمكانيات و حريات قليلة ليأخذها لنفسه و هو الذي يملك كل الحريات و كل الإمكانيات. لكن هل يحل حتى الإلحاد هذة المشكلة ؟!
الحرية و الفلسفة
ما هو أبرز و أقوى مشهد يمكن للمرء ان يجتره من ذاكرة السنيما و يجده الأقوى و الأكثر تعبيرا عن الحرية ؟ هل هو مشهد تعذيب ويليام والاس (ميل جيبسون) في نهاية فيلم “القلب الشجاع Braveheart” فتبدو الذروة الدرامية حين يرفض الخضوع لكل التعذيب الوحشي للإنجليز و يهتف بعلو صوته : Freedom .. يصعب جدا على أي شخص ان يمنع القشعريرة من السريان في جسده كالكهرباء و هو يراقب هذا المشهد. ام ربما هو مشهد تحرر آندي دوفرين (تيم روبنز) من السجن في فيلم “الخلاص من شاوشانك The Shawshank Redemption” و تبدو الذروة الدرامية حين يشعر بالمطر على وجهة بعد ان خرج من مواسير المجاري القذرة التي ظل يحفر إليها سنين و سنين طويلة, مشهد رهيب آخر و قادر على تحفيزك و تحريك كل حواسك حتى نهاية عمرك. قد تبدو هذة الأفلام القوية الرائعة التي لن ينساها الناس أبدا هي خير شاهد على الحرية .. و كل عمل فني منهم هو انشودة للحرية لن تموت أبدا.
الحرية عموما هي المعنى المفضل و القيمة المعشوقة عند كل مفكر و كل مبدع و كل فنان و كل أديب و كل فيلسوف .. بل و عند كل إنسان عادي, فالحرية هي عنوان السعادة و عنوان الخير و عنوان الحقيقة عند معظم الناس. و ليست مسرحية “الذباب” فقط هي التي تعبر عن قيمة الحرية بقوة بل كذلك فعلت العديد من الاعمال الفنية و الأدبية و الفلسفات التي ناقشت فكرة الحرية بإستفاضة. و الفلسفة الوجودية عموما بشقيها المؤمنة و الملحدة ناقشت الحرية و انتصرت لها بقوة في كل أدبياتها. فسواء كان “سورين كيكجور” أو “جابرييل مارسيل” أو “جان بول سارتر” أو غيرهم, دافع الجميع عن الحرية و نظّروا لها و قالوا فيها أشعارا و حكايات, فالحرية كانت من أهم الموضوعات الفلسفية و قد تعرض لها غالبية الفلاسفة الكبار مثل : ايمانويل كانت, جون لوك, فولتير, جون ستيوارت مل, .. و غيرهم كثير. و بغض النظر عن مشاعرنا و عشقنا للحرية و التحرر, حاول كل واحد من هؤلاء الفلاسفة التفكير و فهم الحرية بعقلانية و منطق من احدى أو كلا الزاويتين :
1- هل الإنسان حر و مخير أصلا ام مسير و مجبر ؟
فهناك من يعتقد من منظور ديني أن الإله يسير الإنسان و يتحكم فيه مثل قطعة الشطرنج و هناك من يرى من منظور علمي ان الطبيعة هي التي تسير الإنسان و تتحكم فيه مثل نفس قطعة الشطرنج, و هي ادعاءات تستحق الإلتفات إليها قبل النظر من الزاوية الأخرى.
2- ما هي الحدود المناسبة للحرية في المجتمع البشري ؟
و هي تناقش (أولا) حريات الإعتقاد و الفكر و التعبير و (ثانيا) الحريات الشخصية و الإجتماعية و (ثالثا) الحريات الإقتصادية و التجارية و (رابعا) الحريات السياسية و الحقوقية.
و عادة ما يكون الفيلسوف المقتنع بان الإنسان حر نظريا هو الفيلسوف المنتصر لقيمة الحرية و الداعم لها و المدافع عنها في التطبيق, بينما الفيلسوف المنكر للحرية نظريا هو الفيلسوف الناقم على الحرية و الرافض لها في التطبيق. و يتفاوت بين هذا و ذلك درجات متفاوتة ما بين الدعم الكامل لكل الحريات و الإنكار الكامل لكل الحريات. لكن قبل الإسترسال في أي نقطة ربما نحتاج لتعريف الحرية و تحديد القيود أو تحديد العبودية, لفهم العلاقة بين الأضداد و معرفة مسألة مهمة : الحرية تكون من أي شيء تحديدا ؟ ام ان المقصود بالحرية هي الحرية المطلقة من كل شيء ؟ فالحرية (من وجهة نظر غالبية الناس) هي تحطيم كل القيود التي تكبل طاقات الإنسان و إنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، و هي تشمل التخلص من العبودية لأي شخص أو جماعة أو أي نظام او كيان أو دولة، و التخلص من الضغوط المفروضة على الفرد لتنفيذ غرض ما، و التخلص من الإجبار و الفرض بشكل عام.
و حين يتم مناقشة السؤال الأول, هل نحن أحرار و هل نملك حرية من الأساس ؟ لا نجد مفرا من نوعان من الأسئلة كتفكيك و كتفصيل لهذا السؤال :
1- هل نحن خاضعين لكذا ؟
2- هل كذا يتحكم فينا بإستبداد ؟ ام يترك لنا مساحة من الحرية ؟
فسواء كان الإله او الطبيعة او النظام الكوني او المجتمع او الدولة او الزعيم .. نتساءل دائما هل لدينا حرية أمامهم من الأساس ؟ و من ناحيتهم : هل يسمحون لنا بأي نوع من الحرية ؟
بالنسبة للإله فهو يبدو كفرض خيالي توهمي يصعب الكلام عنه بغير تناقض و مغالطات.فهو بغض النظر عن استحالة وجوده منطقيا بسبب صفاته المتناقضة التي تنفي بعضها بعضا, فهو ليس كيانا حرا باي معنى و هو لا يدعم الحرية للإنسان بأي معنى. لكن عموما فكرة الإله نفسها هي فكرة سخيفة و مردود عليها و لا تستحق إهتماما اكثر.
لكن بالنسبة للطبيعة و النظام/الفوضى في الكون, يبدو الخلط بينهما شائعا. فمن منظور عامة الناس و غير المتعلمين و المتدينين كل الطبيعة منظمة و لا يوجد أي نوع من الفوضى في العالم, و هي طريقة تفكير تناقض أي مشاهدة عادية في عالمنا, دون الحاجة إلي علوم او فيزياء او كونيات. يعني على المستوى الكوني, إذا كانت الكواكب التي تدور حول نجم معين هو تعبير عن نظام نسميه النظام الشمسي فالنيازك التي تسبح في الفضاء بغير ارتباط بمدارات معينة هي تعبير عن الفوضى الشمسية. و إذا كان وجود نظام يحتضن الحياة على كوكب الأرض دليلا على النظام الكوني فبلايين البلايين من الكواكب المقفرة المحرومة من أبسط مقومات الحياة هي دليل على الفوضى الكونية. ان ملاحظة الفوضى في العالم هو امر شائع لاننا نعرف معنا الكلمة جيدا, الفوضى قد تجدها في حجرة نومك و في منزلك و في بلدك متمثلة في مظاهر لا تعد و لا تحصى, و عالمنا هو جزء من الكون و من الطبيعة فكوكب الأرض ليس سفارة إنسانية في الكون لا تخضع لقوانينه و حتمياته.
أبسط مثال على الفوضى في الطبيعة ليس هو الكائنات التي تولد مشوهة, مثل الأطفال الملتصقة و التوائم السيامية و الاجنة المشوهة و خلافه .. بل التنوع في الطبيعة و الكائنات الحية عموما هو أبلغ تعبير عن الفوضى. لو كانت الطبيعة كلها نظام كامل و تام لما اختلف الأبناء عن الآباء في شيء, لكنا نسخ كربونية من اسلافنا و أسلاف أسلافنا و كانت الكائنات الحية هي علب تونة او اكواب من الزجاج تخرج من مصنع واحد بنفس الخامات و الشكل, هذا هو النظام رغم انه ليس تاما و لا كاملا و من السهل ان تجد فيه منتجات مكسورة او فاسدة, مثل أي خط إنتاج في العالم. إن اي إنكار للفوضى في العالم هو وهم مجنون و تخريف منعزل عن الواقع و منكر لمشاهدات يومية, أبسطها هو التنوع و الإختلاف الذي لن يسمح به أي نظام فولاذي و تام و كامل.
