|
ايديولوجيا
مزمل الباقر
الحوار المتمدن-العدد: 4041 - 2013 / 3 / 24 - 09:20
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
كيف لي أن اغني؟ وتلك السيجارة التي ضربتها(1) عند المغارب لم تفلح في إضفاء شيئاً من البهجة علي رماد دبرستي. كما فشل خمر البارحة في ذلك، رغم أنه خمر معتق، ورغم فتنة المشهد من ذلك القيف، ورائحة العشب علي ضفة شارع النيل هنا، والأنوار البعيدة التي تتلألأ علي القيف المقابل، هناك. ورغم الهدوء الذي يغلف المكان، فذلك الحواتي قد تمدد بطول مركبه العتيق، ونكس شراعه ودخل في طقوس نوم عميق، بعد ان تمنى اكتناز شباكه في صبيحة الغد، بصيدٍ وفيرٍ من سمك النيل.
هل لي أن اغني ؟ وذكراك كالظلّطه في ساعدي، ستهيج لا محالة وليس بإمكاني حمايتها من سلسال الماء ومكايدة النسيم، ستهيج لا محالة. وهاأنا ذا احمل حبك علي محياي كندب جروح ميتة تذكر بمعارك قديمة. نما حبك في استحياءٍ كوردة صغيرة علي هامة نبتة عجفاء أو كزهرة صبار عجوز، ثم ترعرع مع الأيام وعنايتي، حتى أضحى كتلك النخلة في حوش البيت الكبير، بإمكانها أن تلاعب جدائلها من بعيد فتخالها تجاورك المكان .
ما حسبتك تغيبين هكذا من حياتي مكتفية بالتحديق في بلاهة محضة، من رصيف الانتظار. وأطفالنا – كم أنا حزين لأجلهم – تطالعني براءة طفولتهم كل صباح في شكل تساؤل متوجس يتقافز في استدارة عيونهم الجميلة. فإذا جن الليل شرعوا في مراسيم النحيب الطويلة، حتى يدركهم الوسن آخر الليل فيناموا.
أظل ساهداً حتى الصباح إلا من بعض الغفوات، ومن حولي أطفالنا النيام وحضورك، ووجهك الذي رأيته البارحة يحدق في الفراغ. أو لعله كان يراقب شيئاً علي جسد الأسفلت العتيق. لوحت له بكلتي يدي – حينما كنت في الحافلة التي يممت شطر الخرطوم، لعل كل حافلات الخرطوم مرت عليك وأنت كمن وكل له أمر حراسة شئ يخشي عليه من الفقد. لا كحل يزين حدقتيك ولا احمر شفاه علي شفتيك الجافتين ولا ولا…
" وأشوف شفع بيأشروا للقميرة التايهة دورين بالمناديل ويلعبوا فوق تلال خديك ومرجيحه ضفيراتك "(2)
كيف لي أن اغني هكذا ؟ ووجهي شطر النيل والسيجارة شطر فمي، وفمي في النيل قبل أن تحجبه سحابة غيبت وجه القمر. وعلى مقربة مني ينام عقب السيجارة الأولى علي العشب وقد تصاعد دخانه، وبعض من حبيبات مسحوق القنب الهندي اراها محترقة. وقد تدحرجت على مرمى من اللفافة، والسأم يقتات من صدري وزوبعة تجوس بيافوخي.
وهل لي ان اغني؟ ودموع أطفالنا البريئة التي لم تزيفها مخالطة اللئام، هاأنا ذا أتحسس أماكنها علي قميصي. هنا دمعة ابنك وهناك.. نعم تلك الدمعات الكبيرة تنتمي لابنتك، وبينهما لعاب فم رضيعك الجائع أظنه يحتاجك مثلي، لقد سئم اللبن المعلب كما سئمت احتساء القهوة عند ستات الشاي !.
