أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أمير صادر - ثماني سنوات سحقت البرازيل















المزيد.....


ثماني سنوات سحقت البرازيل


أمير صادر

الحوار المتمدن-العدد: 284 - 2002 / 10 / 22 - 04:20
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


 

  إن سلسلة الحكومات النيوليبيرالية في البرازيل التي انطلقت في العام 1990 مع السيد فرناندو كولور دو ميللو قد تشهد نهاياتها مع انتهاء الولاية الثانية للسيد فرناندو انريكي كاردوزو. وأياً يكن خليفته فإنه سيتسلم، ناهيك بإرث الاقتصاد الهش، بلداً أصابه التغيير في الكثير من وجوهه الأكثر جوهرية. وربما سيكون عليه التخلي عن نموذج اقتصادي مستنفد يتطلب تغييرات بالغة الأهمية. وما ستحدده الانتخابات المتوقعة في 6 و27 تشرين الأول/أكتوبر، هو الوجهة التي ستتخذها هذه التغييرات إذا أراد البلد تفادي تكرار الأزمة الارجنتينية الأليمة.

 

 *
 EMIR SADER

 

  ما زرع الحماسة في نفوس الناخبين البرازيليين هو وعد قطعه السيد فرناندو أنريكي كاردوزو ساعد في انتخابه والتجديد له في انتخابات العامين 1994 و 1998 : الاستقرار النقدي الذي يتحقق عبر محاربة التضخم وقد حُدِّد كهدف اولي، على أساس انه يمكن أن يفتح الطريق أمام البرازيل للسير في التنمية الاقتصادية التي كانت قد تعطلت قبل عشر سنين. فإلى وفود الاستثمارات الخارجية حاملةً معها الحداثة التكنولوجية، يضاف خلق فرص العمل وسياسة إعادة توزيع المداخيل، كون التضخم شكّل في الواقع "ضريبة على الفقراء”، وأخيراً ارتقاء البلد الى مصاف "العالم الأول”.

   لكن الأزمة المالية التي تنتهي بها ولاية السيد كاردوزو الثانية والتي أدت الى الاستعانة بقرضين من صندوق النقد الدولي، الأول بقيمة 10 مليارات دولار والثاني بقيمة 30 مليار دولار، تبين أنه لم يتم الايفاء بهذه الوعود. فالتحولات التي أصابت هذا البلد الكبير هي في الواقع من نوع آخر. 

  فالبرازيل، مثل باقي دول أميركا اللاتينية، كانت ضحية أزمة الدين في أوائل الثمانينات، هذه الأزمة التي وضعت حداً للعقود التي شهدت فيها البلاد أكبر حركة نمو في تاريخها، والتي كانت قد بدأت كردة فعل على أزمة العام 1929 . فمن العام 1964 الى العام 1985 واكبت النمو الاقتصادي الديكتاتورية العسكرية بعدما وقع الانقلاب العسكري إبان المرحلة التي شهدت فيها الرأسمالية أكبر حركة نمو لها على الصعيد الدولي. وهذه المرحلة كانت ملائمة لوتيرة نمو مرتفع جداً ما بين العامين 1967 و 1979، مما ساعد في استقدام الرساميل وفي تنامي حركة التصدير مستفيدةً من توافر الأسواق الخارجية.

   وقد أدت هذه التحولات الى حركة تجدد في أوساط الطبقة العمالية، أسست إضافة الى الحركات الاجتماعية والمدنية الجديدة، لقيام كتلة معارضة سرّعت في سقوط الديكتاتورية انطلاقاً من أزمة الدين في العام 1980 ، الا أن عملية الانتقال تلقفتها قوى المعارضة الليبيرالية التي التقت حول مبدأ رفض "السلطوية"، واعدةً في ذلك الحين بأن "المسيرة الديموقراطية" ستساعد، ووحدها، في حل القضايا الخطيرة التي تراكمت على مدى السنوات العشرين السابقة.

   هذه الرؤية التي رافقت قدرة القوى الديكتاتورية، التي أعادت "تجميع صفوفها"، على المشاركة في التحالف الذي حكم البلاد منذ العام 1985، بواسطة رئيس مدني، هو خوسيه سارناي، جعلت من البرازيل إحدى دول أميركا الجنوبية حيث ظروف استمرار الديكتاتورية هي الأقوى، مما تسبب في إفساد عملية التحول الديموقراطي.