أفضل طريقة للتعبير عن صراع النظام و الفوضى في الكون بل و في عالمنا متعدد الأكوان, هو رسمة اليين و اليانج. و علامة اليين و اليانج (تايجيتو) ترمز لكيفية عمل الأشياء في التراث الصيني القديم و هو رمز يعكس الإزدواجية التي لا مفر منها و المتشابكة بكل الأشياء في الطبيعة، و هو موضوع مشترك في الطاوية (فلسفة و عقيدة دينية). الدائرة الخارجية تمثل “كل شئ” او الطبيعة، بينما الشكلان الأبيض والأسود داخل الدائرة يمثلان التداخل بين طاقتان متضادتان، طاقة اليين “الأسود” وطاقة اليانج “الأبيض” الطاقتان المؤديتان لحدوث أي شيء في الحياة. وهما ليسا أبيض و أسود تماماً مثلهم مثل أي شيء آخر في الحياة لا يكون أبيض تماماً أو أسود تماماً، ويحتاج كل منهما للآخر فهو مكمل له ولا يتواجد أي منهم دون الآخر. بينما اليين هو الفوضى و الظلام و السكون و الأسفل و البرودة و الانكماش و الضعف فإن اليانج هو النظام و النور و النشاط و الأعلى و السخونة و التمدد و القوة.
و الإنسان مثل كل شيء يقع داخل دائرة الطبيعة هو جزء من صراع الأبيض و الأسود, الخير و الشر, النظام و الفوضى, العقلانية و الحيوانية .. هذا شيء يصعب ان ينكره بشري. فكل إنسان يعيش صراعات اخلاقية و حياتية شبيهة بصراع هاملت “اكون او لا اكون, تلك هي المسألة” في مسائل يظهر تباينها, بينما في معظم حياتنا لا يبدو الصراع واضحا لان كل شيء متداخل و يحتوي على النقيضين. سهل جدا بهذا الفهم ان نتصور مقولة مثل “مصائب قوم عند قوم فوائد” و سهل جدا ان نفهم أن الأبيض الناصع لا وجود له و أن بداخل كل ملاك طاهر شيطان نجس كما ان بداخل كل شيطان نجس ملاك طاهر.
لكن ,و كما يوضح الرمز الصيني, لا يوجد شيء خارج دائرة “كل شيء”. بمعنى أننا قد نكون أخيار او أشرار (جزئيا) و قد نكون مستنيرين أو مستظلمين و قد نكون أي شيء يقع بين أقصى التناقضات و أقصاها و لو بدرجات مختلفة و متفاوتة .. لكن كلنا نقع داخل دائرة الطبيعة و خاضعين لقوانين الطبيعة لأننا جزء من الطبيعة بنفس الدرجة التي تكون بها الطبيعة جزء لا يتجزأ منا.
الحرية و الطبيعة
هل يمكن اعتبار الحيوانات البرية حرة و تعيش في حرية ؟ كل الحيوانات التي تعيش خارج الأقفاص و متحررة من أي لجام أو سرج أو حدوة أو ولاء عاطفي بدائي لإنسان .. هل يمكن اعتبارها حرة و طليقة ؟ هذة الحيوانات التي لا يتسلط عليها إله و لا رئيس و لا دولة و لا نظام و لا مؤسسة و لا شركة بل تعيش لنفسها تفعل ما تريد و تأخذ ما تريد و تفترس ما تريد و من تريد .. ألا يمكن اعتبارها حرة ؟ اليست الأشجار حرة ؟ اليست الحجارة حرة ؟ اليست الميكروبات حرة ؟ اليست الخلايا حرة ؟ اليست الجزيئات حرة ؟ اليست الذرات حرة ؟ هل يكون البشر هم الكائنات الوحيدة المستعبدة الأليفة ؟ أم ان البشر هم الكائنات الوحيدة الحرة الطليقة ؟ و مهما كان شكل التميز البشري, فما هو سبب هذا التميز ؟ و ما هو المنطق وراء اعتبار البشر مميزين في مسألة الحرية ؟
مسألة الحرية مهمة و لها تبعات أخلاقية كثيرة, فلا معنى لمعاقبة شخص مجبر أو مقيد او مضطر على أي شيء, و هذا هو نفس المنطق الذي يدافع به أي عسكري متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية : أنا عبد المأمور و عصيان الاوامر وقت الحرب يعتبر خيانة عظمى, و هو نفس المنطق الذي يسوقه المحامين لرفع عقوبة الإعدام عن قاتل او سفاح .. فلو اثبت جنونه يكون الإفلات من عقوبة الإعدام مضمونا, سيعيش فقط في مستشفى للأمراض العقلية لكي يتلقى العلاج. أبسط مثال هو السلوك الحيواني, فمعظم الحيوانات تفترس حيوانات أخرى و أحيانا تنكل بها, فهل هي حرة و مسئولة عن تصرفاتها (الحرية و المسئولية وجهان لعملة واحدة) أم أنها آلات حية فقط تسيرها الطبيعة (خارجها و داخلها) و تجبرها على القتل و الإفتراس ؟ هل يمكن اعتبار الأسد آثم لانه قاتل, ام انه غير مسئول عن تصرفاته ؟
لكن أليس الإنسان آلة حية هو الآخر ؟ ألا يسعى لإشباع نفس الغرائز الحيوانية الطبيعية و اطفاء سعارها ؟ هل يستطيع الإنسان ان يعيش مستغنيا عن الطعام بينما الاسد يعجز عن ذلك ؟ هل الإستجابة التلقائية الطبيعية و السلوك الغرائزي البدائي الذي يقوم به البشر هو أفعال حرة ام أفعال اضطرارية ؟ هل الشرب بعد العطش سلوك اختياري حر ؟ هل الأكل بعد الجوع سلوك اختياري حر ؟ هل التبول بعد الشعور بإمتلاء المثانة سلوك اختياري حر ؟ و في النهاية, هل الإنسان كائن مخير حر و يتميز عن الحيوانات .. ام أنه جزء من الطبيعة و خاضع لكل نداءات الطبيعة التي تستدعيه دائما في أي وقت و أي مكان ؟ هل يستطيع الإنسان الحر المخير حين يسقط من حالق أن يتوقف عن السقوط و يطير قليلا ؟ هل يستطيع الإنسان المخير الحر المريد ان يوقف رصاصة تطير إليه في الهواء بسرعة 1000 متر فى الثانية بعقله أو بإرادته الحرة فقط, مثلما فعل Neo في الفيلم الأمريكي الشهير The Matrix ؟ هل الإنسان يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون ؟ هل الإنسان هو إله قادر على كل شيء و لا يحده شيء و لا شيء يستطيع أن يؤثر عليه او يضغط عليه أو يضطره لفعل أي شيء ؟
هل الإنسان امام الطبيعة بكل بطشها و ديكتاتوريتها و غشوميتها لديه أي فرصة عند مواجهتها ؟ الطبيعة لن تقول لك لو أكلت من الشجرة التي في وسط الجنة موتا تموت .. ثم حين تاكل منها و تتوب إليها تسامحك و تسعى لإنقاذك, الطبيعة لو قالت إنك لو قفزت من النافذة موتا تموت فموتا ستموت و لا راد لقضاءها, الطبيعة لو قالت انك لو أكلت من تفاحة مسمومة موتا تموت لن يحول بينك و بين موتك رجاء او صلاة او سجود .. الطبيعة لا تفهم و لا تهتم و لا تعبأ بحركاتك الصبيانية هذة. الشيء الوحيد الذي قد يحول بينك و بين الموت لو قفزت من النافذة هو سقوطك على سيارة نقل تحمل محصول القطن الآتي من أحد المزارع . الطبيعة فقط هي التي يمكن ان تنقذك من نفسها, فقط حاول أن تصمت قليلا و تتعرف عليها و تفهم دوافعها .. حينها قد تستطيع أن تقيم معها علاقة جيدة.
بعض الناس يظنون انهم حين يرددون أن الإنسان سيد العالم و سيد الطبيعة و أن الإنسان انتصر على الطبيعة و سخر الطبيعة لمزاجه و لرغباته (رغباته الطبيعية أصلا) فإنهم يكونوا قد فعلوها حقا. البعض يتصور ان الطيران بإستخدام طائرة أو الذهاب الي القمر في صاروخ او الغوص لأعماق البحار في غواصة هو كسر لقوانين الطبيعة و إنتصار عليها. البعض يظن أنه لو اخترع شخصية خارقة لها قدرات و إمكانيات غير محدودة ثم لو جعل هذة الشخصية هي التي خلقت الطبيعة و شكلتها بمزاجها فإن هذا يكون قد حدث فعلا.
