|
عن رسالة الشعر في زمن الماركوتينغ
التجاني بولعوالي
مفكر وباحث
(Tijani Boulaouali)
الحوار المتمدن-العدد: 1165 - 2005 / 4 / 12 - 08:48
المحور:
مقابلات و حوارات
موقع عربستان ـ أجرى هذا اللقاء الصوتي: عادل السويدي (كاتب من عربستان) مع ضيف الحلقة الشاعر و الكاتب المغربي: التجاني بولعوالي
أجرى موقع عربستان من خلال برنامجه الصوتي (وجهة نظر)، الحلقة الأولى من لقاء خاص مع الشاعر والكاتب المغربي: التجاني بولعوالي، وهذه الحلقة كانت مخصصة للكتابة الشعرية والرسالة المنوطة بها، وهذه نسخة مكتوبة من ذلك الحوار الصوتي.
ورقة تعريفية بالشاعر والكاتب المغربي التجاني بولعوالي
بدأ التجاني بولعوالي شاعرا مأخوذا بفتنة الكلمات وحفيف الحروف، ثم استقر بعد ذلك على شط الفكر، ليخوض في أمور الواقع وملابساته، تارة مدليا بوجهة نظره التي تظل مشدودة إلى ذلك الشاعر الخجول الذي يسكن أعماقه، وتارة أخرى مجادلا بروح تتراوح بين ولو أدنى ذرة من الموضوعية والإنصاف، وبين أسئلة الهوية والأصل والذات والواقع والمصير... وهي أسئلة نسج لها عبر ما يقارب عقدين من النزوع إلى الشعر والانشغال به أجوبة جميلة، لكنه لما نزل إلى واقع الحياة المعيشة أدرك أن تلك الأجوبة غير صالحة! فأحس بالحزن العميق، لأن صوت الشعر الذي كان في زمن ما مدويا، أصبح الآن باهتا أمام التحولات الكبرى التي اعترت جسد الكون.
وهو ينحدر من قرية قصية تتموقع في جبال الريف الكائنة بشمال المغرب، وهذه القرية تدعى (الدريوش) وهي منقسمة إلى قبائل متعددة، تنسب كل قبيلة إلى جدها الأكبر، فيطلق عليها اسم ذلك الجد، كأولاد موسى وأولاد داود وأولاد عيسى وهكذا، وتسمى قبيلة ضيف هذه الحلقات (أولاد عثمان)، التي شهدت مسقط رأسه أول يناير 1973 ميلادية، الموافق 27 ذو القعدة 1392 هجرية، لذلك فهو يعتبر أن العالم يحتفي بيوم ميلاده الذي يواكب بداية كل سنة ميلادية جديدة، وهو لا يحتفي به! وبخصوص العائلة التي نشأ وترعرع فيها، فهي محافظة ومتدينة، حيث كان الجد الأكبر يحفظ عن ظهر قلب الكثير من سور القرآن المهمة، رغم أنه كان لا يعرف العربية! وقد تمكن من ذلك بمساعدة أحد أصدقائه، الذي كان إماما بمدينة مليلية المحتلة، وبحكم أن الجد كان قد تعلم اللغة الإسبانية، فإن ذلك الصديق كان يكتب له تلك السور القرآنية على اللوح بالأبجدية اللاتينية الإسبانية، وبذلك تسنى له حفظ تلك السور! كما أن الجدة كانت ملمة بأمور الدين وبعض المسائل الضرورية المتعلقة بأركان الإسلام، التي تلقتها من أبيها الذي كان من حملة كتاب الله، أضف إلى ذلك أن الأب قد تلقى العربية وبعض جوانب الدين الإسلامي، وأن العم الوحيد حظي باستكمال حفظ القرآن، وبعدها الانخراط في التعليم الرسمي، حيث نال منه ما لم ينله أقرانه، فكان الوحيد في كل تلك المنطقة، الذي تسنت له الدراسة في مدن أخرى، كان سكان قبيلة الشاعر لا يسمعون عليها إلا ما يشبه الأساطير! فكان بذلك محط اهتمام كل القبيلة بل وبعض القبائل المجاورة، حيث كان يعلم الأطفال، ويداوي المرضى، ويقرأ الرسائل، ويستشار في بعض قضايا الدين وغير ذلك. ثم أن الشاعر كان مخضرما، ليس تاريخيا، ولكن ثقافيا، لأن أباه كان أمازيغيا، وأمه كانت عربية، مما مكنه من تلقي ثقافتين ولغتين مختلفتين، هما العربية والأمازيغية. وهذا الجو العائلي المتميز في ذلك السياق والزمان، كان من شأنه أن يؤثر في توجيه شاعرنا في سن مبكرة نحو تلقي العلم، لا الرعي أو ما شابهه من الأعمال التي كانت آنذاك سائدة.
