|
عقدة لوقيوس والنرجسية
حمودة إسماعيلي
الحوار المتمدن-العدد: 4035 - 2013 / 3 / 18 - 20:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وربما نظرت الى المرآة قبل خروجها من نفسها، وتحسست أجّاصتين كبيرتين تُموّجان حريرها، فتنهدت وترددت: هل يستحق أنوثتي أحد سواي ¤ محمود درويش
كنا قد بيّنا سابقا* أن كُره الإنسان لمظهره وخوفُه الدائم من أن يبدو بشكل غير مرغوب، يكشف لنا عن عقدة، سمّيناها عقدة لوقيوس. وكتعويض عن هذه الأخيرة فإنه ينشغل بكل ما له علاقة بالجمال والتجميل لدرجة الهوس. من هنا سنسعى لزيادة توضيح اللوقيوسية كعقدة نفسية واجتماعية تتداخل فيها احساسات الرفض الذاتي والخوف من رفض الآخر، فهذا الآخر هو من يجعل العقدة هنا تنضج وتتضخم.
إن كانت الوردة بالنسبة للوقيوس الحمار والوحش في قصة الحسناء، تمثل رمزا يتم فيه تعويض الجمال المفتقد، فإن لدى بابتيست غرونوي نرى العقدة قد تضخمت بتجاوزه الرمز والتماهي مع الأصل(الجمال الإنساني)، وذلك بتدمير هذا الأصل كمحاولة تملكه والسيطرة عليه. ونزعة التدمير لديه لم تتولد إلا بسبب إحباطه الشديد، وهذا ما سنحاول تبيينه. غرونوي الذي يمتلك موهبة في تمييز الروائح، سيتوجّه لتعلّم كيفية صناعة العطر. ونعلم أن للعطر دائما علاقة بالآخر، فبالعطر نجذب انتباهه ونجعله يقبلنا، وهذا أيضا ماظنّه غرونوي عندما "لاحظ أن الهدف من العطر هو أن يكون مفعوله فاتنا وجذابا"(1). وبذلك سينتقل من استخراج العطر من الأزهار(الرمز) إلى استخراجها من النساء(الأصل)، وليست أي نساء، إنما ذلك النوع الذي يوصف بتعبير خرافي : "ذات جمال رفيع، تنتمي إلى ذلك النوع الناعس من النساء الذي يشابه العسل الأسود، طريا وحلوا دبقا للغاية، وبمقدور امرأة من هذا النوع بحركة لزجة، بتلويحة شعر، وبنظرة واحدة من عينيها كضربة سوط بطيئة أن تسيطر على المكان كله، وأن تبقى في الوقت نفسه هادئة في مركز الإعصار، وكأنها لاتدرك قوة جاذبيتها التي تشد إليها أشواق ونفوس الرجال والنساء على حد سواء ودون مقاومة"(2)؛ وما سبب هذه الرؤية الڤينوسية للنساء إلاّ رؤيته اللوقيوسية لنفسه : "كان قبيحاً، ولكن ليس إلى درجة أن يرتعد الإنسان من بشاعته"(3)، بل حتى في أحسن حالاته "لم يكن شكله مميزا، ولا حتى جميلا، لكنه لم يكن بشعا أبدا.. باختصار بدى كآلاف الناس الآخرين، وإن نزل إلى الشارع فلن يلتفت إليه أحد"(4)، وهنا نرى أن أكثر ما كان يؤلمه أنه "منذ صغره اعتاد غرونوي على أن الناس الذين يمرون بجانبه لايأبهون به على الأطلاق"(5). وهذا ما دفعه لامتهان العطور, كي يصنع واحدا "من يشمه سيُؤخد ويُسحر، وسيحبّ مُبدعه غرونوي من كل قلبه. وطالما هم تحت تأثير عبقه، فعليهم أن يحبوه، لا أن يقبلوه كواحد منهم فحسب. عليهم أن يحبوه حتى الجنون، حتى التضحية بالذات، وأن يرتجفوا من النشوة وأن يبكوا من الفرح دون أن يعرفوا السبب، وعليهم أن يركعوا أمامه كما يركعون أمام بخور الرب المقدس"(6). نرى أن تضخم اللوقيوسية يكشف لنا عن بروز نرجسية مرضية ظلت تنمو في الخفاء. وما اختيار غرونوي لذلك النوع الفاتن من النساء إلا لمحاولة التماهي بهن، وذلك حتى ينجذب إليه الناس كانجذابهم لهاته النسوة وأكثر، فبالنسبة له، لا يكمن سر جاذبية الواحدة منهن في "مرآها ولا كمال جمالها الظاهري، إنما عبقها الرائع الذي لا يجارى"(7)، لذلك كان يستهدِفُهن في القتل حتى يسلبهنّ ذلك السحر الذي يمتلكنه ويمنحه لنفسه.