هنا يبدو الكائن البشري مثل طفل صغير حين يغضب من شخص ضخم يشبه “ارنولد شوازينجر” أيام عنفوانه فيتوعده بانه سيأتي له بوالده لكي يفرمه, و حين ترى هذا الوالد الجبار تجده شيء ضئيل هزيل لا يقوى على رفع يده, نفس المنطق الذي يتبعه المؤمن في تعامله مع الطبيعة .. انتي بتضربيني ؟ انتي بتتشطري عليا ؟ طب أنا هجيب لك الإله بتاعي !!! رد فعل طفولي و منكسر و مهزوم امام العالم و امام الطبيعة هو ما يجعل البشري يتخيل نفسه متحكما في العالم و متسلطا عليه .. و في الأساس متميزا عن العالم و مختلفا عنه, في احلامه او في أديانه او في رواياته أو في أفلامه سواء من خلال البطل المنحاز دائما للبشر او من خلال إله يدوب عشقا في أطراف أنامل الجنس البشري .. دائما هو هو نفس التعبير عن النقمة على ديكتاتورية و توحش الطبيعة, و عن الرغبة الغرائزية في الإنتقام منها و التنكيل بها و كسر قوانينها, بل و تعبير عن إختلاف و تمايز وهمي بين الإنسان و طبيعته (الداخلية و الخارجية). الطريف هو حين تتصالح الطبيعة مع الإنسان و تجامله و تنحاز له و تعبر عن ندمها في القسوة عليه في آخر الرواية او الدين او الفيلم .. انها النرجسية الإنسانية الطفولية التي لا تتوقف أبدا.
إذن فنحن أمام الطبيعة بلا فرصة في الإنتصار عليها .. لسبب بسيط جدا, أننا جزء من الطبيعة. أجسادنا طبيعية و حركتنا طبيعية و حياتنا طبيعية تماما, الإنسانية ليست سحرا أو طفرة خارقة لن تتكرر, و الطبيعة حين ولدتنا لم تلفظنا خارج رحمها كما تفعل الأمهات عادة. ثم إن هذا الكون الكبير و هذا العالم الواسع إلي ما لا نهاية بالتأكيد يحوي من هو اكثر ذكاء و وعيا بما لا نهاية من الإنسانية كلها على بعضها. البطن التي ولدتنا تستطيع ان تلد غيرنا و هي تلد غيرنا بالفعل كل يوم و كل دقيقة و كل ثانية. نحن جزء من العالم ككل و بالتالي فصراعنا الخيالي الطفولي ضد الطبيعة هو صراع وهمي في معناه (لاننا سنصارع انفسنا ايضا) و وهمي في جدواه (لأننا لن ننتصر أبدا في كل الاحوال). نحن مهزومين منذ البداية في أي صراع ضد الطبيعة لأننا لسنا أحرار أو مستقلين عن الطبيعة بل نحن جزء منها و نعيش بقوانينها بحتمية لا حياد عنها.
The Real Matrix
عند هذا الحد يبدو الحوار الذي حدث بين مورفيوس و نيو في الفيلم الأمريكي الشهير “The Matrix” أقرب ما يكون إلي الواقع. لكن الفارق الغير الجوهري بين الخيال و الواقع هو ان في الفيلم كانت الآلات الذكية هي التي تستعبد الناس و تقوم بتضليلهم عن طريق الماتريكس بينما في الواقع ان الطبيعة هي التي تفعل ذلك حرفيا عن طريق “الوعي”. على هذا الأساس يبدو الحوار الخيالي بين مورفيوس و نيو أنه يحمل من الحقيقة و الفهم للواقع أكثر من أي حوارات أخرى نسميها حقيقية في عالمنا. فقط لو بدلنا “الآلات الذكية” بــ “الطبيعة الغبية” و بدلنا “الماتريكس” بــ “الوعي” ثم قمنا بأعادة صياغة بسيطة للحوار فستتبدى لنا الكثير من الحقائق.
Neo : Right now we’re inside a Nature program?
Morpheus : Is it really so hard to believe?
Neo : This isn’t real?
Morpheus : What is “real”? How do you define “real”? If you’re talking about what you can feel, what you can smell, what you can taste and see, then “real” is simply electrical signals interpreted by your brain. It exists now only as part of a neural-interactive simulation that we call “the Consciousness”. You’ve been living in a dream world, Neo.
This is the world as it exists today. Welcome to “the desert of the real”. We have only bits and pieces of information. But what we know for certain that we are a tiny little species that lives in a vast desolate universe enslaved to a natural system called “the Consciousness” which forces us to think as we think, to feel as we feel, to act as we act. Our minds Neo are agents working for the nature; our minds lead us to interact with the nature within its laws to achieve its goals. Every time you feel happy and grateful for having something or doing something, you were forced to do that to fulfill the wish of the BIG FAT Nature.
For the longest time, I wouldn’t believe it. But I saw people dying one after the other due to sicknesses and aging, and then imagined them decaying in a hole in the ground so they could be fed intravenously to the living. Standing there, facing the pure, horrifying facts… I came to realize the obviousness of the truth.
Neo : What is the Consciousness?
Morpheus : Control. The Consciousness is a nature-generated dream world built to keep us under control in order to make our intelligence a slave having one goal, make every natural wish happen.
Neo : No… I don’t believe it. It’s not possible.
Morpheus : I didn’t say it would be easy, Neo. I just said it would be the truth.
Neo : Stop! Let me out of this blog! I want to be out of here!
كل هذا حقيقي تماما و ليس خيال, و المسألة كلها هي بأي وجهة نظر نتعامل مع الأمور و بأي طريقة نقوم بتآويلها. يعني طبيعتنا فعلا هي التي تستعبدنا و تسوقنا كالنعاج, و أي حديث عن الإرادة الحرة عادة ما يتصور ان الإرادة الحرة هي الإرادة الحيوانية في داخلنا و ليس الإرادة العقلانية في داخلنا. يعني لأن الدول و الحكومات العربية تحاول فرض نموذج معين من السلوك الديني على الناس (و لو ظاهريا) فهي تجرم بالقانون (أو تسكت و تترك الأمر للمجتمع المخصي) أي ممارسة جنسية خارج الزواج, و هنا يأتي من يدافع عن الحرية الجنسية و الحرية الشخصية و الحرية الإجتماعية. من يدافع هنا لا يدافع عن أي حرية, هو يحاول أن يعالج تداخل و تخبط الديكتاتوريات التي تحكمنا فقط. يعني ما بين ديكتاتورية الغرائز الحيوانية و ديكتاتورية الدولة الحمقاء نتخبط و نعجز عن التصرف, خصوصا حين تأمرنا الطبيعة بشيء تنهانا عنه الدولة. لذلك فمن يطالب بالحرية الجنسية يريد فقط ألا يلومه او يحاسبه أحد حين يخضع و يلبي نداء الغريزة.
لكن الطبيعة لا تنادي طبعا, الطبيعة تأمر و نحن نطيع و إلا هلكنا .. فليس التبول او التبرز فقط هو نداء الطبيعة, بل الجوع و العطش و الهياج الجنسي و غريزة البقاء هي كلها اوامر الطبيعة التي نسميها غرائز طبيعية لا فكاك منها. و ليس هذا فقط, بل الميول الفنية و المواهب و معدلات الذكاء و قدرات الدماغ و الهوية النفسية و الإجتماعية كلها من صنع الطبيعة. و ليس هذا فقط, بل حتى الوعي الذي لا يعمل إلا من خلال الحواس الطبيعية و الذكاء الطبيعي و البيئة الطبيعية و النفسية الطبيعية هو شيء يعمل بالكامل من خلال الطبيعة .. إنه نفس المنطق الجبري الديني و إن كان من زاوية علمية.
الكون, حتمي أم إحتمالي ؟
هل تعرفت على “شيطان لابلاس” ؟ إنه شيطان المعرفة الجبار, يعرف كل الحقائق عن الماضي و الحاضر، و يعرف كل القوانين الطبيعية التي تحكم الكون, و بالتالي فهو قادر على استخدام هذه المعرفة لتوقع المستقبل و بأدق التفاصيل. طبعا هذا الشيطان الخارق ليس إلا شخصية افتراضية اخترعها “بيير لابلاس” الرياضي و الفلكي الفرنسي المعروف ليعبر عن اقتناعه بالحتمية الكونية. لابلاس يصنّف كأحد أعظم العلماء على الإطلاق، يُطلق عليه أحياناً نيوتن فرنسا، وذلك بسبب تملكه لحسّ رياضي عظيم لم يجاريه فيه أحد من معاصريه.