وفيما يتعلق بالجانب التعليمي والتكويني للشاعر، فيتحدد في المراحل الآتية:
مرحلة الكتاب القرآني: 1977- 1979 بمسجد القبيلة.
مرحلة التعليم الابتدائي: 1979- 1985 بمدرسة القبيلة التي يطلق عليها مدرسة (تازروت)، تعني بأمازيغية الريف الصخرة.
مرحلة التعليم الإعدادي: 1985-1989 بإعدادية إدريس الأول ثم ثانوية الأمل بميضار، وهي قرية تبعد بحوالي 16 كلم.
مرحلة التعليم الثانوي: 1989- 1992 بثانوية الأمل.
مرحلة التعليم الجامعي: 1992- 1997 بكلية الأدب والعلوم الإنسانية/جامعة محمد الأول، بمدينة وجدة الموجودة على الحدود المغربية الجزائرية. حيث درس طوال أربع سنوات اللغة العربية وآدابها، ثم أتبعها بسنة في الدراسات العليا والبحث العلمي.
وبعد هذه المسيرة من التعليم المتواصل، ونتيجة شتى الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية وغير ذلك، اختار الشاعر أن يغادر وطنه نحو هولندا، خصوصا وأنه حظي بحق الإقامة المؤقتة هنالك للدراسة، إذ درس اللغة الهولندية، وتلقى طوال حوالي ثلاث سنوات تكوينا خاصا بأساتذة التعليم الثانوي شعبة الدين الإسلامي، لكنه لم يتمكن من إنهاء ذلك التكوين! نظرا لبعض الظروف العائلية والاقتصادية.
وأثناء هذه المراحل المختلفة من حياة الشاعر والكاتب المغربي التجاني بولعوالي، اشتغل إلى جانب الدراسة والعمل، بالكتابة في مختلف الأجناس الأدبية والفكرية، فزاوج من جهة بين كتابة الشعر والنثر، ومن جهة أخرى بين الاهتمام بالأدب والفكر، كل هذا على أساس تمسكه بالثقافة واللغة الأصلية التي هي الأمازيغية، مع الانفتاح والاستجابة الحميمية للغة والثقافة العربية، وفي إطار الهوية الإسلامية المحكومة بسماحة الإسلام وطيبته وعدالته. وكان ت نتيجة ذلك مختلف الإبداعات والكتابات التي تغطي أنواعا أدبية وفكرية متنوعة أهمها:
* الطين يعشب حزنا في وطني (شعر)
* أرخبيل اليتم (شعر)
* شمس الحرية (شعر أمازيغي)
* من السماء إلى الأرض (نصوص نثرية وقصص قصيرة)
* الشعر العربي بين سلطة المعيار ولذة الانزياح (دراسة نقدية)
* جماليات الغموض (مقاربة نقدية)
* تأملات في التجربة الشعرية المعاصرة (مقاربة نقدية)
* المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل (مقاربة فكرية)
* الإسلام والأمازيغية؛ في الطريق نحو فهم وسطي للقضية الأمازيغية (مقاربة فكرية)
* الموت على طريقة الكوبوي (كتابات حول الوضع العراقي والعربي المعاصر)
بالإضافة إلى العديد من المقالات والحوارات والنصوص التي منها ما هو مكتوب بالهولندية.