   وبعد مختلف المحاولات "الهرطوقية" لمكافحة التضخم، شهدت البلاد في أواخر الثمانينات نشوء سيناريو مشابه لما كان يجري في باقي دول المنطقة، وهو الالتحاق بركب النظام النيوليبيرالي. وفي كل الأحوال فإن البرازيل تأخرت أكثر من غيرها في تطبيق سياسات الاصلاح البنيوي. وبعكس شيلي أو بوليفيا أو المكسيك او الارجنتين، ونظراً الى وضعها الخاص فإن الخروج من الحكم الديكتاتوري قد خلق أجواء غير ملائمة كثيراً للنيوليبيرالية في المراحل الأولى. ولقد عززت العودة الى الديموقراطية مؤسساتياً عبر دستور اعتبر "مواطنياً" كونه أعاد منح الحقوق التي كان العسكر قد صادرها. وهو، بالتزامن مع بروز الحركات الاجتماعية القوية، أبقى البرازيل على هامش مسيرة الهيمنة الليبيرالية التي كانت قد تقدمت كثيراً في باقي أنحاء القارة.

   وأول مشروع نيوليببرالي متماسك طبّقه السيد فرناندو كولور دو ميللو، الذي انتخب رئيساً في العام 1989 لكن الكونغرس عزله في العام 1992 بتهمة الفساد، مما علّق مسيرة الانفتاح الاقتصادي وعمليات الخصخصة وتحجيم دور الدولة ورفع القيود الاقتصادية، وهذه ركائز لنيل رضا واشنطن. وبعدما شغل منصب وزير الاقتصاد في عهد السيد إيتامار فرانكو، ونائب رئيس، أكمل ولاية السيد كولور دي ميللو من تشرين الأول/أكتوبر عام 1992 الى كانون الأول/ديسمبر عام 1994 ليتولى الحكم كرئيس منتخب في العام 1994، واصل السيد كاردوزو هذا المشروع مضفياً عليه تصوراً جديداً يتمثل في مكافحة التضخم وهي الطريقة الأميركية اللاتينية لخفض انفاقات الدولة المفترض انها سبب الركود والتباطؤ الاقتصاديين.

   وإذ ترأس السيد كاردوزو تحالفاً ضم حزبه، الحزب الاشتراكي الديموقراطي البرازيلي، الذي تشكّل اولاً من وسط اليسار، ثم التحقت به بعض قوى اليمين التقليدي، فقد تأمنت له على الفور غالبية مطلقة في الكونغرس. وإذ تمتع بدعم إجماعي من كبار ارباب العمل الوطنيين والدوليين فقد استفاد من مختلف أشكال الدعم السياسي والاجتماعي والاعلامي التي لم يكن لها سابق في البلاد.

   وقد قام السيد كاردوزو بإصلاح "دستور المواطنية" ما طاب له، بعدما أفرغه من مختلف اشكاله التنظيمية الاساسية. فهو اكثر من أي رئيس  (وحتى اكثر من رؤساء الحكم الديكتاتوري)، ومع أنه يتمتع بالغالبية، قد حكم عبر "إجراءات موقتة"، بواسطة مراسيم غض الكونغرس النظر عنها فباتت دائمة وأصبحت عملياً هي القوانين الجديدة. والسلطة التنفيذية هي التي كانت وراء معظم اقتراحات مشاريع القوانين، رافدةً بذلك قدرة الرئيس على الحكم.

   وجاءت إعادة انتخاب السيد كاردوزو من الدورة الأولى في العام 1998 لتعبّر عميقاً عن حكم الناخبين الايجابي على "خطة الريال" التي تقدم بها لتأمين الاستقرار النقدي والتي قضت على التضخم. لكن جردة بالتحولات التي عاشتها البرازيل في التسعينات وفي نوع خاص إبان رئاسته تتلخص في مظهرين مركزيين، وهما إضفاء الطابع المالي على الاقتصاد والطابع الموقت على علاقات العمل.

   في ما يتعلق بالمظهر الأول فإن الاشكال التي اعتمدت لتأمين الاستقرار النقدي قد أفسحت المجال امام دور مهيمن للرأسمال الأجنبي. فالحملات الانتخابية للسيد كاردوزو قد موّلتها في شكل أساسي اكبر المصارف البرازيلية كما استفاد النظام المصرفي من المشروع الوحيد لعملية الانقاذ الاقتصادي والذي يعد بمليارات الريالات!