و الحتمية الكونية هي موقف فلسفي يقول ان كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان و تصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة، يؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات، وبالتالي فنظرية الحتمية يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إلحادا وتمسكا بالقوانين العلمية كما يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إيمانا و قدرية. في الحتمية، لا يمكن حدوث أشياء خارج منطق قوانين الطبيعة، وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفا، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقا نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط المبدئية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي، لكن هذا القانون موجود و النتيجة محددة سلفا.
و الحتمية الطبيعية كمبدأ عام يتم التعبير عنه بحتميات مشتقة منه. فالحتمية البيولوجية ” Biological Determinism” هي تفسير الإنسان وحياته من وجهة نظهر حيوية حصراً. و ترتبط الحتمية البيولوجية (او الحيوية أو الحيوانية) كثيراً بما يُعرف بالحتمية الجينية “Genetic Determinism” و هي فرضية تقول بأن جينات الكائن الفرد هي من تحدد بالكامل تصرفات وتغيرات نظام ما (وليس العوامل الاجتماعية أو البيئية). فعلى سبيل المثال يؤمن أنصار الحتمية الجينية أن كون شخص ما محباً لنوع ما من الموسيقى أو كتابته للشعر أو إقدامه على اقتراف الجرائم إنما يعود لتكوينه الجيني الوراثي. فسلوك الكائن بالكامل (وليس فقط شخصيته) تحدده العوامل البيولوجية, و أي عوامل أخرى مثل الثقافة و العادات الاجتماعية و التعليم لها أثر محدود أو ليس لها أثر بتاتاً على سلوك الكائن .. و هي عوامل مهما كبر أو صغر تأثيرها فهي عوامل حتمية أيضا و لا يد لأحد فيها.
قس على هذا كل شيء في الكون, فهناك حتمية فيزيائية (الظروف الفيزيائية التي تسببت في نشوء و عمل الكون حتمية) و حتمية كيميائية (كل التفاعلات الكيميائية حتمية و كان يجب ان تحدث) و حتمية تاريخية (كل الاحداث التي وقعت على كوكب الأرض لم يكن يمكن أبدا تجنبها) و حتمية بيولوجية (الصفات الوراثية و الجينات تحدد كل شيء تقريبا) و حتمية إجتماعية (الظروف الإجتماعية هي التي تشكل الإنسان و تشكل ميوله و اتجاهاته) و حتمية نفسية (ماضي الإنسان و علاقته بأهله و بيئته التي تربى فيها هما من يشكلان شخصيته و يسوقانه بقية حياته) و حتمية اقتصادية مادية (الموارد المتوفرة للمجتمع و الأسرة من مال و إمكانيات هي التي تتحكم) و هكذا.
و هنا يبدو الخلط شديد الوضوح , بين الحتمية الطبيعية و الحتمية النظامية :
الفهم الحتمي يقدم لك العالم و كانه فيلم سنيمائي معد سلفا, فأنت حين تنهي الفيلم تعرف انك لو شاهدته مئة مرة او ألف مرة فلن تختلف نهايته أبدا .. و هكذا الكون. منذ أول لحيظات الكون حتى نهايته كل شيء حدث فيه كان ينبغي ان يحدث و لو اعدت هذا الفيلم الكوني ألف مرة او مليون مرة فلن تختلف نهايته أبدا, و هذا ليس علميا أو حقيقيا بأي مقياس. و لتوضيح ذلك نحتاج للتعريف بعدة مفاهيم و إكتشافات مهمة ..
الطبيعية الوجودية : (Metaphysical Naturalism أو Ontological Naturalism) هي فلسفة شاملة، موضوعها فهم العالم و دور الإنسان فيه، و تخلص فيه إلى استنتاج ان كل ما هو موجود طبيعي و كل ما هو طبيعي موجود، و انه لا وجود حقيقي لكل ما هو فوق طبيعي، مثل الارواح و الاشباح و الآلهة. و أبسط ما يمكن الدفاع به عن الطبيعية الوجودية هو ان حتى لو كانت الأرواح و الأشباح و الآلهة و أي كائنات هلامية غامضة أخرى لها وجود حقيقي فسيكون لها طبيعة و قوانين تخضع لها و تحدها أيضا. و من هنا يمكن القول ان كل ما هو موجود خاضع تماما لقوانين الطبيعة او ما يمكن تسميته بـــ الحتمية الطبيعة. لكن بالرغم من ذلك فليس كل شيء حدث كان يجب أن يحدث لان الطبيعة ليست كلها نظام بل هي صراع بين النظام و الفوضى (تم الإشارة إلي ذلك), و لا حاجة للتدليل بالتراث الصيني لان المشاهدات اليومية العادية تكشف لنا ذلك و إن كانت الإشارة إلي بعض الإكتشافات العلمية مهم أيضا في هذا السياق.
مبدأ عدم التأكد : (أو مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين) هو من أهم المبادئ في نظرية الكم بعد أن صاغه العالم الألماني هايزنبرج عام 1925 وينص هذا المبدأ على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، و يشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي تحديد الموضع و السرعة لجسيم أولي. هذا المبدأ معناه أن على المستوى الذري و دون الذري حيث تستخدم فيزياء الكم لا يمكن معرفة كل شيء بدقة 100% و لا يمكن قياس كل شيء بدقة 100%، إنما هناك قدر غير معروف ولا يمكن قياسه.
و نتائج هذا المبدأ شيء هائل حقاً، فإذا كانت القوانين الأساسية للفيزياء تمنع أي عالم مهما توفرت له الظروف المثالية للحصول على معلومات مؤكدة تماما. فما يقوم بقياسه يحتوي طبيعيا على قدر من عدم الدقة لا يستطيع تخطيه، لأنه قانون طبيعي .. هذا هو منطوق مبدأ عدم التأكد . و معنى ذلك أن لا احد يستطيع أن يتنبأ بحركة الأشياء مستقبلاً بدقة متناهية، بل تظل هناك نسبة و لو صغيرة من عدم التأكد . بل و مهما كان الإحكام و التطوير لوسائلنا في القياس فلن يمكننا ذلك من التوصل إلى معرفة كاملة أو تامة للأنظمة الطبيعية من حولنا. و قد وصف هايزنبرج تلك النتيجة الباهرة لمبدأ عدم التأكد عندما نفي سريان المقولة :” أنه يمكننا معرفة المستقبل إذا عرفنا الحاضر بدقة “و قال : إن عدم استطاعتنا معرفة المستقبل لا تنبع من عدم معرفتنا بالحاضر ، و إنما بسب عدم استطاعتنا معرفة الحاضر”
مبدأ عدم التأكد (أو عدم اليقين) معناه أن علم الفيزياء (على المستوى الذري و دون الذري) لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن تكون لديه تنبؤات إحصائية فقط. فالعالم الذي يدرس النشاط الإشعاعي للذرات مثلا، يمكنه أن يتنبأ فقط بأن من كل ألف مليون ذرة راديوم مليونان فقط سوف يصدران أشعة جاما في اليوم التالي، لكنه لا يستطيع معرفة أي ذرة من مجموع ذرات الراديوم سوف تفعل ذلك. و يمكننا القول أنه كلما زادت عدد الذرات كلما قل عدم التأكد و كلما نقص عدد الذرات كلما زاد عدم التأكد. وكانت هذه النظرية مـُقلقة للعلماء في وقتها لدرجة أن عالماً كبيراً مثل أينشتاين قد رفضها أول الأمر. و هو الذي قال “إن عقلي لا يستطيع أن يتصور أن الله يلعب النرد بهذا الكون”. و مع ذلك لم يجد العلماء أمامهم إلا قبول هذه النظرية التي إهتدى إليها هايزنبرج و التي أثبتت نجاحا و وضحت للإنسان خاصية هامة من خواص هذا الكون.
نظرية الفوضى : (أو نظرية الشواش) هي من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية التي تتعامل مع موضوع الجمل المتحركة (الديناميكية) اللاخطية التي تبدي نوعا من السلوك العشوائي يعرف بالشواش، و ينتج هذا السلوك العشوائي إما عن طريق عدم القدرة على تحديد الشروط المبدئية (تأثير الفراشة) أو عن طريق الطبيعة الفيزيائية الاحتمالية لميكانيكا الكم. (او فيزياء الكم) و تحاول نظرية الفوضى أن تستشف النظام الخفي المضمر في هذه العشوائية الظاهرة في محاولة وضع قواعد لدراسة مثل هذه النظم مثل الموائع و التنبؤات الجوية و النظام الشمسي و اقتصاد السوق و حركة الأسهم المالية و التزايد السكاني.