نص الحوار س: ما هي الدواعي الخفية أو المعلنة التي دفعتك إلى كتابة الشعر، والانشغال به؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في البداية أود أن أتفضل بشكري الجزيل لموقع عربستان، وللأستاذ الفاضل والأخ العزيز عادل السويدي، الذي يشرف على تقديم هذا الموقع الجيد والممتاز للمتلقين والقراء، وإنه لشرف عظيم أن أطل من خلال هذا الموقع الأهوازي، الذي لم أفكر أبدا وأنا في الوطن، في المغرب، أن ثمة شعبا آخر، يدعى الشعب الأهوازي، شعبا يعيش تحت نير الطغيان الفارسي، شعبا يحلم بأن يكون له وطن، أو تكون له بقعة ضمن الوطن العربي الممتد، لذلك فإنني كما قلت، أحس بشرف وافتخار وأنا أطل من خلال هذا الموقع، واشكر كل مشرف عليه، وكل متلق له.
أما فيما يخص السؤال المطروح علي، والمتعلق بالجانب الخفي، أو تلك العوامل الخفية أو المعلنة التي جعلتني أكتب الشعر وأنخرط في خارطته، وأشتغل به، فمن الصعب على أي شاعر، أن يوضح ذلك، وان يدلي بذلك، ربما في البداية كنت أعتقد أنني ولدت لأكتب، وأن هذه الموهبة التي منحها لي الله تعالى انولدت معي، ربما كنت أقول هذا عن لا وعي، ولكن الآن وبعد مرور حوالي عقدين من الزمن، عن انخراطي في متاهة الشعر، أحس بشيء آخر، وعلى أساس من وعي مني، أحس أن من بين العوامل، سميها ما شئت خفية أو معلنة، هي ذلك الواقع الذي كنت أنتظم فيه، وهو واقع مزين باليتم والتهميش والإقصاء، واقع ربما ليس له وجود رسمي على خارطة الوطن، مما جعلني أتذمر وأسخط وأبادر بالشعر، بصوت الشعر الخفي بالتغيير، وأحاول عن طريق الشعر أن أضرب في وجه كل طاغوت مسؤول عن ذلك الإقصاء والتهميش أو اليتم، واليتم هو مصطلح مهم، في الكتابة الشعرية، في قاموسنا اللغوي، اليتم ليس هو يتم الأبوين فقط، وإنما هو يتم الوطن، أنت تعيش في وطن وأنت يتيم، وأنت غريب، لذلك فإن هذا الجانب لعب دورا مهما في إقبالي على الكتابة الشعرية، هذه الكتابة التي جعلت منها نوعا من التحدي في وجه ربما قل، السلطة أو الدولة، في وجه كل ما هو فوقك، وما يستعبدك أو يجعلك تخنع!