   وتتطلب عملية خدمة الدين العام ما يزيد على 32.7 مليار يورو سنوياً، وفي الأعوام 2002 و2003 و2004 ستكون البرازيل في حاجة الى 1.02 مليار يورو أسبوعياً من اجل خفض الدين الخارجي البالغ حوالى 30.6 مليار دولار وعجز في الحسابات الجارية يبلغ 20.4 مليار دولار في حين ان المداخيل تبلغ  حتى الان 20.4 مليار يورو سنوياً.

   وسواء على الصعيد المالي أم على صعيد سير الأعمال فإن الدولة لن تكون موضع ثقة إذا لم تفاوض مجدداً، بالحد الأدنى، على مهل تسديد الديون. وإذا لم يتم ذلك فإنها ستلحق بحكومة السيد دو لا روا الارجنتينية في طريقها وفشلها  (١). فلقد بات الاقتصاد خاضعاً كلياً لكأس الاتجاه المالي في الاقتصاد نظراً الى مستوى الاستدانة في الانفاق والى تورط المصارف في سندات الخزينة  (وذلك على حساب القروض الاستثمارية) ونظراً الى النسبة المتنامية للتوظيفات في مجال المضاربة من جانب الشركات الصناعية والتجارية والزراعية.

   وكان هذا لا يكفي فإذا بالموطفين الذين يتولون المناصب الاقتصادية الرئيسة يأتون من القطاعات المالية، الوطنية أو الدولية، ومرجعهم في شكل منتظم هو القطاع الخاص. وهذه الهيمنة تفضي بدورها الى عملية تحول مهمة في الموازنة العامة من الناحية الكمية ومن الناحية الاجتماعية. فالانفاقات التربوية كانت تمثل 20.3 في المئة من المدفوعات الجارية في العام 1995، اما في العام 2000 فهي لم تعد تبلغ الا 8.9 في المئة. أما تسديد فوائد الدين التي كانت تستنفد 24.9 في المئة من المدفوعات فقد باتت تمتص اليوم 55.1 في المئة. وقد بات مجموع الانفاقات على التربية والصحة أدنى من قيمة هذه الفوائد. 

  وقد طبعت التسعينات أيضاً بنظام العمل الموقت. فتاريخياً، إن استغلال قوة العمل في الارياف من اجل انتاج البن المخصص للتصدير والذي تزامن في نوع خاص مع الالغاء المتأخر للرق في العام 1888، العائد الى ثلاثة قرون ونصف قرن محقِّقاً رقماً قياسياً، إن هذا الاستغلال يفسر عدم وجود عملية إصلاح زراعية والاستعانة الحديثة نسبياً باليد العاملة المهاجرة في سوق العمل الرسمية.

   وسواء أكان في مراحل الديموقراطية أم في مراحل الديكتاتورية، في مراحل النمو أم في مراحل الركود، فإن وصول اليد العاملة المشبعة بعلاقات ما قبل الرأسمالية القائمة في العالم الريفي قد واكب العقود الخمسة الأخيرة. وفي الثمانينات لم يعد الاقتصاد الذي كان يمر في حالة انكماش قادراً على استيعاب هذه الأعداد. وإذ أكد أنه "سيقلب صفحة في التاريخ البرازيلي”  (٢) أطلق السيد كاردوزو رصاصة الرحمة على القدرة التنظيمية لدى الدولة. اما سياسته في "اعتماد المرونة" بالنسبة الى اليد العاملة، وهي تورية لا تنجح في التستير على تزايد الاستغلال الزائد، فقد تركت معظم العمال بدون عقود رسمية تسمح لهم بأن يكونوا "اصحاب حق"، وتبعاً لذلك مواطنين بكل معنى الكلمة.

