|
الصورة الفوتوغرافية الذاتية في أعمال لورنس دوميسون
نجم الدين الدرعي
الحوار المتمدن-العدد: 4034 - 2013 / 3 / 17 - 08:34
المحور:
الادب والفن
إنّ الحديث عن الصورة الفوتوغرافية الذاتية في أعمال "لورنس دوميسون" Laurence DEMAISON يستوجب بالضرورة في مرحلة أولى أن نقف عند هذه الفنانة لنتبيّن علاقتها بالفوتوغرافيا والدّوافع التي جعلتها تتّخذ من صورتها الذاتية منطلقا لأبحاثها. وهنا يمكننا الإشارة إلى أن أعمال "دوميسون" لم تنشأ من عدم إنما هي حصيلة عدة تجارب و أبحاث طيلة سنوات عديدة تعاملت فيها الفنانة مع الفوتوغرافيا ومع أدوات التصوير الفوتوغرافي في محاولة لاستكشافها والتمكن منها، ولعلّ تصويرها للوجوه الأنثوية - في بداية ميسرتها - جعلها في مرحلة لاحقة تتخذ من ذاتها موضوعا لبحثها. موضوعا غير توجهها وجعلها تمر بمرحلة جديدة مع ذاتها وتدخل في صراع مع نفسها بين الظاهر والباطن وبين الخارجي والداخلي، مرحلة تجعلها تكشف الشخصية الكامنة فيها وتتعرى أمام الآلة الفوتوغرافية، وبالتالي أمام المشاهد الذي تترك له المجال ليحلّل ويؤول ما يراه. لذا فقد دخلت "دوميسون" في مرحلة جديدة من التعامل مع الصورة الذاتية عنيت فيها منذ سنة 1993 بوجهها وجسمها وجعلتهما محورا لبحثها ومنطلقا لسلسلة من الصور الفوتوغرافية التي تنمي حضورها وتجعل منها مبتكرة تكشف عن ذاتها وخصوصياتها في صور عملت فيها على التدخل على جسمها ووجهها مستعينة في ذلك بالإمكانات العديدة والمتنوعة التي أتاحتها لها الآلة الفوتوغرافية. وهنا تظهر قيمة الفوتوغرافيا التي يعرّفها "جويل مايرويتز" بقوله Joël MEYROWITZ : " أرى الفوتوغرافيا كنتيجة للتجربة البشرية لها وجودها الحقيقي. وهي ليست تعليقا على العالم.. هي قريبة من الشيء نفسه" . إنّ أعمال "دوميسون" تنمّ عن دراسة وبحث عميقين، إذ حدّدت لنفسها مسارا لتكون صاحبة أعمال فوتوغرافية وموضوعا لها في الآن نفسه، تسائل فيها عدّة مفاهيم تجسد رؤية دقيقة لذاتها في علاقتها بالوجود. وعلى عكس غيرها من الفنانين الذين يعمدون من خلال تصويرهم لأنفسهم إلى تقديم صور تكون بمثابة مرآة تعكس ذاتهم وتحيل على شخصيتهم، عملت "دوميسون" من خلال تدخلاتها ومن خلال الأفعال التي تسلّطها على وجهها على خلق غيرية تخفي صورتها الحقيقية جاعلة من أعمالها وسيلتها لتقديم تصوّر جديد ومميّز لرؤية الصورة الذاتية. ولتنحى منحى مغايرا ومخالفا لمن سبقها من الفنانين والمصورين الفوتوغرافيين، عملت "دوميسون" على اتخاذ منهجها الخاص الذي تسعى فيه لإرباك المشاهد واستفزازه، وهي بذلك تؤسّس لعلاقة جديدة بذاتها، إذ تعمل على تجسيد وتقديم صور ذهنية بسيطة في ظاهرها إلا أنها معقدة المحتوى وفلسفية المنشأ. وهنا تشدّك أعمالها وتجذبك لتتطلّع فيها ولتفهم محتواها وتتمكن من تبيّن رؤيتها وفكرها لتُدرك القدرة الهائلة التي تملكها والتي تجعل أعمالها متميّزة