|
الكَفَن
عمّار المطّلبي
الحوار المتمدن-العدد: 4056 - 2013 / 4 / 8 - 09:52
المحور:
الادب والفن
لا أحدَ يعرفُ على وجه الدقّةِ عُمر ( سلطانة )، لكنّهم يقولون إنّها بلغت مائةً و عشرين عاماً . و برغم ذلك العمر الطويل، تواظب سلطانةُ على الجلوس حتّى الظهر في دكّان الأعشاب بطرف السوق القريب من النهر. ما يزالُ بصرُ سلطانة حادّاً، و ذاكرتها قويّة، و قد نبتتْ لها أسنانٌ بيض تُشبهُ أسنان الأطفال، و في دكّانها المليء بالعلب و القناني الزجاجيّة، تعرف سلطانة، من غير أنْ تضع مُلصقاً، مكان كلّ عشبةٍ و فوائدها في علاج الأمراض ! *** حين فاض النهر، أعطتني سلطانة علبةً، لأجلب لها الچليچلاوه. لم يأخذ الأمرُ وقتاً طويلاً منّي، فقد كان الماءُ مغطّى بتلك الحشرات ذات السيقان الطويلة و الرؤوس الصغيرة، و هي ترقصُ في كلّ اتّجاهٍ على سطح الماء ! *** دسّتْ سلطانة في يدي عشرة فلوس وأنا أناولها الچليچلاوه التي جمعتُها ، سابحاً، من النهر، و قبّلتني .. ستُجفّفُ سلطانةُ تلك الحشرات، ثمّ تطحنها، و تضعها في علبةٍ لتبيعها لأولئكَ القرويّين الذين يزورونها، شاكين لها آلامهم حينذاك. حين اطمأننتُ إلى أنّ القطعة النقديّة قد استقرّتْ في جيبي، قلتُ لها مناكداً، مثل كلّ مرّة، أراها فيها: " راويني إسنونچ جدّه " ! (1) و حين رفعتْ كفّها الصغيرة مبتسمةً لتضربني، هتفتُ، و أنا أتهيّأ للفرار: " الله ايطوّل عمرچ جدّه " ! (2) *** ركضتُ ولمْ أسمع جوابها، لكنّي كنتُ أعرفه منْ كثرة ما كانتْ تردّدهُ كلّما دعا لها أحدٌ بطول العمر .. كانتْ تقولُ محتجّة: " وين عزراييل إيدحّم ؟! ما يجي ياخِذ روحي" !! (3) ثمّ تبدأ في ذكر أسماء الذين سبقوها إلى ذلك العالم.. قائمة طويلة منْ الأسماء.. تذكرُهم و كأنّها تستنجدُ بهم، علّهم يقنعوا ملك الموت أنْ يزورها يوماً !! *** حين يحلّ الغروب، أحمل لها رزّاً و لبناً رائباً أرسلتهما أمّي لها .. بيتُها الذي يواجه الأرض الخلاء ليس سوى كوخ و فسحة مستطيلة ضيّقة .. أجدها تصلّي، فأضع صينيّتي على الأرض ، ثمّ أراقبها في الظلمةِ المشوبةِ بضوء مصباح الشارع الخافت، وهي تأكل.. عليّ أنْ أنتظر لأعود بالصحنَين الفارغَين .. ليس في بيتها سوى فراشها البسيط و خزانة من الخشب حائلة اللون ..القليل الذي تكسبهُ سلطانة تدّخرهُ أمانةً لدى الحاج هادي، قريبنا .. تقول إنّهُ ليوم موتها و نفقاتِ دفنها في النجف بجوار أمير المؤمنين . أتأمّلُ ذراعها الذي يُشبهُ غصن شجرةٍ نحيفاً مُسوّد اللون، ثمّ أنتبهُ إلى صوتها، و هو يقول: اللهمّ زِيدِ النِّعَم و ادفع النّقَم بجاه محمّد سيّد العرب و العجم ، فأعرفُ أنّها قد فرغت من الأكل . *** قبل أنْ تأوي سلطانة إلى فراشها، تفتح تلكَ الخزانة و تخرجُ الكفن الأبيض الذي تحفظهُ فيها .. تقول لي و أنا أهمّ بالعودة: "جدّه تعال إقرالي " (4) فأرتجف من الخوف " لا اتخاف " تقول سلطانة " الموت حق " !! أقترب بوجَل، لأردّد لها، مثل كلّ مرّة، أسماء الأئمّة الاثنَي عشَر المكتوبة على ذلك الكفن .. تضعُ كفّها على رأسها و تُتمتم حين أصل إلى اسم صاحب الزمان، و تطوي ذلكَ الكفن ، ثمّ تقبّلهُ بفمها و جبهتها، و تُعيدهُ بحذرٍ إلى داخل الخزانة مرّةً أخرى. (5) *** إستيقظنا ذات صباح على صوت ضجّةٍ ، و سرعان ما وجدتُ نفسي في بيت سلطانة .. كان المكانُ قد امتلأ بالنساء ، و كانت هي تجلسُ بينَهنَّ، و قد مدّدتْ رجلَيها القصيرتَينِ، تولول و تلطم الصدر ! قالت أمّي، و هي تحاول تهدئتها: " آنه اجيبلچ چِفَن جديد من السوگ" (6) " الله لا يطّي الحرامي.. ما لگه غيرچ " ! (7) صرختْ سلطانة بوهن : " أريد الچفن مالتي .. آخ يمّه خمسين سنة أو هوّ ينام ابصفّي " (8) قالتْ أمّي، و هي تحاول تهدئتها:" أجيبلچ چفن مثلَه " ! (9) " لا يُمّه لا .. هذا جبته من الرضا " !! قالت سلطانة، و هي تستأنفُ النّواح ! (10) *** " روح إلْدِكّان أُبُوك و احچيله القصّه" قالتْ أمّي، و هي تمسكُ بيد سلطانة ، فقفزتُ راكضاً، و سرعان ما كنت أعود مع أبي الذي كان يحمل بيده قطعة قماشٍ بيضاء .. (11) وقف أبي عند الباب، و أسرعتُ أنا إلى الداخل، و لم تلبث أمّي أنْ جاءتْ إلى حيث يقفُ أبي، و سمعتُها تقولُ بصوتٍ حزين: " إطّتكْ عُمرهَه حجّي .. ماتت " !!! (12) " إلى رحمة الله " تمتم أبي، و هو يناولها كفن سلطانة الجديد" !! _______________________________________
(1) أريني أسنانَكِ جدّتي (2) أطال اللهُ عمركِ يا جدّة (3) أينَ تاه عزرائيل، لمَ لا يأتي و يقبض روحي (4) تعال اقرأ لي (5) صاحب الزّمان هو الإمام المهدي عليه السّلام (6) أنا أُحضرُ لكِ كفناً جديداً من السّوق، (7) الله لا يُعطي اللص، أما وجدَ غيرَكِ ( يسرقُه) ؟ (8) أريدُ كفني، خمسين سنة و الكفن ينامُ بجانبي (9) أحضرُ لكِ كفناً مثله (10) لا أمّاه لا، هذا جلبتُهُ من مرقد الإمام الرضا الإمام الرضا هو الإمام عليّ بن موسى الكاظم، عليهما السّلام (11) إذهب إلى دكّان أبيكَ، وحدّثهُ بالأمر (12) أعطتكَ عمرَها يا حاج، كناية عنْ موتها !
#عمّار_المطّلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العفلقي*
-
كارل ماركس
-
بغداد عاصمة الثقافة العربيّة !!
-
أنواط صدّام !!
-
يا عراقاً !
-
هوغو شافيز: النّسر لا يصطاد الذُّباب !
-
آنَ لي أنْ أمضي
-
حكاية أبو الضحضاح الشيشاني
-
نعجة أمام الأنبار .. أسد على أهل البصرة !!
-
أفي كُلِّ أرضٍ يا عِراقُ عِراقُ؟!
-
حقّاً: إنّها بلا حدود !!
-
أموتِي هلْ سَئِمْتَ منَ الجُلُوسِ؟!
-
إححححححح !
-
الطّاعون
-
الكُرسيّ
-
رُقادي صارَ نفياً للرُقادِ !
-
نوح
-
سَلَفي !!
-
راية كوردستان تُرفرف فوق أنقاض ( المثقّف )!
-
حمامة گلَوِي !!
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|