وما فائدة غناء تشتهيه حنجرتي وأذنك لا تصغي له ؟!. تغادرينني هكذا وأنت محرضتي علي الغناء، فكيف يكون الغناء غناء بدونك؟. كنت تطفئين سكوني ذلك الذي تمقتين لتشعلين مكانه كونسرت؟. كيف تعالجين نشوذ لحني في جوقتك بصبر أولى العزم من الرسل؟. وعلام صبرك وافي سدرة منتهاه قبل أوان النيروز؟ وقبل أن ترين ثورة الجياع التي طالما حلمت بها؟.
آخر مرة جربت فيها حنجرتي الغناء، كنت حينها تصلحين من وضع ابتسامة علي شفتيك. كان غنائي حزيناً علي كل حال، ربما لأن تلك الابتسامة التي علت شفتيك آخر الأمر لا تنتمي لإحساسك الذي بين جنبيك.
رفعت عقيرتي بالغناء الجريح وما ضمدتِ جراحي يومها إليك كعادت. تشاغلتِ عني برسم تلك الابتسامة المترفة، وغرقت حتى شحمتيّ أذنيك في ترعة أحلام برجوازية.
أراك تضحكين أمن فرح غامر أم من سخرية لاذعة أم من ألم ممض؟ وهاأنت ذا تهطلين دمعاً فتبللين أجفانك، وكأن الدمع لا ينتمي لعينيك البتة، وكأني لم أراك تسكبين ماء عينيك هكذا. لقد عبرنا الحدث عبور المزن، تحت قبة السماء. لا المزن يشتكي ولا طوب السماء سمع شكوى طوب الأرض .
عيناك ذلك الصباح كانتا تغالبان نوبة من الوسن، لترقبان خاتماً مرصعاً بالماس، خاصر اصبع مترفة لامرأة في النصف الأول من العقد الثالث تنتمي لطبقة الأغنياء. سألتك بالله أن تزيحي عينيك عن ذلك الخاتم وتريحيها علي تلكم السنابل التي تمنح ذلك الصباح شيئاً من الخصب. ألا ترينه صباحاً مفعماً بالحيوية، إن تعاميتِ عن خاتمها الماسي؟. أراك تملكين أغلى الماس بين جفنيك فعلامك تحدقين في رخيص المعدن علي سبابة مترفه !! ورونق البسمة في شفتيك أبهى من بريق الماس بخنصرها.
انظري إلى وجهك في صفحة هذا الكنار، والقي حجراً في مائه. ألا ترين وجهك قد تبعثر في شيمة(3) تتناسل؟. هكذا المال لا يستقر علي حال. أراك تغادرينني بخاطرك، ربما عدت من جديد لذلك الصباح الذي استفزك فيه خاتماً من الألماس على خنصر يدٍ مترفة، فكيف بأناس يقضون سحابة نهارهم حفراً في باطن الأرض، مكتفين مرغمين بحفنة مالٍ وأرتالٍ من التعب باحثين في رخص التراب عن نفيس المعدن وقد ذهبت الكهوف باستقامة ظهورهم وما نالت من بياض سريرتهم؟. أراك تصمتين عن شجنٍ وفير، أم فرحٍ مباغت أم من ضجر مكتوم ، وتغادرني مقلتاك لتجوسان في اكتناز ذلك الجسد. تتفحصينه بغيظٍ، وكأنك لا تعلمين بأمر ذلك القوام الذي تملكين!!. ويتضخم بداخلي غيظاً أريد أدرك كنهه، ولكنك تلوحين لي بضحكةٍ مجلجلة تنتمي لأغنياء المدينة. وليتكِ تكتفين بابتسامة الذين لا يملكون غيرها وتحسبين أنهم يملكون كل شيء .
تصمتين فجأة ثم تهطلين دمعاً، كسحب غائمة أثقلها ما تنوء به من حمل ثقيل فسكبت ماءها. وتساورني الحيرة من ضحك مجلجل، ومن بكاء مر. وليتك تجأرين بالبكاء غير أنك تبالغين في النحيب. فتجعلينني أتنفس حزناً، وتتقمصني سير أسيانة، لأناس عاشوا أزمان الوجع في بلادي.