س: شكرا لك، شكرا للكلمات الجميلة، وقد كان تعرفي عليك منذ مدة، فهناك من يتابع كتاباتك الموضوعية، سواء في الشأن المغربي، أم حول الجالية الموجودة في هولندا، وأيضا في المجال الشعري، أنتقل إلى سؤالي التالي الذي يتعلق بأن الشعر العربي الحديث ينبني على قطبين؛ الأول تمثله قصيدة الوزن والآخر تجسده قصيدة النثر، مما يجعلنا أمام وجهتين من النظر، تنقض الواحدة منهما الأخرى، هذا النقض الذي يتخذ اتجاها يطبعه الصراع والجدل، يجعلنا نتساءل عن نوعية العلاقة التي توفق بين هذين القطبين، هل هي علاقة تنافر أم علاقة تضافر؟
ج- في الحقيقة، قبل الشروع في تناولنا لهذه القضية التي تبدو غاية في الأهمية، لابد من طرح المساءلة التالية؛ هل قصيدة الوزن هي الإرهاص النوعي الذي ارتكزت عليه قصيدة النثر في تكونها ومن ثم في استفحالها، أم أن ما شاهدته الكتابة الشعرية من تغير، شكل حافزا بفعله ظهر هذا النوع المستحدث، أم العكس، أي أن نشوء ما يطلق عليه بقصيدة النثر لا يتعلق بالتحول العام الذي حصل في المنظومة الشعرية بقدرما يخضع لمؤثرات خارجية أملاها الظرف أو راهن الشعرية؟
من خلال هذا، نلمس أن الأمور تنزع منزعا إشكاليا، فلا يمكن تفكيك عراها إلا بشق الأنفس، وذلك بضبط الاستفهام حتى لا يتشعب سواء من حيث ماهية التسمية ومدى ثابتيتها أو تحولها، أو من حيث نوعية العلاقة الكائنة بين قصيدة الوزن وقصيدة النثر، فهذا الاصطلاح الأخير - الذي اضطررنا إليه - يبقى مرتجا، رغم أنه إنجاز أدبي ناجح.. لأننا نوفق فيه بين متناقضين، فالقصيدة فيما نعهده تحيل على مبنى شعري معين (عدد من البيات تنتهي بالقوافي) مما يحدث نوعا من اللاتناسق حين تأويل ذلك، فوجود عبارة (قصيدة نثرية) – على تعبير جان كوهن – التي أصبحت شائعة الاستعمال، يسلب كلمة قصيدة في الواقع ذلك التجديد التام الوضوح الذي كان لها.. فنجد أنفسنا أمام فهمين؛ أحدهما يذهب إلى اعتبار هذه الكتابة نتاجا حتميا أو شرعيا لقصيدة الوزن، هذا لدى من سبق لهم أن احتكوا بما هو وزني أو تقليدي وخبروه، بل وأبدعوا فيه لأنهم استفادوا من هذا المكون، فطوروه إلى احتمال آخر.. وعلينا أن ندرك ما أدركه أدونيس الذي أكد على قصيدة النثر لا بوصفها تحل محل قصيدة الوزن، ولا بوصفها أكثر تقدما منها، وإنما بوصفها إمكانا آخر للتعبير شعريا، وبوصفها إغناء للشعرية العربية، وإضافة إلى أساليب التعبير.
أما أصحاب الفهم الآخر، فلم يطلعوا على تراثنا الشعري بقدرما مروا عليه مرور الكرام، واتجهوا مباشرة إلى النثر، ولم يسلكوا هذا الدرس إلا احتماء، واختصارا للمسافة... وكان من الأفضل - فيما أرى – لو طوعوا هذه الكتابة إلى أشكال أخرى كالأقصوصة أو الخاطرة أو المقالة الذاتية... وإلا حكموا على ما يكتبون بالموت والانقراض، وهؤلاء هم الذين يخلقون الجدل ويشعلون ذبالاته، ويجعلون من قصيدتي الوزن والنثر متضادين، رغم أنهما تتكاثفان لإغناء الدب في عمومه، فالصراع فيما نعتقد لا يكون بين شعر ونثر، وإنما ينشب بين نثر ونثر أو بين قصيدة في المرأة وأخرى في الثورة...