   وقد نتج من الانفتاح الاقتصادي ومن نظام العمل الموقت هجرة داخلية جديدة ليس كالعادة من القطاع الأولي نحو القطاع الثانوي او نحو التجارة الرسمية  (القطاع الثالث)، وإنما من القطاع الثاني الى القطاع غير الرسمي  (ودائماً في القطاع الثالث). وإذ كسر دينامية الصعود الاجتماعي المدفوع بعملية تأهيل فضلى وبالعبور من القطاع غير الرسمي الى عقود العمل، فإن هذا النوع من التطور قد سلك بالتحديد الطريق المعاكس: تراجع عمليات التأهيل وزوال الحقوق، وحتى فقدان المواطنية. وإذا كان 53.7 في المئة من العمال في العام 1991 قد اخذوا لهم مكاناً في الاقتصاد الرسمي وتمكنوا من الحصول على الحقوق التي يمنحها عقد العمل، فإن هذه النسبة لم تعد تتعدى الـ45 في المئة في العام 2000 ، أما الـ55 في المئة الياقون فإنهم يعملون في مجال الاقتصاد الموازي.

   أما الطبقات الوسطى فقد شهدت من جهتها تعمّق الانقسامات التي ظهرت خلال مرحلة الديكتاتورية العسكرية. فقد تأثرت شرائحها الدنيا التي بدأت تميل الى البروليتاريا نتيجة البطالة والسقوط في أشكال العمل غير الرسمي وتراجع الخدمات العامة واعتماد عقود العمل في القطاع المصرفي، في حين أن تعقد الخدمات وتوسع القطاع المالي قد ساعد فئة أخرى في التعلق بالدينامية المعولمة لتحديث استثمار الرأسمال. والتفاوت في المداخيل والميراث، والايديولوجيا في النتيجة، قد قلل أكثر فأكثر من امكان جمع هذه القطاعات الوسيطة في فئة واحدة.

   بطالة، بؤس، طرد، عنف، تجارة المخدرات وغياب دولة القانون والدولة الراعية.... وقد عاشت القطاعات الشعبية وسكان أطراف المدن الفقراء  (٣)، وهم على تزايد أكثر المراحل قساوة في هذه الأزمة الاجتماعية. وهذه المجموعة التي تشكل غالبية الشعب، وهي سقط في نظر الرأسمالية، ضحية سرايا الموت والتمييز وفي نوع خاص ضحية غياب امكانات إضفاء الطابع الاشتراكي. والمنتمون اليها لم يعودوا يلقون العناية الاجتماعية لا في كنف العائلة ولا في المدارس ولا حتى في العمل. فلم يعد لهم وجود لا في الأحزاب، لا اليسارية منها ولا اليمينية، ولا في الحركات الاجتماعية. ولم يعودوا يتمتعون بفسحة للهو والتثقف، والبعض منهم يغرقون في الاجرام او في تجارة المخدرات، يحاربون الشرطة ويؤلفون موسيقى الراب الاحتجاجية، يرقصون ويتقاتلون في الحفلات الصاخبة في أطراف المدن...

   ويمتلكهم شعور بأنهم لا يدينون بشيء لهذا المجتمع المنظم الذي لا يقدم لهم شيئاً. وعقدهم الوحيد مع هذا المجتمع يبقى تفشي أساليب الاستهلاك او العنف البوليسي، ومختلف أشكال النشاطات، الشرعية منها وغير الشرعية، التي تسمح لهم بالصمود مادياً ومعنوياً. وهم يبقون اللغز في المجتمع الذي لم يعد أمامه من خيار سوى ان يأخذ في الاعتبار مسلكهم في العنف واللصوصية وثقافة الاحتجاج وأشكال الكفاح الاجتماعي والسياسي...

   وتعكس الكنائس كل حالات التحول الجارية هذه. فقد ضعفت الكنيسة الكاثوليكية نتيجة سياسة الفاتيكان الذي هاجم بقوة نظريات التحرر اللاهوتية وممثليها البارزين في التراتبية الكنسية، والانحراف المحافظ في السلوك الشعبي. وفي مواجهة لاعقلانية هذا الزمن وغياب الرؤى السياسية والوعود المستحيلة في المجتمع الاستهلاكي، التفتت قطاعات واسعة من الشعب نحو شعوذات المذاهب التبشيرية أو نحو الاشكال البديلة المحافظة من الكاثوليكية.

   وإذ تتستر الديانات الانجيلية على غياب السلطات العامة في الأحياء الشعبية فانها تحول أن تقدم الى قسم من الشباب بديلاً عن تجارة المخدرات  (٤)، وفي ذلك يتعايش العالمان من دون نزاعات رئيسية. وهي تتدخل، تحت أشكال من المساعدة الجماعية، في تأمين فرص العمل وفي بناء المساكن المشتركة وفي المساعدات المالية الطارئة، وذلك بطريقة شبيهة الى حد ما بأشكال المساعدة التي يؤمنها... تجار المخدرات.