أريد أن أنحو بك إلي نقاش سياسي، فكم أنت تعشقين جدالها. لكنك تكتفين بالتحديق فيّ، ببلاهة محضة. فيذوب حماسي كقطعة ثلج تحت شمس الظهيرة، تذكرني بوقفتك تلك ذلك الصباح علي رصيف الأسفلت. وكيف يتسني لك مبارحتي؟، وقد وهبتني قلبك كيما أشوف به؟. بارحتني هكذا وما علمت أنك فاعلةً ذلك، برغم كل الإرهاصات التي عنّت لي. وبي حزن يثقل كاهلي يجعلني أبدو كالغارق في خضم النيل. وحزني يفرّخ أحزاناً تستنسخ ذات الأحزان، وما مددت يدك لتلامسي حزني. مددت يدك لتمسكي عصا الترحال الطويل، وما خلفت لي سوي أرثٍ من ذكريات لن تعوضني مآلات فقدك، وأطفالٍ ينشدونك البقاء مثلي.
وكيف يتسنى لي احتمال رحيلك، وقد حملت قلبي معك؟. وقلبي مناط إداركي، وبؤرة بصيرتي؟. تتداعي فوتوغرافية ذكرياتك، فلا أجدك في نيجاتيف واقعي. فأنت قد شددت عنان تسفار طويل، في استبدادية واضحة وعهدي بك تشاورينني حتى في توافه الأمور .
أراك تحملين مقلتاك وتمعنين في الغياب، في مسارب الفراغ، حيث تنتهي هذي العمائر لتبتدئ أرتال بيوت الطين، منازل الصفيح، ومساكن الخيش، كالندبة علي خد هذا الحي الأنيق.
تحاولين أن تزيحي كامن الحزن في حديثي، لتحدثيني عن عوالم تنتمي إلينا وننتمي لغيرها. وأخري نحب أهلها ويحسبون أننا كغيرنا نحصهم ببسمات الشفقة ودموع الرثاء لحالهم فنجرح كبريائهم العظيم دون أن نعي
تعبث أناملك اليمني بوريقات تجاور أصابع أناملك اليسرى، تضيق حدقتا عينيك وأنت تفردين للفراغ حيزاً من تفكرك ... تشوفين بقلبك ما أستعصي علي عينيك الناعستين. أتعلمين أن ذلك الرمد الربيعي قد وهب عينيك سحراً. أراك تضحكين في سخرية، وتلملمين شعت وريقاتك تلك. ليتك تفعلين ذات الشيء بأفكاري وقد تناثرت هنا وهناك أشلاء .. أشلاء.. أشلاء .
مزمل الباقر الخرطوم في 25 أكتوبر 2000م
(1) ضربتها: بمعنى شربتها وهي من الكلمات الشبابية الشائعة التي زاحمت العامية الكلاسيكية في السودان. (2) أبيات من قصيدة (بسيماتك) للشاعر الراحل المقيم علي عبد القيوم، والتي تغنى بكلماتها الفنان الراحل المقيم محمد وردي. (3) الكنار: بفتح الكاف والنون ، كلمة تطلق في عدد من القرى السودانية على مجرى الماء العظيم الذي يغذي الاراضي الزراعية عبر عدد من المجاري المائية الاصغر مساحة والتي تتفرع منه . أما الشيمة: فهي الدوامة بلهجة بعض مناطق السودان.
#مزمل_الباقر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شماشية
-
دوبيت
-
الصورة
-
أبو حازم من(الشعبية) إلى (تمبكتو)
-
معلومة جديدة
-
شريان
-
يا فاطمة
-
ناسك في محراب الغفوات
-
أم در
-
(من ترى أنطق الحجر) أو ظاهرة الحسد الثقافي وسط النخب السودان
...
-
تداعيات
-
ست شاي
-
عقوبة عائلة من زوباتيا
-
صوتك وشاح من مخمل
-
تضاريس النزوح الأخير
-
عن ما جرى الشيوعيين في عهد النميري - قراءة في كتاب حسن الجزو
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|