مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 4051 - 2013 / 4 / 3 - 08:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لماذا لدى اشخاص عديدين اراء متحيزة ضد الكتاب المقدس ؟ ان السبب فى بعض البلدان مرتبط بتاريخ وسيلة صممت لوضع حد " للهرطقة " : فهرس للمؤلفات المحرم قراءتها. وكيف ذلك ؟
أظهرت الكنيسة الكاثوليكية حماسا شديدا حيال اختراع الطباعة. حتى ان بعض البابوات اغدقوا المديح على ما دعاه عدد من رجال الدين " هبة من الله ". ولكن سرعان ما ادركت السلطة الكنسية ان الطباعة كانت وسيلة لنشر اراء مغايرة للكثلكة. لذلك , فى نهاية القرن الخامس عشر , فرض عدد من الابرشيات الاوروبية قيودا عليها. وأحد هذه القيود كان ضرورة الحصول على اذن بالطبع. ثم , عام 1515 , أعطى مجمع لاتران الخامس توجيهات لضبط عملية الطباعة , وكان من يخالف هذه التوجيهات يحرم كنسيا. غير ان ذلك لم يمنع انتشار المطبوعات والكتب التى اعتبرتها الكنيسة خطرا على الايمان والاداب , وخصوصا بعد بداية حركة الاصلاح. لذلك , نحو اواخر القرن ال16 , تمنت اوساط الفاتيكان " لو تتوقف الطباعة سنوات عديدة ".
للحد من " هذا الفيض البغيض من الكتب التى تلوث الاذهان ". على حد تعبير يسوعى ايطالى , ارادت الكنيسة انشاء لائحة يمكن ان يعتبرها كل الكاثوليك مرجعا لهم. عام 1542 أنشئت محاكم التفتيش الرومانية. وكان انجازها الاول , على ما يظهر , اصدار مرسوم يقيد حرية النشر فى المجال الدينى. وحين اعتلى جيان بيترو كارافا , الرئيس السابق لمحكمة التفتيش , عرش البابوية وصار البابا بولس الرابع عام 1555 , أمر فورا بأنشاء لجنة مهمتها اعداد لائحة بالمؤلفات المحرمة. وهكذا , عام 1559 , نشرت اول طبعة من " فهرس المؤلفات المحرمة قراءتها " لكى تكون مرجعا لجميع الكاثوليك.
قسم الفهرس الى ثلاثة ابواب , ادرجت فى الباب الاول اسماء مؤلفين حرمت قراءة كل كتبهم مهما كان موضوعه. وشمل الباب الثانى اسماء كتب حرمت قراءتها دون غيرها من اعمال المؤلفين الذين وضعوها. أما الباب الثالث فضم لائحة طويلة من الكتب المحرمة المجهولة المؤلف. وقد احتوت هذه الطبعة من الفهرس على 1,107 ادانات لم تتناول كتاب المؤلفات الدينية فحسب بل ايضا كتاب المؤلفات الادبية الاخرى. وعدد ملحق للفهرس الطبعات الممنوعة من الكتاب المقدس , وذكر على وجه التحديد ان كل ترجمات الكتاب المقدس باللغات المحكية ممنوعة.
حسبما قالت جيليولا فرانييتو , استاذة التاريخ المعاصر فى جامعة بارما فى ايطاليا , مع ان بعض الكتب المقدسة كانت محظورة محليا , " فقد شكلت هذه القوانين التى انطبقت على كل الكاثوليك اول بيان رسمى للكنيسة تدين فيه طباعة , قراءة , وحيازة الكتاب المقدس باللغة المحكية ". ولم يكن بائعو الكتب والناشرون وحدهم من احتجوا بشدة على الفهرس , بل ايضا الحكومات التى كانت تستفيد من عمليات الطباعة. ولهذه الاسباب وغيرها أعدت طبعة جديدة صدرت عام 1564 اثر مجمع ترنت.
عام 1571 , انشئت " لجنة فهرسة المؤلفات المحرمة قراءتها ". وكانت مهمتها تنقيح الفهرس. وفى مرحلة من المراحل , كان قرار حظر المؤلفات عائدا الى ثلاث كيانات : محكمة التفتيش : " لجنة فهرسة المؤلفات المحرمة قراءتها " : وسيد القصر المقدس , وهو رسمى بابوى. ومن بين اسباب تأخر صدور الطبعة الثالثة من فهرس المؤلفات المحرمة قراءتها كان تداخل المسؤوليات بين هذه الكيانات , واختلاف الرأى حول مسألة من يجب ان تكون له سلطة اكبر : الاساقفة او اعضاء محاكم التفتيش المحلية. ورغم ان هذه الطبعة الثالثة اعدتها " لجنة فهرسة المؤلفات المحرمة قراءتها " واجازها البابا كليمنت الثامن فى مارس اذار 1596 , أوقف صدورها بطلب من محكمة التفتيش , بانتظار ان تصير اكثر صرامة لجهة تحريم الكتاب المقدس فى كل اللغات التى يتكلمها عامة الناس.