نجد لدى حالات الرهاب الاجتماعي ترسبات من اللوقيوسية، فخوف الإنسان من الأماكن التي يتواجد بها الآخرون وخجله من إبداء سلوك يجعله يبدو كالغبي، ليست إلا أعراضا عن عقدةِ كُره لشكله وخوفه من أن يراه الآخرون كما يرى هو نفسه وبالتالي يكرهونه، أو لايقبلونه بصفته كائنا غير جميل، رغم أن البشر لا ينفرون من الشكل بقدر ما يُنفِّرهم السلوك، لكن اللوقيوسي توحي له نرجسيته المتخفية بأن الجميع يراقبونه، وينتظرون منه أقل هفوة حتى يسخروا منه، معتقدا أن لاشغل للآخرين إلا هو، يتربصون به كي يحتقرونه لأنه كامل وأفضل منهم. لذلك يسعى كي يبدو كامل وبشكل يثير الإعجاب على الدوام. أما من جهتنا، فنقدم لمن لهم مثل هذا الاعتقاد "خاصية نفسية" جميلة ومعروفة :
قد تعتقد أنك أهم شخص في العالم ، لكن لا تتصور أن الآخرين يرونك بنفس الطريقة ، لأن أهم شيء بالنسبة لهم قد يكون ذواتهم أو أطفالهم.
فأغلب البشر إلم نقل جميعهم نرجسيون، غير أنهم يتفاوتون في الدرجة، فاعتقاد شخص أنه أفضل عداء على المستوى الدولي أو المحلي، والواقع يتبث ذلك من خلال فوزه وانجازاته، فتلك نرجسية طبيعية. أما حين يعتقد شخص أنه أشهر ممثل على نفس المستوى وقَدَمه لم تتجاوز مسرح الحي، مايجعله معروفا فقط بين أصدقائه وعائلته، فتلك نرجسية مرضية.
نرى المريض نرجسيا، كالطفل الذي يُمركز العالم حوله معتقدا أن لاوجود للآخرين إلاّ للاهتمام به، ف"يبقى الخوف المسيِّطِر" عليه "هو عدم الاهتمام به (أو بها)، وكل خبية أمل عاطفية تلقى شعورا حادا. يؤدي هذا الخوف إلى البحث المستمر عن ضمانة غير ممكنة، وإلى استجواب يُطرح على الآخر لفظيا أو بالنظر للتعرف إلى مدى حبهم له"(8). وبالعودة لغرونوي نرى نفس الأمر، فكلما "أحس بأن له ثمة تأثيرا على الآخرين.. كان يغمره شعور طاغ بالفخر والاعتزاز، عندما مرّ بامرأة منحنية.. لاحظ كيف رفعت رأسها لحظة لترى من القادم.. والرجل الواقف بظهره التفت إليه وتابعه لبرهة بنظره... عبر كثير من مثل هذه اللقاءات.. أضحى غرونوي أكثر ثقة بنفسه، وبالتالي أشد جسارة"(9)، ولم يتوقف عند لفت انتباه الآخرين، بل بسبب تضخم عقدته صار همه هو أن يصير "بإشارة منه، لأن ينكروا ربهم، ويعبدوه هو، غرونوي العظيم"(10). فالحرمان والإحباط الشديدين اللذان أحسا بهما وعاشهما، هما الدافع لبحثه عن تعويض هائل.