س: في إطار هذا التقسيم التنظيري، أين يمكن أن نموقع رسالة الشعر، أو ما هي رسالة الشعر، وكيف يتسنى للشعر في عصر الكمبيوتر والإنترنت والعولمة أن يوصل هذه الرسالة، ويوجد له حيزا داخل هذا الصخب والضوضاء؟
ج: في بحثنا الجامعي لنيل شهادة الإجازة، تناولنا الشعر العربي في علاقته مع المعيار الذي يضبط بنيته الدلالية والجمالية، وكيف يحاول الشعراء على مر العصور والأحقاب الانزياح عن هذا المعيار أو الضابط. ومهدنا لهذا البحث بالحديث عن التفسيرات السائدة التي قامت بمقاربة الشعر، فتوصلنا إلى أنه ثمة العديد من التفسيرات، أهمها التفسير الفني الذي يختزل الشعر فيما هو جمالي بحت، فلا يتعدى ذلك إلى ما هو مضموني إلا نادرا، ثم التفسير الأيديولوجي الذي يقف إما عند الجانب الشكلي من الشعر ولا يتجاوزه إلى ما هو دلالي، فلا يرى الشعر إلا من حيث أنه شكل، كما كان سائدا عند الشكلانيين الروس، وكثيرا ما كان رواد هذا التوجه يدعون الحياد الشكلي تحت ذريعة الفن للفن أو الشعر للشعر، وفي المقابل، وكنقيض لهذه المدرسة تنتصب المدرسة السوسيولوجية التي تؤكد أهمية الجانب المضموني للخطاب الشعري، فيصبح الشعر مجرد بوق لما هو أيديولوجي وسياسي، ساعيا بشكل حثيث إلى إثبات رسالية الشعر، مما يؤثر على الخصوصيات الفنية للنص الشعري، فنجد أنفسنا أمام بيانات حزبية، أو شعارات أيديولوجية خالية من ماء الشعر وطلاوته!
وفي الأخير يمكن الحديث عن التفسير الإنساني، وهو تفسير يوازن بين ما هو دلالي وما هو جمالي، وهذا ما يهب النص قيمته الفذة التي بها يمتد مكانيا أو يستمر تاريخيا، وأغلب الشعراء الذين ما يزالون أحياء بشعرهم في الذاكرة الشعبية والنخبوية على سواء، إنما المرجع في ذلك إلى انتهاجهم قانون التوازن في الكتابة الشعرية، فخلفوا لنا تراثا شعريا، قابل لكل إنسان ولكل زمان ولكل مكان، تراثا شعريا لا يأبه بإحداثيات الجغرافيا، ولا بالحواجز الزمانية، وخير مثال على ذلك، قديما شعراء المعلقات والمتنبي وآبو العتاهية وأبو فراس الحمداني وغيرهم كثير، وحديثا بدر شاكر السياب وأمل دنقل والبياتي وعبد المعطي حجازي والمجاطي وغيرهم. هؤلاء الشعراء وغيرهم تمكنوا من إبداع شعر إنساني، استطاع أن يحيا ويستمر رغم التبدلات العميقة التي غيرت وجه التاريخ البشري، ولو أننا نعيش في زمن الثورة المعلوماتية، وفي زمن الصورة والعولمة، فالشعر ما يزال حاضرا، ليس ذلك الحضور التقليدي، وإنما حاول أن يتأقلم مع المناخ الجديد، فطوع التكنولوجيا الحديثة لصالحه، فاستعمل الإنترنت في تقريب المتلقي من الشعر، وأصبح الحديث حول الماركوتينغ حتي في ميدان الأدب والشعر!
س: أضحى الإبداع تابعا للمقولات السياسية والأيديولوجية، وأصبح لكل منبر إعلامي أسماؤه التي تتكتل حوله خاضعة لتوجهه، ما هو أثر ذلك على الشعر؟
ج: وقد أشرنا إلى شق من هذا السؤال في الإجابة عن السؤال السابق، وقلنا أن ثمة تفسيرا يطلق عليه التفسير الأيديولوجي، وكإضافة إلى رسالة أو رسالية الشعر، كيف تقدم هذه الرسالة الآن، في هذا الزمن، فيما أعتقد فالشاعر أصبح كذلك العالم المستقبلي، فالشاعر لا يقف عند وصف الكائن أو الواقع فحسب، وإنما يصف هذا الواقع وهذا الكائن ويصوره، ويضيف إليه شيئا آخر، وهو سر الشاعر والشعرية، وهذا الجانب هو: ما هو الممكن وما هو المتوقع؟ ماذا يتوقع الشاعر، ماذا يتكهن به؟ لذلك نرى مثلا في القديم، أنهم أطلقوا اسم المتنبي، وكأنه بشعره كان يتنبأ أشياء لا يعلمها الإنسان العادي، أشياء توصل إليها بالفراسة، توصل إليها بالبصيرة كما يحدثنا بذلك القرآن الكريم، الذي يتكلم على بصيرة المؤمن، لذلك فالشاعر في هذا الجانب الرسالي من شعره، هو كذلك العالم المستقبلي، يجب أن ينقل الواقع، ويتنبأ بمصير هذا الواقع.