بعد هذه الطبعة , بقى " فهرس المؤلفات المؤلفات المحرمة قراءتها " على حاله نوعا ما , رغم ان المزيد من الكتب المحرمة اضيف اليه هلى مر القرون. واذ رأى بروستانتيون عديدون كتبهم تدرج فيه , وصفوه بأنه " افضل دليل لمعرفة الكتب التى يفضل الناس قراءتها ". ولكن من الجدير بالملاحظة هنا ان اراء البروستانت فى تلك الفترة حول الرقابة على الكتب لم تكن مختلفة كثيرا عن اراء الكاثوليك.
كان للفهرس اثر مأساوى فى الثقافة. فبحسب المؤرخ انطونيو روتوندو , " تقهقرت الثقافة فى بعض البلدان مثل ايطاليا. ويقول مؤرخ اخر , هو غويدو دالوليو , ان الفهرس كان " احد العوامل الرئيسية التى ادت الى التخلف الثقافى فى ايطاليا, مقارنة بمعظم البلاد الاوروبية الاخرى ". وما يدعو الى السخرية هو ان بعض الكتب من تلك الحقبة حفظ لأنه وضع فى ما يدعى الجحيم. وهو مكان خصص فى مكتبات كنسية كثيرة لابقاء الكتب المحظورة بعيدة عن متناول الناس.
ولكن بحلول عصر التنور صارت للرأى العام كلمته مما ساهم فى زوال " وسيلة القمع الاكثر صرامة التى فرضت على حرية النشر ". فسنة 1766 , كتب محرر ايطالى : " ان قرارات الادانة التى تصدرها روما ليست الاساس لتقييم الكتب. فالشعب هو العامل المقرر ". وتراجع تأثير الفهرس شيئا فشيئا , الى ان حلت لجنة فهرسة المؤلفات المحرمة قراءتها عام 1917 , ومنذ 1966 , لم تعد للفهرس صفة القانون الكنسى مع ما يرافقه من تحريمات.
يظهر تاريخ فهرس المؤلفات المحرمة قراءتها ان كتابا واحدا من بين كل الكتب التى تلوث الاذهان أقلق السلطات الكنسية اكثر من غيره : الكتاب المقدس باللغات المحكية. ففى القرن السادس عشر , " كانت نحو 210 طبعات من الكتاب المقدس الكامل او من العهد الجديد " مدرجة فى الفهارس , كما يوضح خيسوس مارتينز دى بوخاندا , احد المتخصصين فى هذا المجال. وفى ذلك القرن كان الايطاليون معروفين بأنهم قراء نهمون للكتاب المقدس. لكن الفهرس , بما تضمنه من تحريمات صارمة تناولت الكتب المقدسة باللغة المحكية , غير بطريقة جذرية نظرة تلك الامة الى كلمة الله. تقول استاذة التاريخ فرانييتو : " صار الايطايون يعتبرون الاسفار المقدسة بمثابة كتابات هراطقة , بعد ان حرمت قراءتها واعتبرت منبعا لأفكار الهراطقة ". وتضيف : " باتت شعوب جنوب اوربا تعتبر ان مصدر خلاصها هو كتب التعليم الدينى الكنسية ". واعتبر " الشعب الجاهل دينيا افضل من الشعب المثقف دينيا ".
لم يسمح للناس بقراءة الكتاب المقدس باللغات المحكية الا سنة 1757 حين اجاز البابا بنيديكت الرابع عشر قراءة ترجمات باللغة المحكية تحمل موافقة الكرسى الرسولى. ففسح ذلك المجال لاعداد ترجمة جديدة باللغة الايطالية استندت الى الفولغات اللاتينية. وكان على الكاثوليك الايطاليين ان ينتظروا حتى سنة 1958 قبل ان يحصلوا على الكتاب المقدس الكامل المترجم من اللغات الاصلية.
تقول فرانييتو ان معظم الذين " ينشرون الكتاب المقدس فى كل ارجاء الارض " اليوم هم من غير الكاثوليك. بينهم الكثير من الذين ساهموا فى اعادة اضرام محبة كلمة الله فى قلوب ملايين من الناس.
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