|
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (9)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4041 - 2013 / 3 / 24 - 08:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الروايةُ تغدو ملحمةً برجوازية (شعبية) بقدرِ ما هي سردٌ يعبر عن صراع وتعاون الطبقتين الرئيسيتين في التاريخ الرأسمالي وهما البرجوازية والعمال. إنها لا تغدو (ملحمةً) إذا كانت برجوازية صرفةً بخلاف ما يقول المنظرُ العالمي جورج لوكاش، فملحميتها تتطلب نقيضها الاجتماعي، تتطلب حضور الطبقة العاملة، وحين لا تحضر ولا يتوسع الرصد الفني للكل الاجتماعي تخفت الملحميةُ كما هو شأن روايات بلزاك الأخيرة حيث إن رصده للفئات البرجوازية والارستقراطية يغدو هو الشامل، ولم يقم برصدها في فترة ثورتها الشعبية، بشكل موسع سوى عبر رواية وحيدة تم رصدها في هذا التحليل وهي عن صراعات المَلكيين والجمهوريين على الحدود، أو برصدها عبر الصراع مع العمال. إن عناوينه الجانبية للروايات مثل (دراسات فلسفية) و(مشاهد من حياة الريف) ومشاهد من الحياة الخاصة ودراسات طبائع، تعطي جانبين متضادين، الأول هو قصص ذات رؤى مثالية مسبقة، ليس هي دراسات فلسفية، أما رواياتُ المشاهد فهي تصويرٌ واسع أو ضيق لشخوص وأحداث في ظرفٍ اقتصادي مدروس ومحلل ومسرود معاً. هذه الثنائية الفكرية التعبيرية تجسد غياب رؤية البنية الاجتماعية بشكل مادي تاريخي، واعتمادها على الملاحظات الاجتماعية والاقتصادية الشخصية، وهي التي تصلً حينا لسببياتٍ عميقة في البنية الاجتماعية في لحظة تاريخية محددة، وحيناً تسقطُ عليها رؤاها المثالية، فلا تصلُ لشيء من ذلك. وهذا التباين يتواصل مع تطور كتابة المؤلف حيث لا ينتهي برؤية تحليلية تاريخية نموذجية، بفضل اعتماده على النماذج الجزئية المنسوخة من الواقع، فلا تغدو ثمة عملياتٌ فنية تعميمية، فيما الروايات المثالية تعتمد على البناء المثالي التجريدي أو الرومانسي الفردي. وهذه الثنائيةُ ودلالاتها تعكس غياب الرؤية الفلسفية التحليلية لظاهرات المجتمع، وكما أن التصاق بلزاك بالقوى الإقطاعية البرجوازية المتداخلة، يبعده عن رؤية دور الطبقة العاملة فهو كذلك لا يقترب من المادية التاريخية التي كانت بعد مثل العمال في الممكن القادم بانتظار التراكمات الفكرية الاجتماعية. إن الرؤية التي يكونها وينتمي لها الروائي تتشكل في خلال تطوره الكتابي الشخصي، وفي البنية الاجتماعية في لحظتها التاريخية، وملحميتها وغناها يعتمد على ذلك. إن الروائي لا يستمر في تحليل المجتمع مثل عودته إلى الاسطورة، وهنا في الرواية التالية نجد عودته للرومانسية. في رواية (الولد الملعون) التي تدور في الزمن الإقطاعي الصرف هيمنة النبيل المطلقة وهو النبيل المتوحش الذي لا ينتجُ حركةً حية إلا بشكل مرضي بولادة الابن المشوه والذي هام في الطبيعة، فيما لا تظهر الفئة المتوسطة جنين البرجوازية في إلا في الطبيب الفرد ذي الوعي الشامل. في هذه الرواية والتي تُرجمتْ عَربياً عبر وزارة الثقافة السورية، (دمشق 1992)، نقرأ هذه اللغةَ التفصيليةَ النحتيةَ في تكوينِ وحفر المشاهد، المقدمات التعبيرية التي تؤهلُ بلزاك للتغلغلِ في الُبنى الاجتماعية. إن لقطات الأم المقبلة على ولادة متعسرة مضنية والعائشة مع زوج إقطاعي متوحش، لتتواصل ببطءٍ شديدٍ عنيف، والمؤلفُ يرسمُ بدقةٍ بالغةٍ جسدَ الأم وصراخَها العنيف المكتوم داخلها، وتقلبها الهادئ الرزين في السرير، حيث يجثمُ الزوجُ الوحش، وكيف يستمر الطلقُ رهيباً، وكيف تكونُ الولادةُ في الشهر السابعِ جريمةً بالنسبة للزوج، حيث لن يجدَ سوى طفلٍ خديج. الولادةُ المتعسرةُ توقظُ الأبَ، وشكلهُ البشعُ يقوم برسمه المؤلفُ بشكلٍ دقيق تفصيلي، ولكن الأبَ يطلبُ مجيء طبيب في المنطقة ليسرع بالتوليد في تحولٍ مفاجئ. اللقطات تحفر تاريخ الشخصيتين الزوجة والزوج بشكل منفصل عن العالم، مثلما نسمعُ البحرَ وهو