أعود إلى السؤال المطروح، حيث أعتقد أن الأدب ظل وسوف يظل تابعا لما هو سياسي أو أيديولوجي، فالمتصفح للأدب الإنساني في شموليته يستنبط أن الكثير من الإنتاج الأدبي إنما هو خلفية من خلفيات السياسة والأيديولوجيا، حيث أضحى لكل تيار أو حزب أو مذهب منبر إعلامي يستقطب أتباعه ومريديه، ولو أن كتاباتهم لا تعكس الحد الأدنى من مقومات الشعر أو الأدب، مما يسهم بشكل أو بآخر في تدهور الحالة الصحية للأدب عموما، والشعر خصوصا، ولما كنت في المغرب، عانيت طويلا من هذه الظاهرة، لأنني لم أكن متحزبا أو منتميا، وكنت كلما بعثت بنص من نصوصي إلى الجرائد الحزبية الذائعة الصيت آنذاك، كان مصير ما أرسل هو الإلقاء في سلة المهملات أو على رفوف النسيان! اللهم إلا بعض المنابر القليلة، والتي لم تكن مشهورة، كانت تبادر بنشر نصوصي، وأنا أكن لها دوما الاحترام والتقدير، ولو أني لا أنتمي الأيديولوجيا التي تتبناها.
لكن الآن، وبفضل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، تكاثرت المنابر والجرائد الإليكترونية، فأصبح النشر فيها سريعا وسهلا، وأصبح بمقدور أي كاتب أو شاعر إخراج نصوصه إلى الوجود في رمشة عين. وأن ينشرها في أي موقع ولو أنه لا يمت بصلة إليه، ولو أنه بعيد كل البعد عن توجهه أو أيديولوجيته، وهذا ما حصل لي لما شرعت في نشر نصوصي ومقالاتي عبر الإنترنت، فكان موقع عربستان الأحوازي، ربما إن لم تخنني الذاكرة، أول موقع بادر بنشر العديد مما أكتب، وأنا لن أنسى له هذا الفضل.
س: يبدو أن اهتمامك في المجال الشعري موجه في الغالب إلى الشعر العربي، هل ثمة داخل هذا الاهتمام حيز مخصص لشعراء من ثقافات أخرى، أو لشعراء لم تسلط عليهم بعد أضواء النقد أو الإعلام العربي؟
ج: أعتقد دائما أن الشعر لا وطن له، وإن كان كل وطن له شعراؤه، ففلسطين لها محمود درويش، ومصر لها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، والعراق له السياب ونازك والبياتي، وتونس لها أبو القاسم الشابي، والمغرب له المجاطي، والأهواز لها عباس الطائي وغير ذلك، لذلك فالشاعر الحقيقي هو الذي ينفتح على سائر الثقافات واللغات، ليغرف من كل التجارب والإسهامات الإنسانية، فإذا كان ابن خلدون يحدد الأدب في أنه الأخذ من كل شيء بطرف، فإن ذلك يسري كذلك على الشعر، حيث يمكن وصف الشاعر بتلك النحلة التي ترتحل من حقل لآخر، وهي تمتح من رحيق مختلف الأزاهير، لتصنع لنا عسلا فريدا من نوعه، كذلك الشاعر يرتحل بين شتى الثقافات والمعارف، ليشكل لنا نصا متميزا، نصا يعكس لنا ذلك الشعور الإنساني المشترك بين كل البشر، وفي صورة جمالية تلقى الاستجابة والقبول لدى الكل. على أساس هذه الرؤية كنت أحاول يوم كان الشعر هاجسي الأوحد، التنقيب في كل يتسنى من المعارف، أصلية كانت أم أجنبية، لذلك زاوجت في مرحلة ما بين الكتابة باللغة العربية، فأبدعت عدة نصوص، جمعتها في مجموعتين هما: أرخبيل اليتم، و الطين يعشب حزنا في وطني، والكتابة باللغة الأمازيغية، حيث أودعت ما كتبته بها في مجموعة بعنوان: شمس الحرية.