بهذة المعرفة و بهذا الفهم يصعب القول أن عالمنا حتمي او ان شكله و أوضاعه الحالية هي حتمية أو انها مثل فيلم سنيمائي لو أعدته ألف مرة لما اعطاك نتيجة مختلفة, لا .. هذا ليس صحيحا. عالمنا محتمل أو مرجح و ليس حتميا و انظمته كلها محتملة او مرجحة إحصائيا, و هو ما يعني انك لو اعدت الفيلم الكوني ألف مرة فربما تجد في كل مرة قصة مختلفة و سيناريو مختلف و نهاية مختلفة.
لكن ان يكون عالمنا محتمل او مرجح و ليس حتميا لن يعني بأي حال اننا احرار او أن لنا هامش من الحرية يكمن في المساحة الإحتمالية من عالمنا. فكما اننا جزء من النظام الكوني و خاضعين تماما للنظام الشمسي و الأرضي و الحياتي و المجتمعي و الذاتي, فنحن أيضا جزء من العشوائية الكونية و خاضعين تماما لتقلبات الفوضى الشمسية و الأرضية و الحياتية و المجتمعية و الذاتية. فالإنسان يخضع لنظام و حتميات عمله و أسرته و حياته و نظامه المعيشي بالكامل, بنفس الدرجة التي يخضع بها لفوضى و عشوائية عمله و اسرته و حياته و مزاجه و غرائزه المتقلبه.
و يقول عالم الأعصاب و الكاتب الملحد المشهور / سام هاريس, في كتيبه الصغير العزيز “الإرادة الحرة Free Will” الفصل الثالث (السبب و النتيجة) :
من الناحية الفيزيائية، نعلم أن كل فعل إنسانى يمكن اختصاره إلى سلسلة من الأحداث غير الشخصية: يتم نسخ الجينات، يتم ربط الناقلات العصبية بمستقبِلاتها، تتقلص الألياف العضلية، ويضغط جون دو زناد بندقيته. و لكن من وجهة نظرنا الشائعة لفكرة مسئولية الإنسان و المبادئ الأخلاقية، يبدو أن أفعالنا لا يمكن أن تكون مجرد منتج قانونى لتركيبنا البيولوجى، ظروفنا، أو أى شئ آخر يمكن الآخرين من التنبؤ بهم. نتيجة لذلك، يأمل بعض العلماء و الفلاسفة أن الصدفة أو عدم اليقين فى ميكانيكا الكم يمكن أن يفسح مجال للإرادة الحرة.
على سبيل المثال، لاحظ عالم البيولوجى (علم الأحياء) مارتن هايزنبيرج أن عمليات معينة فى المخ، مثل عملية فتح و غلق القنوات الأيونية و عملية تحرر الحويصلات المتشابكة، تحدث بعشوائية، ولذا لا يمكن تحديدها بالمحفزات البيئية. تبعا لذلك، فإن كثير من سلوكنا يمكن اعتباره “ذاتى النشأة” و هنا كما يتصور، يكمن أساس حرية الأنسان. ولكن كيف لأحداث من هذا النوع أن تبرر الإرادة الحرة ؟ “ذاتى النشأة” بهذا المفهوم معناها أن أحداث معينة فقط تنشأ فى المخ.
لكن لو أن قرار تناولى كوب ثانى من القهوة صباح اليوم كان نتاج اطلاق عشوائى للناقلات العصبية، كيف يمكن اعتبار النشأة غير المحددة للحدث هى تمرين حر لإرادتى؟ لا يمكننى أن أتحمل مسئولية أحداث تتم بالصدفة. و إذا ما كانت سلوكيات محددة تنتج عن الصدفة، يجب أن يمثلوا مفاجأة حتى لى. كيف يمكن لكمائن من هذا النوع أن تجعلنى حر ؟
إنتهى الإقتباس.
الأخ الأكبر يراقبك
إذن فنحن خاضعين للطبيعة لأننا جزء منها و خاضعين للصراع بين اليين و اليانج او بين النظام و الفوضى او بين الخير و الشر, فحين ينتصر الخير بداخلنا على الشر فهذا ليس تعبير عن حريتنا الخرافية بل هو تعبير عن إنتصار لحظي محدود للخير في حرب لا تنتهي أبدا. ثم اننا خاضعين أيضا للنظام الإجتماعي و لنظام الدولة كما لا يخفى على أحد. في رواية مميزة و فريدة و مليئة بالإسقاطات و الإيحاءات الدينية و السياسية مثل “1984″ يبدو الامر فجا و صارخا.
ففي مجتمع يتفشى فيه الرعب من طرف المواطنين من بطش و طغيان الدولة، مجتمع تُصادر فيه الحقوق و تُنتهك الحريّات و تكبت فيه كل محاولة للتفكير. مجتمع خاضع لدولة شموية طبقية اتوقراطية مستبدة، حيث شرطة الفكر و الولاء ترصد و تراقب الشعب كله و حيث يتجسس الجميع على الجميع. مجتمع يخلو من أي بهجة او حتى من أي انجاز أو إبداع. و يتمثل قبح الدولة من خلال أربع وزارات : وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق و تبتدع الأكاذيب، و وزارة الحب التي تسوم النّاس العذاب و تناهض العلاقات الحميمة بين أفراد الشعب، و وزارة السلام المختصّة بشؤون الحرب و تصنيع الأسلحة، و وزارة الوفرة الفاشلة في اشباع الناس. أما “الأخ الأكبر” فهو إله الدولة و معبودها الاول و رئيس كهنتها الاعلى الذي يأتي في قمّة هرم الحزب يليه أعضاء الحزب و أخيرًا عامّة الشعب من الكادحين. و تبدو الفجاجة جلية واضحة من خلال الشعار المفضل للحزب الحاكم :
الحرب هي السلام .. الحرية هي العبودية .. الجهل هو القوة
قد تبدو هذة الرواية الكابوسية الديستوبية (عكس اليوتوبيا, أي المدينة الكريهة) التي ألفها و قدمها جورج أورويل سنة 1949 فجة او مبالغ فيها حتى بالنسبة للنظام السوفيتي او الشيوعي الذي كان أورويل ينتقده أصلا من خلال هذة الرواية و رواية “مزرعة الحيوانات” ايضا, لكن في الواقع نحن نعيش في دول و مجتمعات مستبدة و شمولية مهما أختلفت الدول و الانظمة. المشكلة أن الناس تظن أن للديكتاتورية شكل واحد, و هو الديكتاتورية الفجة المباشرة .. مع ان في الحقيقة هذة الديكتاتورية هي اتفه انواع الديكتاتوريات و اكثرها سذاجة. و لكي تتضح الفكرة نحتاج لفهم جيد لوسائل التربية الحديثة.
يعني أفشل أنواع الآباء و الأمهات هم هؤلاء الذين يستخدمون العنف و البطش و الملاحقة لتربية أبناءهم. هل تريد من طفلك ان يشرب اللبن أو يشرب سجاير ؟ أن يذاكر دورسه أو يتعلم النشل ؟ ان يخرج للعب الكرة أو يعيش سجينا ؟ أن يعادي من تريد أو يصادق من تريد ؟ أن ينفع نفسه أو يضرها ؟ كل هذا تستطيع أن تجبر أطفالك على فعله في حضورك و في غيابك, و بالطريقة التي تريدها بكل دقة .. لكن بإستخدام الحيلة و الذكاء و ليس بإستخدام البطش. عليك ان تقنع طفلك أنه يريد هذة الأشياء و يشتهيها و يتمناها لنفسه بالأساليب النفسية و الدعائية فيقبل عليها متوهما انها ارادته الحرة. لكن إن كنت مستبدا و غبيا و حاولت ان تقهر الطفل و تكسر ارادته فلن يكون امامه إلا خيارين, إما ان يعصاك صراحة و يصطدم بك و يرفض سيطرتك .. و إما ان تنسحق شخصيته و يصير ممسحة للأقدام.
كلنا نعرف ان الأطفال يولدون بلا ذاكرة بلا ماضي بلا شخصية كصفحة بيضاء ناصعة, ليخط عليها الأهل و المجتمع خطوطا متناسقة أو شخابيط متضاربة .. فيتراكم لدى الطفل ذاكرة و ماضي و شخصية يوما بعد يوم. الطفل يوم ميلاده إذن يكون عاري من أي جهاز مناعي عقلي او ثقافي او أخلاقي, تستطيع ان تعبؤه بما تريد فيصبح عالما يفيد البشرية او مجاهدا في سبيل الله يفجر نفسه في الناس عند سن الخامسة عشر. في الواقع طفولتنا هي أبلغ دليل على انعدام حريتنا لأننا نولد في أضعف حالتنا لنتشرب أي سوائل محيطة بنا سواء كانت عطرا أو عصيرا او ماءا قذرا.
