محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1161 - 2005 / 4 / 8 - 12:07
المحور:
الادب والفن
تصلب جسده فجأة, رغم الهواء الطري المنعش المنتشر في الوادي, ورغم وجود الناس من حوله الذين اتوا لبراح الوادي وأحضان جبله ليلقوا عن كاهلهم في أحضان خضرته ومياهه أعباء المدينة وتلوثها وضجيجها, وأثقال العمل المتواصل.....
ثلة من الأصدقاء صبايا وشباب دعوه ليقضي معهم بضعة أيام يتعرفون خلالها عليه, كأحد خريجي السجون , وليشبعوا فضولهم في تلقي أجوبة عل أسئلتهم التي لا تنتهي عن السجن والتعذيب والتحقيق وعن المساجين الذين التقاهم هناك, وعن شغفهم لمعرفة كيف كانوا يقضون الأوقات. كانت الطبيعة المحيطة بالمكان ساحرة, سحر نشرته يدعو المرء لنسيان الهموم اليومية والفصلية ويتخفف من أثقاله التي حملها طوال عام من العمل, فرصة له ليعود إلى نزعته البدائية, لنقاء غرائزه كإنسان من خلال وحدته مع مكونات الطبيعة عبر سلوكه اليومي معها, هذه العلاقة التي شيأتها الحضارة في مرحلتها الراسمالية..... فجأة في خضم الهرج والمرج وطقوس الفرح الطبيعي عاودته الصور المليئة بالدم ورائحة الموت.. المكان حوله مفعم بصوت الصبايا والشباب المرح الذي كانت تطغى عليه من حين لآخر صوت تلاطم الأمواج بصخور الشاطيء... كان الوقت ليلا, والقمر قد استقر في بطن السماء يرسل أنواره ليضفي على المكان سحرا من خلال ما يكشف من تفصيلات المكان المتنوعة من جبل وسهل أخضر وبحر ونهر وشاطيء رملي وصخري, موحدا ما بينهما من خلال تلأليء أضوائه على سطوحها و مؤلفا منها سيمفونية الحياة الطبيعية قبل أن تتدخل يد الإنسان لتدمر بكورها ... داهمه الخوف فجأة, هاجمه شعور الغربة والوحدة وسطهم, أدرك من توه أن جهد الرفاق قد ذهب هباءا, عندما اقترحوا عليه أن يشاركهم مخيمهم على شاطيء البحر في أحضان هذا الوادي, عندما أتوا للسلام عليه وتهنئته بمناسبة الإفراج عنه في دار أهل زوجته الواقع في ضيعة قريبة من البحر تبعد بضعة كيلو مترات عن المدينة ... كان قد انضم إلى أهل الزوجة هنا, بعد أن قضى بضعة ايام هناك في مدينته حيث يقطن وزوجته, أنجز خلالها مراسيما شبيهة تخص الأهل والأصدقاء والرفاق هناك....كان الجمع حوله يتابع ما قد توازعوا من عمل فيما بينهم بهرج ومرج , حينما غافلته ذاكرته واستيقظت وكأنها أصيبت برعاف مجنون, لقد اكتشف حقيقة وسمت حياته القادمة, أن السجن يسكنه , قد خرج منه ولكنه بقي داخله , فقد ترعرع السجن فيه بقدر ما سرق منه من سنين, مما يدل على عمق الجريمة المرتكبة من النظام القمعي بحقه, شعور زاد من غربته وأضعف كل محاولاته للإنتماء لما حوله.. أحس بذاكرته تنتمي إلى هناك, إلى العالم السفلي, ذاكرة تمتليء بالخوف والتحدي والتحريض والعزلة, فازداد غربة.. أحس وكأن شيئا في داخله قد انكسر و إلى الأبد, لكن , بضجيج أقل من هذا الضجيج الصادر من تكسر أمواج البحر على الصخور المدببة المنتشرة بالقرب من المكان.... نهض و مشى باتجاه الصخور, وتابع الهوينا بمحاذاة البحر, كانت الأمواج الخفيفة تلامس قدميه من حين لآخر بتأثير المد والجزر وكأنها تدعوه للنزول إليها ليغسل فيها همومه...كان سعاله يقطع بإيقاعه أحيانا إيقاع ما ضمت الطبيعة المكان من سحر وكأنه نشاز عازف ضمن جوقة الاوركسترا وهي تعزف مقطوعة سيمفونية....أحس بحاجة ملحة ليد أنثى حنونة تمتد إليه فيتكيء عليها, يسري دفؤها في جسمه فتزيل قشعريرته, تخرجه من توهانه, وتقوده لبر الأمان, أحس بحاجته إلى أمه, لحبيبة , لأخت, لصديقة, لأنثى ما تحتضنه الآن فتدفيء قلبه وتزيل منه صقيعه.... ومع دغدغات الماء الخفيفة على قدميه تذكر هناك, أكبالهم تلسع قدميه وظهره, كان يصرخ : يما...يا يما...