   فالبرازيل التي تعاني البطالة والتفتت وسيطرة "الشكل غير الرسمي" في عالم العمل، والتحول المحافظ في القطاعات الشعبية، مضطرة من جهة أخرى الى مواجهة قيام الشكل المؤسساتي في الحياة السياسية، ومن ضمنها أحزاب اليسار. فالى جانب المسؤولين في الكنيسة الكاثوليكية، وبنوع خاص المجمع الوطني لأساقفة البرازيل، فإن النقابة المركزية الوحيدة للعمال و"حركة من لا ارض لهم" تبقيان المحركين في تعبئة الحركة الاجتماعية  (٥).

   لكن ضغط الحكومة على النقابات  (يوازيها دعم النقابات "الصفراء")، وعلى "احتلالات" جماعة “حركة اللاأرض”، والبرامج الاجتماعية للبلديات وحكومات الولايات، تخنق إمكان العمل لدى المنظمات الأكثر قتالية في مقاومة النيوليبيرالية.

   وإذا كان حزب العمال يستمر في استقطاب القوة الاجتماعية الكبرى سياسياً والتي كوّنها اليسار على مدى عشرين عاماً، فإن تحوله نحو الخيار "المؤسساتي" قد أضعف تجذره في اوساط الحركة الشعبية. وهذا التحول قد عدّل الى حد بعيد من التركيبة الداخلية للحزب، من ارتفاع متوسط العمر الى إبقاء مسافة مع الأوساط غير المرغوب فيها الى تزايد وزن الكوادر المرتبطة بالبنى الادارية البرلمانية والحكومية في الولايات  (٧5 في المئة من الممثلين في اللقاء الوطني الأخير للحزب في ريسيف في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2001، كانوا من هذه النوعية).

   كما أن خياره هذا ولّد نوعاً من الاعتدال في مواقفه السياسية سواء من مواضيع دفع الدين الخارجي أو من الاصلاح الزراعي أو من منطقة التبادل الحر للدول الأميركية أو من وجود الرساميل الاجنبية في الشركات كما من أنماط عمل الحزب. فترشيح السيد لويز إيناسي ودا سيلفا "لولا” لرئاسة الجمهورية يصطدم برفض مهم من الطبقات الوسطى ومن "النخبة"  (٦)، إذ إن الحملات الانتخابية الرئاسية طالما كانت ظرفاً مناسباً لتجميل الصورة العامة للمرشح وللحزب نفسه إفساحاً في المجال لتحقيق نصر انتخابي. 

  وسواء أفاز حزب العمال في الانتخابات أم لم يفز، يمكن توقع نقاش استراتيجي كبير. ففي حال فوزه فإن البحث سيتناول العلاقة بين الحكومة والسلطة، وحدود العمل وامكاناته في الاطار المؤسساتي الحالي، وامكان التأقلم مع النظام أو القطيعة معه، الخ. وإذا ما فشل "لولا"، بعدما ليّنت قيادة الحزب الى أقصى حد مواقفها السياسية بغية إقامة تحالف مع أرباب العمل وبغية الحصول على دعم قطاعات أخرى من النخب التقليدية، بدون أن يحقق ذلك له النصر، فإن مرحلة جديدة من حياة حزب العمال ستنتهي على اكبر احتمال. فالمعطى الجديد قد يشجع على بروز متجدد للنزعات الواقعة سياسياً اكثر على اليسار وعلى الانتقال المحتمل للكوادر نحو منظمات الوسط ووسط اليمين.

   وبمعزل عن طبيعته الاقتصادية والاجتماعية فإن إرث السيد كاردوزو الثقيل يتجلى في أزمة الديموقراطية  (التي لا تزال) الفتية. فعدم الاكتراث وفقدان السياسة هيبتها والحكومات والأحزاب تنبئ بأن معدلات الامتناع عن المشاركة في الانتخابات المقبلة ستكون مرتفعة.