يدقُ جدران هذا القصر والصخور التي تحمله، ونتابعُ قصةَ المرأة التي تكاثرت أملاكُها الوراثية بسبب موتِ أقربائها في الحرب الدينية المشتعلة بين الكاثوليك والكلفانية البروتستانتية، مثلما نتابعَ اهتمامَ الزوج بهذه المرأة والسيطرة عليها وإبعاد صديقها والقضاء عليه، وحصر هذه المرأة في عالمه، وانتظار خليفته وهو ابنه الوريث، لكن خليفته يظهر بهذا الشكل المشوه، وكأن الأمَ تريدُ القضاءَ على الصلة بالزوج. هنا ثنائية تناقضية تصادمية في الجنس، فليس ثمة علاقة أخرى تجمع هذين الكائنين المتباعدين روحاً. زمن الحياة هو زمن ما قبل الثورة الفرنسية، هو زمن الإقطاع، وهو هنا في هذه الرواية هو مجردُ امتيازاتٍ إقطاعية، فالثروةُ لا تأتي للمرأة سوى عبر الحروب وبموتِ أهلِها، وبقيام الزوج بالاستيلاء عليها، لكن الروائي لا يقوم بتحليل المجتمع بل يركز على هذه الكائنات النادرة المفصولة. وحتى تلك الحرب التي تحضرُ كخلفيةٍ تاريخيةٍ سلبية لا صلةَ اجتماعية لها في تلافيفِ العلاقاتِ الشخوصية والحدثيةِ الروائية، فهي حربٌ دينية، لكن فرنسا الكاثوليكية تحسمُ خيارها الديني وتلقي عملية الإصلاح الديني جانباً فيما قبل الثورة بسنوات طويلة. إن عدمَ حضور السيرورة الطبقية التاريخية لفرنسا هنا في الرواية هو نتاجُ أسلوبِ المؤلفِ بلزاك، فهو يعرضُ الشخوصَ والأحداثَ في وحدةٍ تركيبيةٍ مشهدية دقيقة متصاعدة، إنه يحفرُ في الشخصيتين الأب والأم بشكل عابر نحو ولادة الابن الأول فالثاني، ويقومُ الطبيبُ الخبير في كل شيء بذلك الزمان بدور الخيط الرابط والسببية الخالقة، باعتبار أن الثقافةَ هي الخلاقةُ الفعليةُ للنمو النبيل، وقد كان الطبيب في زمنية إنهيار العصور الوسطى ما يزال مجموعةً من العلوم والمهن، حيث ان الطب هو موسوعة الثقافة كابن سينا في عصره، وفيه نجدُ الرياضياتَ والسحرَ والفلك، فيقومُ الطبيبُ بدور التوليد للأجساد وللعالم الرومانسي معاً، من حيث ولادة الابنين ومن حيث العلاج للأمراض الجسدية بل حتى الاجتماعية حين يجعل الابن الأول المريض يتزوج من فتاةً أعدها له، وبهذا فهو ينقذُ العائلةَ من غياب وريثها ومن موت الابن الثاني القوي والذي وُلد طبيعياً في تسعة أشهر. وفي حين إن العلاقات الإقطاعية من حروب تقضي على الابن الأصغر، تقوم الثقافة والحب بمعالجة أخطائها، في رومانسية بلزاكية لاستمرارية الإقطاع العتيق غير المحلل. إنها بنية فنية منغلقة في العائلة المعزولة عن الصراع الاجتماعي. فنحن نرى الابنَ الأول المريض الهزيل يعيش طويلاً خارج القصر وقرب الطبيعة، ويغرق في الثقافة والموسيقى وحب الكائنات، مما يشكلُ وجهاً رومانسياً، مضاداً للعلاقات الاجتماعية الشريرة القبيحة في تهافت الأب على الأملاك والحروب، في حين يقع القبح في العلاقات الاجتماعية السائدة، في القصر والحروب وحكم الكنيسة والملك هنري الرابع، وهي تعميمات لا نراها مجسدة إلا في سلوك الأب الإقطاعي القبيح الشرس، والذي يتفتقُ عن شراراتٍ إنسانية في ختام حياته.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المراحلُ التاريخيةُ والموقفُ المغامرُ
-
صراعٌ قومي وشكلهُ ديني
-
ظلالُ الامبراطورية على إيران وروسيا
-
لحظةٌ حاسمةٌ في تاريخِ العلمانية العربية
-
قاطرةُ التاريخِ
-
طائفتانِ في مجرى الصراعِ السلبي
-
صراع القبائل والنصوص
-
سوريا من انتفاضةٍ شعبية إلى حربٍ أهلية
-
بلزاك: الرواية والثورة( 8- 8)
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (7 -8)
-
غيرُ قادرين على التوحيد
-
شيعةُ العربِ ليسوا صفويين
-
تبايناتُ القوى التقليدية
-
العقائدُ المتأخرةُ والثقافةُ
-
صراعُ الإقطاعِ والبرجوازية العربي
-
ممثلو الصوتِ الواحد كيف يتحاورون؟
-
الوعي الديني والإقطاعُ المناطقي
-
الرأسمالياتُ الحكوميةُ والربيعُ الدامي
-
المسلمون في مفترقِ طرقٍ
-
تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|