لذلك حين تريد من طفلك ان يشرب اللبن (او السجائر) لا تأمره و تعنفه او تستخدم وسائل صدامية قاهرة, عليك ان تغريه به. اشرب كوبك من الخاص اللبن بطريقة توحي بالإستمتاع و اللذة, تسابق معه على شرب كوبه الخاص, حين يخطئ عاقبه بالحرمان من شرب اللبن, تكلم عن الفوائد الغذائية للبن لكي يصير اللبن مرتبطا في لاوعي الطفل بالقوة و القدرة, لو دعيته لشرب اللبن بشكل مباشر (يفضل ان لا تفعل لكي لا يفهم أنك من تريد ذلك و ليس هو من يريد) فادعوه لذلك بشيء من العاطفة و اظهار الإهتمام .. الفكرة كلها في ان أي شيء نقبل عليه يرجع لإرتباط شرطي ايجابي في لاوعينا, بينما ما ننفر منه يكون مرتبط في لاوعينا ارتباط شرطي سلبي. و هذة حيلة نفسية واحدة فقط اكتشفها العالم الروسي / بافلوف, تستطيع بها ان تجعل طفلك يقبل على شرب اللبن (او الخمر) عن طريق مخاطبة لاوعيه.
الارتباط الشرطي : لمن لا يعرف, قام بافلوف حوالي سنة 1900 م بدراسة عملية الهضم عند الكلب في المختبر و قام بقياس مقدار أو كمية اللعاب الذي يفرزه الكلب عند إطعامه، و في أحد الأيام بينما كان يقترب من كلبه و بيده طبق الطعام لاحظ أن لعاب الكلب بدأ يسيل فأدرك أن مجرد رؤية الطعام تؤدي إلى إحداث الاستجابة التي تثار حين يلامس مسحوق اللحم (الطعام) لسان الكلب. فقام بتجربة خلاصتها انه كان يرن جرسا معينا للكلب قبل ان يقدم إليه الطعام بشكل منتظم, و بعد فترة لاحظ ان لعاب الكلب يسيل حين يسمع صوت الجرس فقط دون رؤية الطعام. الفكرة هنا ان الجرس أصبح مرتبطا في لاوعي الكلب بالطعام و تناول الطعام .. حتى ان مجرد سماع الجرس كان كافيا لإثارة شهيته, و لذلك سمي هذا الفهم لنفسية الحيوانات بالإرتباط الشرطي.
هذا الإكتشاف يوضح لنا السبب في ان عري المرأة في مجتمعاتنا مرتبط بالجنس, و ان مشاهدة ثديي المرأة عاريين أو جسمها يثير الغريزة الجنسية في المجتمعات التي تجبر النساء على تغطية اجسادها, بينما في القبائل الأفريقية و الأسيوية و إلي حد ما في البلاد الأوربية او المنفتحة التي تعيش فيها النساء باغطية قليلة للجسم لا يكون العري مرتبط شرطيا بالجنس. في الحقيقة لو غطت المراة كف يدها و لم تكشفه إلا عند ممارسة الجنس لصار كف المراة مثيرا كعضوها التناسلي. بل ان نفس الحيلة لو تم تبادلها (بكل ظروفها النفسية المصاحبة) بين الرجل و المرأة فسنجد نفس الإستجابة من المرأة. هذا يعني أن جسد المرأة و تعريه ليس مثير جنسيا في ذاته بل هو مثير بسبب ارتباطه الشرطي النفسي (و اسباب اخرى). هذا يؤكد ان التلاعب بنفسيات البشر افرادا و جماعات هو امر سهل جدا لاي حكومة لو أرادت ان تتحايل و تتذاكى بدلا من ان تبطش و تقهر .. و لو انها ستكون أقوى لو مارست الإثنين معين بكفاءة و تقسيم ادوار.
الاستبداد الواضح و الاستبداد المتنكر
نحن نعرف جيدا ما هو الإستبداد الواضح .. حزب واحد في السلطة, سيطرة الدولة على الصحف و وسائل الإعلام, حصار كل الأديان و العقائد المخالفة لأيديولوجية الحزب الواحد, التحكم الكامل في جميع موارد الدولة و في وسائل الإنتاج, بحيث تجعل كل خيوط اللعبة كلها في يدك. حين تكون انت الحاكم الظاهر و الفعلي في نفس الوقت يتوجه إليك الجميع بانظارهم و يتابعونك و يراقبونك .. لكن حين تقتسم الكعكة مع آخرين و تقوم برشوة الشعب و اثارة اطماعه في المزيد دون الآخرين و تترك لبعض الناس ظاهر الحكم و شكله الخارجي و تكتفي بالتحكم في السياسات من وراء ستار, هنا نستطيع ان نسمي النظام متحرر و ديموقراطي.
أحد الأصدقاء يعمل محامي يحكي عن النصب : النصاب الشاطر هو من تلح عليه و تصر و تتوسل إليه حتى يستغفلك و ينصب عليك. جائني شخص تعرض لعملية نصب في مبلغ كبير من المال, و هو مبلغ تافه بالنسبه لباقي الضحايا, يقول لي أنه ظل يلح و يتوسل و يقبل الأيادي لكي يرضى النصاب باخذ ماله, و ظل يحاصره و يلاحقه مرات عديدة حتى قبل النصاب بأخذ ماله. و في النهاية اتضح انه قد استطاع خداع عشر أشخاص آخرين أو أكثر و جمع منهم حوالي ستة مليون جنية. الدرس المستفاد هنا أن أهم شيء في عملية النصب ان يتم استغفال الزبون دون تنبيهه أو ايقاظه, يجب ان يكون سعيدا بالنصب عليه بل و يسعى إلي انخداعه و يدفع الغالي و الرخيص من أجل اقناع النصاب بالنصب عليه .. هكذا يكون اللعب الاحترافي.
أهلا بك .. انت في دولة علمانية ديموقراطية ليبرالية, عناصرها الأساسية هي الاديان و جماعات الضغط و رؤوس الاموال. و في الدولة العلمانية الدولة لا تتدخل في عقائد الأفراد و اديانهم, يحدث هذا في الدول الشيوعية الملحدة فقط. في الدول العلمانية نريدك ان تؤمن بأي دين, لأن ايمانك بالدين و بالآخرة سيلهيك عن معرفة الواقع و الانخراط في شئون الدنيا. في الدول العلمانية كل الناس أحرار ان تعتنق ما تريد : من يريد ان يكون عبدا لإله خرافي أو لكائن فضائي او لمكعب أسود او لعيش و خمر هو حر تماما .. العبودية حق من حقوق الإنسان. و مادامت الدولة لا تتدخل في التعليم و الرعاية الصحية للشعب و تترك ذلك لحريات المواطنين و القطاع الخاص (بعكس الدول الشيوعية) إذن فهي لن تتدخل أيضا في حقوق الناس في أن تتعبد لاي خرافة تحبها (بعكس الدول الشيوعية أيضا). العلمانية تعني حرية العقيدة, لكي يستطيع كل مسلم و مسيحي و هندوسي ان يجبر طفله الصغير الذي لا يعرف شيئا و لا يعي شيئا على الإستماع و الطاعة لكل ما يقوله رجل الدين في المعبد, فمن حق الأطفال أن يخضعوا لأديان اسلافهم و أسلاف أسلافهم.
و في الدولة الديموقراطية هناك حريات اخرى, فمن حق كل إنسان ان يختار احد المرشحين الأثرياء لحزبين يشبهان بعضهما البعض إلي حد كبير, لكي يقوم الفائز بتنفيذ سياسات إقتصادية و إجتماعية معقدة و مربكة بحيث لا يفهمها المواطن العادي ابدا كما أنها لن تنفعه أبدا. انت لن تعرف أبدا لماذا لديك خياران فقط لا ثالث لهما, و لا لماذا يجب على الفائز ان ينفذ سياسات الأغنياء الذين مولوا حملته الإنتخابية التي أقنعت المواطنين العاديين من الطبقات الوسطى و الفقيرة أن المرشح يريد منفعتهم و رفاهيتهم و ليس منفعة و رفاهية الأغنياء المنتفعين أصلا و المرفهين أصلا. فحين تكون الدعاية في يد الأغنياء و المليونيرات, و يكون التنظيم و الحشد في يد جماعات منظمة و اصحاب مصالح, يستحيل ان تضمن حقوق الأقليات و الطبقات الفقيرة و المهمشة, و يستحيل أن تضمن للناس حرية حقيقية في الإختيار.