نجد لدى البعض وإن لم تكن نرجسيتهم تخطت الحد مثلما حدث مع غرونوي، غير أنها تظهر لنا مشابهة بشكل مخفف. نرى ذلك في اعتقادهم أنهم يمنحون الشرف للآخرين لدى مصافحتهم أو التعرف عليهم. كبعض الأسر أو العائلات التي تحسب أن كل من يتناسب معها أو يقترن بأحد أفرادها قد نال شرفا عظيما !. أو عند بعض المراهقين، كالأنثى التي تعتقد أن كل من يراها سيقع في غرامها، أو الذكر الذي يحسب نفسه دون خواناً قادراً على سحر جميع النساء، والسبب في ذلك انتقالهم من مرحلة الطفولة بفنتازيتها، والدخول في مرحلة النضج بتغيراتها الهرمونية، فتمتزج أحلامهم الخيالية برغباتهم الجنسية. هذا دون ذكر من يدّعون البركة والقدرة على الشفاء باللمس أو التقبيل !!.
يمكن أن نقول أن اللوقيوسي شخص يحب نفسه لدرجة كُرهِها إن لم تكن بالمستوى أو الصورة التي رسمها لها في مخيلته، فنجده يصيح داخليا :
"علي أن أبدو إنسانا مهما لأنني لست شيئا أريد أن أكون مركز العالم لأنني منبوذ(ة) من الجميع علي أن أحب ذاتي قبل كل شيء لأنني أكره ذاتي علي أن أضخم ذاتي لأنني فقدت ذاتي"(11) فإن كنا ختمنا سابقا بالقول بوجوب أن يحب الإنسان ذاته بطريقة طبيعية، إنما ليتحقق له قول(إدراك) : "علي إذن أن أكون، في نطاق معين، موضوع اهتمامي الأول. وعلي أن أحمي صحتي، وتوازني، وسعادتي، من أجلي" ومن أجل غيري، "إنني أحب الآخرين، ويروق لي كذلك أن يحبني الآخرون. ومع هذا فلا أشعر بأي حصر إذا لم يحبوني." ف"قوام النرجسية السوية إذن أن يهتم المرء بذاته اهتماما موضوعيا. لا اهتماما تحت ضغط الحصر أو الخوف من الغير"(12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش :
* : عقدة لوقيوس أو اللوقيوسية 1 : باتريك زوسكيند - العطر، ترجمة نبيل الحفار، دار المدى ط4 2007م ـ ص46 2 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص222 3 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص31 4 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص166 5 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص174 6 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص177 7 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص197 8 : روجيه موكيالي - العقد النفسية، ترجمة موريس شربل، منشورات عويدات ط1 ـ ص74 9 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص175 10 : باتريك زوسكيند - المصدر السابق ـ ص272 11 : بيير داكو - المرأة، ترجمة وجيه أسعد، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق 1983م ـ ص371 12 : بيير داكو - المصدر السابق ـ ص368و369
#حمودة_إسماعيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقدة لوقيوس أو اللوقيوسية
-
تحليل نفسي للصوص المقالات والنصوص
-
سيكولوجية الخيانة : تحليل لدور الضحية
-
سيكولوجية تدمير المرأة
-
الكوتش أو المُخدر اللغوي العصبي
-
سر العين الثالثة
-
سيكولوجية البيدوفيلي أو المتحرش جنسيا بالأطفال
-
الباراسيكولوجي أو الهلوسة باسم العلم
-
سيكولوجية الجيغولو أو دعارة الرجال
-
المتأخرات زواجيا : لعنة اختيار أم حظ عاثر ؟
-
سيكولوجية المومس
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|