ومتفرّدة. قدرةٌ تخوّل لها تحويل صورها أداة تُحرّك بها المشاهد وتدفعه للتفكير في هذه الصور وفي موضوع بحثها وتوجّه قراءته لتدخل به في عدّة مسائل ومتاهات، لتُعلن مدى قيمة العمل الفوتوغرافي من ناحية وعمق فكرها وأبعاده من ناحية أخرى. ولعلّ تعامل "دوميسون" مع وجهها يُعدّ منطلقا لعدّة تجارب فوتوغرافية ظهرت في عدّة مراحل مسترسلة و أبحاث متواصلة إلى حين تقديمها في شكل مجموعات، إذ تُعتبر أعمالها نتاج بحث وجهد عميقين مرّت بعدّة خطوات اعتمدت فيها الفنانة على الإمكانيات التقنية للتصوير الفوتوغرافي مقتصرة في ذلك على التقنيات العادية، الأمر الذي جعلها تدخل في علاقة وطيدة وحساسّة مع صورتها الذاتية التي تتدخّل عليها لتحوّرها وتغيّرها وتعيد صياغتها من جديد، لتبدو أعمالها الفوتوغرافية فريدة من نوعها ومميّزة. "وبما أن الفوتوغرافيا أصبحت تعتمد كوسيلة للتعبير عن هاجس داخلي فهي ليست مجرّد نسخة من الواقع" . ولعلّ أكثر ما يميّز"دوميسون" قدرتها على التّلاعب بوجهها وجسدها والتدخّل عليهما، فهي تستمتع بالتصرّف فيهما بالرغم من المنحى المؤلم والتأثيرات السلبيّة على ذاتها وإنسانيتها. وهي تُنجز أعمالها بكل حرص ودقّة، بل إنّها تتفنّن في صياغتها على حساب الكتلة البشرية ودون أي اعتبار للكائن الحي فيها، فتغيّب ذاتها لتتعامل مع وجهها كحامل تُسلّط عليه أفعالها، لتحتلّ رهاناتها وأهدافها المرتبة الأساسية في ذهنها. وإعتمادا على الفوتوغرافيا الذاتية التي لا يمكن اعتبارها حقيقة وإنّما هي في واقع الأمر عبارة عن فرضيّة أو نسخة تنسجها الآلة، تتدخّل الفنانة لتعمل على تغييرها وتحويرها وتفكيكها وطمسها مُحوّلة مظهرها. وهي بذلك تسائل القيمة الحقيقية (البعد الحقيقي) والنسخة المشابهة للأصل، فتغوص في ثنائيّة الواقعي والمتخيّل مُقدّمة تصوّرات مختلفة تجمع بين حضور ذاتها وغيابها معتمدة على الوسائل التقنية التي تخوّل لها تجاوز المظاهر الخارجية والبحث في هواجسها وسواكنها الداخليّة، لتُصبح الصّورة وسيلتها الوحيدة القادرة على استيعاب الطّاقة الكامنة فيها. لذا فقد عنيت "دوميسون" بتقنية الفوتوغرافيا وعملت على استغلال ما تقدّمه لها من إمكانيات مستعينة في ذلك بتدخّلاتها ولمساتها التي جعلت من عملها مميّزا. لقد اتخذت "لورونس دوميسون" من الآلة الفوتوغرافية وسيلة تُمكّنها من البوح بما يخالجها والتعبير عن ما ينتابها. وهي في ذلك تعتبرها الأداة التي تنطق بما عجزت عن التعبير عنه لغة. ولعلّ عجزها هذا على تبليغ رؤاها وتمرير أفكارها قد جعلها تتّخذ من الآلة الفوتوغرافية الوسيلة التي لا تسكت والتي ما تنفك تستعملها لترضي ذاتها علّها تُشعرها بالاقتناع والرضا عما تقدّمه. ولئن دفعها إحساسها بالعزلة وعدم الرضا إلى التوقف - في مرحلة ما- عن تصوير الأجسام الأنثوية إذ لم تجد بدا من تعظيم الآخر وتصويره، فقد تجاوزت ذلك للتفكير في مسائل أعمق جعلتها تتّخذ من