هذا بالإضافة إلى انفتاحي على مختلف التجارب الشعرية والأدبية، واعتبارا بأنني شكلت نوعا من التواصل الإيجابي بين موقع عربستان وغيرها من المواقع، هيأ لي ذلك جوا ملائما، لأتعرف إلى تجارب شعرية جديدة ومعاصرة، ربما أن أغلبها مكتوب بالعربية، لكنها تنحدر من مختلف الأوطان، من كردستان، من عربستان، من بلاد أمازيغ، ومن غير ذلك، وفي هذا الإطار، حاولت الوقوف عند تجربة أو نص شعري، وجدت فيها تلك الروح الإبداعية، التي أشرت إليها عندما قلت أن الشعر ينبغي أن يزاوج بين ما هو دلالي ورسالي وما هو جمالي وفني، لأن الشعر ينبغي أن يكتب بطريقة فنية عالية، وفي نفس الوقت يجب أن ينطوي على مضامين شريفة، ذات أهداف وأبعاد إنسانية شريفة، وقد توقفت عند تجربة أهوازية، وصاحبها هو الشاعر عبد الكريم الأهوازي، الذي قرأت نصا له، فاكتشفت أنه يملك موهبة جيدة، تنساق إلى التميز والفرادة، شحذها وصقلها ومنحها من العطاء، وماء الشعر وطلاوته، فاكتشفت أنها تملك وضوحا في الدلالة، يجعلنا ندرجها في ذلك السهل الممتنع، ذلك النص الذي يبدو لك سهلا، ولكنه جميل، كما نجد على سبيل المثال عند الشاعر نزار قباني والشاعر أحمد مطر، الذين يقدمان لك نصا شعريا بسيطا، نصا ربما أي واحد منا يقول لك أنني أستطيع أن أكتبه، ولكن في نفس الوقت يحاولان من خلال هذا النص أن يوصلا، ما لا يوصله النص الآخر الصعب والمبني على الكثافة الرمزية، وعلى التداخل البلاغي وما إلى ذلك، إذن فهذه التجربة الأهوازية هي في الحقيقة تجربة فريدة، لأن الأهوازيين كما هو معروف اضطهدوا، ومنعوا من تلقي اللغة العربية، واللغة العربية هي أساس كتابة الشعر العربي، فهي المادة التي يتكون منها هذا الشعر، ومن دون هذه اللغة لن يفلح أحد منا في كتابة نص شعري عربي ناجح، فإنني لذلك أفتخر حقا بهذه التجربة، وهذا يجعلني أنفتح أكثر على تجارب أهوازية أخرى حتى أتمعن في الاتجاه الشعري الذي يمكن أن تنتظم فيه.
س: إن الشاعر عبد الكريم الأهوازي له نصوص شعرية عدة، ونحن في الواقع نشكرك على هذا النقد الذي نحتاج إليه، لرفع مستوى هذا الشعر، حيث هناك شعراء كثر في الوطن وفي المنفى، لكن كما أشرت فعدم دراسة اللغة العربية التي هي اللغة الأم، كان وراء أن أغلب الشعر مكتوب باللغة العربية الدارجة، وبالإضافة إلى ذلك الشاعر الذي أشرت إليه، هناك شعراء آخرون كعباس الطائي وإبراهيم الديراوي وغيرهما، ربما سوف نتناول ذلك بتفصيل في الحلقات الحوارية القادمة. ليتك الآن تسمعنا نصا شعريا الأستاذ التجاني.