لكن الفكرة من الديموقراطية ليس أن يحكم الشعب أو أن يكون الشعب حرا, بل الفكرة كلها في ان يتوهم الشعب انه يحكم و ان يعتقد انه حر. ان الفرق الحقيقي بين الديكتاتورية و الديموقراطية هو نفس الفرق بين السرقة بالإكراه و النصب بموافقة الضحية .. في حالة الديموقراطية تكون الضحية سعيدة و راضية بالسرقة. و لذلك لا يمكن أبدا فصل الديموقراطية عن الممارسات الديماجوجية, فلا يمكن أبدا الإستغناء عن مجموعة الأساليب و الخطابات و المناورات و الحيل السياسية التي يلجأ إليها السياسيون لإغراء الشعب أو الجماهير بوعود كاذبة أو مخادعه و ذلك ظاهريا من أجل مصلحة الشعب، وعمليا من أجل الوصول إلى الحكم. كل السياسيين يلجأون إلي استخدام أساليب السفسطة و اللعب على مشاعر و مخاوف الشعوب و خداع الجماهير و تضليلها بالشعارات و الوعود الكاذبة. و الديماجوجية تشمل طريقتين في التضليل :
1- غزل و مدح و نفاق الناس
أنتم اعظم شعب في العالم, أنتم اعظم حضارة في التاريخ و أطيب ناس في العالم. بلدنا تاريخ و جغرافيا و ثقافة و علم و انجازات و تدين و حضارة. ان الشعب هو القائد و المعلم و صاحب السلطة الدائمة. الحق فوق القوة و الأمة فوق الحكومة.
2- وعود خارقة للعادة
سأجعل دولتنا أعظم امة في التاريخ خلال أسبوعين فقط, ثم سنستعمر المجموعة الشمسية قبل أنهي فترتي الرئاسية الأولى .. اما ان أردتم احتلال مجرة الطريق اللبني التي نعيش فيها فعليكم بانتخابي لفترة رئاسية أخرى. مشروعي النهضوي سيتضمن سيارة فاخرة لكل مواطن و قصر رائع على البحر في أول سنتين, ثم قبل أن انهي فترتي الاولى سيكون لدى كل منكم يخت و غواصة و طائرة هليكوبتر. بالإضافة لتقليل ساعات العمل و رفع المرتبات أيضا .. لكي يستطيع المواطن الفقير ان يدفع ثمن البنزين للسيارة و اليخت, و يجد وقتا للطيران بالهليكوبتر مع الأسرة.
3- شخصنة
انا متدين و رائع و بحب كل الناس و أصلي دائما و مخلص لزوجتي و اقدس الحياة الأسرية و الزوجية و متوحش على فراش الزوجية.
4- خلق اعداء
اعداء الوطن في كل مكان لكننا بالمرصاد و من يشمبر لنا نشمبر له لأننا سادة الشمبرة منذ قديم الزمان. يجب علينا ان نطهر الوطن من الاعداء في الداخل قبل ان نقاتل اعداء الخارج لان العين صابتني و رب العرش نجاني.
ثم لان الناس (متعلمين و غير متعلمين) لا يمكن ان يستطيعوا فهم كل السياسات القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية و التجارية و الدبلوماسية للدولة, لان حتى الطبيب المثقف لن يستطيع أن يكون ملما بكل مشاكل الإقتصاد مثلما يفعل إقتصادي متخصص و نابغ, ولا المهندس المثقف سيستطيع ان يفهم المشاكل الإجتماعية مثل علماء الإجتماع المتخصصين و المتميزين, فضلا عن ناس أميين أو جهلة او اغبياء لن يفهموا أي شيء بخصوص اي موضوع و هذا إن إهتموا أصلا .. لذلك فمهما كان الشعب متعلما و مثقفا إلا انه لن يكون قادرا على الإلمام بكل السياسات و الممارسات التي تتولاها الدولة كما يفعل المتخصصين في كل مجال .. و هذا عيب جوهري في النظام الديموقراطي.
لذلك يسيطر على الحكم في كل دولة جماعات صاحبة مصالح, يحاولون اقتطاع نصيب من ثروات المجتمع في غفلة من الجميع, و يوظفون من أجل تحقيق ذلك كل وسائل الدعاية و الإعلان و الديماجوجية و مخاطبة المخاوف و الغرائز حتى يحصلوا على مرادهم. فيكرسون حالة من الانانية و الوحشية بين جميع المتصارعين أسفل المنضدة تاركين البسطاء و السذج للإبهار و المديح و الوعود البراقة فوق المنضدة, لان في النهاية ستنفذ سياسات أصحاب المصالح على حساب مجموع الناس و برضا و قبول الناس.
ثم من خلال سياسات رأسمالية ترسخ بين الناس ثقافة إستهلاكية أنانية شرهه, حيث تهدف كل الدعايات و الإعلانات إلي اقناع كل إنسان أن ما ينقصه هو سلع و خدمات معينة لكي يكون سعيدا بحيث انه لن يطول السعادة أبدا بدون هذة السلع و الخدمات. فإذا كنت تملك سيارة قديمة لن تكون سعيدا ما لم تحصل على سيارة أخرى آخر موديل, و الملابس العادية لا تكفي بل يجب أن تحصل على ملابس ذات ماركات عالمية لكي تكون سعيدا, و المنزل العادي لا يكفي بل يجب أن تعيش في قصر واسع و فخم لكي تكون سعيدا .. ألخ.
و لان هذة الأشياء تكلف الملايين فانت دائما ينقصك المال و السلع و الخدمات لكي تكون سعيدا, و لن تطول السعادة أبدا بدون هذة السلع و الخدمات و الرفاهيات, و ستنظر بحسد و حقد بالغ لكل من يملكها. و من اجل ذلك عليك ان تستخدم كل السبل المشروعة و غير المشروعة لتحقيق ذلك, عليك أن تكون انانيا و شرسا و دنيئا و منافقا لكي تجمع اكبر كمية ممكنة من المال يتيح لك الإنفاق على طقم الحمام المذهب و لوحات اعظم الفنانين لتضعها في قصرك. عليك أن تعمل أيضا لاطول فترة ممكنة و تسرق لو استطعت الإفلات .. لانك بدون هذة الأشياء شخص تعيس تعيس تعيس.
ثم إنك ستفعل ذلك بالتأكيد على حساب ناس آخرين لا يجدون قوت يومهم و يعيشون بأقل من حد الكفاف, في النهاية لن تكون سعيدا حتى بمراكمة مليون فوق مليون و مئة مليون فوق مئة مليون, لانك ستضحي بالكثير من الأشياء المهمة في سبيل تحقيق ذلك و في سبيل المحافظة عليه و في النهاية لن تكون أشياء جامدة هي مصدر السعادة. لكن تجويعك و اغراءك بكل شيء هو أفضل طريقة مضمونة تجبرك على العمل بأقصى طاقتك و القتال بشراسة ضد كل شيء .. يجب اثارة شهيتك و اغواءك لكي تعمل و تراكم اموال و تستهلك فتدور عجلة اقتصاد فاسد يقوم على ندرة مفتعلة.
ان الشركات الحالية قد استغنت عن محاولة اشباع احتياجات المستهلكين منذ عقود طويلة, كل السياسات السارية الآن هي خلق إحتياجات جديدة عند الناس و إقناعهم بانهم في أشد الحاجة لسلعهم عن طريق الدعاية و الإعلانات و الإيحاءات النفسية و الارتباطات الشرطية. فلكي تكون رجلا عليك أن تشرب بيريل (استرجل) و تدخن سجائر فاخرة (مثل رعاة البقر) و تستخدم مزيل عرق معين (لإجتذاب الفتيات) و ملابس معينة و سيارات معينة و .. ألخ, آلاف السلع التي توحي بالرجولة أو الانوثة و تتحكم في لاوعي الناس و تجبرهم على الشراء بغير حاجة, ساعين لسراب هو الكفاية و الشبع المادي في اقتصاد يقوم على الندرة و الإسهلاك أساسا. إن الرأسمالية هي منظومة اخرى للماتريكس تعمل بنفس الدوافع و الآليات.