كانت تترائى له أمه من بعيد, فتمد له يدها, وكأنها تريد أن تأخذه إليها حيث الصمت والسكينة, حيث لا أحد يعتدي على أحد, حيث الموت الهاديء... لكنه لم يمت, فمن خاض سنوات العمل الفدائي وعملياتها وتحمل القصف الشديد للطيران الإسرائيلي في العرقوب وقلعة شقيف والدامور في لبنان وما زال حيا , لا يخشى بضعة أكبال من جلاد عنين..... ومثل من يمشي في الحلم تابع المسير, كانت أمواج البحر من حين لآخر تلطم صخور الشاطيء محدثة ضجيجا تذكره بصوت اللسعات عندما كانت الاكبال تنهال عليه, فجأة أحس بألمها , وصوت ارتطام رأسه بالحائط, أحس بشعور الغثيان و الدوخة, اتكأ إحدى الصخور و جلس عليها....كان هناك يتعب من عد ضربات الأكبال على ظهره أو قدميه, كم مرة غاب عن الوعي؟ كم مرة اصطدم رأسه بالجدار أو الأرض؟ لا يدري.. كان سؤالا واحدا يراوده: ترى متى ستنتهي هذه الحفلة؟ كان يروق له هناك أن يفترض بأنهم سيتعبون؟ كان يتابع بترقب إزدحام المكان و أعداد النزلاء الجدد القادمين إلى العالم السفلي حيث كان نزيلا , وكأنه جهنم االتي ورد وصفها في القرآن التي بشر بها الله الكافرين, نار لا تشبع بل تسأل دائما: هل من مزيد..... يبتهج لأنه يهيأ له أن المكان سوف لن يتسع للناس أكثر وسيضطرون للإفراج عنه لحاجتهم للمكان...كان يعجب لذاك النشاط الذي كان يتمتع به الجلادون والمحققون بلا كلل, كانوا عندما يكتشفون أن طريقة ما من طرقهم في التعذيب لا تجدي نفعا, بالسليقة يتبعون أخرى, لقد تمرسوا مهنتهم جيدا.... كان الجلادون يتصورون أن عبر أكبالهم ودواليبهم وزنازينهم سيسلم المعتقلون وسيعترفون بكل شيء وبما يريدون , ويعتبرون أن عامل الزمن يلعب لصالحهم, فماكينتهم تعمل بنشاط محموم باعتقال المزيد, ولا بد أن يقع بين أيديهم في اي وقت من سيكمل معلوماتهم المنتزعة بالتعذيب من الذين بين ايديهم..... يذكر كيف أدخله الجلاد ماراتون التحدي عندما استهل أسئلته معه حول إن كانت زوجته بالحزب منظمة معه أم لا, أدرك أن هذه ستكون معركته المصيرية, وعليه أن يخوضها حتى الرمق الأخير دون هزيمة فالأمر يتعلق بزوجته, حبيبته, وأم أطفاله, لقد أختار المحقق معركته من موقع تساوى فيه عنده نتائج الإعتراف من عدمه, جميل أن تموت شهيدا من أجل الحب, فكرة راودته في خضم عهر أكبالهم....نهض, مشى حافيا على رمل الشاطيء الملحي المبلل, كان يحس بأنين الرمل تحت قدميه حين المد, وتنهيدته لما ينحسر, كانت الرمال تدغدغه أسفل القدمين, أحس ببعض الخدر في جسمه و ببعض النعاس, سبعة أيام بلياليها منذ إطلاق سراحه لم يذق طعم النوم إلا لماما , تذكر هناك, كان النوم أمنيته الوحيدة في الفترة الأولى من التحقيق, ثلاثة أيام حرمه الجلاد النوم, بالتحقيق والضرب تارة, و تارة بإغراق الزنزانة بالماء والضرب بقوة على باب الزنزانة من قبل العساكر طوال الليل, كان يغفو أحيانا أثناء التحقيق حين يسترخي جسده, عندما تكف الضربات على قدميه و ظهره بعض الوقت, فكّر, كم تحملت قدماه من ضرب و جلدات, إن هذه القدمين التي قطعت شوارع المخيمات في دمشق من شمالها إلى جنوبها, وجبال صلنفة, و شوارع دمشق القديمة, قد اكتسبت قساوة الأرض واحتمالها.. تابع مسيره مقتربا من الخيمة حيث الأصدقاء كانو قد اكتشفوا غيابه فتوازعوا المكان بحثا عنه.... أحس رغبة في الغناء فأخذ يدندن بعضا من أغاني فيروز, يحب أغاني فيروز, عندما كان هناك, عزم عندما يتم الإفراج عنه أن يمتلك مكتبة متواضعة لأغانيها.. إن سحر الليل والبحر والقمر وما أصابه من لجة المشاعر أغراه أن يدندن أغنية بديلة لوديع الصافي طالما أحبها ووجدها أكثر مناسبة للمكان والوقت , ناطرك سهران ع ضو القمر, وراح يدندنها, وراح صوته كلما اندمج بها يعلو أكثر وأكثر, فتناهى صوته إلى آذان بعض الأصدقاء الباحثين عنه, ياما انطربوا بصوتهَ, وما هي إلا لحظات حتى تحولق الأصدقاء حوله.. جلب صديقه عوده ورافقه بالعزف مع أغنيته, الصمت يسود المكان إلا من صوته وعزف العود المرافق, وصدح صوته مقطعا من الأغنية كان الأعز على قلبه من باقي المقاطع, جلس الأصدقاء متحولقين حوله على الرمل كل بكأسه , ثم راحوا ينتقلون من أغنية إلى أغنية تصحبهم النشوة حتى مطلع النهار, طاوين يوما آخر من إجازتهم في أحضان الوادي الجميل.....
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