الفوتوغرافيا منفذا لها ومن صورتها الذاتية منطلقا معتمدة في ذلك على ثراء الإمكانات التي تقدّمها الآلة من ناحية وثراء الذهن والنفس البشرية من ناحية أخرى. وقد عملت الفنانة على استغلال هذه الثنائية للتعبير عن هواجسها معتمدة بالأساس على ثنائية الحضور والغياب، وهي في ذلك تعمد للهدم بهدف البناء. فكر يذكّرنا بقولة الفنان بيكاسو: "إن كل فعل للخلق هو أساسا فعل هدم". فالفوتوغرافيا التي تقوم بتطبيقها هي مجموعة من الخطوات والمراحل المسترسلة اللاّمتناهية والتي تقبل في كل مرّة تأويلات جديدة وإضافات متنوّعة لتقوم على فرضيات أخرى. لذا واعتبارا لهذا المبدأ، لايمكننا الحديث على صور نهائيّة مكتملة فمادامت الآلة موجودة وذات الفنانة المبتكرة الخلاّقة موجودة يبقى العمل الفني قابلا للإضافة والتغيير وقابلا لتأويلات مختلفة، وهنا يمكن اعتبار أن الفوتوغرافيا هي نوع من الإثبات القابل للنقاش والتأويل. وأمام هذا "الإثبات" تعتبر الفنانة أن أعمالها الفوتوغرافية هي نتاج لحظات حقيقية وواقعية تظهر في صورة تلو الأخرى. صور تجعلها تقف أمام الواقع لتُعبّر عن ذاتها وتفشي سواكنها. وهي من هذا المنطلق تعتمد منهج الرسم الخطي لبلورة أفكارها وتجسيدها، إذ تعتبره استفراغا فوريا وعفويا لما يخالجها وما يدور بخاطرها، وهو أداتها لتدوين هواجسها لتصويرها في مرحلة لاحقة.
المراجع 1 فنانة ومصوّرة فوتوغرافية معاصرة ولدت سنة 1965 بهوت سفوا Haute Savoie بفرنسا، درست الهندسة المعمارية ومارست مختلف أشكال التعبير التشكيلي ثم تعلمت التصوير الفوتوغرافي بمفردها سنة 1990 وعنيت بتصوير الجسد العاري وصورة الوجه الأنثوي. بعد سنتين من الأبحاث والتجارب مع النماذج الأنثوية اهتمت بالصورة الذاتية واتخذتها موضوعا لبحثها. تحصلت على جائزة تكوينHSBC للفوتوغرافيا سنة 2002 وتم عرض أعمالها في فرنسا وفي دول أخرى حيث عرضت في أروقة Esther Woerdehoff بباريس و Lucien Schweitzer بلوكسمبورغ. 2 Joël MEYROWITZ dit :"Je vois la photographie comme une manifestation de l expérience humaine. Qui a une existence propre. Ce n est pas un commentaire sur le monde… Celle – ci est proche de la chose elle-même". Color photography, Edition Assouline, Paris, p.80. 3 Gisèle FREUND dit: "Employée comme moyen d extériorisation d un souci créateur, [la photographie] est autre chose qu une simple copie de la nature", Photographie et société, Editions du Seuil, Paris, 1974
#نجم_الدين_الدرعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفن التشكيلي المعاصر وسؤال الذات والهوية
-
مجموعة مدرسة تونس: تونسة للفن التشكيلي
-
الفن التشكيلي العربي المعاصر واشكالياته
-
-الأنا-/-الأخر- هوية أم هويات في الفن العربي المعاصر
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|