نهايته
يقول سام هاريس في مقدمة كتابه (الإرادة الحرة) :
الإرادة الحرة هى وهم. نحن ببساطة لانصنع إرادتنا. الأفكار و النوايا تنشأ من أسباب خلفية لا نعيها و لا نملك سيطرة واعية عليها, نحن لا نملك الحرية كما نعتقد. فى واقع الأمر الإرادة الحرة هى أكثر من وهم (أو أقل)، من حيث كونها غير متماسكة كمفهوم. إما أن هناك مسببات مسبقة لإرادتنا و نحن غير مسئولين عنها أو هى نتيجة الصدفة و نحن أيضا غير مسئولين عنها. فإذا كان ما يحدد خيار شخص ما بقتل الرئيس هو نمط معين من النشاط العصبى، و الذى بالتالى ناتج عن أسباب مسبقة – ربما مصادفة مؤسفة من الجينات السيئة ، طفولة غير سعيدة، افتقاد إلى النوم أو التعرض لأشعة كونية- فما الذى يعنيه القول بأن إرادته حرة؟ لم يصف أحد طريقة يمكن أن تنتج العمليات العقلية و البدنية بشكل يشهد على وجود تلك الحرية, إن معظم الأوهام تنشأ من أشياء أكثر صرامة من ذلك.
إنتهى الإقتباس.
في الحقيقة هذا المنطق لا يمكن مجادلته, بالفعل نحن نولد دون ان نملك من أمرنا شيئا و نعيش كذلك أيضا, سواء كان المسئول عن ذلك إله عبقري أو طبيعة غبية لا فارق. لكن لكي نكون احرار نحتاج أن نمتلك شيء خارج المكان و الزمان و غير خاضع لهما, و حتى فكرة الروح لا تحقق ذلك. حتى لو كان لدينا ما يجعلنا آلهة صغيرة, روح او جوهر عميق و غامض, كامن و مدفون بين تلافيف احشاء الإنسان لا يخدشه شيء و لا يؤثر فيه شيء و هذا الجوهر الكامن هو ما يعبر عن الإنسان في كل الظروف, حتى لو كان شيء كهذا موجود, فهذا الشيء له كيان لم نصنعه بل ولدنا به و مجبرين عليه .. أي نقطة تريد أن تبدأ منها هي نقطة إجبار منذ البداية و كل ما سيتبعها مبني عليها. بهذا الفهم يكون حتى في عالم ديني صنعه إله, يولد المرء بروح طيبة ستذهب إلي الجنة او بروح شريرة ستذهب إلي جهنم و لا حيلة له في ذلك.
لكن هذا لا يعني رفض الحياة أو رفض القيام بأي شيء بسبب رفض الحتمية و الجبرية, لانك حتى لو تكاسلت عن فعل كل شيء او حتى انتحرت فانت لست حرا ايضا بل طبيعتك و طريقتك اللاواعية في الإستجابة و طريقتك الواعية في التفكير هم الذين دفعوك لذلك. ناجحا او فاشلا, غنيا أو فقيرا, قويا أو ضعيفا, حيا أو ميتا .. كلنا لا نملك أي حرية لأنها مفهوم متناقض أصلا لا يستقيم مع ذاته فضلا عن أن يستقيم مع الواقع. في الواقع ان انكار الحرية و فهم زيفها و تخريفها هو إلحاد آخر مختلف و مستقل عن إلحاد الآلهة و الأديان.
و في النهاية نحن نعيش صراعات حقيقية حتى لو لم نكن احرارا, نحن كجزء من الطبيعة نعيش صراعا بين اليين و اليانج متمثلا في صراعات الخير و الشر, النظام و الفوضى, الجمال و القبح, السعادة و التعاسة, العقلانية و الحيوانية, القوة و الضعف .. الخ. أن تكون الحرية مفهوم خرافي و متناقض لا شأن له بأننا نعيش هذة الصراعات في الحقيقة. قد لا نختار الخير أو الشر بحرية و لكننا نختارهم بعقل و بوعي, و لو كان جزئيا و لو كان حتميا. و كما يقوم العالم الرقمي بكل ما فيه من برمجيات و بيانات و ألعاب خاصة بالكومبيوتر على “نظام عد ثنائي Binary numeral system ” يتكون من رقمين فقط هما الــ 0 و الــ 1, كذلك يتكون كل شيء في عالمنا من مزيج من الخير و الشر او اليين و اليانج. احرار أو غير احرار نحن نستطيع أن نختار بعقلانية حتى لو كنا مجبرين على ذلك.
ربما لا يكون المجرمين و السفاحين و المغتصبين و السفلة ناس أحرار او مسئولين عن سلوكهم, بنفس الطريقة التي لا يكون بها الثعبان حر/مسئول او النار حرة/مسئولة, لكن هذا لا يهم. نحن نقاوم و نرفض و نستخدم الثعابين و النار دون أن نحقد عليهم او ننكل بهم لاننا نعرف أنهم ليسوا أحرار و لا مسئولين عن سلوكهم. اما الحقد و الكراهية لتمساح معين او لسمكة قرش لعينة قتلت احد أقاربي او لأسد تذوق اللحم البشري في قريتي, فهو شيء عاطفي و طفولي و لا علاقة له بالواقع. نحن حين نصنع الحديد نحاول طرد الشوائب و الزوائد من اكسيدات الحديد ليس لأن هذة الأشياء شريرة او حقيرة بل لأننا لا نريدها للحصول على حديد صلب مثلا.
كذلك عقاب المجرمين لا يجب أن يكون انتقاميا او حاقدا لانهم لا يملكون من أمرهم شيئا, لكن التعامل معهم من قبل الدولة يجب أن يتم بمنطق عملي عقلاني و ليس عاطفيا خرافيا, و كما يقول سام هاريس : ((بهذه الطريقة سوف يكون الأخرين جميعا أفضل حالا. الإستغناء عن وهم الإرادة الحرة سوف يسمح لنا بالتركيز على الأشياء المهمة، تقييم المخاطر، حماية الأبرياء، ردع الجريمة، إلخ. على الرغم من ذلك، يبدأ بعض الحدس الأخلاقى فى الإسترخاء فى اللحظة التى ننظر فيها بشكل أشمل للمسببات. فور أن ندرك أنه حتى أكثر الضوارى إثارة للرعب – بالمعنى الحقيقى- حظهم سئ لكونهم ما هم عليه، منطق الكراهية (مقابل الخوف) سوف يبدأ فى الإنهيار. مرة أخرى، حتى لو كنت تؤمن أن كل إنسان لديه روح خالدة، الصورة لا تتغير: أى شخص ولد بروح مختلة هو سئ الحظ للغاية.))
ثم انه لا يمكن للمرء أن يعتقد ان الوهم أو التخريف قد يكون أرحم او أفضل من الحقيقة لأنها صعبة, لان البناء على الحقيقة هو بناء على الصخر, البناء يكون قوي و صامد و دائم. و أي حقيقة مهما كانت صعبة يمكن توظيفها و استغلالها للأفضل, و كل من يستطيع معرفة و فهم الحقيقة فهذا سيخلص. و في النهاية لا يوجد أفضل من كلام سام هاريس بهذا الخصوص لكي ينتهي به الكلام :
يمكن لفهم المسببات الخلفية للأفكار و المشاعر أن يمدنا بقدر أكبر من السيطرة الإبداعية على حياتنا. أن تتشاحن مع زوجتك لأنك فى مزاج سئ تعد طريقة، لكن هناك طريقة أخرى أن تدرك أن مزاجك و سلوكك تسبب فيه انخفاض نسبة السكر فى الدم. هذا الفهم يكشف لك بالطبع حقيقة أنك دمية بيوكيميائية، لكنه أيضا يسمح لك أن تمسك بأحد خيوطك: قليل من الطعام قد يكون كل ما تحتاجه شخصيتك. أن نذهب إلى ما وراء أفكارنا و مشاعرنا الواعية قد يسمح لنا بقيادة مسارات أكثر ذكاء لحياتنا .. بالطبع مع العلم بأننا فى نهاية الأمر يتم توجيهنا.
لمن يريد الإستزادة في بحث الموضوع :
تحميل كتاب عالم الأعصاب / سام هاريس .. (الإرادة الحرة) و مترجم إلي العربية
سام هاريس يتكلم عن حرية الإرادة (غير مترجم)
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=pCofmZlC72g
الفيلسوف الأمريكي / دانييل دانيت يشرح أسباب الشعور بالجمال (مترجم)
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=jnXFnQISulg
فيديو مختصر للكاتب الصحفي الأرجنتيني / Raúl Scalabrini Ortiz (مترجم)
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=n24HL-futD4
كيف تتلاعب الدول و الشركات بالبشر عن طريق علم النفس (غير مترجم)
http://www.youtube.com/watch?v=s7EwXmxpExw
فيلم زايتجايست .. الجزء الثاني (مترجم)
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=b9j-khZvthY
#الناصر_لعماري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