   واياً يكن خليفة السيد كاردوزو فإن وجه البرازيل لن يبقى هو نفسه. فالنموذج الاقتصادي المنهك لم يستطع الصمود الا بفضل قروض صندوق النفد الدولي مما زاد في كل مرة من هشاشة الاقتصاد، الذي يجب ان يعدّل حكماً. وتبقى معرفة في أي اتجاه سيتم هذا التغيير، هل سيكون عبر التعديلات المحدودة كتلك التي يقترحها السيد خوسيه سيرا، الاقتصادي ووزير الصحة السابق وربيب السيد كاردوزو، ام عبر ممثل "الخيار الثالث" السيد سيرو غوميز، ام عبر القطيعة مع السياسات النيوليبيرالية التي يعد بها السيد لويز إيناسيو دا سيلفا.

   وناهيك بتجاوز الأزمة الداخلية فإن انتصار المعارضة قد يؤدي الى تعزيز سوق الجنوب المشتركة  (٧) مع إصدار عملة مشتركة لاخراج الارجنتين من محنتها ،وبعد إعادة تشكيل هذا التحالف، اقتراح بديل من منطقة التبادل التجاري الحر الأميركية التي تشمل أميركا اللاتينية، وهي أداة هيمنة الولايات المتحدة.

 

--------------------------------------------------------------------------------

  * أستاذ في جامعة ولاية ريو دي جانيرو.

1  راجع:

 Carlos Gabetta, Crise totale en Argentine ,  Le Monde diplomatique, janvier 2002.

2 في إشارة الى نموذج الدولة التي أنشأها جيتوليو فارغاس (1930-1945؛ 1950-1954)، وهذا الأخير، مؤسس "الدولة الجديدة" قد حكم معتمداً على الطبقة العمالية واصدر تشريعات اجتماعية مهمة. وقد فضل الانتحار إثر تعرضه لهجومات من الصحافة واجباره على الاستقالة على يد بعض الضباط خلال ولايته الثانية.

3 هناك سبع مناطق في العاصمة تضم 40 في المئة من السكان.

4 بحسب تحقيق أجرته المؤسسة العليا لدراسة الأديان، فإن حوالى 4000 شاب تقل أعمارهم عن الثامنة عشرة قد لقوا مصرعهم بالرصاص ما بين العامين 1987 و2001، وذلك في مدينة ريو دي جانيرو فقط  (وهذا العدد هو اكبر من عدد القاصرين الذين سقطوا مباشرة ضحايا النزاع الكولومبي). المرجع:

 ISER, Rio de Janeiro, 9 septembre 2002.

5  ان الاستفتاء غير الرسمي حول رفض منطقة التبادل التجاري الحر الأميركية، التي تدعو اليها الولايات المتحدة، قد عبأ 15 مليون شخص بحسب الاسقفية، وقد انتهى في 7 ايلول/سبتمبر بتجمع 150000 متظاهر في اباريسيدا بالقرب من سان باولو.

  6  عشية انتخابات العام 1989 حذّر السيد ماريو أماتو رئيس اتحاد الصناعات النافذ في ولاية سان باولو من أنه إذا فاز "لولا" في الانتخابات فإن 800000 مستثمر سيغادرون البرازيل.

7 هذه السوق معروفة أكثر بالاسم المركب من الأحرف الأولى باللغة الاسبانية، "مركوسور"، وهو تجمع يضم كلاً من الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي والباراغواي إضافة الى دولتين شريكتين هما تشيلي وبوليفيا.

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 تشرين الاول/اكتوبر 2002



#أمير_صادر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة
- عمل لدى جورج سوروس.. ترامب يكشف عن مرشحه لمنصب وزير الخزانة ...
- وكالة موديز ترفع التصنيف الائتماني للسعودية بفضل جهود تنويع ...
- موديز ترفع تصنيف السعودية وتحذر من -خطر-
- ارتفاع جديد.. بتكوين تقترب من 100 ألف دولار
- -سيتي بنك- يحصل على رخصة لتأسيس مكتب إقليمي له في السعودية
- بوتين يأمر بإنتاج كميات كبيرة من السلاح -الذي لا يقهر-
- الإمارات: البنك المركزي يعلق نشاط تحويل الأموال لشركة الرازو ...
- كم سعره اليوم؟.. أسعار عيارات الذهب اليوم في العراق السبت 23 ...
- موراليس: الولايات المتحدة فقدت قوتها الاقتصادية


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أمير صادر - ثماني سنوات سحقت البرازيل