ج: في الحقيقة، ما يصعب على الشاعر اختيار النص المناسب الذي يلقيه على جمهوره، وبعد تردد وقفت عند قصيدة قصيرة، وقد تم نشرها كذلك في موقع عربستان، وهذه القصيدة نشرت تحت عنوان: الصمت والصهيل، وبمجرد ما نشرت تلقيت رسالة من الصديق الكاتب العراقي الأستاذ باقر الصراف، وهو يدلي بإعجابه بهذه القصيدة، فطلب مني، أو اقترح علي أن أسميها بعنوان آخر، وهو صمت الصهيل، فقلت له لقد أصبت، فأنا أعدك بتسميتها بهذا الإسم، وهذا هو نص القصيدة:
صمت الصهيل
تمر الخيول بغير صهيل
يجلجل صمت البلاد التي نام غصن ملاحمها
تمر،
ومن فوقها يتربع شيخ تزيفه الابتسامـــه
لماذا نعوض سيفا بناي،
وماسورة بكمان،
ورمحا بغليــــونْ!؟!
اختفت من قواميسنا مفردات الكرامـــه
***
أيها الجالسون على مفرش القبلـــه
استريحوا كثيرا ولا تقنطوا
من حديث الإمام الطويـــلْ
***
أيها الناعسون على هامش الدولة
جنب مركز أمن عواصم "يعرب"
خير لكم أن تناموا بلا أمنياتْ
فابتروا خيط أحلامكم
واهجروا صهوة الشغب/الفتنة
نحو صمت جميــــلْ
س: نشكركم على هذه القصيدة الجميلة، ونعدكم بتخصيص حلقات حوارية أخرى عبر موقع عربستان في الشعر والفكر، سوف نتوقف الآن عن هذا البرنامج الصوتي، وشكرا مرة أخرى الأستاذ التجاني، وأسألك عما إذا كانت لديك كلمة أخيرة نختتم بها لقاءنا هذا.
ج: في الأخير، أود تجديد شكري لموقع عربستان، وأعد الإخوان في هذا الموقع مشرفين وقراء، بأن نكون جنبهم، ولو بالكلمة، ولو بالعبارة، إن نحن لم نستطع بأساليب أخرى، ونهنئهم على هذا التحدي الذي يرفعونه في وجه الطاغوت، في وجه الشيطان، هذا التحدي الذي من شأنه أن يعطي نتائجه، طال الأمد أم قصر، فالإرادة؛ أي إرادة الشعوب، كما يقول المثل، لا تقهر ولن تقهر، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
#التجاني_بولعوالي (هاشتاغ)
Tijani_Boulaouali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنمية الأمازيغية تبدأ من تنمية الإنسان الأمازيغي
-
المعهد الملكي للأمازيغية في مفترق الطرق
-
أمــــــــــــــــــــــــــاه
-
(*)البربر/الأمازيغ؛ ازدواجية التسمية ووحدة الأصل
-
أضغاث الوطن
-
هل المهاجرون المغاربة بإسبانيا ضحية الشراكة أم التبعية المغر
...
-
هل المهاجرون المغاربة بإسبانيا ضحية الشراكة أم التبعية المغر
...
-
هل المهاجرون المغاربة بإسبانيا ضحية الشراكة أم التبعية المغر
...
-
!وطني.. أهجرك اللحظة
-
أغنيات التمـــــــــــــرد - شعر
-
حين صرخت.. كان اغتصابي
-
حين يتكالب السياسي والإعلامي على القانوني لطمس الحقيقة
-
-حين يتكالب السياسي والإعلامي على القانوني لطمس الحقيقة -1
-
الشعر داء
-
الموت على طريقة الكوبوي! نرجسية الأمريكي بين ولاء الآخر وتحد
...
-
الموت على طريقة الكوبوي! نرجسية الأمريكي بين ولاء الآخر وتحد
...
-
الموت على طريقة الكوبوي! نرجسية الأمريكي بين ولاء الآخر وتحد
...
-
نشيد الغضب
-
أزمة الإعلام البصري الوطني وتحديات المستقبل
-
حوار مع المفكر العربي د. حسن حنفي
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|